أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-5-2021
2934
التاريخ: 7-11-2016
3828
التاريخ: 17-8-2018
2933
التاريخ: 21-8-2020
2118
|
يكاد تاريخ بلاد العرب القديم المعروف قبل ظهور الإسكندر ينحصر في القسمين الجنوبي والشرقي، أما شمال بلاد العرب فلا يعرف عنه شيء قبل اليونان باستثناء بعض إشارات طفيفة وردت في نصوص الأشوريين.
أولًا: القسم الجنوبي:
بلاد اليمن:
من المرجح أن اسمها مشتق من كلمة "يمنات" الواردة في نصوص سبئية قديمة كاسم لهذه البلاد وربما يكنى بها عن اليمن والخير؛ لأن بلاد اليمن قديمًا كانت وفيرة الخيرات حتى عرفت باسم اليمن الخضراء لكثرة ما بها من أشجار ونباتات, ومما يؤيد ذلك أن اليونان قديمًا سموها بلاد العرب السعيدة "Arabia felix" على احتمال أنهم ترجموا كلمة "يمنت أو يمنات" بالبلاد السعيدة.
وقد عرفت اليمن قديمًا بتجارة العطور والبخور والمر والصمغ والكافور والورس "وهو نبات كان يستخدم في الصباغة" وكانت مصر تستهلك كميات كبيرة من اللبان اليمني والبخور في المعابد وفي تحنيط الموتى، ولم يكتف اليمنيون بالاتجار في حاصلات بلادهم بل عملوا كوسطاء للتجارة أيضًا بين الهند والعراق والشام ومصر, فكانت التوابل والسيوف الهندية والحرير الصيني والعاج والأبنوس والذهب من أثيوبيا تنقل بوساطة تجار اليمن إلى مصر والعراق.
وقد أشار كتاب اليونان والرومان إلى ثروات اليمن, ومن أمثلة هؤلاء هيرودوت وثيوفراست "تلميذ أرسطو" الذي وصف السبئيين بأنهم محاربون وزراع وتجار مهرة وديودور الصقلي وإسترابو وبلينوس ... أما كتاب العرب الذين أشاروا إلى ثروة اليمن؛ فمن أشهرهم الهمذاني والألوسي والمقدسي ونظرًا لما حظيت به اليمن من الثروة فإنها كانت أكثر بلاد العرب تحضرًا وكانت كثيرة الحصون والقصور التي كانت تعرف بالمحافد, ومن أشهرها غمدان وناعط وصرواح وظفار وبراقش ومعين وعمران وغيرها، وينسب إلى هذه المحافد والقصور أصحاب فيقال: ذو غمدان، ذو صرواح, وهكذا، وإذا تجمع عدد من المحافد والقصور في مقاطعة كبيرة سميت مخلافًا, ويتولى شئون المخلاف أمير يقال له: قيل "والجمع: أقيال" وقد بلغ عدد هذه المخاليف 84 مخلافًا, كان من أهمها مخلاف صنعاء ومخلاف همدان ومخلاف خولان وغيرها.
ولا شك في أن عصور ما قبل الكتابة أو العصور قبل التاريخية لا يعرف عنها إلا القليل, وقد سبق أن أشرنا إليها "ص240".
أما عن العصر التاريخي في بلاد اليمن فإن أهم أحداثه يمكن أن تنحصر في تاريخ الدول التي قامت بها, وهذه الدول هي: الدولة المعينية والدولة السبئية والدولة الحميرية، وتاريخ هذه الأخيرة يخرج عن مجال العصر التاريخي الذي يعالجه هذا الكتاب، وهناك دولتان أخريان لم يكن لهما إلا دور ضئيل في تاريخ العرب, وهما دولتا قتبان ودولة حضرموت.
أ- الدولة المعينية "1300-650 ق. م.."
تعد أقدم دولة معروفة في شبه جزيرة العرب وهي أقدم دولة كذلك ظهرت في بلاد اليمن, ومن الغريب أنها لم تذكر في المصادر العربية بل ذكرت بلدة معين, وكانت تقرن غالبًا ببلدة براقش؛ حيث أشير إليهما كمحفدين من محافد أو قصور اليمن القديمة وموقعهما في الجوف فيما بين نجران وحضرموت؛ بينما أشارت المصادر اليونانية والرومانية إلى المعينيين وذكرت عاصمتهم "معن" باسم "قرتاو". ومن المحتمل أن الكتابة عرفت في معين قبل قيام دولتها ببضعة قرون وقد ظلت حضارة المعينيين غير معروفة إلى أن تمكن هاليفي من الكشف عن آثار عاصمتهم معين ونسخ كثيرًا من نقوشهم ونشر نتائج كشفه سنة 1874، وقد زاد عدد النقوش المعينية التي نسخت بفضل جهود جلازر وجوسن, ومن دراسة هذه النقوش عرفنا الكثير عن هذه الدولة وملوكها وكان عدد هؤلاء 26 ملكًا موزعين على خمس أسرات, وإن كان بعض الباحثين يرى أن هؤلاء الملوك ينتمون إلى ثلاث طبقات؛ ولكن فيلبي يؤيد أنهم في خمس أسرات إلا أنه لم يذكر إلا 22 اسمًا من أسماء هؤلاء الملوك؛ كذلك أمكن عن طريق هذه النقوش أن نتعرف على بعض الألقاب الملكية مثل لقب "يطوع": المخلص، صدوق أي: العادل, وريام أي: المضيء, وكان الملوك يخاطبون بلقب "مزود" أي: مقدس أو "كبر" أي: العظيم أو الكبير. وقد ظهرت دولة المعينيين في المنطقة السهلة "أي: الجوف" بين نجران وحضرموت حيث كان المعينيون يشتغلون بالتجارة ويسيطرون على الطرق التجارية بين الشمال والجنوب, ثم ازداد نفوذهم السياسي حتى بلغ شمال الحجاز فدخلت معان وديدان "العلا" في نطاق نفوذهم كما تشير إلى ذلك النصوص المعينية والكشوف الأثرية التي عثر عليها في هاتين المنطقتين(1), ويبدو أنهم كانوا هم والسبئيون الذين ينتمون إلى نفس جنسهم يسيطرون خلال الألف الأول قبل الميلاد على الجزء الأعظم من التجارة العالمية في بلاد العرب, وامتد التنافس على السيادة فيما بينهم إلى الواحات التي كانت تمر بها طرق التجارة؛ فكانت بكل من تلك الواحات جالية من أبناء العرب الجنوبيين يتولى أمرهم مقيم من بلادهم ويشرف على ملوك ورؤساء الواحة ويراقبهم حتى لا يضروا بمصالح سيده السبئي أو المعيني حسب تبعيته؛ حيث كان الطريق التجاري العظيم الذي يوصل برًّا بين اليمن والشام ومصر يقع أحيانًا تحت سيطرة المعينيين وأحيانًا في أيدي السبئيين الذين عاصروهم في أواخر عهدهم، وفي كل واحة من الواحات التي يمر بها الطريق كان يقيم حكام من معين أو سبأ تؤيدهم حاميات عسكرية لحماية جالياتهم التجارية, وفي بعض الأحيان كانت توجد جاليات تجارية إفريقية أيضًا وأثناء توسع المعينيين في الواحات شمالًا احتكوا بأشور وفينيقيا ومصر, وكان حكام أشور يتفاوضون مع الحكام المعينيين في الواحات؛ على أنهم الملوك المعينيون الجنوبيون لا على أنهم الممثلون لهم, كما أن الوثائق السريانية والعبرية تشير إلى أن بلاد هؤلاء الملوك الجنوبيين تقع جنوب شرق البحر الميت, ويدل ذلك من جهة أخرى على أن المعينيين والأدوميين "سكان سعير" خضعوا لسلطان ملوك بلاد العرب الجنوبيين.
وأدى اشتغالهم بالتجارة إلى معرفتهم تدوين الحسابات التجارية, فاقتبسوا الأبجدية بالفينيقية واستخدموها في كتاباتهم وظل المعينيون يستخدمونها حتى بعد زوال مملكتهم؛ حيث عثر على كتابات معينية في الجيزة بمصر وفي جزيرة ديلوس باليونان ترجع تاريخها إلى القرن الثاني قبل الميلاد, كذلك عثر على كتابات لهم في أور والوركاء بالعراق.
ومن المحتمل أن أول الملوك المعينيين كان "اليفع وقه" وقد عثر على اسمه مكتوبًا في النقوش المعينية في مدينة "نشان" وفي براقش "إيثيل" وقد خلفه في حكم اليمن ابنه "وقه إيل صدق" الذي ذكر اسمه مع اسم والده، كذلك ذكر مع "اليفع وقه" اسم ابن آخر له هو "أبو كرب يشع". ومن الملوك الذين وردت أسماؤهم في نقوش معينية الملك "أب يدع يشع" الذي قام بعض أشراف قرناو "معين" بترميم خنادقها وإصلاح أسوارها في عهده, وتشير النقوش التي من عهده أيضًا إلى حروب نشبت بين اليمن وبين إحدى الدويلات الشمالية, كما تشير كذلك إلى حروب حدثت بين عدن وموصر في وسط مصر وقد اختلفت الآراء بشأنهما؛ إنما يرجح أنهما كانا شعبين يعيشان بالقرب من سيناء.
ومن ملوك المعينيين أيضًا "وقة إيل روام" و"يشع إيل صدق" وقد بنى هذا الأخير حصن "يشبوم" وقد أشارت بعض النقوش إلى أن الحالة السياسية أصبحت سيئة في عهدي "يشع إيل ريم" وابنه "تبع كرب" وهما من الملوك المتأخرين, وربما أصبحت معين خاضعة لسبأ؛ حيث إن هذه النقوش تشير إلى اعتراف معين بسلطان آلهة وملوك وشعب سبأ.
ويبدو أن انتقال السيادة إلى سبأ قد أخذ في الظهور حينما عجزت معين عن حماية قوافلها التجارية وضعف حكامها المقيمون في المراكز التجارية التي تمر بها طرق القوافل عن مجابهة قطاع الطرق والقبائل المعادية التي كانت تعترض طرق القوافل، وربما عمت الفوضى بعد ذلك؛ حيث إننا نجد في النقوش المعينية ما يشير إلى وجود اثنين أو أكثر كل منهما يلقب بلقب ملك في وقت واحد, وتعددت الضرائب؛ فكان هناك ثلاثة أنواع منها على الأقل: نوع يجيء لخزانة الملك ونوع يجيء للمعابد ونوع ثالث يجيء للمشايخ والحكام المحليين. والجدير بالذكر أن ضرائب المعابد كانت نوعين أحدهما كان يدفع تقربًا للإلهة "أكرب" والثاني كان يفرض فرضًا على الأشخاص ويقال له العشر، ومع أن "معين" كان يحكمها ملوك؛ إلا أن كل مدينة كان لها مجلس يدير شئونها في السلم والحرب ويعرف باسم "مسود".
ب- دولة قتبان: من القرن الحادي عشر ق. م - 25 ق. م."
كان القتبانيون يقطنون في الطرف الجنوبي من بلاد اليمن إلى جنوب سبأ ويتاخمون حضرموت، وكانت عاصمتهم تقع في وادي بيجان قرب باب المندب أي: كحلان الحالية, ولم تشر المصادر إلى أخبار ذات قيمة عن قتبان, وقد شهدت الدولة القتبانية نهاية الدولة المعينية وعاصرت دولة سبأ والدولة الحميرية, وقد اندمجت فيما بعد في الدولة الأخيرة.
ويرجع الفضل فيما عرفناه من أخبار هذه الدولة إلى النقوش الكثيرة التي جمعها "جلازر" ومع هذا فقد اختلف المؤرخون في تحديد بداية ونهاية هذه الدولة، ومع كل فإن البعض يحاول أن يقسم تاريخ قتبان إلى ثلاث مراحل مختلفة:
المرحلة الأولى: امتدت إلى حوالي منتصف القرن الرابع ق. م. وكانت أهم فتراتها هي تلك التي كانت بين القرنين السابع والخامس قبل الميلاد؛ حيث كان يحكم المكربون "أي: المقربون أو من جمعوا بين الكهانة والملك" وكان من أشهرهم "يدع أب ذبيان" الذي قام بمهاجمة سبأ والاستيلاء على بعض ممتلكاتها, وينسب إليه أنه هو الذي شيد المدخل الجنوبي لمدينة "تمنع" وإنشاء طريق يخترق الجبل وبعض الأعمال العمرانية الأخرى، ومن المرجح أن قبائل غير قتبان اشتركت في إنشاء طريق الجبل لما له من فائدة مشتركة, ومن بعض نقوش هذا الملك يتبين لنا أن مجالس المدن كانت تقترح مشروعات للقوانين؛ ولكن الملك وحده هو الذي كان يملك حق إصدارها.
والمرحلة الثانية: كانت تمتد من 350 إلى 250 ق. م. وأول ملوكها "أب شيم" الذي تلاه ولده "شهر غيلان" وهذا الأخير ترك نقوشًا مختلفة تدل على إنشائه أحد الأبراج وبنائه لإحدى العمارات, كما تشير إلى أن رؤساء القبائل كانوا مسئولين عن جمع الضرائب التي تورد لخزينة الدولة في نهاية كل عام, وتذكر النصوص أيضًا ضرائب أخرى كانت تورد للمعابد، وقد انتصر "شهر غيلان" على حضرموت وخلد هذا الانتصار بتشييد معبد للإله "عشتر" في ذبحان "بيحان القصب الحالية" كما يشير إلى ذلك أحد النقوش. ومن ملوك هذه المرحلة أيضًا "شهر يجيل" الذي تغلب على دولة معين ثم خلفه أخوه "شهر هلال ينعم" الذي انتهت بوفاته الأسرة القتبانية الثانية, وانتهت أيضًا المرحلة الثانية من عهد الدولة القتبانية.
والمرحلة الثالثة: تمثل عصرًا تناوب فيه عدد من الملوك عرش البلاد, كان آخرهم "يدع أب غيلان" ثم تتولى قتبان أسرة ملكية أخرى وكانت ضعيفة, انهارت في عهدها دولتهم حتى آلت إلى الزوال.
وكانت المرحلة الثانية من تاريخ قتبان هي العصر الذهبي لها؛ حيث أخضعت فيه كلًّا من معين وسبأ وربما ترجع أسباب قوة قتبان إلى موقعها الجغرافي بجوار باب المندب وحضرموت, كما كانت تنتج أفضل أنواع الطيب والبخور وجنوا من الأشجار فيها أرباحا طائلة، وقد عثر على كثير من آثارها ومن بينها عملات هيلينية ورومانية؛ مما يوحي بتأثر القتبانيين بالحضارتين الهلينية والرومانية.
جـ- دولة حضرموت "1020-300 ق. م."
تقع على شرق اليمن على ساحل بحر العرب, وتنسبها التوراة إلى حضرموت ابن يقطن بن عامر بن شالخ(2), ولم يكن الباحثون على علم بشيء من أخبار الدولة التي قامت في حضرموت؛ ولكن بعد أن عثر على عدد من النقوش فيها أمكن التعرف على بعض تاريخها, ومن ذلك نعلم أنه قامت في حضرموت دولة كانت تعاصر كلًّا من حمير وسبأ وقتبان, وأنها صارت تابعة للدولة الحميرية الثانية منذ حوالي 115 ق. م إذ كان ملوك حمير يلقبون أنفسهم بلقب "ملوك سبأ وريدان وحضرموت ويمنات". ومن المعتقد حسب ما ورد في النقوش أن أول ملوك حضرموت هو "شهرم علام بن صدق إيل" وكان حفيده "معدي كرب" الذي يرجح أن حضرموت اندمجت في مملكة معين في عهده أو بعد وفاته؛ إذ يعتقد أنه بينما كان "معدي كرب" يحكم في حضرموت كان أخوه يحكم في معين. ويبدو من بعض النقوش أن علاقات ودية أو تجارية كانت قائمة بين حضرموت وتدمر والأراميين في عهد ملك يدعى "العزيلط الثاني" كما تشير النقوش كذلك إلى أن ملكًا آخر يدعى "يدع ال بين" بن "رب شمص" أعاد بناء مدينة شبوة وأقام بها وبنى معبدها بالحجارة بعد ما حل بها من تخريب، ولا يعرف سبب هذا التخريب؛ ولكنه يعزى إلى نشوب قتال بين سبأ وبين حضرموت أو إلى حدوث ثورة داخلية ربما أدت إلى القضاء على الأسرة الحاكمة وحلول أسرة أخرى محلها, ومن المرجح أن حضرموت فقدت استقلالها واندمجت نهائيًّا في مملكة سبأ وريدان في عهد "شمريهرعش" الذي حمل لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات". وكانت العاصمة القديمة لحضرموت هي "ميفعة" ثم انتقلت العاصمة بعد ذلك إلى "شبوة" التي يحتمل أنها أسست في القرن الثاني قبل الميلاد, وقد كشف فيلبي عن آثارها التي شملت أطلال كثير من المعابد والقصور وبقايا السدود التي أقيمت على وادي شبوة لحصر مياه الأمطار وكانت الحاصلات تنقل إلى "قن" وهي ميناء حضرمية إلى الشرق من عدن, وهي على الأرجح حصن الغراب الحالي, ومنها تصدر حاصلات حضرموت برًّا وبحرًا.
د- دولة سبأ 800-115 ق. م:
ورد في نصوص تجلات بلاسر الثالث وسرجون الثاني الأشوريين وسنحاريب الكلداني ما يشير إلى أنهم فرضوا الجزية على ملكي سبأ "يثعمر" و"كرب إيلو" اللذين يحتمل أنهما كانا من حكام سبأ المقيمين في الواحات التي على طريق التجارة إلى الشام, لا ملوكًا في سبأ نفسها, كذلك ورد اسم سبأ بضع مرات في التوراة، كما ورد ذكرها في القرآن الكريم. وقد اختلف الباحثون في أصل السبئيين ونسبهم؛ ولكن يغلب على الظن أنهم كانوا شعبًا بدويًّا يتنقل بين شمال وجنوب شبه الجزيرة العربية إلى أن استقر بهم المقام في اليمن حوالي 800 ق. م. وقد اضطرتهم الظروف إلى ذلك إذ يحتمل أن الأشوريين ازدادوا ضغطًا عليهم في الشمال, وفي نفس الوقت وجدوا الفرصة سانحة؛ لكي يستغلوا الضعف الذي منيت به الدولة المعينية, وأخذوا في التوسع جنوبًا على حساب المعينيين, وقوي نفوذهم تدريجيًا إلى أن قضوا على دولة معين وأقاموا دولتهم على أنقاضها, وورثوا لغتها وحضارتها, وحلوا محلهم في نقل التجارة بين الهند والعراق والحبشة ومصر والشام, وأصبحوا أعظم الوسطاء التجاريين بين هذه الأقطار, ويرى البعض من الباحثين أنهم تركوا مواطنهم التي أطلق عليها الأشوريون اسم عربي أو أريبي "ووردت في التوراة باسم بارب أو يعرب" وارتحلوا إلى جنوب شبه الجزيرة في القرن الثامن قبل الميلاد, واتخذوا صرواح ثم مأرب عاصمة لهم, وهذه الأخيرة يحتمل أنها سميت كذلك نسبة إلى موطنهم الأصلي "بارب".
واستطاعت دولة سبأ أن تزدهر وأن ينعم شعبها بالثراء لاشتغالهم بالزراعة والتجارة؛ حيث سيطروا على الطريق البري الذي يربط الجنوب بالشمال, وازداد نفوذها فأقامت حكامًا لها في الواحات الواقعة على هذا الطريق التجاري, تعاونهم حاميات عسكرية وكانت واحة ديدان "العلا" هي مركز نفوذها على شمال بلاد العرب.
ويمكن حسب ما ورد في النقوش السبئية، أن نقسم عصر الدولة السبئية إلى مرحلتين تاريخيتين متتاليتين: مرحلة المكارب 800-650 ق. م. أي: المقربون من الآلهة والناس أو الذين كانت لهم مكانة دينية إلى جانب حكمهم كملوك, وقد اتخذوا صرواح عاصمة لهم في أول الأمر ثم نقلوا العاصمة بعد ذلك إلى مأرب، ومرحلة ملوك سبأ وتمتد إلى 115 ق. م.
مكارب سبأ وتمتد إلى 115 ق. م:
أسس "سمة على" دولة سبأ ثم خلفه على العرش ابنه "يدع إيل ذريح" "حوالي 780 ق. م." وقد شيد معبدًا للإله ألمقه في صرواح ومعبدًا آخر لنفس الإله في مأرب وقدم القرابين إلى الإله عشتر, ثم تبعه ولده "يثع أمر" الذي ينسب إليه بناء معبد في بلدة دابر الواقعة في الجوف بين مأرب ومعين؛ مما يوحي بأن السبئيين اصطدموا بالمعينيين في عهده, وقد قام ولده "يدع إيل بين" الذي خلفه في الحكم بتحصين أبراج مدينة نشق المعينية. ومنذ بداية القرن السابع قبل الميلاد اهتم مكارب سبأ بالإصلاحات الزراعية؛ فقد وزع "كرب إيل بين" الأراضي المحيطة بنشق على الفلاحين لاستصلاحها وزراعتها وسار ولده "دمر على ذريح" على نفس السياسة, أما ابن هذا الأخير "سنة على ينف" فقد شيد سدًّا على مدخل وادي "زنة" بمأرب يعرف باسم سد "رحب" سنة 650 ق. م. فساعد على تنظيم ري المناطق المجاورة طوال العام؛ ولكنه لم يفِ بحاجة كل الأراضي الزراعية؛ مما جعل "يثعمر أمر بين" ولده وخليفته يزيد في حجم السد "طولًا وعرضًا وارتفاعًا"، كما شيد سدًّا أعظم منه يعرف باسم "سد حبايض"، وكان لهذين السدين بمأرب أعظم الأثر في زيادة الرقعة الزراعية وزيادة ثروة البلاد. وقد رمم سد "زنة" وأصلح في العصور التالية؛ ولكن اضطراب أحوال الدولة الحميرية فيما بعد وإهمالها له عجل بتصدعه ثم انهياره فتحولت الأراضي الزراعية إلى الجدب؛ وأدى ذلك إلى هجرة بعض القبائل إلى مشارف الشام والبحرين والعراق.
وآخر مكارب اليمن هو "كرب إيل وتر" الذي تخلى عن سياسة التعمير واتجه إلى التوسع العسكري؛ فهاجم الدولة المعينية وقضى عليها, كما انتصر على القتبانيين وسجل انتصاراته على جدران معبد صرواح, ولقب نفسه بلقب "ملك سبأ" فأصبح أول حكام سبأ الذين تلقبوا بهذا اللقب.
ملوك سبأ:
اتسعت مملكة سبأ واشتد بأسها وأصبح لها أسطول تجاري ضخم ينتقل بين ثغورها والثغور الأجنبية, وقد أخذت تظهر فيها أسرات قوية وخاصة منذ سنة 500 ق. م. ومن بين هذه الأسرات أسرة همدانية تمكنت من اغتصاب العرش، وحدثت تغيرات سياسية وفكرية مهمة؛ فبدأت تظهر فيها أسماء آلهة جديدة لم يكن يسمع عنها من قبل ثم بدأت المتاعب تحيط بملوك سبأ منذ سنة 350 ق. م؛ إذ إن الهمدانيين وبعض أمراء القبائل الأخرى طمعوا في العرش أو الاستقلال بإماراتهم وحاولت المملكة أن تقضي على استقلال هذه الإمارات وأن تدمجها في المملكة؛ ولكن عَزَّ على هذه الإمارات أن تتنازل عن استقلالها وضعف مركز ملوك سبأ, وخاصة بعد أن أخذ البطالمة في مصر يحتكرون التجارة الشرقية, وقامت اضطرابات وثورات عنيفة أدت إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية, وتدخلت الدول الأجنبية في شئون المملكة وخاصة بعد أن فقدت سيطرتها على البحر الأحمر وسواحل أفريقيا؛ حيث إنتقلت التجارة البحرية إلى أيدي اليونان ثم إلى أيدي الرومان من بعدهم.
وفي أواخر عهد ملوك سبأ قام نزاع خطير حول العرش تسبب في تدمير البلاد وتحول الكثير من الأراضي الزراعية إلى صحارى، وقد أفاد الريدانيون "وهم شعب عربي جنوبي كان ينزل قرب ساحل شبه الجزيرة الجنوبية إلى الشمال من حضرموت" والحميريون من ذلك النزاع, وتمكنوا من انتزاع العرش السبئي وأسسوا في 115 ق. م. الدولة الحميرية التي حكم ملوكها باسم "ملوك سبأ وذي ريدان".
ثانياً القسم الشرقي:
أ- مجان:
ذكر سرجون الأكدي أنه غزاها وجلب منها ومن ملوخا ودلمون سفنًا(3)؛ ولذا يعتقد أغلب الباحثين أنها تقع في شرق شبه جزيرة العرب؛ بينما يرى البعض أنها عمان الحالية وأنها اشتهرت بالتجارة والملاحة، وتشير نصوص "نرام سين" "حفيد سرجون ملك أكاد" إلى أنه غزا مجان وأخضع ملكها مانيؤم, وهو اسم يبدو أنه سامي مما يوحي بوجود مملكة حكامها من العرب الساميين.
ومع أن اسم مجان قد يكون مشتقًّا من كلمة سومرية بمعنى ميناء أو أرض السفن إلا أن النصوص المسمارية تصف "مجان" بأنها "جبل النحاس"، وقد اشتهر نحاسها بوجود نسبة من القصدير, كذلك اشتهرت "مجان" بحجر الديوريت الأسود الذي صنع منه قدامى ملوك العراق تماثيلهم ونصبهم.
ب- دلمون أو تلمون "البحرين":
ذكر اسم دلمون أو تلمون في المصادر المسمارية، وكانت على علاقات مختلفة مع السومريين والبابليين والأشوريين منذ أقدم العصور، وقد وردت عنها إشارات في النصوص المسمارية منذ منتصف الألف الثالث إلى نحو سنة 500 ق. م. وهذه النصوص تدل على أن دلمون تقع في منطقة البحرين وأنها أرض أسطورية غريبة؛ حيث يذكر سرجون الثاني "ملك أشور" أن ملك دلمون يعيش في وسط البحر الذي تشرق منه الشمس، كما يذكر الملك أشور بانيبال أن دلمون تقع وسط البحر الأسفل والمقصود بـ"البحر الذي تشرق منه الشمس" و"الأسفل" في النصوص الآشورية هو الخليج العربي، ويستدل من نصوص سرجون المشار إليها على أن الوصول إلى دلمون كان يتطلب نحو 60 ساعة ملاحة من مصب الفرات, أي أنها كانت تبعد نحو 300 ميل وهي نفس المسافة إلى جزر البحرين. وفي سنة 1879م عثر على كتابة مسمارية في البحرين ترجع إلى العهد البابلي القديم في النصف الثاني من الألف الثاني ق. م. وبها إشارة إلى "قصر رموم عبد الإله أنزاك رئيس قبيلة أجاروم" ومن المحتمل أن أجاروم القديمة هي قبيلة عربية بقي اسمها مستعملًا وحرف إلى بني هجر التي تقيم الآن في بقعة تجاور البحرين، كما يرجح أن هذا الاسم المحرف "هجر"، كان يستعمل في العصور الوسطى للدلالة على منطقة الأحساء.
وقد اشتهرت دلمون بتمرها منذ أقدم العصور، ويغلب على الظن أن الساحل الشرقي لشبه جزيرة العرب كان ضمن مملكة دلمون, التي ازدهرت في الألف الثاني قبل الميلاد وكانت تضم الأحساء والبحرين.
وما زالت الآراء تختلف في أصل الدلمونيين؛ إذ يرى البعض أنهم جاءوا من الجزء الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة، وكانت لهم صلات مع العراقيين منذ عصر فجر الأسرات السومرية؛ بينما يرى البعض الآخر أن من المحتمل أن يكون السومريون القدماء قد جاءوا أصلًا من دلمون.
وقد تعرضت دلمون لغزوات كثيرة من ملوك بلاد النهرين؛ فقد غزاها سرجون الأكدي هي ومجان وملوخا وجلب منها سفنًا كثيرة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، كذلك حاول بعض الأشوريين ضمها إلى ملكهم. ومما يذكر في هذا الصدد أن سنحريب بعد أن دمر بابل سنة 689 ق. م. أرسل إلى دلمون أمرًا بالخضوع ومعه بعض رماد حريق بابل كتهديد لها بنفس المصير؛ فبادر ملك دلمون بإرسال جزية وهدايا لسنحاريب رمزًا لخضوعه له.
ويود بعض الباحثين أن يربط جنة عدن المذكورة في الكتب السماوية بمنطقة دلمون, ويستندون في هذا إلى ما تذكره الأساطير المسمارية التي تصفها بأنها أرض غريبة وإلى الأساطير العربية الشائعة في شبه الجزيرة التي تصفها كجنة ليس فيها إلا الخير والطهر، وإلى أن أسطورة سومرية عن الطوفان تشبه أسطورة جلجامش تشير إلى دلمون كأرض مقدسة؛ ولكننا بالطبع لا نستطيع تأكيد ذلك.
جـ- باصو أوبازو "نجد" وحاسو "الأحساء":
تقع هذه البلاد في شرق وجنوب شرقي شبه جزيرة العرب, وقد اتصل بها غير واحد من ملوك الأشوريين وكان أهمهم أسرحدون الذي توغل في بلاد العرب في أماكن بعيدة وصفها وصفًا ينطبق على نجد والأحساء، وقد ذكر اسميهما باصو "أوبازو" وحاسو على الترتيب، ومع أن بعض البحوث الأثرية قد تمت حديثًا في الأحساء وفي جزيرة البحرين؛ إلا أنها لا تلقي كثيرًا من الضوء على تاريخ هذه الجهات قبل خروج الإسكندر في حملاته إلى الشرق.
__________
(1)عبد العزيز سالم "تاريخ العرب قبل الإسلام" "إسكندرية سنة 1973" ص38-39.
(2) سفر التكوين 10/26، أخبار الأيام 1/20.
(3) من المرجح أن منطقة "ميجان" الحالية التي تقع على ساحل الخليج العربي عند مصب وادي شهبة هي البقعة التي نشأت فيها مملكة مجان القديمة، ولا يمكن تعيين موقع ملوخا بالتحديد حتى الآن؛ ولكن لا شك في أنها كانت قريبة من ميجان, أما دلمون فمن المرجح أنها كانت تضم جزر البحرين وجزءًا من الأحساء.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|