المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

التاريخ
عدد المواضيع في هذا القسم 6767 موضوعاً
التاريخ والحضارة
اقوام وادي الرافدين
العصور الحجرية
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
العهود الاجنبية القديمة في العراق
احوال العرب قبل الاسلام
التاريخ الاسلامي
التاريخ الحديث والمعاصر
تاريخ الحضارة الأوربية

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24



19- عصر الاسرة الخامسة والعشرين  
  
1750   07:31 مساءاً   التاريخ: 2-10-2016
المؤلف : عبد العزيز صالح
الكتاب أو المصدر : الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق
الجزء والصفحة : ص282-294
القسم : التاريخ / العصور الحجرية / العصور القديمة في مصر /

دفع النوبة لمصر في عصر الأسرة الخامسة والعشرين 730 - 665ق. م:

ولي الحكم في أغلب هذا العصر قادة من نباتا في بلاد كاش بالنوبة العليا. ولم يكن هؤلاء بدورهم أغرابًا عن مصر وحضارتها، ولم يعتبروا أنفسهم دخلاء أو غزاة، وإنما رددوا في متونهم أنهم أحلاف لطيبة وأتباع الدين الصحيح لإلهها آمون. ومن المحتمل أن بعض أسلافهم كانوا من كبار أهل طيبة غادروها أنفة من الخضوع للمهجنين المتمصرين في بداية تسيطرهم، ولحق بهم بعض من نفاهم ثكرتي الثاني وشاشانق (1)، ونزحوا بعيدًا عنها إلى أقصى الحدود المصرية قرب الشلال الرابع حيث ينهض جبل برقل الذي اعتبرته نصوص الدولة الحديثة جبلًا طاهرًا وعرشًا مقدسًا لآمون في الجنوب، وهو جبل أوتل منفرد مسطح يتوسط صحراء حصباء، وتنحدر جوانبه بشدة بحيث يظهر جانبه الجنوبي قائمًا على هيئة المخروط. وقامت عند سفحه فوق سهل صحراوي متسع يبعد عن النهر بنحو ميل مدينة أشرفت على طريق القوافل المتجهة إلى السودان، وعمرتها معابد ومبان مصرية الطابع، وقد نسبت في بداية أمرها إلى الفرعون تحوتمس الثالث في تسميتها "تحوتمس ذابح الأجانب" واعتبرت حدًّا جنوبيًّا لولاية نائب الملك في كاش في عهد توت عنخ آمون، نظرًا لأهميتها الاستراتيجية، وذكرتها مصادر عصور الرعامسة، ثم اشتهرت باسم نبتا (2)، ووجد أولئك النازحون ضالتهم في منطقتها المتشبعة بالحضارة المصرية والبعيدة نوعًا عن مظان الغزو، وربما وجدوا سبيلهم إلى النفوذ فيها عن طريق رئاسة الدين وتولي وحي آمون، وثم تولوا حكمها وجعلوها عاصمة لدويلة ثيوقراطية وفوا فيها لعبادة آمون ولعقائد أوزير وللكتابة المصرية (3)، وإن جمعوا إلى هذه الصبغة المصرية بحكم اندماجهم في البيئة الجنوبية خليطًا من الملامح واللهجة النوبية، ومن دماء القبائل الليبية الجنوبية ومهارتها في ركوب الخيل وقتال البراري. قد يدل على هذا الخليط الجنوبي احتمال أخذ حكامهم بانتقال السلطة إلى الأكبر في الأسرة ومن الأخ إلى الأخ الذي يليه فضلًا عن الابن الأكبر، ثم نهاية بعض أسمائهم مثل شباكا وشبتكا وتاهرقه بنهايات قريبة من ألفاظ اللغة الجنوبية التي عرفت فيما بعد باسم اللغة المروية. ونمت دولتهم شيئًا فشيئًا حتى أحسوا البأس من أنفسهم وأدركوا نتائج التفكك في جهاز الحكم القائم في مصر، فعادوا بجنود من مملكتهم الجديدة إلى مصر التي اعتبروها أمهم وحاولوا تبديل أوضاعها. وتزعمهم حين مهدوا لمشروعهم ذاك ملك يدعى "كاشت" أو كاشتا بعد أن ورث سلفه الأرا. ولا ندري شيئًا مؤكدًا عن خطوات كاشتا، ولكن يفهم من النصوص التالية لعهده أنه معهد للأمر باتصالات ومحالفات مع زعماء طيبة، وربما أيدهم بجنود ساعدوهم ضد أواخر الحكام المهجنين المتمصرين، في ظل الوضع الخاص أو الاستقلال الذاتي الذي نعمت به مدنيتهم، ولكن لم يطل عهده (4). وجرى على سياسته ولده بيعنخي "وهو اسم مصري الصبغة فضلًا عن تلقبه باسم وسرماعت رع - سنفررع"، وكان كما تحدثت عنه نصوصه يتابع مجريات الأمور في مصر ويضحك منها، ثم تخطاها إلى التدخل العسكري المباشر في العام العشرين من حكمه مدعيًا أن حلفاءه أهل طيبة راسلوه بقولهم: "هل ستسكت عنا وتنسى الصعيد بينما يتقدم تاف نخت دون مقاوم؟ ". وكان تاف نخت رأس الأسرة الرابعة والعشرين قد مضى في تقدمه فعلًا ووجد الاستجابة من رصفائه حكام مصر الوسطى لا سيما في الأشمونين وأهناسيا، وكان من أكبرهم نمرود حاكم حت ور بجوار الأشمونين. وسواء تحرى كتبة بيعنخي الدقة في نصوصه أم بالغوا فيها، فإن ما جاء بها عن وصيته لجنوده المتجهين إلى مصر يعتبر من جيد الكلم ودليل الحصافة في عصره، فقد أوصاهم ألا يبدئوا بعدوان وأن يتركوا خصمهم يختار زمن الحرب، ويكونوا عندها على يقين من أن الإله آمون قد أرسلهم بنفسه، ثم أكد عليهم ألا يدخلوا طيبة مقر آمون بعدة الحرب، وإنما يعتبروا أنفسهم حجاجها، فيتطهروا في نهرها إذا بلغوها، ويلبسوا الكتان الأبيض، وينزعوا سهامهم ويريحو أقواسهم، ولا يتفاخروا ببأسهم في رحاب ربها "فبدون آمون لا شجاعة لشجاع، وهو الذي يشد أزر الضعفاء حتى لتهزم الكثرة أمام القلة ويغلب الواحد ألفًا ... " (5). ونجح جيش بيعنخي في بعض أمره ضد أعوان تاف نخت، ثم بلغ مدينة الأشمونين ولكنه عجز أمام أسوارها وأمام زعيمها نمرود، فلحق بيعنخي بجنوده وتوالت انتصاراته معهم. ولن تعنينا كثيرًا تفاصيل هذه الانتصارات فالحرب هي الحرب، قتل وأسر وتشريد وتدمير، حتى بين أبناء الوطن الواحد، ثم يصورها كل طرف منهم من وجهة نظره. ولكن يعنينا من أمر بيعنخي ما أبداه خلالها من مهارة في أساليب الحصار ومهارة في التأثير السيكلوجي على الناس، على الرغم من بساطة الحياة في البيئة القصية التي نشأ فيها. فقد تغلب على حصانة الأشمونين بتكليف جنوده بعمل مطلع مرتفع حول أسوارها ليصعد الرماة عليه إلى برج خفيف بني فوقه، ووضع آلات "؟ " تساعد على دفع السهام وأحجار المقاليع إلى قلب المدينة. وعندما تركها بجنوده إلى منف كان خصمه تاف نخت قد سبقه إليها وشدد عزائم أهلها وأحكم أسوارها واطمأن إلى حماية الفيضان المرتفع لناحيتها الشرقية، فأتاها بيعنخي من مأمنها أي من الناحية الشرقية التي ظن خصومه أن مياه الفيضان كافية لمنع التقدم إليها، واستعان جنوده بسفن حلفائه الذين سلموا بحكمه من الأقاليم المصرية، وحلوا أمراس سفن منف المشدودة إلى جدران بيوت مينائها، واستولوا عليها واستخدموها في نقب أسوار المدينة ومنع الاتصالات بينها وبين جيرانها. وكانت لبيعنخي تصرفات بارعة في مجال التأثير النفسي، ومنها إظهار التمسك الشديد بتعاليم الدين، بحيث أبى أن يصافح جماعة من الأمراء الليبيين لأنهم غير مختتنين وغير متطهرين ويأكلون أنواعًا من السمك يأباها الدين، ويبدو أنهم أرادوا تمثيل أقاليم الصعيد والدلتا في إظهار الولاء له، ولم يقابل منهم غير نمرود. وبمثل نصائحه التي أسلفناها والتي حض جنوده خلالها على الاغتسال والتطهر والتواضع وتوقير حرمات آمون، ثم بإظهار شغفه بزيارة المعابد الكبرى كأنه متشوف للحج إليها من زمن بعيد، وإظهار الرفق الشديد بحيوانات أعدائه لا سيما الخيول، بحيث كان يتفقد بنفسه اصطبلات المدن المفتوحة، وبحيث عنف خصمه نمرود حاكم منطقة الأشمونين تعنيفًا شديدًا على عدم رعايته لخيوله. وكل ذلك مع إظهار شيء من التسامح مع بعض الخصوم كإبقاء الأمراء المحليين على مناصبهم ما داموا قد أظهروا الطاعة له، حتى تاف نخت نفسه أبقاه أميرًا على سايس وعفا عن ولده بعد إحدى المعارك في اللاهون حين اعترف له بالأمر الواقع من سلطانه. ومن اللوحات التي سجلت نصر بيعنخي لوحة صور فيها أمام الثالوث الإلهي لطيبة، وعن يمينه سيدة قد تكون زوجته أو زوجة نمرود، يتبعها نمرود يرفع أداة السيستروم ويقود فرسًا، وفي نهاية اللوحة تصوير لثلاثة من الأسر المالكة السابقة وبينهم وساركون يقبلون الأرض بين يديه، ويحتمل أن يكون قد قسم سلطات الدلتا بينهم، ثم عدد آخر من الرؤساء الإقليميين. ونفذ بيعنخي رغبة بدأها أبوه واستهدف منها تدعيم امتيازات أسرته في طيبة، فعمل على تعيين أخته "آمون رديس" كبيرة لكاهناتها وحرمًا مقدسًا لإلهها(6)، وهنا لم تسمح له سياسته المرنة بأن يقيل شاغلة المنصب شبتن وبة بنت وساركون الأخير من أجلها وإنما جعلها تتبناها حتى تصبح وراثتها لمنصبها ذي الثراء العريض والنفوذ الروحي الكبير وراثة سليمة مشروعة. ويبدو أنه سمى انتبه شبتن وبة وجعل أخته تتبناها لترث سلطانها من بعدها. وكانت أمثالهن يترهبن لآمون بحكم منصبهن ويدفن بعد الموت في منطقة دير المدينة. وفي ظل هذه الأوضاع أعلن بيعنخي نفسه فرعونًا مصريًّا، وعاد إلى نباتا حيث سجل أخباره السابقة على نصب كبير في معبد آمون فيها.

وهنا استغل تاف نخت "شبسرع" صلب العود فراغ الميدان الداخلي لمصلحته، فاسترجع سلطانه في الدلتا والأقاليم القريبة منها، واستعاد ألقاب الملكية. ولأمر ما تفاداه بيعنخي، ولم يقاومه، ربما لإحساسه بأنه أدى واجبه إزاء مصر وكفى، أو لشعوره بشعبية تاف نخت بين أتباعه وصعوبة قهره. واستمتع هذا الأخير تاف نخت بسلطانه في عاصمته سايس عدة سنوات(7)، وظلت أسرته الرابعة والعشرون تعاصر أسرة بيعنخي الخامسة والعشرين، دون أن تنجح إحداهما في لم شمل مصر كلها تحت رايتها، وإن حاولت كل منهما أن تعمل باسم مصر من ناحيتها. فالتفتت أولاهما، على الرغم من متاعبها الداخلية، إلى جارتها فلسطين. وكان قد سعى إلى التحالف معها "هوشع" ملك السامرة عاصمة العبرانيين الشمالية، فقبلت تحالفه(8)، وترتب على مساعدتها له أن صمدت عاصمته ثلاث سنوات أمام حصار الآشوريين لها خلال عهد شلما نصر الخامس، وإن كانت هذه العاصمة ما لبثت حتى انهارت بعد أن تغيرت مقادير آشور بولاية ملكها العظيم سرجون الثاني، ففتحها في العام الأول من حكمه "عام 721ق. م" وقضى على استقلالها وشرد آلافًا من أهلها(9).

وأعقب تاف نخت ولده باكن رنف "واح كارع" على ما امتد سلطانه إليه من الدلتا ومصر الوسطى، وقد اشتهر في الروايات الإغريقية باسم بوخوريس (10). وسنح له مجالان لإثبات كيانه في مجال المنافسة مع حكام عصره. ففى الخارج واصلت مصر في عهده سياسة أبيه بتأييد مدن فلسطين في المحافظة على استقلالها، فأيدت هانو حاكم غزة الذي كان قد لجأ إليها قبل سنوات وساعدته على تكوين حلف يواجه به التوسع الآشوري وعهدت بمعاونته إلى قائدها في رفح، وهو شخص لم تذكره المصادر المصرية وذكرته المصادر الآشورية وقصص التوراة باسم سيبئه ، ولكن مصر فاتها حينذاك أن تقدر إمكانيات سرجون الآشوري إبان عنفوانه، فانهزم حاكم غزة برغم تأييدها له بوحي هذه التجربة أيقن باكن رنف أن التيارات الخارجية لن تجري لصالحه، وأن عليه أن يبدأ بتدعيم جبهته الداخلية، وإن ظلت حدود بلده، على الرغم من وهنها، ملجأ للائذين بها من ولاة الشام، فلجأ إليها في أواخر عهده حاكم أشدود فرارًا من الآشوريين.

وليس من نصوص مصرية كافية تصور جهود باكن رنف الداخلية صراحة، ولكن الروايات الشعبية احتفظت له ولأبيه بذكريات طيبة، ربما لحرصهما على اجتذاب الأنصار وإرضاء الناس في عهد احتدم التنافس فيه بينهما وبين أضرابهما من الحكام المتمصرين الإقطاعيين من ناحية، وبينهما بين بيعنخي ودعاياته الذكية من ناحية أخرى. ويفهم مما سجله المؤرخون الكلاسيكيون عن هذه الروايات أنها اعتبرتهما من أعدل الملوك وأكثرهم استنارة. ولا بأس من الاستشهاد ببعض ما رواه ديودور الصقلي عن هذين الملكين كنموذج لما بقي لهما من سمعة عريضة وما رتبه لهما من أهمية كبيرة بعد وفاتهما بنحو ثمانين قرن دون التزام بطبيعة الحال بحرفية روايته. فقد نعت تاف نخت الذي ذكره باسم تنافاخثوس  Tnaphachtos بالحكيم "فقرة 45"، وروى أنه زهد في الملك وحياة الترف بعد حملة خرج فيها إلى بلاد العرب وتعرض خلالها لخطر الجوع مع نفاذ مؤن الجيش وإملاق البيئة، واضطر من ثم إلى أن يشارك عامة جنوده حياتهم المتواضعة فأنس إلى صحبتهم واطمأن بهم، واعتراه السهد والقلق مما كانوا يعانونه من شظف العيش، فضاق بالتقاليد التي سمحت للملوك برغد العيش دون غيرهم ولعن من بدأها وأمر بنقش لعنته للبادئ بها على معبد آمون في طيبة، واعتبر ذلك من عوامل إغفال شهرة مني أول الملوك المصريين وإغفال مجده على مر العصور على حد قوله.

وحظي باكن رنف "أو بوخوريس" بشهرة أعرض من سمعة أبيه في حياته الخاصة وأثره العام. فروى ديودور أنه كان زري الهيئة جدًّا، وكان أضعف الناس بنية، وأجشع الملوك قاطبة نفسًا "فقرة 65، وفقرة 94"، ولكنه وصفه مع ذلك بأنه رابع المشرعين المصريين، وأنه فاق كل من سبقوه من الملوك في حكمته وكان عاقلًا امتاز بدهائه، فنظم جميع شئون الملك وشرع بالتفصيل أصول المعاملات الخاصة، وكان حكيمًا في قضائه إلى حد أن كثيرًا من أحكامه ما زال لفرط سداده مأثورًا إلى أيامه. وكأن لسان حال ديودور أو معاصريه ود أن يصوره بمثل ما قيل عن سقراط العظيم من أن دمامة خلقته ورث ثيابه وغرابة أطواره كلها لم تحل دون أن تكون له نفس أكثر صفاء من النور وعقلية فذة وحكمة بالغة.

وروى ديودور من قوانين بوخوريس ما يقرب إلى مبدأ البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وهو مبدأ أيدته الوثائق الديموطية فيما بعد، وفسره ديودور بأن من اتهم بأنه اقترض مالًا دون صك وأنكار الاستدانة يُعفي من أداء القرض إذا حلف اليمين على بطلانه. وكأن المشرع قد آثر أن يبدأ بافتراض الثقة في الناس وفي إيمانهم، فهم فضلاء حتى يثبت العكس، وأراد أن يستشعروا قيمة الإيمان ومخافة الإله، وأن يقدروا أن من حنث في إيمانه فقد ثقة الناس به، وأن يخشوا هذه العاقبة بتجنب الأيمان الكاذبة. ولعل المشرع حين أغفل الاعتداد بالدائن المدعي دون صك قد عني المرابين أكثر من غيرهم. فقد قضى أيضًا أنهم حتى إذا أقرضوا الناس أموالًا بصكوك فليس من حقهم أن يزيدوا أصل القرض إلى أكثر من مثله، مما يعني أنهم كانوا يسرفون قبل عهده في فرض الربح المركب ويزيدون به أصل الدين أضعاف مضاعفة. ويبدو أن الربح المركب كان دخيلًا على الحياة المصرية، نقلته إليها الجماعات الغربية التي هاجرت إلى مصر وتكاثرت أعدادها فيها خلال العصور المتأخرة.

وسجل ديودور بالتقدير أن بوخوريس قضى بأن يكون استيفاء القرض من ممتلكات المدين وحدها وليس من شخصه، ولم يجز قط أن يكون شخص المدين في أي ظرف من الظروف رهينة للدين. وقدم ديودور لذلك تعليلًا طريفًا، وهو أن الأرض ملك للذين يعملون عليها واكتسبوها بجدهم أو وهبت فلهم من الغير، أما المواطنون فهم ملك الدولة تستأديهم مالها عليهم من واجبات في الحرب والسلم، ومن الخطا البين أن يقبض على المدين وفاء لدينه وهو يواجه الأخطار دفاعًا عن بلاده فيكون من أثر ذلك أن تتعرض سلامة الجميع للخطر من جراء جشع بعض الناس. ولم يستبعد ديودور أن يكون سولون قد نقل هذا التشريع إلى أثينا فيما سماه تخفيف الالتزامات أو التخلص من الحمول وحرم بمقتضاه استرقاق المدين، بل وألغى الديون التي كان ضمانها شخص المدين "أو أنقصها".

ولا جدال في براعة التعليل الذي ساقه ديودور، ولا شك كذلك في أن القول بأن سولون المشرع الأثبني العظيم قد اقتبس بعض تشريعه من مصر يعتبر مفخرة لمصر والمصريين، لولا أن تعليل ديودور لحكمة المشرع المصري فيما أصدره هو أقرب إلى روح الفكر الإغريقي أو الكلاسيكي منه إلى طابع التفكير الشرقي في القرن الثامن ق. م. وعلى أية حال فثمة تعقيب آخر وهو أن استرقاق المدين الذي حرمه باكن رنف كان دخيلًا على الحياة المصرية إما عن طريق الجاليات الأجنبية أو تحت قسوة الحياة في عهود الاضطرابات.

وقد أخذت بمثله التشريعات الآشورية في القرن الثاني عشر ق. م حين أباحت رهن أفراد الأسرة في مقابل الدين، وأخذت به التشريعات الإغريقية قبل إصلاحات سولون، كما أخذت به تشريعات الاثنتى عشرة لوحة الروماينة في القرين الخامس ق. م واستمر بعدها (11).

وربط بعض الباحثين بين قوانين باكن رنف وبين ما أتت الوثائق المصرية به بعد عهده في القول بأن حق الملكية المطلق للأرض تأييد بصدور قوانينه، فتيسر انتقال ملكية المنفعة دون قيد أو شرط، وأطلقت حرية الهبات من كل قيد. وأصبح المزارعون من أهل الطبقات الوسطى يتمتعون باستقلال شخصياتهم حيال الدولة وحيال الإقطاعيين، فيما عدا التزامهم بتوفية الضرائب وأداء الأعمال العامة. وتحرر أفراد الأسرة من ولاية رب الأسرة فيما يختص بأملاكهم بحيث اعتبر كل شخص مسئولًا عن ذمته، وانفتحت أبواب التحاليل لإفراز أنصبتهم من ميراث الأسرة المشترك(12). ولم يزد حكم باكن رنف عن ست سنوات ثم لقي نهاية مفجعة كما سنرى بعد قليل، وعندما أراد أهل الأساطير أن يفسروا التناقض بين صلاحه وبين سوء خاتمته ردوا الأمر إلى قدر مقدر، وزعموا أن كبشًا مباركًا نزل من السماء في أيامه وتكلم بلسان مبين وتنبأ للملك بخاتمته، وأنذر مصر بعدها بشقاء طويل. وقد حدث ذلك الشقاء فعلًا فيما رواه مانيتون وإحدى البرديات الديموطية. ولا زال التاريخ متشوفًا للكشف عن التشريعات التي نسبت إلى باكن رنف والتي يبدو أنها كانت أحد مصادر تقنين مصري متأخر عثر على بردياته المكتوبة بالخط الديموطي في منطقة تونة الجبل بمصر الوسطى، وتولى دراستها الأستاذ الدكتور جرجس متى.

جرت هذه الأحداث في الأجزاء الشمالية من مصر الموالية للأسرة الرابعة والعشرين، أما في الجنوب فظلت طيبة وما حولها على صداقتها مع بناتا التي قضى ملكها بيعنخي بقية سنوات حكمه منطويًا فيها على نفسه لسبب غير معروف. وشيد له هرم كبير نسبيًّا بقربها في كورو على نسق الأهرام المصرية وإن كان أقل منها بكثير. وتوفي في العام 31 من حكمه.

ثم عاد النشاط مرة أخرى بين نباتا وبين مصر بولاية ولده أو أخيه"؟ " "شاباكا" الذي استغل حماسة أتباعه لحكمه الجديد، وقضت جيوشه على استقلال باكن رنف في مصر وأهلكته قتلًا أو حرقًا.

وآثر شاباكا "نفركارع - واح إب رع" بعد أن انفرد بالأمر واتخذ منف عاصمة أن يتقي المشاكل الخارجية ليتفرغ لمشروعاته الداخلية. فترك حاكم أشدود الهارب منذ عهد باكن رنف لمصيره أمام سرجون الآشوري، وهادن هذا الأخير وبادله الهدايا، وكان في ذلك ما سمح لأعوان كل ملك منهما بأن يسرفوا في الإشادة بملكهم ويبالغوا في خشية الآخر منه، فصور أعوان شاباكا ملكهم يقبض على نواصي آسيويين ويتلقى جزاهم. بينما فسر أتباع سرجون هدايا شاباكا إليه بأنه كان قد أدرك واتقى بأس الأرباب آشور ونابو ومردوك وغضب سرجون، على الرغم من وجوده في بلد نائية وعرة المسالك "في النوبة"، وعلى الرغم من أن آباءه ما تعودوا من قبل أن يسألوا عن صحة أجداد سرجون إطلاقًا (13). وكان هذا هو شأن كتبة الملوك هنا وهناك في أغلب ما يكتبونه ليرضوا به غرور ملوكهم.

وتركت مصر سياسة اللامبالاة الخارجية في عهد شبتكا "أو سبتكو" "جد كاورع - من خبر رع" ابن بيعنخي. ويبدو أنه لم يكن في وسعها، على الرغم من متاعبها، أن تبقى منعزلة طويلًا عن العالم الخارجي الذي قلب الآشوريون موازين القوى فيه رأسًا على عقب، فما أن انتهى عهد سرجون حتى انفجرت بلاد الشام في ثورة عارمة ضد الاحتلال الآشوري. وكان ممن تطلعوا إلى عون مصر دويلة يهوذا وملكها حزقيا، وهو ملك اعتبره قومه مصلحًا لمحاولته تخليص عقائدهم من شوائب الوثنية فيها، وقد عاصره النبيء إشعيا وكان على عكس من دعاة الخضوع لآشور والتباعد عن محالفة مصر. فأعانتها مصر، وليس حبًّا فيها، ولكن لاتخاذها موقعًا من مواقع تعويق التوسع الآشوري، وأنجدت عاصمتها أورشليم بجيش كان على رأسه تاهرقه بين بيعنخي، وكان من أفذاذ الحرب، ولكن خصمه الآشوري سينا خريب بن سرجون كان أعنف وأكثر عددًا وعدة. وباستخفاف المقتدر أرسل سينا خريب رسوله الرابشاق إلى أهل أورشليم في عام 701ق. م، ليصرفهم عن حرقيا وحليفه الفرعون المصري، بل وعن رب يهوذا كذلك، بحجة أن ملكهم حزقيا قد مرق عن دينهم بإزالة المرتفعات والمذابح التي أقامها أسلافه، وأنه لا أمل لهم في مصر التي نخرت المشاكل كيانها وأوهنتها (14)، وأن أرباب الأرض جميعها لم يستطيعوا أن ينقذوا بلادهم من آشور. أما الخاتمة فاختلفت فيها روايات الفريقين، فادعت نصوص الآشوريين الانتصار المؤزر على المدينة، وحلفائها، وروت أن حزقيا اضطر تحت وطأة الحصار وما أصاب النجدة المصرية وانفضاض أتباعه من حوله إلى أداء الجزية مضاعفة إلى نينوى ومعها وفد من بناته وحظاياه وموسيقيه. ولكن روت التوراة أن الجيش الآشوري حل به الموت الإلهي وحام ملك يهوه فوقه ليلًا، وفي بكرة الصباح أصبحوا جثثًا هامدة، فارتد الملك الآشوري مدحورًا بخزي الوجه إلى أرضه بعد أن أصبح جيشه كالعصافة في مهب الريح (15). وتحدث هيرودوت عن المصريين فروى أن ملك مصر باعتباره الكاهن الصالح للإله بتاح قد أحزبه الأمر واعتمد على عون ربه أكثر مما اعتمد على مجهود الجنود، وفي عشية الموقعة سرت أسراب هائلة من الجرذان في معسكر الآشوريين فمزقت الجعاب وقرضت القسي وسيور الدروع، فأصبحوا بلا عدة وتفرقوا مغلوبين على أمرهم من أهون المخلوقات (16). وذهب بعض الرأي إلى الربط بين قصتي التوراة وهيرودوت بأن الجرذان أفشت وباء الطاعون بين الآشوريين فأهلك خلقًا كثيرًا منهم وأوهن الباقين فانسحبوا (17)، وإن كان توقيت هذه الحادثة لا زال يتراوح بين عام حصار أورشليم في هذه المرة، وبين عام تخريب سينا خريب لمدينة لاشيش "لخيش" الفلسطينية ومحاولته الوصول إلى الحدود المصرية بعد أحد عشر عامًا "راجع تاريخ العراق فيما يلي".

وتكرر تأييد مصر لحلفائها في الشام خلال عهد تاهرقة "خو نفرتم رع"، لا سيما مدينة صور التي استعصت على الآشوريين فترة طويلة. وفي سبيل التفرغ للمشكلات الشمالية ترك تاهرقه نباتا لنوابه فيها، وترك طيبة لأميرها المحلي وحليفه المصري منتومحات، واستمد من آمون سندًا لمقاومة أعدائه (18). وكان أهم ما قدمه لأمون خلال عهده الذي كان أطول عهود حكام العصر واستمر 26 عامًا، هو الصرح الخارجي الكبير الذي لا زال يتقدم معابده في الكرنك، والسور الضخم الذي يحيط بها. وتعددت آثاره أكثر من سابقيه في مصر ونباتا. ثم ركز اهتمامه السياسي في عواصم الشمال، لا سيما منف وتانيسن واستقر في هذه الأخيرة استعدادًا للانطلاق منها إلى الشمال الشرقي حيث الشام وآشور، حين تتهيأ الأسباب أو تدعو الضرورة.

وحتى هذه المرحلة كان حكام العصر يعتقدون أنهم نهضوا بمصر من كبوة طويلة وحاولوا أن يحيوا تراثها القديم في الكفر والدين والفنون. ولعل أفضل ما يذكره التاريخ لأيامهم في هذا السبيل هو إعادة تسجيل المذهب المنفي على لوحة حجرية صلبة في عهد شاباكا بعد أن أتت الأرضة عى نسخته القديمة ولعلها كانت من البردي أو من الرق. والغريب أن لوحة عهد شاباكا هذه عندما كشف عنها في العصر الحديث كان قد اتخذها طحان حجرًا لطاحونه فحطم من نصوصها ما لم يحطمه الزمن منها. وجارت مدارس الفن بفروعه المختلفة ما ذهب فن عصرها إليه، ورأت سبيل النهضة في العودة إلى أساليب عهود الازدهار القديمة، فقلد فنانوها أساليب فن الدولة القديمة، وأساليب فن الدولة الوسطى، وأساليب فن عصر الرعامسة، ثم حاول بعضهم أن يخرجوا من هذه الفنون بأسلوب جديد. واستحبوا التماثيل فراعنتهم الأسلوب الواقعي الذي يشبه ما تخيرته المدرسة الطيبية لتماثيل ملوكها خلال الدولة الوسطى، بعد أن أخرجوه بما يناسب عصرهم. وتبقى من خير ما نحتوه فراعنتهم ثلاث رءوس: رأس الفرعون شاباكا، ورأسان للفرعون تاهرقه، وعبرت ملامح كل رأس من هذه الرؤوس عن السمات الشخصية لصاحبها، وصورت بالطابع الجنوبي الذي اكتسبته أسرته الملكية خلال إقامتها الطويلة قرب الشلال الرابع. وهكذا أظهر الفنانون رأس شباكا بوجه متسع وشفتين ممتلئتين وأنف عريض أفطس، وأظهروا وجه تاهرقه بعنق غليظة ووجه عريض وشفتين ممتلئتين وشعر مفلفل.

واستفادت تماثيل كبار الأفراد بالاتجاه الجديد، فأخرجت مدرسة طيبة تمثالين لحاكمها المحلي "مونتومحات" مثله أحدهما واقفًا في انتصابة تشبه انتصابة تماثيل الدولة القديمة وطابعها المترفع، وكست وجهه بجدية صارمة عبرت بها عن عزيمته التي واجه الشدائد بها في عصره. ثم أظهره تمثاله الآخر الذي لم يبق منه غير رأسه الضخمة وجزاء من صدره، في ملامح شخصية ناطقة وشعر طبيعي ناعم مرسل، وذلك في إتقان بالغ جعله آية من آيات النحت المصري كله. وكان منتومحات فيما يبدو كاهنًا رابعًا لآمون استطاع أن يغطي بشخصيته على مكانة الكاهن الأول في طيبة، وكان أبوه وزيرًا وجده عمدة لطيبة. وقد بلغ من أمره أن ذكرته النصوص الآشورية فيما بعد بلقب ملك طيبة، وإن قاسمته السلطان في طيبة كبيرة الكاهنات الحرم المقدس لآمون شبتن وبة الثانية. ونحت مثالو المدرسة نفسها بضعة تماثيل واقعية لرجل من البلاط يدعى "حاروا" أظهروه فيها بعيوبه البدنية، فصوروه بوجه ممتلئ كوجه الطفل، وجسم مكتنز يترهل ثدياه كثديي الأنثى.

وإلى جانب الكلف بإحياء التراث القديم، أضاف الكتبة المصريون خطًّا جديدًا منذ أوائل القرن التاسع ق. م يزيد اختصارًا وتخففًا من الصور عن الخط الهيراطي، وتكتب أغلب كلماته كما ينطقها الناس فعلًا. وكانت هذه الخاصية الأخيرة فيه أحد أسباب الإغريق له بالخط الديموطي، أي خط الجمهور، أو الخط العام.

كان تاهرقه فيما دلت الأحداث كفئًا لأحداث عهده، ومن أطرف ما أتت نصوصه به إشارة ضمنية إلى زيادة فيضان النيل في إحدى السنوات نتيجة لغزارة الأمطار في الجنوب، وكانت هي المرة الأولى التي علل المصريون الفيضان فيها بهذا التعليل المقبول(19). ولكن يبدو أن البنيان السياسي والداخلي لمملكة تاهرقه لم يعد سليمًا؛ وأنه لم يبلغ العرش إلا بعد تنافس مرير مع عمه أو أخيه ومع خصومه، وإذا صح ذلك كان فيه مصداق لرواية إشعيا عن ربه وهو يحض العبرانيين على عدم مخالفة مصر والرضا بالخضوع للآشوريين في قوله: "أهيج مصريين على مصريين فيحارب رجل أخاه ورجل صاحبه، مدينة مدينة ومملكة مملكة ... ". ومع هذه الأوضاع القلقة ومع ضعف الحلفاء الخارجيين لم يكن من المتوقع أن تصمد مصر طويلًا في مواجهة الآشورين بعد أن بلغوا ما بلغوه حينذاك من توسع وعنفوان، وكان عليها أن تواجه سنة الحياة في شيخوختها الثالثة، وأن تتلقى جزاء تهاونها في أمر نفسها. وقد بلغ الأمر مداه حين جند الملك الآشوري آشور أخادين كل إمكانياته لمهاجمة مصر وجهًا لوجه باعتبارها آخر مناطق الشرق القديم بعدًا عن نفوذه، وأملًا في القضاء على ما بقي لها من قدرة على المنافسة الحربية، وطمعًا في ثرائها، وليقطع معونتها عن حلفائها في سوريا وفلسطين. وقد مر مشروعه ضدها في مرحلتين: مرحلة هاجم فيها حدودها الشمالية الشرقية في عام 674ق. م، ولكنه هزم بجيشه في معركة دموية كما روت المصادر البابلية. ثم مرحلة ثانية بلغ فيها رفح وسيل مصر في عام 671ق. م وهناك واجهته مشكلة قلة الماء مع كثافة جيشه، وساعده عليها جماعة من بدو الصحراء حملوا لجيشه قرب الماء فوق الجمال وعملوا أدلاء له عبر سيناء، وبالغت نصوصه في وصف مشقة الطريق الصحراوي وصخوره المدببة وأفاعيه القرناء "وحيواناته" الخضراء المجنحة، كي تشيد بجهوده في تخطي صعابها. وعبرت عن شدة مقاومة المصريين بتعبيرها الخاص، فقالت على لسان ملكها: "قطعت ما بين مدينة أشخوبري "عند مدخل وادي الطميلات" وبين عاصمته منف في خمسة عشر يومًا، وكنت أقاتل دون انقطاع في معارك دموية ضد تاهرقه ملك مصر والنوبة الذي لعنه كل الأرباب الكبار، وأصبته خمس مرات بسهامي فأدميته بجراح لن يشفى منها" (20). ونجحت الجيوش الآشورية للأسف في إسقاط العاصمة منف ودمرتها وأحرقتها وسيطرت على مناطق الدلتا، وأضعفت مقاومة مناطق الصعيد. وفتت آشور أخادين سلطة الحكم في مصر فوزعها على الأمراء الإقليميين واعتبرهم عمالًا له بعد أن استبعد منهم من خشي طموحه كما استبعد منهم ذوي الأصل النوبي، وظن أن الأمور استتبت له، وبلغ من ثقته بنصره أن أمر بتغيير أسماء مدن كثيرة إلى أسماء آشوري نسبها إلى أربابه: آشور، وسين، ومردوك، وإشتار (21). وصور رجاله تاهرقه ملك مصر جاثيًا أمامه مخزومًا من أنفه بحبل يرجو عفوه، على نصب أقاموها في أنحاء دولته (22)، مع أن تاهرقه لم يقع في قبضته إطلاقًا ولم يهادنه. ولم يكتف آشور أخادن بما غنمه من كنوز القصر الملكي المصري "مما لا مثيل له في آشور ومما أبدعت صناعته" على حد قوله، وإنما طمع في أن يجعل مهارة المصريين طوع يمينه في آشور نفسها، فأمر بترحيل جماعات من الأطباء والبيطريين والسحرة والصاغة والكتبة والموسيقيين بل ومن صانعي النعال وصانعي الجعة والخبازين ومن لف لفهم إلى عاصمته (23). وكأنما وجد في مهارتهم كنزًا لا تقل قيمته عن كنوز القصر الملكي، أو رأى في إبعادهم عن مصر حرمانًا لها من أدوات حضارتها التي دلت بها على عالمها القديم.

كانت هذه هي المرة الثانية التي نجح فيها جيش كبير في غزو مصر عن طريق مدخلها الشمالي الشرقي "إذا اعتبرنا محنة الهكسوس القديمة غزوة وليست هجرة". وكانت هي المرة الأولى التي حكمت مصر فيها من خارج حدودها، بعد أن سلخت من تاريخها المكتوب نحو خمسة وعشرين قرنًا. وقد استمر كفاح مصر للغزو الآشوري خلال عهود أربعة ملوك آشوريين، اثنين كافحتهما على حدودها، واثنين كافحتهما على أرضها. ولقسوة الوضع ثار المصريون على الحكم الآشوري سريعًا وعاونوا تاهرقه على استرجاع سلطته على العاصمة خلال عام 669ق. م، فعزل بدوره من رضوا بولاية آشور أخادين، وحين ذاك جن جنون الملك الآشوري وكانت مشكلات وراثة عرشه قد احتجزته عامًا في آشور عقب عودته من مصر، وأعدم في هذا العام كثيرين من موظفيه (24)، ثم سارع بالخروج بجيشه ولكنه مرض ولقي نحبه في الطريق، فعاد جيشه أدراجه إلى وطنه. "وليس من المستبعد أن يكون المصريون قد اعتبروا هذه الأحداث انتقامًا إلهيًّا منه".

ووقع عبء مواجهة الثورة المصرية على خلفه العنيف آشور بانيبال (25)، وقد عبر عن غيظه بقوله "وصل رسول سريع إلى نينوى وأبلغني النبأ فغضبت جدًّا لهذه الأحداث واشتعلت نفسي ورفعت كفي إلى آشور وإشتار ... " وبعد أن اطمأن إلى استقرار أموره الداخلية خرج بجيشه في عام 666ق. م، وأجبر عددًا من أمراء الفرات والشام وفلسطين على مصاحبته بقواتهم، وكانوا كما قال اثنين وعشرين ملكًا. واستعان بخبراتهم الملاحي وهاجم مصر بهم من البر والبحر، وتلاقى بقواته مع جيوش تاهرقه في معركة وصفتها النصوص الآشورية بأنها معركة مكشوفة رهيبة، أحرز ملكهم النصر فيها. وانسحب تاهرقه إلى الجنوب على متن النيل مع قلة من قواته ولكن عز عليه أن يصطحب معه أغلب أساطيله النيلية المقاتلة فاستولى الآشوريون عليها وشجعهم ذلك على أن يستعينوا بأصحاب المهارة الملاحية من أهل الفرات والشام في تتبعه إلى طيبة أحد معاقل القومية المصرية العتيدة. وأعاد آشور بانيبال بعض الأمراء المصريين إلى حكمهم اللامركزي وإماراتهم الإقليمية، واطمأن إلى قوة سلطته وقال في نصوصه: "وهكذا استعدت الإشراف على مصر والنوبة، وزدت الحاميات عن ذي قبل؛ وجعلت تنظيمها أشد إحكامًا وقوة، وعدت إلى نينوى سالمًا بكثير من الأسرى وبغنيمة طائلة". ولكن خاب ظن الملك؛ فجيوشه لم تر النوبة التي أدعى سيطرته عليها؛ وما لبث أمراء مصر أن فاقوا إلى وطنيتهم وقالوا لأنفسهم فيما روت عنهم المتون الآشورية: "إذا كان تاهرقه قد أبعد عن مصر فأي بقاء لنا بعدد؟ وأرسلوا رسلهم على الخيل إلى تاهرقه يقولون له: دعنا نتصافح ونصل إلى حل مقبول، ونشترك في إدارة البلاد معًا حتى لا يكون بيننا حاكم أجنبي". ولكن حدث لسوء حظهم أن اكتشف الآشوريون تدبيرهم فقبضوا على رسلهم، وأعملوا السيف في مدنهم: "ولم يستثنوا واحدًا من تانيس والمدن الأخرى التي تعاهدت على الثورة، فشنقوهم على السرايا وسلخوا جلودهم وغطوا بها أسوار المدن" وأرسلوا زعماء الثورة إلى نينوى حيث أهلكوا جميعًا ولم يستثن آشور بانيبال منهم غير أمير سايس "نيكاو" ربما باعتباره وريث الأسرة الرابعة والعشرين وسليل أكبر بيت منافس لبيت تاهرقه، فأبقى عليه وقربه إليه وخلع عليه وسلمه عددًا من أختامه وأهداه هدايا مرقومة باسمه، وعين ولده "بسماتيك" أميرًا على مدينة أتريب في شرق الدلتا. ولعله أراد أن يستعين بكفايتهما في ضمان خضوعها، وسوف يكون لهذا الولد شأن في مقاومة الآشوريين بالذات.

ولم تنقطع محاولات المصريين للتحرر، على الرغم من هذا التدبير، حتى ممن أعلنوا الطاعة لآشور بانيبال وانضموا إلى جيشه مكرهين، فتحدثت سطور قليلة باقية من أحد نصوصه عن والٍ مصري لم يعتبر، على حد قولها، بالمعاملة الشديدة التي لقيها الأمراء المصريون الذين سبقوه إلى الثورة، فسمعه الضباط الآشوريون وهو يسر بخطته إلى جماعة من إخوانه المصريين انتحوا معه ناحيه عن مقدمة الجيش الآشوري، وقد أجابوه بأنهم على استعداد لتنفيذها بالليل (26). وكانت عاقبته وعاقبة زملائه معروفة بطبيعة الحال.

ومرة أخرى هبت مصر تبغي التحرر بعد أن ورث عرشها الأسمى تانوات آمون "باكارع" -ابن شبتكا أخ تاهرقه- وتشجع برؤيا ظنها صادقة رأى فيها ثعبانين أحدهما على يمناه والآخر على يسراه (27)، وفسرها رجال الدين له بالنصر على عادة الكهان مع الملوك في كل عصر، وأولوها بقرب سيطرته على الصعيد والدلتا. وتشجع الملك الذي ذكرته النصوص الآشورية باسم أوراماني فصعد حتى منف وحاصر بجيشه الحامية الآشورية فيها وسيطر على المدينة، وأدب الأمراء الذين استكانوا لحكم الآشوريين (28). ولكن ما لبث آشور بانيبال أن عاد بجيشه إلى مصر وقد تملكه الغل وساعدته كثافة جيوشه على النصر، فانسحب تانوات أمون إلى الجنوب، وتتبعته القوات الآشورية حتى طيبة ودخلتها ودمرتها حوالي عام 659ق. م على الرغم من مقاومة أهلها وأميرهم "منتومحات" (29). وروت المتون الآشورية على لسان ملكها: "غنمت من طيبة غنائم تجل عن الحصر، ونزعت مسلتين ضخمتين من قواعدهما، وكانا مغشيتين بالبرونز المذهب، وتبلغ زنة كل منهما 2500 تالنت، وأمرت بنقلهما إلى آشور". وتحدث متن آخر عن أنه سجل انتصاراته وانتصارات أبيه على خمسة وخمسين تمثالًا من تماثيل الملوك المصريين (30) "وربما أمر بنقل بعضها أيضًا إلى آشور". ولم يكن الشرق القديم قد نسي أن طيبة ظلت كبرى عواصمه السياسية والدينية طيلة قرون عدة، ولم ينس أن عمائرها الدينية كانت ولا تزال أكبر من أن تدانى، ولهذا كان لسقوطها وتدميرها واحتلالها عنوة لأول مرة في تاريخها دوي كبير عبر عنه النبي ناحوم بعد نصف قرن وهو ينذر نينوى عاصمته آشور بأنها لن تكون أعز من نو آمون "أي طيبة" المستقرة بين الأنهار، تحميها المياه، البحر حصنها، ويسورها البحر، ويدافع عنها المصريين الذين لا حصر لهم والكوشيون "النوبيون" والفوط والليبيون، ومع ذلك دمرت وسحق أطفالها عند منعطفات الشوارع، وألقوا القرعة على أشرافها وقيد عظماؤها بالأغلال(31).

وعثر في طيبة على لوحة أرخت بالعام الثامن من حكم تانوات آمون "في حوالي عام 655 أو 654ق. م" مما قد يعني أنه عاود كفاحه بعد تدمير طيبة، واسترجع سلطانه على بعض مناطق الصعيد(32). ولكن سيطرته لم تطل أكثر من هذه السنوات الثمان، بل إن النصوص الصاوية التي أتت بعد عهده أغفلت حكمه، كما أغفلت سنوات الاحتلال الآشوري، واعتبرت آخر أعوام حكم تاهرقه "في حوالي عام 664ق. م" مقدمة لحكم بسماتيك الأول أول ملوك الأسرة السادسة والعشرين.

__________

(1)  Et. Drioton Et J. Vandier L'egypte, 511; Kees, Ancient Egypt, 340.

ألكسندر شارف: المرجع السابق - ص170

وعلى العكس من هذا الرأي يستبعد ألن جاردنر مصريتهم على أساس أن أسماء حكامهم أسماء غير مصرية، وافترض أن دماء جديدة وفدت عليهم في النوبة وجددت حيويتهم، ولكنه لم يعين أصحاب هذه الدماء. ورأي جورج ريزنر أن الدماء الجديدة كانت لعنصر ليبي ذي بشرة بيضاء امتاز بالمهارة في الفروسية وتربية الخيول. واحتج بتشابه الأسلحة التي وجدت في مقابر زعمائهم في كورو بالنوبة مع الأسلحة الليبية، ثم تلقيب زوجة بيعنخي -تاييري- بلقب عظيمة الثحنو أو سيدة الليبيين. ولكن يمكن أن يلاحظ فيما نذكره بعد قليل أن نصًّا من عهد بيعنخي قد سلك الليبيين مع من سماهم بالأنجاس، وهو ما لا يتفق مع القرابة المزعومة بينه وبينهم - كما قد يكون تشابه أسلحتهم مع الأسلحة الليبية تشابهًا عرضيًّا.

(2) Kess, Op. Cit., Jea, Xxxii, Pl. 11.

(3) Giroton Et Vandier, Op. Cit., 538, 543; Jea, Iv, 213 F.; V, 99 F.; Vi, 247 F.; Zaes, Lxvi, 76 F.; Griffith, In Liverpool Annals, X, 73 F.

(4)  Cf. Down Dunham and M. Macadam, Jea, Xxxv, 139 F.; H. Von Zeissl, Aethiopen Und Assyrer in Aegypten, 1955, Zaes, 1963, 74 F.

شارف: المرجع السابق - ص171

(5)  Urk., Iii, 1 F.; Ancient Records, Iv, 796 F.

(6) يتراوح الرأي عن تنفيذ هذا الإجراء بين عهده وبين عهد أبيه.

(7) Spiegellberg, Rec. Trav., Xxv, 190 F.

(8) الملوك الثاني: 17: 1 - 6.

(9)  Lnckenbill, Ancient Records, Ii, 4. Anet, 284.

(10) Breasted, Ancient Records, Iv, 884; A. Moret, De Bocchori Rege, 1903; M. Revillout, "Bocchoris Et Son Code", Rev. Eg., 1907, 124-141.; Posener, Ibid. 1969, 148-150.

(11) Diodorus, I. 45, 65, 79, 94, A. Moret, De Bocchori Rege, 1903; M. Revillout, "Bocchoris Et Son Code", Rev. Eg., 1907, 124-141; G. Posener, Ibid., 1969, 148-150; E. Seidle. "Law" In the Legacy of Egypt, 1947, 199, 203-204; G. Mattha. Bull. De L'inst. D'egypte, 1941, 300-312; J.A. Wilson, Jnes, 1948, 129 F.; U. Kaplony-Heckel, Mdaik, 1966, 146 F.; M. El-Amir, Bieao, 1969, 94; Etc.

(12) Ancient Records. IV, 892 F.

(13)  Luchenbill, Op. Cit., Ii, 62; Anet, 287.

وراجع في تاريخ العراق عن بعض المشكلات التاريخية التي تمس اسم مصر في نصوص سرجون.

(14) أخبار الأيام الثاني: الإصحاح 32.

(15) الملوك الثاني 19: 8 - 35، إشعيا 17: 13

(16)  Herodotus, Ii, 141.

(17)  Cf., L.L Honor, Sennacherib's Invasion of Palestine, 1926; J. Lewy, Olz, 1928, 159 F.; U. Ungand, Zaw, Lix, 199 F.

(18) Cf., Kienitz, Die Politische Geschichte Aegyptens Vom 7 Bls Zum 4 Jahrhundert Vor Der Zeitwende, Berlin, 1953, 7; Bifao, Li, 28.

(19) Cf., V. Vikentiev, Rec. Tr. De La Faculte Des Lettres, Univ. Egyptienne, 1930.

(20) D. Luckenbill, Op. Cit., Ii, 580; A Net, 239; E Peet, Jea, Xi, 1 925, Ii7 F.; E. Meyer, Geschichte Des Altertums, Iii, 76 F.,

(21) Luckenbill, Ii, 892; Anet, 293-294.

(22) E.H. Weissbach, Die Denkmaeler Und Inschriften Des Nahr El-Kelb, 1922, Pls. Xi-Xii; R. Mouterde, Le Nahr El-Kelb, 1932, Pl. Vi; Olmstead, Hitory, Of Assyria, 384.

(23) D. Luckenbill, Op. Cit., Ii, 585; Anet, 293,

(24) Luckenbill, Op. Cit., 302, 303.

(25) See, Op. Cit., Ii, 770 F.: M, Streck, Assurbanipal Und Die Letzten Assyrischen Konige. Bis Zum Untergang "V. A. B., Vh" 1961, Ii, 2 F.; J. Schawe, A. F. O., X "1935-1936", 170.

(26) Th. Bauer, Das Inschriftwerk Assurbanipals, 1933, I, Pl. 60; Ii, 56.

(27)  Urk., Iii, 57-77.

(28) Breasted, Ancient Records, Iv, 919 F.

(29) Ibid., 901 F.

(30) D. Luckenbill, Op. Cit., 989.

(31)  ناحوم 3: 8 - 10.

(32)  Berlin. 2097; Asae, Vii, 190, 226-27.




العرب امة من الناس سامية الاصل(نسبة الى ولد سام بن نوح), منشؤوها جزيرة العرب وكلمة عرب لغويا تعني فصح واعرب الكلام بينه ومنها عرب الاسم العجمي نطق به على منهاج العرب وتعرب اي تشبه بالعرب , والعاربة هم صرحاء خلص.يطلق لفظة العرب على قوم جمعوا عدة اوصاف لعل اهمها ان لسانهم كان اللغة العربية, وانهم كانوا من اولاد العرب وان مساكنهم كانت ارض العرب وهي جزيرة العرب.يختلف العرب عن الاعراب فالعرب هم الامصار والقرى , والاعراب هم سكان البادية.



مر العراق بسسلسلة من الهجمات الاستعمارية وذلك لعدة اسباب منها موقعه الجغرافي المهم الذي يربط دول العالم القديمة اضافة الى المساحة المترامية الاطراف التي وصلت اليها الامبراطوريات التي حكمت وادي الرافدين, وكان اول احتلال اجنبي لبلاد وادي الرافدين هو الاحتلال الفارسي الاخميني والذي بدأ من سنة 539ق.م وينتهي بفتح الاسكندر سنة 331ق.م، ليستمر الحكم المقدوني لفترة ليست بالطويلة ليحل محله الاحتلال السلوقي في سنة 311ق.م ليستمر حكمهم لاكثر من قرنين أي بحدود 139ق.م،حيث انتزع الفرس الفرثيون العراق من السلوقين،وذلك في منتصف القرن الثاني ق.م, ودام حكمهم الى سنة 227ق.م، أي حوالي استمر الحكم الفرثي لثلاثة قرون في العراق,وجاء بعده الحكم الفارسي الساساني (227ق.م- 637م) الذي استمر لحين ظهور الاسلام .



يطلق اسم العصر البابلي القديم على الفترة الزمنية الواقعة ما بين نهاية سلالة أور الثالثة (في حدود 2004 ق.م) وبين نهاية سلالة بابل الأولى (في حدود 1595) وتأسيس الدولة الكشية أو سلالة بابل الثالثة. و أبرز ما يميز هذه الفترة الطويلة من تأريخ العراق القديم (وقد دامت زهاء أربعة قرون) من الناحية السياسية والسكانية تدفق هجرات الآموريين من بوادي الشام والجهات العليا من الفرات وتحطيم الكيان السياسي في وادي الرافدين وقيام عدة دويلات متعاصرة ومتحاربة ظلت حتى قيام الملك البابلي الشهير "حمورابي" (سادس سلالة بابل الأولى) وفرضه الوحدة السياسية (في حدود 1763ق.م. وهو العام الذي قضى فيه على سلالة لارسة).