أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-4-2018
1325
التاريخ: 8-4-2018
5045
التاريخ: 5-07-2015
1516
التاريخ: 5-07-2015
2026
|
الوحدانية: - لغة - هي: «مصدر صناعي من الوحدة بزيادة الألف والنون للمبالغة»(1).
واصطلاحاً هي: «صفة من صفات اللّه تعالى، معناها: أن يمتنع ان يشاركه شيء في ماهيته، وصفات كماله، وأنه منفرد بالإيجاد والتدبير العام بلا واسطة ولا معالجة ولا مؤثر سواه في أثرها عموماً»(2).
وباختصار الوحدانية ترادف التوحيد الذي يعني نفي الشريك وبطلان تعدد الآلهة.
وقد ورد استعمال هذا المصطلح وبمعناه العلمي في كلام للامام الحسين (عليه السلام) في التوحيد، قال: «استخلص الوحدانية والجبروت، وأمضى المشيئة والارادة والقدرة والعلم بما هو كائن»(3).
وتعني هنا البحث في اثبات وحدانية اللّه تعالى أو اثبات أنه تعالى واحد.
وفي معنى (الواحد) - لغة - يقول ابو اسحاق الزجاج: «وضع الكلمة في اللغة انما هو للشيء الذي ليس باثنين ولا اكثر منهما»(4).
أما معناه في الاصطلاح فيقول الزجاج: «وفائدة هذه اللفظة في اللّه - عز اسمه - انما هي تفرده بصفاته التي لا يشركه فيها احد، واللّه تعالى هو الواحد في الحقيقة، ومن سواه من الخلق آحاد تركبت»(5).
ويعرّفه المعجم الفلسفي بـ (ما لا يقبل التعدد بحال)(6).
وفي مفردات الراغب يعرف: ب(الذي لا يصح عليه التجزي ولا التكثر)(7).
يقول الامام امير المؤمنين (عليه السلام): «من ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله»(8).
ويقول أيضاً: «واحد لا بعدد».
ولعل منه أخذت مؤديات التعريفات المذكورة.
وقد ورد استعمال هذا الاسم صفة للّه تعالى في القرآن الكريم على لسان بني يعقوب : {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة: 133].
كما وصف اللّه تعالى نفسه في قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [البقرة: 163].
دليل المتكلمين:
واستدل المتكلمون على وحدانية اللّه تعالى بأن قالوا:
اننا اذا افترضنا وجود إلهين وكانا مستجمعين لشرائط الالهية التي منها القدرة والارادة.
فإننا نفترض ايضاً جواز تعلق ارادة أحدهما بإيجاد المقدور وتعلق ارادة الآخر بعدم ايجاده، وذلك لأن الاختلاف في الداعي ممكن.
وعليه نقول: اذا اراد أحدهما ايجاده فإما أن يمكن من الآخر ارادة عدم ايجاده او تمتنع.
وكلا الامرين - الامكان والامتناع - محال.
وترجع استحالة امكان تعلق ارادة الآخر بعدم ايجاده مع تعلق ارادة الأول بإيجاده إلى انه يستلزم منه وقوع ايجاده وعدم ايجاده معاً. وهو من اجتماع النقيضين. أو يستلزم لا وقوعهما معاً، وهو من ارتفاع النقيضين. وكلاهما محال. كما أنه يلزم منه أيضاً عجزهما، وهذا خلف. أما وقوع مراد أحدهما دون الآخر، فيستلزم ان يكون الذي لم يقع مراده عاجزاً، وهذا خلف. وقالوا في محالية امتناع تعلق ارادة الآخر بعدم ايجاده مع تعلق ارادة الأول، بإيجاده: إن ذلك المقدور بما انه ممكن يمكن تعلق قدرة كل من الالهين وارادته به. وعليه يكون المانع من تعلق ارادة الآخر به هو تعلق ارادة الأول فيكون الآخر عاجزاً، هذا خلف.
والنتيجة: هي بطلان تعدد الآلهة، وعنده يثبت أن الإله واحد، وهو المطلوب.
ويعرف هذا الدليل ب(برهان التمانع) لما رأيناه من أن تعلق قدرة كل منهما بالمقدور تمنع من تعلق قدرة الآخر به ، والتمانع هو حصول المنع من كل طرف من الطرفين.
دليل الحكماء:
أما الحكماء فخلاصة دليلهم أن قالوا:
إن الواجب لذاته - بما انه كذلك - يمتنع أن يكون اكثر من واحد.
وذلك لانه لو كان هناك واجبان للزمهما التمايز لامتناع الاثنينية بدون الامتياز بالتعين.
ويجب ان يكون امتياز كل واحد عن غيره بغير هذا المعنى المشترك فيه، وهو الوجوب.
ولان المجتمع من هذا المعنى المشترك فيه والمعنى الذي به الامتياز لا يكون واجباً لذاته، فيلزم منه أن يكون كل واحد من المتصفين بوجوب الوجود غير متصف به، وهذا محال.
في القرآن الكريم:
ونلمس مفاد دليل التمانع الذي برهن به الكلاميون على وحدانية اللّه تعالى في الآية الكريمة: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
فهي تعني: انه لو كان في السموات والارض آلهة غير اللّه لبطلتا وفسدتا، لما يكون بين الآلهة من الاختلاف والتمانع.
وكذلك في الآية الاخرى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].
ونرى انعكاس هذا المفاد القرآني في قول الامام امير المؤمنين (عليه السلام): «واعلم يا بني انه لو كان لربك شريك لاتتك رسله و لرأيت آثار ملكه وسلطانه و لعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه، لا يضاده في ملكه أحد، ولا يزول أبداً، ولم يزل».
وينسق على البحث في موضوع (الوحدانية) البحث في كيفية خلقه الخلق وصدور هذه الكثرة عنه تعالى، وهو ما يعرف بـ :
نظرية الواحد لا يصدر عنه الا واحد:
مؤدى هذه النظرية: أن الفاعل اذا كان واحداً لا يمكن ان يصدر عنه من جهة واحدة الا معلول واحد.
وقد ذهب جلّ متكلمة وفلاسفة المسلمين الى انطباق وتطبيق هذه النظرية على المبدأ الاول لانه واحد، ولا تكثر فيه، فقالوا: لا بد أن يكون الصادر الاول عنه واحداً وفي سلسلةٍ تتكثر فيها الجهات لتعطي الكثرة.
ولما للموضوع من أهمية رأيت أن أكون معه في سخاء البحث اكثر من لداته، فأبدأ معه منذ نشوء النظرية متعرفاً سبب النشأة ثم ما طرأ على النظرية من تطور وما وجه لها من نقد.
وأجلى وأخصر عرض تاريخي أبان عن نشأة النظرية وسببها - فيما لدي من مراجع - هو ما ذكره ابن رشد في كتابه (تهافت التهافت).
ولهذا فضّلت ان انقله هنا بنصه مكتفياً به مع التصرف اليسير بحذف زوائده اختصاراً.
يقول ابن رشد : «وهذه القضية القائلة : (ان الواحد لا يصدر عنه الا واحد)، هي قضية اتفق عليها القدماء من الفلاسفة حين كانوا يفحصون عن المبدأ الاول للعالم بالفحص الجدلي وهم يظنونه الفحص البرهاني.
فاستقر رأي الجميع منهم على :
- أن المبدأ واحد للجميع.
- وأن الواحد يجب أن لا يصدر عنه الا واحد . فلما استقر عندهم هذان الاصلان طلبوا من اين جاءت الكثرة ؟ ! وذلك بعد أن بطل عندهم الرأي الأقدم من هذا، وهو أن المبادئ الأول اثنان : احدهما للخير والآخر للشر.
فلما تقرر بالآخرة عندهم ان المبدأ الاول يجب ان يكون واحداً، ووقع هذا الشك في الواحد أجابوا بأجوبة ثلاثة :
- فبعضهم زعم أن الكثرة انما جاءت من قبل الهيولى.
- وبعضهم زعم ان الكثرة إنما جاءت من قبل كثرة الآلات.
- وبعضهم زعم ان الكثرة إنما جاءت من قبل المتوسطات.
وأما المشهور اليوم فهو ضد هذا، وهو أن الواحد الاول صدر عنه صدوراً اولاً جميع الموجودات المتغايرة.
وأما الفلاسفة من أهل الاسلام كأبي نصر (الفارابي) وابن سينا فلما سلموا لخصومهم : ان الفاعل في الغائب كالفاعل في الشاهد، وان الفاعل الواحد لا يكون منه الا مفعول واحد.
وكان الاول عند الجميع واحداً بسيطاً، عسر عليهم كيفية وجود الكثرة عنه، حتى اضطرهم الأمر ان لا يجعلوا الاول هو محرك الحركة اليومية.
بل قالوا : ان الاول هو موجود بسيط، صدر عنه محرك الفلك الاعظم.
وصدر عن محرك الفلك الاعظم الفلك الاعظم ومحرك الفلك الثاني الذي تحت الاعظم، إذ كان هذا المحرك مركباً من ما يعقل من الأول وما يعقل من ذاته.
وهذا خطأ على اصولهم، لأن الفاعل والمفعول هو شيء واحد في العقل الانساني فضلاً عن العقول المفارقة.
وهذا كله ليس يلزم قول ارسطو، فان الفاعل الواحد الذي وجد في الشاهد يصدر عنه فعل واحد، ليس يقال مع الفاعل الاول الا باشتراك الاسم.
وذلك ان الفاعل الاول الذي في الغائب فاعل مطلق، والذي في الشاهد فاعل مقيد.
والفاعل المطلق لا يصدر عنه الا فعل مطلق، والفعل المطلق ليس يختص بمفعول دون مفعول».(9).
ونستخلص من هذا النص النقاط التالية :
1 - قدم النظرية، ذلك انها ترجع في تاريخ نشوئها الى عهود الفلسفة الاغريقية.
2 - ان سبب نشأتها يرجع الى أن الفلاسفة اليونانيين كانوا يذهبون الى ثنائية المبدأ الاول فيعتقدون باله للخير وإله للشر، ثم قالوا بوحدانية المبدأ الاول، وبالمقارنة بين وحدته وكثرة العالم المخلوق له جاء سؤال : (كيف تصدر هذه الكثرة عن تلك الوحدة) يفرض نفسه عليهم، فذهبوا يلتمسون له الاجابة.
3 - ثم تسربت النظرية من عالم الفلسفة اليونانية الى عالم الفلسفة الاسلامية، فقال بها ابو نصر الفارابي (ت 339 هجري) وابن سينا (ت 428 هجري).
4 - ثم تطورت النظرية في عصر ابن رشد (ت 595 هجري) الى أن الواحد الاول صدر عنه مباشرة وبلا واسطة جميع الموجودات المتغايرة.
ويعلل ابن رشد ذلك بان الفاعل المطلق لا يصدر عنه الا فعل مطلق، والفعل المطلق لا يختص بمفعول دون مفعول.
- ثم اننا اذا مشينا مع النظرية نستقرئ تاريخها في عصر ابن رشد أيضاً، سوف نرى ان من الحكماء المسلمين غير ابن رشد، من نقد النظرية، وذهب الى القول ببطلانها، أمثال فخر الدين الرازي (ت 606 هجري).
- ومن بعده تعود النظرية فتتركز على يد نصير الدين الطوسي (ت 672 هجري).
- ويأتي بعده العلامة الحلي (ت 762 هجري) فينقد النظرية، ويذهب الى القول بالفرق بين الفاعل المختار فلا يشمله حكم هذه النظرية، والفاعل بالاضطرار فتصدق عليه.
- وفي عصرنا هذا يذهب الشيخ آل شبير الخاقاني (ت 1406 هجري) (الى تفصيل آخر في المسألة، وهو : جواز صدور الكثرة عن الواحد في الواجب المطلق وعدم الجواز في الممكنات.
وسنرى بشيء من التفصيل مؤديات وحجج الآراء في المسألة :
حجة القائلين بها :
يقول الرازي : « واحتجوا لذلك بأن مفهوم كون الفاعل الواحد علة ومصدراً لأحد المعلولين غير مفهوم كونه علة ومصدراً للآخر. والمفهومان المتغايران ان كانا داخلين في ماهية المصدر لم يكن المصدر مفرداً بل يكون مركباً.
وان كانا خارجين كانا معلولين فيكون الكلام في كيفية صدورهما عنه كالكلام في الأول فيفضي الى التسلسل.
وان كان أحدهما داخلاً والآخر خارجاً كانت الماهية مركبة لأن الداخل هو جزء الماهية، وما له جزء كان مركباً، وكان المعلول أيضاً واحداً لأن الداخل لا يكون معلولاً»(10).
وقرر السيد الطباطبائي (ت 1401 هجري) دليل (ان الواحد لا يصدر عنه الا واحد) ب «أن من الواجب ان يكون بين العلة ومعلولها سنخية ذاتية ليست بين الواحد منها وغير الآخر، والا جاز كون كل شيء علة لكل شيء، وكل شيء معلولاً لكل شيء، ففي العلة جهة مسانخة لمعلولها هي المخصصة لصدوره عنها، فلو صدرت عن العلة الواحدة وهي ليست لها في ذاتها الا جهة واحدة معاليل كثيرة بما هي كثيرة متباينة غير راجعة الى جهة واحدة بوجه من الوجوه لزمه تقرر جهات كثيرة في ذاتها، وهي ذات جهة واحدة، وهذا محال»(11).
ولأن القائلين بهذه النظرية يؤمنون بان العالم وهو كثير صدر عن المبدأ الأول تعالى وهو واحد، بينوا مقصودهم من قولهم : (الواحد لا يصدر عنه الا واحد) دفعاً لما قد يتوقعونه من اشكال يورد عليهم، وحاصله : اذا كان الواحد لا يصدر عنه الا واحد، كيف اذاً صدرت هذه الكثرة عنه ؟ !
فقالوا : « انما قلنا : إن الواحد لا يصدر عنه من جهة واحدة الا واحد.
أما اذا تكثرت الجهات فقد يصدر عنه من تلك الجهات المتكثرة، ولا يكون ذلك مناقضاً لقولنا : لا يصدر عنه الا واحد»(12)
والى المعنى المذكور في توجيه النظرية ودفع الاشكال أشار السيد الطباطبائي بعد تقريره مؤدى النظرية بما نقلناه عنه، بقوله : ويتبين من ذلك : ان ما يصدر عنه الكثير من حيث هو كثير فان في ذاته جهة كثرة».
وقد اختلفوا في تقرير وتصوير تكثر الجهات، فانبثق عن هذا اكثر من نظرية منها :
1 - نظرية المُثُل الافلاطونية :
نسبت الى افلاطون (ت 348 ق. م) لأنه هو الذي بلورها، بعد أن مهد لنضجها على يديه من تأثر بهم ممن سبقه أمثال استاذيه بهرقليطس وبرمنيدس، والفيتاغوريين، واستاذه سقراط (ت 399 ق. م)، واعتبرها هي الصادر الأول عن المبدأ الأول. وتبناها اتباعه الاشراقيون فأثبتوا أن في عالم الجبروت عقولاً عرضية لا علية ولا معلولية بينها، يحاذي كلُّ عقل منها نوعاً من الأنواع المادية الموجودة في عالم الناسوت هو الذي يدبره بواسطة صورته النوعية فيخرجه من القوة الى الفعل.
ومن هنا سميت هذه المثل بـ (أرباب الأنواع) أيضاً.
2 - نظرية العقول الفلكية :
التي تبلورت على يد المعلم الثاني الفارابي متأثرة بنظرية العقل بالفعل التي قال بها المعلم الأول أرسطو (ت 322 ق. م) والتي عرفت فيما بعد لدى المشائيين بنظرية العقل الفعال الذي هو الصادر الأول عن المبدأ الأول عند ارسطو.
وخلاصة هذه النظرية :
«ان الوجود الأول يفيض وجود الثاني».
وهذا الثاني جوهر غير جسمي ولا هو في مادة، وهو يعقل ذاته، ويعقل الأول.
وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود ثالث، وبما هو متجوهر بذاته التي تخصه يلزم عنه وجود السماء الأولى.
والثالث أيضاً وجوده لا في مادة، وهو بجوهره عقل، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول، فبما يتجوهر به من ذاته التي تخصه يلزم عنه وجود كرة الكواكب الثابتة، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود رابع.
وهذا أيضاً (يعني الرابع) لا في مادة، فهو يعقل ذاته ويعقل الأول، فبما يتجوهر به من ذاته التي تخصه يلزم عنه كرة زحل، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود خامس.
وهذا الخامس أيضاً وجوده لا في مادة، فهو يعقل ذاته، ويعقل الأول، فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة المشتري، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود سادس.
وهذا أيضاً (يعني السادس) وجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته، ويعقل الأول، فبما يتجوهر به من ذاته، يلزم عنه وجود كرة المريخ، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود سابع.
وهذا أيضاً (يعني السابع) وجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول، فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة الشمس، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود ثامن.
وهو أيضاً (يعني الثامن) وجوده لا في مادة ويعقل ذاته ويعقل الأول، فبما يتجوهر به في ذاته التي تخصه يلزم عنه وجود كرة الزهرة، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود تاسع.
وهذا أيضاً (يعني التاسع) وجوده لا في مادة ويعقل ذاته ويعقل الأول، فبما يتجوهر به في ذاته يلزم عنه وجود كرة عطارد، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود عاشر.
وهذا أيضاً (يعني العاشر) وجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته، ويعقل الأول، فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة القمر، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود حادي عشر.
وهذا الحادي عشر هو - أيضاً - وجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته، ويعقل الأول، ولكنه عنده ينتهي الوجود الذي لا يحتاج ما يوجد ذلك الوجود الى مادة وموضوع أصلاً، وهي الأشياء المفارقة التي هي في جواهرها عقول ومعقولات.
وعند كرة القمر ينتهي وجود الاجسام السماوية، وهي التي بطبيعتها تتحرك دوراً»(13).
والنظرية - كما ترى - مرتبطة ارتباطاً اساسياً بنظرية الكواكب السيارة السبعة القديمة.
وهذا يعني أن الفلكيين القدامى لو كانوا قد توصلوا الى وجود اكثر من هذه السبعة - كما هو الحال الآن حيث وصل العدد الى اكثر من عشرة - لقالوا بعقول ومعقولات بعددها أيضاً، فتصل العقول في النظرية الى أكثر من أحد عشر.
وهذا يدل على شيء ليس بالصغير من الوهن الذي تعاني منه النظرية.
ونجد صدى هذه النظرية - كما ألمحت - عند ابن سينا، فقد جاء في كتابه (الاشارات والتنبيهات)(14) : «فمن الضروري اذاً ان يكون جوهر عقلي يلزم عنه : جوهر عقلي وجرم سماوي، ومعلوم أن الاثنين انما يلزمان من واحد من حيثيتين.
وتكثر الاعتبارات والجهات ممتنع في المبدأ الأول، لانه واحد من كل جهة، متعال عن أن يشتمل على حيثيات مختلفة واعتبارات متكثرة، وغير ممتنع في معلولاته، فاذن لم يمكن أن يصدر عنه أكثر من واحد، وأمكن أن تصدر عن معلولاته».
ولعله لما اشرت اليه من الوهن الذي تعاني منه نظرية العقول الفلكية عدل المتأخرون من الحكماء عن ربط النظرية بالأفلاك السماوية الى ما يعرف بنظرية العقول الطولية.
3 - نظرية العقول الطولية :
وفحوى هذه النظرية كما يحرره السيد الطباطبائي هو : أن «أول صادر منه تعالى عقل واحد يحاكي بوجوده الواحد الظلي وجود الواجب تعالى في وحدته.
ثم ان (هذا) العقل الأول وان كان واحداً في وجوده بسيطاً في صدوره، لكنه لمكان امكانه تلزمه ماهية اعتبارية غير أصيلة، لأن موضوع الامكان هو الماهية، ومن وجه آخر هو يعقل ذاته ويعقل الواجب تعالى فتتعدد فيه الجهة، ويمكن ان يكون لذلك مصدراً لأكثر من معلول واحد.
لكن الجهات الموجودة في عالم المثال الذي دون عالم العقل بالغة مبلغاً لا تفي بصدورها الجهات القليلة التي في العقل الأول، فلا بد من صدور عقل ثان ثم ثالث، وهكذا حتى تبلغ جهات الكثرة عدداً يفي بصدور العالم الذي يتلوه من المثال.
فتبين أن هناك عقولاً طولية كثيرة، وان لم يكن لنا طريق الى احصاء عددها»(15).
إشكال ورد :
وأشكل عليهم : أن هذا يستلزم نسبة العجز الى اللّه تعالى لأنه تحديد لقدرته المطلقة.
فأجابوا : بان العجز ليس في الفاعل وانما هو في القابل، ويحرر ذلك السيد الطباطبائي بقوله : «وليس في ذلك تحديد للقدرة المطلقة الواجبية التي هي عين الذات المتعالية، وذلك لأن صدور الكثير، من حيث هو كثير، من الواحد، من حيث هو واحد، ممتنع.
والقدرة لا تتعلق الا بالممكن، وأما المحالات الذاتية الباطلة الذوات كسلب الشيء عن نفسه والجمع بين النقيضين ورفعهما مثلاً، فلا ذات لها حتى تتعلق بها القدرة، فحرمانها من الوجود ليس تحديداً للقدرة وتقييداً لإطلاقها» (16).
نقد النظرية :
بعد ما ذكرته آنفاً مما حرره الفخر الرازي من حجة القائلين بالنظرية لاثبات أن الواحد لا يصدر عنه الا واحد.
رد عليهم ونقد النظرية نقداً استهدف منه ابطال النظرية، قال : «والجواب أن مؤثرية الشيء في الشيء ليست أمراً ثبوتياً على ما بيناه - من أنها من الأعراض النسبية فهي اعتبارية - . واذا كان كذلك بطل أن يقال إنه جزء الماهية أو خارج عنها».
ومن نقد النظرية العلامة الحلي وبنفس المفاد الذي أفاده الفخر الرازي، قال :
«وأقوى حججهم : أن نسبة المؤثر الى أحد الأثرين مغايرة لنسبته الى الآخر، فان كانت النسبتان جزئية كان مركباً، والا تسلسل.
وهي عندي ضعيفة لأن نسبة التأثير والصدور يستحيل أن تكون وجودية والا لزم التسلسل.
وان كانت من الأمور الاعتبارية استحالت هذه القسمة عليها»(17)
آراء أخرى في المسألة :
وفي العرض التاريخي لنشأة النظرية وتطورها المحت الى آراء جدت في مسألة صدور الكثرة عن الواحد، منها :
رأي ابن رشد :
ومن أقدمها رأي ابن رشد القائل بأن المبدأ الأول صدر عنه جميع الموجودات المتغايرة مباشرة وبلا توسط عقول اخرى في البين ويعلل ابن رشد ذلك بان الفاعل المطلق لا يصدر عنه الا فعل مطلق، والفعل المطلق لا يختص بمفعول دون مفعول.
رأي الرازي :
والرازي (ت 606 هجري) وهو من معاصري ابن رشد (ت 595 هجري) ذهب أيضاً الى إلغاء النظرية، قال : «العلة الواحدة يجوز أن يصدر عنها اكثر من معلول واحد عندنا خلافاً للفلاسفة والمعتزلة»(18). ونلمس فرقاً بين رأي الرازي ورأي ابن رشد نفيده من ظاهر كل نص من نصيهما المذكورين هنا، وهو :
1 - ان الذي يظهر من ابن رشد أن فحوى النظرية لا يتم في الفاعل المطلق، أما غير الفاعل المطلق فالنص لم يتعرض له.
2 - والذي يظهر من الرازي إلغاء فحوى النظرية مطلقاً في الفاعل المطلق وغيره.
رأي العلامة الحلي :
وذهب العلامة الحلي الى التفصيل في المسألة بين الفاعل المختار فيجوز أن يتكثر أثره مع وحدته، وبين الفاعل المضطر (الموجب) فلا يجوز أن يتكثر أثره مع وحدته ووحدة الجهة.
قال شارحاً قول النصير الطوسي : «ومع وحدته - يعني الفاعل - يتحد المعلول»، قال : «أقول : المؤثر إن كان مختاراً جاز أن يتكثر أثره مع وحدته.
وإن كان موجباً فذهب الأكثر الى استحالة تكثر معلوله باعتبار واحد»(19).
رأي الشيخ الخاقاني :
وممن فصل في المسألة الشيخ آل شبير الخاقاني (ت 1406 هجري)، فقد ذهب الى جواز صدور الكثرة عن الواحد في الواجب المطلق، وعدم الجواز في الممكنات، كما حكاه عنه نجله الأكبر اخونا الشيخ محمد الخاقاني في كتابه (نقد المذهب التجريبي).
قال في ص 232 : «تمسك الفلاسفة التقليديون بنظرية الواحد لا يصدر عنه الا واحد طبقاً لوجود السنخية بين العلة والمعلول، ووجود علاقة بينهما، فاذا فقدت العلاقة والارتباط بين العلة والمعلول لما استدعت العلة وجود معلول معين، ولاختل نظام مبدأ العلية والسببية.
وتقع مناقشة علمية اخرى، وهي : ان الواجب المطلق واحد وأن العالم متعدد، ولا يعقل أن يصدر التعدد من الواحد فيلزم اما وحدة العالم أو تعدد الآلهة.
وقد أجاب سماحة الوالد : ان من كمال الابداع التكويني صدور الكثرة من الواحد.
ولا يستلزم الاشكال أصلاً في خصوص ذات الواجب، وانما الاشكال يمكن
تصويره بالقياس الى الممكنات التي في واقعها الفقر الذاتي دون الغناء الذاتي.
وبهذا العرض يتنور لديك حقيقة الأمر بانه لسنا في حاجة الى التمسك بان المعلول الصادر من قبل مبدأ العلة الأولى ان يكون المعلول واحداً لكفاءة العلة وصلاحيتها أن توجد عدة معاليل في عرض واحد من غير حاجة الى الطولية بالقياس الى المطلق، وان كان الاشكال محققاً في جانب الممكنات».
الخلاصة :
ونخلص مما تقدم الى أن الأقوال في المسألة هي :
1 - الواحد لا يصدر عنه من جهة واحدة الا واحد.
2 - الواحد مطلقاً يصدر عنه الكثير.
3 - الواحد المطلق يصدر عنه الكثير.
4 - الواحد المختار يصدر عنه الكثير، والواحد الموجب لا يصدر عنه من جهة واحدة الا واحد.
5 - الواحد المطلق يصدر عنه الكثير، والواحد الممكن لا يصدر عنه من جهة واحدة الا واحد.
__________________
(1) المعجم الوسيط : مادة : وحد.
(2) م . ن .
(3) تحف العقول 175 .
(4) تفسير اسماء اللّه الحسنى 57.
(5) م . ن .
(6) مادة: واحد.
(7) مادة: وحد.
(8) نهج البلاغة: الخطبة 1.
(9) تهافت التهافت 296 - 302.
(10) تلخيص المحصل 237.
(11) بداية الحكمة 117.
(12) تلخيص المحصل 509.
(13) موسوعة الفلسفة 2 / 105 نقلاً عن آراء اهل المدينة الفاضلة للفارابي ط 3 بيروت سنة 1973 م ص 61 - 62.
(14) ص 645.
(15) بداية الحكمة 242 - 243.
(16) م. ن.
(17) كشف المراد 84.
(18) تلخيص المحصل 237.
(19) كشف المراد 84.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|