أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-9-2016
2357
التاريخ: 20-9-2016
1378
التاريخ: 20-9-2016
2461
التاريخ: 20-9-2016
1333
|
ومن القواعد الفقهية قولهم : « كلّ مدّع يسمع قوله فعليه اليمين ».
فنقول : المراد من سماع قوله عدم تكليفه بالبيّنة أو بحجّة أخرى في الحكم له ، مثلا يقال : إنّ المالك يسمع قوله إذا ادّعى تلف العين الزكويّة في أثناء الحول ، أي قبل حلول وقت الزكاة ، أو ادّعى أنّه أدّيت زكاتي المتعلّق بمالي ، أو ادّعى الكافر إسلامه قبل حلول وقت الجزية ، أو المدّعي الذي بلا معارض مثلا يسمع قوله ، أي لا يطلب منه البيّنة ، أو الودعي يسمع قوله ، أي لا يطلب منه البيّنة إذا ادّعى التلف أو الردّ ، إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي يسمع قوله ولا يطلب منه البيّنة أو حجّة أخرى ، ففي جميع ذلك يكون عليه اليمين إلاّ ما خرج بالدليل ، وسنذكر إن شاء الله تعالى تلك الموارد.
فنقول : إنّ هذه القاعدة من قواعد باب القضاء ، بمعنى أنّ الحاكم في مقام حكمه إذا يسمع قول مدّع ولا يطلب منه البيّنة فلا يحكم له إلاّ بعد اليمين ، مثلا إذا تخاصم المودع مع الودعي ولم يكن للمودع بيّنة على أنّ الودعي أتلف ماله أو قصر في حفظه ، أو تصرّف في الوديعة من دون إذن المودع ، أو غير ذلك ممّا يوجب الضمان ، فلا يحكم الحاكم بعدم اشتغال ذمّته إلاّ بعد حلف الودعي على نفي هذه الأمور ، وهذا معنى سماع قوله ، لا أنّه بمحض أن لا تكون للمودع بيّنة على أحد هذه الأمور يحكم للودعي بدون أي شيء.
واستدلّوا على لزوم الحلف للمدّعي الذي يسمع قوله من دون بيّنة بأمور :
الأوّل : أن الحكم في مقام المخاصمة لا يجوز إلاّ بأحد الميزانين ، وهما البيّنة واليمين، لقوله صلى الله عليه واله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (1).
ولا شكّ في أنّ « إنّما » كلمة حصر ، فيدلّ قوله صلى الله عليه واله هذا على أنّ سبب الحكم منحصر في أحد هذين ، فإذا لم يطالب المدّعي بالبيّنة ـ كما هو المفروض في المقام ـ فإمّا أن يحكم له بدون اليمين أيضا ، وهذا خلاف قوله صلى الله عليه واله : إنّ قضاء بأحد الأمرين ، وإمّا إيقاف الدعوى وعدم الحكم أصلا ، وهذا خلاف حكمة جعل القضاء. ويلزم اختلال النظام ، وتضييع الحقوق ، والهرج والمرج ، وخلاف الآية الشريفة {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] فلا بدّ وأن نقول بأن الحكم له بذلك الميزان الآخر ، أي اليمين.
لا يقال : إنّه في بعض الموارد ورد الدليل على عدم الحلف أيضا ، كما في باب العبادات الماليّة كالزكاة والخمس ، وسماع قول المالك في عدم التعلّق وفي الأداء أيضا ، وكسماع قول الفقير في دعوى الفقر ، كلّ ذلك من دون بيّنة ولا حلف.
لأنّه لا نقول نحن بأنّ الحصر عقليّ ليس قابلا للتخصيص ، فإذا جاء الدليل في مورد على عدم لزوم الحلف أيضا يخصّص العمومات.
الثاني : أنّ قول المدّعي في هذه المقامات حجّة ، لأنّ الدليل الذي يفيد قبول قوله من دون قيام البيّنة من طرفه ، يرجع إلى أنّ قوله حجّة ، فلا يكون من المدّعي بالمعنى المراد من المدّعي والمنكر في قوله صلى الله عليه واله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (2) وهو أن يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، بل يكون بمنزلة المنكر في أنّ قوله مطابق للحجّة الفعليّة ، بل هو المنكر حقيقة بناء على ما عرّفنا المنكر بأنّه عبارة عمّن يكون قوله مطابقا للحجّة الفعليّة.
إن قلت : أليس يقال المدّعي؟
قلنا : إطلاق المدّعى عليه من قبيل إطلاقه على ذي اليد باعتبار معناه اللغوي ، أي مطلق من يدّعي ، وإن كان دعواه موافقا للحجّة الفعليّة.
الثالث : الإجماع على أنّ كلّ مدّع يسمع قوله ولا يطالب بالبيّنة فعليه اليمين ، وذلك مثل الأمين إذا ادّعي التلف يقبل قوله ولا يطالب بالبيّنة ، إلاّ أنّ عليه اليمين ، ولذلك اشتهر في لسان الفقهاء وفي كتبهم : أنّه ليس على الأمين إلاّ اليمين.
ثمَّ لا يخفى أنّ المراد من الإجماع في هذه المسألة هو انعقاده على هذه الكلية ، أي كلّ مدّع يسمع قوله ولا يطالب بالبيّنة فعليه اليمين ، فلا يرد على هذا الدليل أنّ تحقّق الإجماع في بعض الموارد لا يفيد في مورد الخلاف والشكّ في لزوم الحلف ، لأنّ انعقاد الإجماع على هذا العنوان الكلّي ممّا يجعله كورود دليل لفظي عليه ، فيمكن التمسّك بإطلاقه عند الشكّ والخلاف ، كما يتمسّك بالإطلاقات اللفظيّة.
ولكن فيه أوّلا : أنّه في تحقّق مثل هذا الإجماع في ذلك العنوان الكلّي خفاء. وثانيا : على فرض تحقّقه ، في حجّية مثل هذا الإجماع إشكال ، بل معلوم عدمها ، وذلك لما ذكرنا مرارا أنّ وجه حجّية الإجماع هو كشفه عن رأي الإمام عليه السلام ، والحدس القطعي بكون الاتّفاق مسبّبا عن رأيه عليه السلام ، ومثل هذا لا يكون إلاّ فيما لا يكون مدرك آخر غير التلقّي عن الإمام عليه السلام يتّكئون ويعتمدون عليه ، وفي المقام مع وجود هذه المدارك والأدلّة المذكورة لا يبقى مجال لتحقّق الإجماع المصطلح الذي أثبتنا حجّيته في الأصول.
الرابع : أنّ قول المنكر ـ مع أنّه موافق للحجّة الفعليّة ـ يحتاج إلى اليمين ، وبدون اليمين لا يحكم له، فإذا قبل قول المدّعي بدون الاحتياج إلى البيّنة وهو مخالف للحجّة الفعليّة كما هو المفروض ، فيكون الاحتياج إلى اليمين فيه بطريق أولى ، وذلك من جهة أنّ المقصود من الحلف إمّا ارتداع من ليس له الحقّ عن بغيه وعدوانه ، وإمّا قوّة احتمال مطابقة قوله للواقع ، وعلى كلا الوجهين يقتضي في المدّعي الذي يقبل قوله ـ ولا يطالب بالبيّنة أيضا ـ أن يكون عليه اليمين بطريق أولى.
وفيه : أنّ هذه المذكورات أمور استحسانية لا أدلّة شرعيّة ، فلا يمكن استناد الأحكام الشرعيّة إلى أمثال هذه الظنّيات. نعم لو حصل القطع بأنّ ملاك كون الحلف واليمين على المنكر أحد هذين الأمرين ، فللقول بأنّ المدّعي الذي يسمع قوله بدون البيّنة أيضا يحتاج إلى اليمين مجال.
ولكن أنت خبير بأنّ هذه الأمور لا توجب أكثر من الظنّ. نعم في بعض صغريات هذه القاعدة ـ كالأمين والمحسن أدلّة لفظيّة تدلّ على عدم جواز اتّهامهم وعدم السبيل عليهم ، كقوله عليه السلام في رواية قرب الأسناد : « ليس لك أنّ تتّهم من قد ائتمنته » (3) وقوله تعالى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] .
ولا شكّ في أنّ تكليف الأمين باليمين اتّهام له ، وأيضا تكليف المحسن باليمين سبيل عليه ، وهما منفيّان بحكم الآية والرواية.
أقول : هذا الكلام بالنسبة إلى المحسن في محلّه ، وأمّا بالنسبة إلى الأمين فليس معنى عدم الاتّهام إلاّ عدم استناد الخيانة والتعدّي والتفريط إليه ، فيرجع إلى عدم إنشاء الدعوى عليه. والرواية بهذا المعنى لم يعمل بها قطعا ، لأنّه لا شكّ في صحّة دعوى الإتلاف أو التعدّي والتفريط على الأمين ، فهذا حكم أخلاقي معناه : لا تأتمن الرجل الخائن ، وإن ائتمنت أحدا فلا تظنّ به السوء ولا تتّهمه.
وأمّا القطع بخيانته وتعدّيه وتفريطه فقطعا يجوز الدعوى معه ، غاية الأمر لو ادّعى التلف يقبل قوله ، أي لا يطالب بالبيّنة ، ولكن اليمين عليه ، لما ذكرنا.
هذا ، مضافا إلى أنّ دعوى الإتلاف من طرف المالك مع إنكار الأمين ، يجعل الأمين منكرا ، فيكون الحلف عليه إجماعا ونصا مستفيضا ، بل متواترا ، وليس من طرف الأمين إلاّ الإنكار ، فيكون خارجا عن محلّ بحثنا ، لأنّ محلّ كلامنا في المدّعي الذي يسمع قوله ، وأمّا كون اليمين على المنكر فمن ضروريّات الفقه.
والحاصل : أنّ يد الأمين ليست يد ضمان ، لأنّها يد مأذونة ، إمّا من قبل مالكه وإمّا من قبل الشرع ، فالتلف في يده لا يوجب الضمان إلاّ مع التعدّي والتفريط ، أو إتلاف الأمين له ، فصاحب المال إن كان يطلب الضمان فلا بدّ له من ادّعاء أحد هذه الأمور ، أي الإتلاف أو التعدّي والتفريط ، فيكون الأمين منكرا والحال في المحسن أيضا كذلك.
الخامس : أنّ المدّعي إن كان له شاهد واحد عادل على ما يدّعيه ، فلا يحكم له بذلك الشاهد الواحد ، بل لا بدّ من ضمّ يمينه إليه ، فإذا لم يكن له شاهد أصلا فيجب عليه اليمين لاستخراج حقّه الذي يدّعيه بطريق أولى.
وفيه : أنّ هذا الدليل ينبغي أن يعدّ من المغالطات ، لأنّ انضمام اليمين هناك إلى الشاهد الواحد من جهة أنّ المدّعي هناك عليه البيّنة ، وحيث أنّه عاجز عن إقامة البيّنة بتمامها ـ ولم يقم إلاّ شاهدا واحدا ـ خفّف عنه بقيام اليمين مقام الشاهد الآخر ؛ بخلاف ما نحن فيه ، فإنّه ليس عليه البيّنة أصلا ، إذ المفروض سماع قوله بدون البيّنة ، فلا وجه لتكليفه باليمين إلاّ ما ذكرنا من الوجهين الأوّلين.
السادس : أنّ لقوله صلى الله عليه واله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (4) دلالتين :
أحدهما : أنّ المتداعيين والمتخاصمين كلّ واحد منهما يحتاج في إثبات ما يقول إلى حجة ، وبدون الحجّة لا يحكم له.
والثاني : تعيين تلك الحجّة في حقّ كلّ واحد منهما ، وأنّها هي البيّنة في حقّ المدّعي ، واليمين في حقّ المنكر ، والحجّة في حقّ الاثنين منحصرة فيهما ، وليست هناك حجّة أخرى تكون ميزانا للقضاء.
فإذا جاء الدليل على عدم تكليف بعض المدّعين في بعض الموارد بإقامة البيّنة ولا يطالب بها ، فهذا الدليل لا يدلّ على أنّ الحكم لا يحتاج إلى حجّة أخرى أصلا ، وذلك لأنّ نفي الأخصّ لا يلزم منه نفي الأعمّ.
وحيث أنّ الحجّة في باب القضاء منحصرة بهما ـ أي البيّنة واليمين ـ وهذا الدليل يدلّ على عدم مطالبته بالبيّنة ، فبحكم دلالة قوله صلى الله عليه واله على لزوم أصل الحجّة ـ التي كانت فيما ذكرنا أولى الدلالتين ـ يجب عليه أن يقيم حجّة على ما يدّعيه ، وإذ ليست هي البيّنة ـ كما هو المفروض ـ والحجّة منحصرة فيهما ، فيكون عليه اليمين.
وفيه : أنّه صلى الله عليه واله عيّن وظيفة لكلّ واحد من المدّعي والمنكر في مقام المخاصمة ، فإذا جاء الدليل في مورد ـ أو في قسم من أقسام المدّعي ـ أنّه يسمع قوله من دون أن يطالب بالبيّنة ، فلا بدّ وأن يكون هذا التخصيص لجهة ونكتة ، فالقضاء تجري إمّا بالحكم له من دون اليمين ، أو بتوجّه الأمر إلى الطرف الآخر ، فإن حلف فلا شيء عليه ويحكم له ، وإن ردّ اليمين أو نكل تجري أحكام الردّ والنكول.
اللهمّ إلاّ أن يقال : معنى سماع الدعوى بدون مطالبة البيّنة هو أنّه يحكم للمدّعي بمحض دعواه ، والحكم لا يمكن بدون أحد الميزانين ، أي البيّنة أو اليمين ، لقوله صلى الله عليه واله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » بناء على حصر ميزان الحكم في هذين الميزانين ، وعدم تحقّقه بدون أحدهما ، وحيث أنّ البيّنة لا تطلب منه ، فلا بدّ وأن يكون باليمين.
ولكن هذا مرجعه إلى الوجه الأوّل الذي ذكرناه ، وليس وجها آخر ، وهو الوجه الوجيه ومبناه على استفادة الحصر ـ في ما هو ميزان القضاء بهذين ، وعدم صدور الحكم بدون أحدهما ـ من قوله صلى الله عليه واله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان ». وقد تقدّم جميع ذلك.
الجهة الثالثة
في بيان موارد هذه القاعدة وصغرياتها :
أي : الموارد التي يسمع دعوى المدّعي فيها بدون أن يكون عليه بيّنة ، وبيان وجه سماع دعواه.
فنقول : أمّا مواردها وصغرياتها فكثيرة جدّا ، ولكن هذه الموارد الكثيرة ليست تحت جامع واحد وكبرى واحدة ، بل هناك كبريات متعدّدة :
منها : كون المدّعي أمينا ، حيث أنّه ليس على الأمين إلاّ اليمين.
ومنها : كون المدّعي بلا معارض.
ومنها : كون المدّعي ممّن يملك فعل ما يدّعيه.
ومنها : كون ما يدّعيه لا يعلم إلاّ من قبله.
ومنها : ما هو خارج عن تحت هذه الكبريات الأربع ، لكن ورد دليل خاصّ على سماع قوله.
وأمّا عدّ سماع قول ذي اليد أيضا من هذه الكبريات ـ كما ذكره أستاذنا المحقّق في كتاب قضائه (5) ـ فليس كما ينبغي ، من جهة أنّ إطلاق المدّعى على ذي اليد غير خال عن الخلل ، بل المتفاهم العرفي من المدّعي هو الذي يدّعي ـ مثلا ـ ملكيّة شيء ليس ذلك الشيء تحت يده ، فإن كان تحت يده ويدّعيه غيره فهو منكر ، وذلك الغير مدّع.
والحاصل : أنّ العرف والشرع متّفقان على عدم صحّة إطلاق المدّعى على ذي اليد، حتّى أنّه بعضهم عرّف المدّعي والمنكر بمن لم يكن في يده وهو المدّعي ، ومن كان في يده وهو المنكر.
ويشهد لما ذكرنا ـ من اتّفاق العرف والشرع في أنّ المدّعي هو من ليس ما هو محلّ النزاع والمخاصمة في يده ، وإلاّ إن كان في يده فهو منكر ـ استدلاله عليه السلام في بعض الأخبار على كفاية اليمين منه ، وعدم مطالبة البيّنة منه (6) بأنّه إنّما أمر النبي صلى الله عليه واله أن يطالب البيّنة من المدّعي ، لا من ذي اليد.
وخلاصة الكلام : أنّ كلامنا في أنّ كلّ مدّع يسمع قوله ، ولا يطلب منه البيّنة فعليه اليمين ، وليس ذو اليد مدعيا كي يكون من صغريات هذه القاعدة.
فلنتكلّم في الكبريات الأربع :
الأولى : كبرى « كون المدّعي أمينا ». أمّا مصاديق هذه الكبرى : فكلّ ما كان تحت يد شخص بإذن المالك فهي أمانة مالكيّة ، كالعارية ، والوديعة ، والعين المستأجرة ، وغير ذلك من موارد اليد المأذونة من قبل المالك ، أو بإذن الشارع فهي أمانة شرعيّة كاللقطة ، وما في يد القيّم للصغار أو المجانين من أموالهم ، وما في يد الحاكم الشرعي من أموال الغيّب والقصر ، والحقوق الشرعيّة التي تعطى للحاكم الشرعي لأن يصرف في مصرفها ، من الأخماس والزكوات والصدقات الواجبة غير الزكاة كالكفارات وردّ المظالم ، إلى غير ذلك ممّا هو وظيفة الحاكم الشرعي حفظها أو صرفها فيما يلزم صرفها فيها.
ومن هذا القبيل الأوقاف التي لم يجعل لها متولّ ، أو مجهول توليتها ، فجميع ذلك ـ في يد الحاكم أو وكيله أو المنصوب من قبله ـ أمانة شرعيّة ، أي يكون تحت يده بإذن الشارع ، وفي كلا القسمين ليست اليد يد ضمان ، فلا ضمان إلاّ مع التعدّي والتفريط.
وأمّا وجه سماع قول الأمين وعدم مطالبته بالبيّنة ، فمن جهة ما تقدّم منّا وذكرناه من أنّ التلف عنده لا يوجب الضمان. لأنّ مدرك الضمان في باب التلف إمّا اليد غير المأذونة ، أو خيانته بالتعدّي أو التفريط. وفي الحقيقة هذا أيضا يرجع إلى أنّه بالخيانة ليست يده مأذونة ، فيكون ضمانه ضمان اليد.
نعم لو كان إتلاف في البين يكون هو سببا وموجبا للضمان ، ولكن حينئذ يكون الطرف مدّعيا للإتلاف وهو منكر ، فيتوجّه عليه اليمين.
وحاصل الكلام : أنّ قول الأمين ـ ما لم يخرج عن كونه أمينا بالخيانة ـ يسمع من دون مطالبته بالبيّنة ، لأنّه لا يخلو إمّا أن لا تكون دعوى الإتلاف في البين ولا خيانة ، فلا ضمان. وإمّا أن تكون ، فيكون الطرف مدّعيا وهو منكر ، فليس وظيفته البيّنة.
وفي كلتا الحالتين لا تجوز مطالبة البيّنة من الأمين ، لا في التلف ، ولا في الإتلاف ، فهذا وجه سماع قول الأمين.
الثانية : كبرى « المدّعي بلا معارض » وهو أنّهم يقولون بسماع قول المدّعي الذي بلا معارض ، وقبوله بغير بيّنة في الماليّات وإن لم يكن له يد عليه ، فإذا ادّعى أنّ المال الفلاني الذي لا يد لأحد عليه ـ أو ينفي صاحب اليد كونه لنفسه ولا يدّعي كونه لشخص معيّن ، بل يعترف بعدم علمه بمالكه ـ إنّه لي ، وليس هناك معارض يعارضه ، يقبل قوله ويعطي له مع يمينه ، بناء على ما ذكرنا من تماميّة هذه القاعدة.
وأمّا في غير الماليّات ـ كما أنّه لو ادّعى طهارة شيء أو نجاسته وهو ليس بمالك ولا بذي اليد عليه ، أو أنّ هذا اليوم يوم العيد وأمثال ذلك من غير الماليّات ولا معارض له ، فلا يسمع دعواه ، بل يحتاج إثباته إلى البيّنة ، أو إحدى الأمارات الشرعيّة الأخر ، وذلك من جهة أنّ عمدة مدرك سماع هذه الدعوى هي سيرة العقلاء وبناؤهم على قبول قول المدّعي الذي لا يعارضه أحد بغير البيّنة ، ولكن هذه السيرة القدر المتيقّن منها هو فيما إذا كان ما يدّعيه من الماليّات وإن لم يكن لذلك المدّعي يد عليه ، أو كان من الحقوق ، كادّعائه تولية وقف ، أو يدّعي حقّ التحجير ، أو حقّ السبق في مكان ، أو حقّا آخر ولا يعارضه أحد في هذه الدعوى.
وأمّا الإجماع الذي ادّعاه صاحب الرياض (7) وصاحب الجواهر (8) 0 فأيضا القدر المتيقّن منه هو فيما ذكرنا من الماليّات والحقوق والارتباطات كالزوجية والنسب ، كأن يقول :
هذه المرأة زوجتي ، أو هذا الغلام ابني ، أو هذه الصبيّة بنتي ، ومن هذه الجهة لو ادّعى في اللقطة أنّها لي ، ولم يكن له معارض يعطي المال له.
وربّما يستدلّ لسماع قول المدّعي بلا معارض برواية الكيس المعروفة ، وهي أنّ يونس بن عبد الرحمن روى عن منصور بن حازم ، قال : قلت : لأبي عبد الله عليه السلام : عشرة كانوا جلوسا ، وسطهم كيس فيه ألف درهم ، فسأل بعضهم بعضا ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلّهم : لا ، فقال واحد منهم : هو لي ، فلمن هو؟ قال عليه السلام : « للذي ادّعاه » (9).
وتقريب الاستدلال بهذه الرواية على قبول قول مدّعي الذي ليس له معارض واضح ، لأنّه عليه السلام قال : هو للمدّعي الذي لم يعارضه أحد من تلك العشرة بل كلّهم نفوا عنهم.
ولكن استشكل على هذا الاستدلال شيخنا الأعظم الأنصاري على ما نقل بعض الأجلّة من تلامذته وقبله ابن إدريس (10) بأنّ سماع قول ذلك المدّعي ليس من جهة أنّه مدّع بلا معارض له في دعواه ، بل أنّ الكيس الكائن في وسط جماعة يكون تحت يد تلك الجماعة ، ولذلك لو ادّعاه شخص من غير تلك الجماعة ومن الخارج فلا يقبل قوله إلاّ بالبيّنة.
وأمّا لو كان من تلك الجماعة ، فإن ادّعى الباقون أيضا مثله ، فيجري عليه حكم الشريكين الذين يدّعي كلّ واحد منهما تمام ما في يدهما ، وأمّا إذا نفى الباقون كونه لهم ، فتسقط أمارية اليد في حقّهم. وأمّا الذي يدّعيه ولا ينفي عن نفسه فأماريّة يده باقية ، ويكون هو بحكم ذي اليد الواحد الذي ليس لغيره يد عليه ، فيحكم بأنّه له من جهة يده عليه لا من جهة أنّه مدّع بلا معارض له في دعواه هذه.
وبعبارة أوضح : أماريّة اليد لكون ما في يده ملك له متوقّفة على عدم إقراره بأنّه ليس له ، فإذا نفى عن نفسه وأقرّ بأنّه ليس له تكون يده كالعدم لا أماريّة لها ، واليد بنظر العقلاء تكون كاشفة وأمارة بالمطابقة بأنّ ما هو تحت اليد ملك لذي اليد ، وبالدلالة الالتزاميّة. تدلّ على أنّه ليس لغير ذي اليد.
فالكيس الذي كان في وسط جماعة حيث أنّ لتلك الجماعة يد عليه ، فبالدلالة الالتزامية تدلّ يد جميعهم على أنّه ليس لغيرهم. ويد كلّ واحد منهم وإن كانت تدلّ على أنّه له ، إمّا تماما كما احتمل ، أو بنسبة نفسه إلى الجميع على نحو الشركة ثلثا أو ربعا أو خمسا ، وهكذا حسب عدد الجماعة كما هو الصحيح ، ولكن هذه الدلالة سقطت بواسطة إقراره بأنّه ليس له.
وأمّا ذلك الشخص الواحد الذي ادّعاه حيث أنّه لم يقرّ أنّه ليس له ، بل ادّعى على طبق يده أنّه له ، فيبقى ليده كلتا الدلالتين : المطابقة والالتزامية ، فتثبت أنّه وليس لغيره ، كما هو الحال في اليد الواحدة التي ليس لها يد أخرى شريكة معها ، فيحكم له إلاّ أن يأتي المدّعي الخارج عن تلك الجماعة بالبيّنة على أنّه له ، كما هو الشأن في سائر المقامات بالنسبة إلى الدعوى على ذي اليد الواحد. فحكمه عليه السلام بأنّ الكيس لذلك الواحد المدّعي ليس من أجل أنّه بلا معارض ، بل من جهة أنّه ذو اليد على موازين باب القضاء.
اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ صرف كون الكيس في وسط جماعة ليس ظاهرا عند العرف في ثبوت اليد لتلك الجماعة عليه. أو يقال بأنّ اليد الواحدة ـ أي الاستيلاء والسيطرة الواحدة ـ قائمة بالمجموع ، وليس لكلّ واحد منهم يد مستقلّة ، فإذا نفوا عنهم ما عدا واحد منهم ، فتسقط تلك اليد الواحدة القائمة بمجموع تلك الجماعة ، وليس هناك استيلاء آخر كي يكون أمارة على الملكيّة ، لأنّ اليد القائمة بالمجموع سقطت عن الاعتبار ، ويد المدّعي كانت في ضمن تلك اليد القائمة بالمجموع ، ولم يكن لها وجود مستقلّ ، فلا بدّ وأن يكون حكمه عليه السلام بكونه لذلك الواحد المدّعي مستندا إلى جهة أخرى غير اليد ، وليست إلاّ أنّه مدّع ليس له معارض.
ولكن أنت خبير بعدم صحّة كلتا الدعويين :
أمّا عدم صحّة دعوى عدم ظهور كون الكيس في وسطهم عرفا في ثبوت اليد لهم ، فممّا يشهد عليه العرف والوجودان. نعم في بعض الفروض يمكن دعوى عدم الظهور عرفا في ثبوت اليد لهم ، كما إذا كان الكيس موجودا في ذلك المكان قبل اجتماعهم فيه ، وبعد ذلك اجتمعوا وصار الكيس في وسطهم ، لكن هذا الفرض وأمثاله خارج عن ظاهر الرواية ، وتكون الرواية منصرفة عنها.
وأمّا دعوى أنّ لمجموع تلك الجماعة يد واحدة ، وليس لكلّ واحد منهم يد مستقلّة ، ففيها : أنّه لو كانت الجماعة كلّهم يدّعون أنّه لهم فبنظر العرف ـ الذي هو المناط في فهم مفاهيم الألفاظ وتعيين المراد منها ـ كان الأمر كما ادّعاه صاحب هذه الدعوى، بمعنى أنّ لكلّ واحد منهم كانت يد غير تامّة وغير مستقلّة ، كما في الشريكين أو الشركاء في دكّان مثلا.
وقد بيّنّا في محلّه أنّ اليد غير التامّة على المجموع بمنزلة اليد التامّة المستقلّة على بعض ذلك المجموع بنسبة عدد الشركاء ، فإذا كانا اثنين متصرّفين في الدكّان مثلا ، يرى العرف أنّ لكل واحد منهما الاستيلاء التامّ على النصف ، وإن كانوا ثلاثة يرى الاستيلاء واليد التامّة على الثلث ، وهكذا.
وأمّا إن نفوا عنهم ما عدا واحد الذي ادّعى المجموع ، ففي هذه الصورة يرى العرف أنّ الاستيلاء لذلك الواحد فقط ، لأنّ سائرهم بواسطة إقرارهم بعدم كونه لهم أسقطوا يدهم عن الاعتبار ، فصارت يدهم كأن لم تكن ، فيد هذا الواحد كأنّها يد واحدة مستقلّة على المجموع.
والحاصل : أنّ دلالة الرواية على قبول قول المدّعي الذي ليس له معارض في غاية الإشكال.
ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ جميعهم أو بعضهم لو ادّعى ملكيّة ذلك الكيس بعد نفيه عن نفسه أو عن أنفسهم لا يسمع ، لأنّه إنكار بعد الإقرار ، وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، فإقراره السابق بعدم كون الكيس له أسقط ماليّته ظاهرا وإن كان ماله بحسب الواقع ، إلاّ أن يأتي بدليل حاكم على ذلك الإقرار ، أو علم بأنّ إقراره كان على خلاف الواقع لنسيانه ، أو لجهة أخرى.
الثالثة : كبرى « من ملك شيئا ملك الإقرار به » فلو ادّعى أنّه طلّق زوجته ، أو باع ماله الفلاني من فلان ، أو وهبه لفلان ، أو أعطيت زكاتي الواجب عليّ وأمثال ذلك ، سواء أكان له أو عليه ، يسمع بدون أن يطالب بالبيّنة لتلك القاعدة. وعمدة فائدة هذه القاعدة فيما لا يكون الإقرار على ضرره ، وإلاّ فلا احتياج إليها ، لكون موارد الإقرار على ضرر نفسه مشمولا لقاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ أو جائز ».
وأمّا الدليل على هذه الكبرى ، أي كبرى « من ملك شيئا ملك الإقرار به » فقد تقدّم في شرح هذه القاعدة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب ، فلا نعيد.
الرابعة : كبرى « أنّه يسمع كلّ دعوى لا يعلم إلاّ من قبل مدّعيها ».
الأوّل : الإجماع الإجماع على أنّ من يدّعي شيئا لا يعلم إلاّ من قبله ، يسمع قوله من دون أن يطالب بالبيّنة ، ولكن الحكم له بعد الحلف ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ على تصديقه بدون الحلف والشاهد على اتّفاقهم على هذا الحكم هو أنّهم يعلّلون في بعض الدعاوي سماعها بأنّه شيء لا يعلم إلاّ من قبله ، ويرسلونه إرسال المسلّمات ولا ينكره أحد منهم ، بل كلّ واحد من الفقهاء 5 يقبل هذا التعليل ولا يستشكل عليه ولا يطلبون من القائل الدليل عليه ، فيكون من الكبريات المسلّمة عندهم.
وفيه : أنّه ممنوع صغرى وكبرى. أمّا الصغرى : فمن جهة أنّ قولهم هذا في بعض الموارد لا يدلّ على اتّفاقهم على هذه الكبرى الكليّة.
وبعبارة أُخرى : التعليل إذا كان في آية أو رواية ، أي كان في كلام من يجب اتّباعه ، فيجب الأخذ بظاهره ، فإذا كان ظاهرا في العموم يجب الأخذ بذلك الظهور والحكم بعموم التعليل. وأمّا لو كان في كلام من ليس كلامه حجّة ، فلا بدّ من وجود دليل على وجوب الأخذ بظاهر ذلك الكلام ، والمفروض أنّه ليس هاهنا دليل إلاّ الإجماع ، فلا بدّ أن يكون نفس هذا التعليل ـ أي : عنوان « لأنّه لا يعلم إلاّ من قبله » ـ معقدا للإجماع ، وإثبات هذا الاتّفاق في غاية الإشكال.
ثمَّ على تقدير ثبوته يرد عليه ما ذكرنا مرارا أنّ مثل هذا الاتّفاق ليس كاشفا قطعيا عن رأيهم : لاحتمال أن يكون منشأ اتّفاقهم هو بعض ما ذكروه من الأدلّة على قبول دعوى التي لا تعلم إلاّ من قبل مدّعيها ، فلا يكون من الإجماع المصطلح في الأصول الذي قلنا بحجّيته.
الثاني : الحكمة أنّ حكمة جعل القضاء والقاضي هو رفع التشاجر والمخاصمة بين الناس وحسم النزاع ، فإذا كان دعوى المدّعي لا يعلم إلاّ من قبله ، فلا يمكن له إقامة البيّنة عليه ، لأنّ المفروض أن غير المدّعي لا يعلمه كي يشهد به ، ولا يمكن لخصمه المنكر أن يحلف ، لأنّ المفروض أنّ الخصم المنكر لا يعلم به ولا حلف إلاّ عن بتّ ، فيبقى القضاء بلا ميزان ، ولا يرفع المخاصمة.
أقول : وهذا الوجه ممّا يمكن الركون إليه.
لايقال : هذا الوجه صحيح فيما لا يمكن إقامة الشهود والبيّنة المعتبرة للمدّعي ، وموارد سماع دعوى من لا يعلم ما يدّعيه إلاّ من قبله ـ كما ذكروا ـ ليست منحصرة بما لا يمكن إقامة البيّنة ويتعذّر ، بل أعمّ منه وممّا يتعسّر ، ففي القسم الثاني منه يمكن إقامة الشهود غاية الأمر مع التعسّر ، لأنّ التكليف بالأمر المتعسّر أيضا ليس من دأب الشارع وديدنه غالبا ، ولا يناسب الشريعة السمحة السهلة إلاّ فيما تكون المصلحة مهمّة ، بحيث يكون على المكلّف بذل كلّ نفس ونفيس كالجهاد والدفاع مع الكفّار فيما إذا هجموا على المسلمين مثلا.
فبناء على هذا يكون المتعسّر بحكم المعتذّر ، وكون التعسّر حكمة للجعل كثير في الشريعة ، كجعل التيمّم بدلا عن الطهارة المائيّة ، والتقصير والإفطار في السفر ، وأمثال ذلك.
الثالث : الأخبار أنّه وردت أخبار على أنّ الحيض والعدّة إلى النساء كصحيح زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام : « العدّة والحيض للنساء إذا ادّعت صدّقت » (11) وقول الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] « قد فوّض الله إلى النساء ثلاثة أشياء : الحيض ، والطهر ، والحمل » (12).
ومعلوم أنّ تفويض هذه الأمور إلى النساء من جهة أنّها لا تعلم إلاّ من قبلهنّ ، وادّعى بعضهم أنّ في بعض هذه الأخبار تعليل قبول قولهنّ في هذه الأمور بتعذّر الإشهاد منهنّ عليها ، لأجل عدم اطلاع غيرهنّ عليها. ومعلوم أنّ هذا الكلام في قوّة أن يقول : لأنّها لا تعلم إلاّ من قبلهنّ ، ولكنّني فتشت بمقدار وسعي ولم أجده.
نعم ورد في رواية محمد بن عبد الله الأشعري قال : قلت للرضا عليه السلام : الرجل يتزوّج.
إلى آخره؟ فقال عليه السلام : « أرأيت لو سألها البيّنة كان يجد من يشهد أن ليس لها زوج » (13).
والحاصل : أنّ ظاهر هذه الأخبار قبول قول المرأة في الحيض والحمل والطهر والعدّة ، وهذه أمور لا تعلم إلاّ من قبلهنّ في الغالب ، فمن هذا يستكشف كبرى كلّية ، وهو أنّ كلّ ما لا يعلم إلاّ من قبله يسمع قوله فيه.
هذا إذا لم يكن ذلك التعليل في البين ، وأمّا إذا كان كما ادّعاه الكني في قضائه (14) فالأمر أوضح ، لأنّه بناء على ثبوت ذلك التعليل ووجوده في بعض الأخبار يكون الحكم بالقبول دائرا مدار وجود تلك العلّة ، ففي كلّ دعوى يتعذّر الإشهاد عليها أو يتعسّر ، يجب قبولها من دون مطالبة البيّنة عن مدّعيها.
ومعلوم مطابقة دعوى التي يتعذّر الإشهاد عليها مع ما لا يعلم إلاّ من قبله ، بمعنى أنّ كل دعوى لا تعلم إلاّ من قبل مدّعيها يتعذّر الإشهاد عليها ، لأنّ الإشهاد فرع معرفة الشاهد وعلمه بالمشهود به ، وعلمه بالمشهود به مع كون الدعوى ممّا لا تعلم إلاّ من قبله خلف.
الرابع : لا شكّ في أنّ قول المنكر مع أنّه موافق للحجّة الفعليّة ـ كما بيّنّاه ـ يحتاج في الحكم له وثبوت قوله إلى اليمين ، فكيف يمكن الحكم للمدّعي بصرف الادّعاء بدون اليمين؟ مع أنّ قوله مخالف للحجّة الفعليّة ، كما عرفت في بيان معنى المدّعي.
وبعبارة أُخرى : حيث أنّ المدّعي كان قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، فجعل الشارع وظيفته أثقل ميزاني القضاء ـ أي البيّنة ـ ولكن بالنسبة إلى بعض الدعاوي ارتفع هذا الثقل ـ أي : البيّنة ـ عنه لمصلحة وملاك لإحدى الجهات التي تقدّمت ، ولم يكلّف بالبيّنة.
ولكن لا يمكن أن يكون حاله أحسن من المنكر الذي قوله موافق مع الحجّة ولا يحتاج إلى اليمين أيضا ، وهذا معناه عدم الاعتناء بالحجّة.
وفيه : أنّ هذا صرف استحسان ، ولا يصحّ أن يكون مناطا وملاكا للحكم الشرعي ، والشارع عيّن وظيفة للمدّعي وهي البيّنة، ووظيفة أخرى للمنكر ، أي اليمين بقوله صلى الله عليه واله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » وهذان الحكمان ـ أي كون وظيفة المدّعي هي البيّنة ووظيفة المنكر اليمين ـ عامان يشمل كلّ مدّع وكلّ منكر ، فجاء المخصّص بالنسبة إلى بعض أقسام المدّعي وأسقط لزوم إقامته البيّنة ، فكون وظيفة أخرى له يحتاج إلى جعل آخر ، وإلى دليل على ذلك الجعل في مقام الإثبات ، وإذ ليس فليس.
نعم الدليل هو الوجه الثاني الذي ذكرناه من أنّ قوله صلى الله عليه واله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » يستفاد منه أمران : أحدهما حصر ميزان القضاء في هذين الاثنين. والثاني : عدم جواز الحكم بدون الميزان ، فبضميمة عدم جواز إيقاف الحكم وارتفاع البيّنة عنه ، لا بدّ وأن نقول بأنّ الحكم لمثل هذا المدّعي لا يجوز إلاّ مع حلفه.
ثمَّ إنّهم ذكروا هاهنا وجوها استحسانية آخر لهذا الحكم ـ أي كون اليمين على المدّعي الذي يسمع قوله ـ تركنا ذكرها ، لعدم الاحتياج إليها ، وعدم صحّتها في أنفسها.
ثمَّ إنّ هذه القاعدة خصّصت في موارد ، بمعنى أنّه جاء الدليل على قبول قول بعض المدّعين بدون أن يكون عليه البيّنة أو اليمين ، أي ليس عليه كلتا الوظيفتين ، وما قلنا إنّ الحكم لا يجوز بدون أحد الميزانين ليس حكما عقليّا غير قابل للتخصيص ، بل كان مفاد الحديث الشريف ، أعني قوله صلى الله عليه واله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » فإذا أتى دليل على عدم لزوم كلتا الوظيفتين يخصّصه.
فمنها : دعوى المالك للعامل أداء ما عليه من الزكاة ، فيقبل قوله من دون أن يكون عليه حلف أو بيّنة ، لقول عليّ عليه السلام لعامله في خبر غياث : « إذا أتيت على ربّ المال فقل : تصدّق رحمك الله ممّا أعطاك الله ، فإن ولّى عنك فلا تراجعه » (15). ولغير خبر غياث ممّا يدل على المقام.
ومنها : دعوى الفقير الفقر، فقالوا : إنّها تقبل بلا أن يكون عليه البيّنة أو اليمين ، لخبر عبد الرحمن العزرمي ، عن أبي عبد الله عليه السلام : « قال عليه السلام : « جاء رجل إلى الحسن والحسين عليهما السلام وهما جالسان على الصفا ، فسألهما فقالا : إنّ الصدقة لا تحلّ إلاّ في دين موجع ، أو غرم مقطع ، أو فقر مدقع ففيك شيء من هذا؟ قال : نعم ، فأعطياه » (16).
ولمصحّح عامر بن جذاعة : رجل أتى أبا عبد الله عليه السلام ، فقال : يا أبا عبد الله قرض إلى ميسرة ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : « إلى غلّة تدرك؟ » قال : لا ، قال عليه السلام : « إلى تجارة تؤب؟ » قال : لا والله ، قال عليه السلام : « عقدة تباع؟ » قال : لا والله ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : « فأنت ممّن جعل الله له في أموالنا حقا » فدعا بكيس فيه دراهم (17).
تذييل :
لا يخفى أنّ ما قلنا ـ من سماع دعوى المدّعي الذي لا يمكنه الإشهاد على ما يدّعيه ، وإن شئت قلت : سماع دعوى الذي لا يعلم ما يدّعيه إلاّ من قبله إنّما يكون فيما إذا لم يظهر المدّعي خلاف ما يدّعيه وما ينافي دعواه ، فلو أقرّ على خلاف ما يدّعيه، أو كان ظاهر كلامه خلاف ما يدّعيه ، فلا يسمع دعواه ، وإن كان ما يدّعيه لا يعلم إلاّ من قبله.
وذلك من جهة أنّ إقراره أو ظاهر كلامه حجّة عليه فيما إذا كان على ضرره ، فإذا أقرّ بأنّه غنيّ وليس بفقير ، أو أقرّت واعترفت بانقضاء العدّة ، أو كان ظاهر كلامه ذلك ، فلا يسمع دعواه ، لأنّه من قبيل الإنكار بعد الإقرار ، وبإقراره أو ظاهر كلامه علم من قبله بالحجّة ، فدعواه يكون معلوم البطلان شرعا.
فلو قال وادّعى عدم القصد في المعاملة الفلانيّة أو ادّعت عدم القصد في عقد النكاح مثلا ، أو غير ذلك من العقود والإيقاعات، كالطلاق أو الجعالة مثلا ، فلا تقبل دعواه ، وإن كانت الدعوى ممّا لا يعلم إلاّ من قبله ، أو وإن كانت ممّا يتعذّر الإشهاد عليه، لأنّ ظاهر كلامه حجّة عليه ، فهو بدعواه هذه يكذب نفسه.
والحاصل : أنّه علم شرعا خلاف ما يدّعيه من قبل نفسه ، فلا يتعذّر الإشهاد فخرج عن موضوع هذا الحكم خروجا تعبديا.
إن قلت : أليس إنّهم يقولون بسماع دعوى الزوج عدم القصد إلى الطلاق حقيقة في الطلاق الرجعي في العدّة ، مع أنّ ظاهر صيغة الطلاق مخالف لهذه الدعوى؟
قلت : هذا من جهة أنّها ما دامت في العدّة له الرجوع ، وليس للمرأة أن يعارضها ، لقوله تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] بل ربما يقال : إنّها ما دامت في العدّة حقيقة زوجة ، فليس هذا المورد من باب المدّعي والمنكر ، بل هذا من حقوق نفسه بدون مقابل يعترض عليه ويلزمه بظاهر كلامه.
نعم لو كانت هذه الدعوى بعد انقضاء العدّة لا يسمع دعوى عدم القصد إلى الطلاق حقيقة ؛ لأنّه يدّعي بذلك على المرأة بقاءها في حبالته ، وهي تنكر وتقول بانقطاع الزوجيّة وبينونتها عنه ، ولا يجري استصحاب بقاء الزوجيّة ، لحكومة ظاهر كلام الزوج ـ أي إنشاء الطلاق وأنّه مع القصد ـ على هذا الاستصحاب ، كما هو الشأن في باب تعارض الأمارات والأصول.
والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.
_______________
(*) « عناوين الأصول » عنوان 78.
(1) « الكافي » ج 7 ، ص 414 ، باب إنّ القضاء بالبيّنات والأيمان ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 552 ، باب كيفيّة الحكم والقضاء ، ح 3 ، « معاني الأخبار » ص 279 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 169 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 2 ، ح 1.
(2) « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 345 ، ح 11 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 3 ، ح 4.
(3) « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 229 ، أبواب كتاب الوديعة ، باب 4 ، ح 9.
(4) « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 345 ، ح 11 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 4.
(5) « كتاب القضاء » ص 86 ـ 87.
(6) « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 214 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 25.
(7) « رياض المسائل » ج 2 ، ص 413.
(8) « جواهر الكلام » ج 40 ، ص 398.
(9) « الكافي » ج 7 ، ص 422 ، باب النوادر ( من كتاب القضاء والأحكام ) ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 292 ، ح 810 ، باب من الزيادات في القضايا ، ح 17 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 176 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 7 ، ح 1.
(10) « السرائر » ج 2 ، ص 191.
(11) « الكافي » ج 6 ، ص 101 ، باب ان النساء يصدّقن في العدّة والحيض ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 8 ، ص 165 ، ح 575 ، باب عدد النساء ، ح 174 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 356 ، ح 1276 ، باب أنّ العدّة والحيض إلى النساء. ، ح 1 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 441 ، أبواب العدد ، باب 24 ، ح 1.
(12) « مجمع البيان » ج 2 ، ص 326 ، « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 441 ، أبواب العدد ، ب 24 ، ح 2.
(13) « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 253 ، ح 1094 ، باب تفصيل أحكام النكاح ، ح 19 ، « وسائل الشيعة » ج 14 ، ص 457 ، أبواب المتعة ، باب 10 ، ح 5.
(14) « كتاب القضاء » ص 104.
(15) « الكافي » ج 3 ، ص 538 ، باب أدب المصدّق ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 90 ، أبواب زكاة الأنعام ، باب 14 ، ح 5 ، وص 217 ، أبواب المستحقّين للزكاة ، باب 55 ، ح 1.
(16) « الكافي » ج 4 ، ص 47 ، باب النوادر ( من كتاب النكاح ) ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 145 ، أبواب المستحقّين للزكاة ، باب 1 ، ح 6.
(17) « الكافي » ج 3 ، ص 501 ، باب فرض الزكاة وما يجب في المال من الحقوق ، ح 14.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|