المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 7556 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
شروط امتداد الخصومة
2024-07-01
زوال صفة الخصم وامتداد الخصومة
2024-07-01
خصومة الوارث غير الحائز للعين
2024-07-01
خصومة الوارث الحائز للعين
2024-07-01
2024-07-01
موانئ التموين
2024-07-01

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


مبحث الضــــد  
  
723   01:25 مساءاً   التاريخ: 3-8-2016
المؤلف : تقريرا لبحث السيد الخميني - بقلم الشيخ السبحاني
الكتاب أو المصدر : تهذيب الأصول
الجزء والصفحة : ج1. ص.408
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / المباحث العقلية /

اختلفت الآراء في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أولا ؟

ولنقدّم لتوضيح المراد اُموراً :

الأمر الأوّل : في بيان اُصولية المسألة :

جمع بعض الأعاظم بين كون المسألة اُصولية عقلية وبين تعميم الاقتضاء في العنوان إلى كونه على نحو العينية أو التضمّن أو الالتزام بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ ، وعلّل بأنّ لكلّ قائلا(1) .

ولا يخفى ما فيه من التهافت ; إذ لو قلنا بأنّ المسائل اللغوية ـ كالمشتقّ ـ خارجة من الاُصولية فلا وجه للجمع بين الاُصولية والتعميم ; لأنّ الغرض من التعميم إدخال تمام المذاهب تحت العنوان ، فهنا نقول : إنّ القول بالعينية في المسألـة يجعلها من المسائل اللغويـة ، بل القول بالتضمّن والالتزام كـذلك أيضاً على مبنى القوم ; لأنّهم يجعلون الجميع من المداليل اللفظية ، كما لا يخفى .

نعم ، لو قلنا كون المسألة لغوية لا ينافي الاُصولية ، مع اختلاف الجهة المبحوث عنها ـ كما مـرّ في أوّل الكتاب(2) ـ فهو وإن كـان يرتفع به هـذا ، إلاّ أنّ في الجمع بين كون المسألة عقليـة وبين ذلك التعميم تهافت ; لأنّ الغرض منه إدخال مذهب القائل بإحـدى الدلالات اللفظية في العنوان ، ولا يجتمع ذلك مـع جعل الدلالة عقلية .

وكيف كان فالمسألة اُصولية ; لانطباق ميزانها عليها .

الأمر الثاني: في المراد من الاقتضاء :

قد مرّ(3)  في مبحث الإجزاء أنّ الاقتضاء الواقع في نظائر هذه الأبحاث ليس بمعناه الحقيقي ، ولابدّ في المقام من أن يصار إلى معنى آخر يكون جامعاً بين المعاني التي ذكروها في مقام التعميم حتّى يكون مستعملا فيه ، ولكن وجود جامع بين الاقتضاء بمعنى العينية والتضمّن والالتزام مشكل جدّاً .

ولا محيص حينئذ عن إسقاط الوجوه التي ظاهر فسادها كالأوّلين ، وحمل الاقتضاء على الاستلزام ; ولو بنحو مـن المسامحة أو تبديله بـه ، وعقد البحث هكذا «في استلزام الأمر النهي عن ضدّه» أو «في استلزام إرادة الشيء إرادة ترك  ضدّه» ، والخطب سهل .

الأمر الثالث: في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ أم لا ؟

قد يطلق الضدّ ويراد منه الترك ويسمّى بالضدّ العامّ ، وقد يراد منه أحد الأضداد الخاصّة بعينه، وثالثة يراد منه أحد الأضداد الوجودية لا بعينه ، ويجعل من الضدّ العامّ . وأمّا الأقوال حول الأقسام فكثيرة ، والذي ينبغي عنه البحث هو الاقتضاء في الضدّ الخاصّ . وقد استدلّ عليه بوجهين :

الوجه الأوّل : الاستدلال على حرمة الضد من ناحية المقدّمية :

وروح هذا الوجه راجع إلى كون ترك الضدّ مقدّمة لفعله ، ولكنّه عند التشقيق ملفّق من مقدّمات ثلاث ، يحتاج كلّ واحدة برأسها إلى إعمال النظر :

الاُولى : مقدّمية ترك الضـدّ لفعل ضدّه ، وربّما يصار البحث إلى مقدّميـة الفعل لترك الضدّ .

الثانية: أنّ مقدّمـة الواجب واجبـة.

الثالثة : أنّ الأمـر بالشيء يقتضي النهي عـن ضدّه العامّ ، وليس المراد منه مـا تقدّم ـ أعني الترك ـ بل نقيض الواجب ; سواء كان عدمياً أم وجودياً كما في المقام ; فإنّ ترك الصلاة مقدّمة للأهمّ ، وضدّه العامّ هو نفس الصلاة .

تزييف الوجه الأوّل بعدم تمامية الاُمور المتوقّفة عليها هذا ، واستدلّ القائل على إثبات المقدّمة الاُولى : بأنّ الضدّين متمانعان ، وعدم المانع من المقدّمات .

قلت : قد ناقش فيه القوم وأوردوا عليه وجوهاً ثلاثة :

الأوّل : ما عن المحقّق الخراساني من أنّ المعاندة بين الشيئين لا تقتضي إلاّ عدم اجتماعهما في التحقّق ، وحيث لا منافاة بين أحد العينين مع نقيض الآخر ـ بل بينهما كمال الملائمة ـ كان أحد العينين مع نقيض الآخر في مرتبة واحدة(4) .

وأورد عليه المحقّق المحشّي : أنّ كمال الملائمة لا ينافي التقدّم والتأخّر ; لأنّ العلّة لها كمال الملائمة مع معلولها ، وهو لا يوجب الاتّحاد في الرتبة(5) .

ولكـن يمكن أن يقال في تقرير مقالـة الخراساني : أنّ الحمل الصناعي ينقسم إلى حمل بالذات ; وهو ما يكون الموضوع فيه مصداقاً للمحمول بذاتـه ، بلا ضمّ حيثية زائدة على ذاته ، كما في «زيد إنسان» ، وإلى حمل بالعرض ، وهو ما يحتاج إلى حيثية زائدة حتّى يصير مصداقاً له بتبعه ، كما في قولك «الجسم أبيض» ; إذ كون الجسم من حيث ذاته لا يكفي في مصداقيته له مالم يتخصّص بخصوصية زائدة على ذاته .

فحينئذ : فالسواد وإن لم يصدق على البياض إلاّ أنّ عدم السواد يصدق عليه حملا بالعرض لا بالذات ; إذ حيثية الوجود الذي هو عين الطاردية للعدم والمنشئية للأثر تمتنع أن تكون عين عدم الآخر بالذات ، لكن يتّحدان بالعرض ، ويكون وجوده راسم عدمه .

فحينئذ فالحمل بينهما كاشف عن اتّحادهما في الخارج ; اتّحاداً مصداقياً بالعرض ، وما يقع في سلسلة العلل من المقتضيات والمعدّات وعدم الموانع لا يعقل أن تتّحد مع معلوله في الخارج ـ ولو بالعرض ـ إذ العلّة مقدّمة على معلولها عقلا ، ومعنى هذا التقدّم كون وجود المعلول ناشئاً منه ومفاضاً عنه ، وما هذا شأنه لا يعقل أن يتّحد مع المتأخّر عنه ; إذ الاتّحاد ـ كما هو مفاد الحمل ـ يأبى أن يكون أحدهما مقدّماً والآخر مؤخّراً ; وإن كان رتبياً .

وبعبارة أوجز : أنّ السواد لا يصدق على البياض وإلاّ اجتمع الضدّان ، ومع عدم صدقه لابدّ وأن يصدق عليه نقيضه ، وإلاّ ارتفع النقيضان ، والصدق يقتضي الاتّحاد وهو ينافي التقدّم والتأخّر رتبة ، فثبت اتّحادهما رتبة .

هذا ، ولكنّه أيضاً لا يخلو من إشكال ; لما عرفت أنّ قوام الحمل الصناعي بالعرض إنّما هو بتخصّص الموضوع بحيثية زائدة حتّى يصير مصداقاً عرضياً ببركتها ، والمفروض أنّ وجود الضدّ ليس عين عدم الآخر ، فلا محيص عن القول بالتخصّص واتّصاف الموضوع بحيثية زائدة .

ولكنّه في المقام ممتنع ; إذ الأعدام ـ سواء كانت مطلقة أم غيرها ـ ليست لها حيثية واقعية حتّى يتخصّص به البياض ويحمل عليه على نحو الاتّصاف أ نّه عدم سواد ; إذ الأعدام باطلات صرفة وعاطلات محضة ، ولا معنى فيها للاتّحاد والهوهوية والعينية على وجه التوصيف ، كما لا يخفى .

وما ربّما يثبت للأعدام من أحكام الوجود ; من التقدّم الزماني أو كون عدم العلّة علّة لعدم المعلول كلّ ذلك لغرض التسهيل على المتعلّمين .

وما ربّما يقال : من أنّ لأعدام الملكات حظّاً من الوجود(6)  توسّع في العبارة وإسراء حكم المضاف إليه إلى المضاف ، وإلاّ فإنّ العمى بما هو أمر عدمي لاحظّ له من الوجود ، ولم يشمّ ولن يشمّ رائحته .

وما ذكرناه بصورة البرهان ; من أنّ السواد لو لم يصدق لصدق عدم السواد مغالطة في الاستدلال ; إذ نقيض قولنا يصدق السواد هو أنّه لا يصدق السواد على نحو السالبة المحصّلة ، لا صدق عدم السواد على طريق الموجبة المعدولة أو الموجبة السالبة المحمول ; لأنّ الأعدام لا شؤون لها في صفحة الوجود ; حتّى قولنا : «لا شؤون لها» لو اُريد به الاتّصاف ، بل المرجع في محامل الأعدام هو السالبة المحصّلة التي تفيد سلب الاتّحاد ، وأنّ صحيفة الوجود خالية عن هذا الضدّ بنحو السلب التحصيلي .

والحاصل : أنّ نقيض صدق البياض على السواد عدم صدقه عليه ، على أن يكون السلب تحصيلياً ، لا صدق عدمه عليه بنحو الإيجاب العدولي أو الموجبة السالبة المحمول .

 فالبياض إذا لم يصدق عليه أنّـه سواد صدق عليه أ نّه ليس بسواد بالسلب التحصيلي ـ وهو نقيض الإيجاب ـ لا صدق عدمه ; لأنّ نقيض صدق الشيء هو عدم صدقه لا صدق عدمه حتّى يلزم اتّحادهما في الوجود ; ولو  بالعرض .

وعدم التمييز بين السلب التحصيلي والإيجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول موجب لكثير من المغالطات والاشتباهات .

وأظنّ أ نّك لو وقفت على واقع العدم الذي حقيقته أنّه لا واقع له تعرف أنّ حيثية العدم يمتنع أن تكون ذات حظّ من الوجود ، بل الإضافات الواقعة بينها وبين غيرها إنّما هي في الذهن ، وفي وعائه تكون الأعدام المطلقة أيضاً موجودة بالحمل الشائع ; وإن كانت أعداماً بالحمل الأوّلي . فلا حقيقة للعدم حتّى يتّصف بوصف وجودي أو اعتباري أو عدمي .

وما يقال : إنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له لا الثابت(7)  ليس المراد منه أنّ الجهات العدمية بما هي كذلك تمكن أن تثبت لشيء ; بحيث يكون التصادق والاتّحاد بينهما كاتّحاد شيء بشيء ، وإلاّ يلزم كذب القاعدة الفرعية أيضاً ; لأنّ ثبوت الثابت بهذا النحو إثبات صفة ثبوتية له ، فيلزم صدق قولنا : العدم ثابت للوجود وصادق عليه ، وهو فرع ثبوت المثبت له .

فتلخّص : أنّ الأحكام في الأعدام لابدّ أن ترجع إلى السالبات المحصّلات ; وإن كانت بحسب الظاهر موجبات .

هذا ، وإنّما أطلنا الكلام وعدلنا عن مسلك الاقتصاد لكون المقام من مزالّ الأقدام ، فاغتنم .

الثاني من المناقشات والإيرادات على المقدّمة الاُولى ـ أعني مقدّمية ترك الضدّ لوجود الآخر ـ هو ما يستفاد أيضاً من كلام المحقّق الخراساني ; حيث قال : إنّ المنافاة بين النقيضين كما لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخـر كـذلك في المتضادّين(8) .

وقرّره تلميذه الجليل المحقّق القوچاني ـ رحمه الله ـ في حاشيته بقوله : إنّه لا خفاء في أنّ النقيض للوجود هو العدم البدلي الكائن في مرتبته ، وإلاّ لزم ارتفاع النقيضين في مرتبة سلب أحدهما مقدّمةً للآخر .

فظهر : أنّ هذا النحو من التعاند لا يقتضي إلاّ تبادلهما في التحقّق لا ارتفاع أحدهما أوّلا ثمّ تحقّق الآخر ثانياً ، وحيث عرفت ذلك في النقيضين فكذلك الوجودان المتقابلان(9) ، انتهى .

ونزيد توضيحاً عليه : أنّ ما ذكره مبني على مقدّمات ثلاث :

الاُولى : أنّ النقيضين في رتبة واحدة ; بمعنى أنّ الوجود في ظرف معيّن من الزمان أو في مرتبة من مراتب الواقع ليس نقيضه إلاّ العدم في ذلك الظرف أو المرتبة ; إذ لا تعاند في غير هذا الوجه ; إذ عدم زيد في الغد لا يعاند وجوده في اليوم ، وعدم المعلول في رتبة العلّة لا يباين وجوده في مرتبة نفسه .

وإن شئت فعبّر : أنّ نقيض الشيء بديله ، فنقيض شيء في زمان أو رتبة هو عدمه الذي في ذلك الزمان وتلك الرتبة ، وإلاّ يلزم اجتماع النقيضين ; فالمعلول معدوم في رتبة العلّة ، وموجود في رتبة متأخّرة ، فنقيض الوجود في رتبة العلّة هو العدم في رتبتها .

وبعبارة أوضح : أنّ مرتبة العلّية هي مرتبة الإفاضة والإثبات ، فيمتنع أن يتحقّق فيها وجود المعلول وإلاّ ارتفعت العلّية والمعلولية ، فلابدّ أن يتحقّق فيها عدمه ; لئلاّ يرتفع النقيضان .

فظهر : أنّـه لابـدّ أن يتبادل كلّ مـن وجـود المعلول وعدمـه في رتبـة العلّـة مترتّباً .

الثانية : أنّ الضدّين أيضاً في مرتبة واحدة ; لأجل البيان المتقدّم في النقيضين ، مثلا ; لو فرضنا تحقّق أحد الضدّين ، كالبياض في ظرف من الزمان وفي موضوع معيّن فضدّه هو السواد في تلك القطعة وفي هذا الموضوع المتعيّن ; لعدم المنافاة لو تحقّقا في قطعتين أو موضوعين . فالبينونية الحقيقية بين الضدّين لا تتحقّق إلاّ بالمطاردة ، وهي تتوقّف على ما ذكرناه .

وببيان آخر : أنّ مناط امتناع اجتماع الضدّين هو لزوم اجتماع النقيضين الذي هو اُمّ القضايا ، ومناط الامتناع فيه إنّما يكون مع وحدة الرتبة كما تقدّم ، فكذلك في اجتماع الضدّين .

الثالثة : وإن شئت فسمّها نتيجة المقدّمتين ، هو كون أحد الضدّين مع نقيض الآخر في رتبة واحدة .

والحاصل : أ نّه علم أنّ البياض مع نقيضه في رتبة واحدة ، كما علم أنّ البياض مع السواد واقعان في مرتبة واحدة أيضاً ـ كما تقدّم ـ فيستنتج : أنّ نقيض البياض ـ أعني عدم البياض ـ متّحد مع السواد رتبة ; إذ السواد مساو رتبةً مع البياض ، والبياض مساو مع عدم البياض ، فالسواد مساو مع عدم البياض ; لأنّ مساوي المساوي للشيء مساو له ، هذا غاية توضيح له .

وأنت خبير بما فيه من الخلل :

أمّا في أوّلها : فلأنّا نمنع كون النقيضين في رتبة واحدة ; لأنّ وجود المعلول في رتبة علّتها ليس نقيضه كون عدمه في رتبتها ; إذ لا واقعية للأعدام حتّى تشغل مرتبة من مراتب الواقع ، بل نقيضه سلب وجود المعلول في هذه المرتبة ، على أن  تكون الرتبة قيداً للمسلوب لا للسلب .

وبالجملة : أنّ نقيض كلّ موجود في أيّ مرتبة أو زمان هو عدم الموجود الواقع في هذه الرتبة أو ذاك الزمان ، فإذا كذب كون المعلول في رتبة علّته صدق عدم كونه في رتبتها ، لا كون عدمه في رتبتها ; فإنّه أيضاً غير صادق .

وبعبارة أخصر : أنّ نقيض كلّ شيء رفعه ، فنقيض البياض في المرتبة رفعه ، على أن يكون القيد للمسلوب لا للسلب ، فإذا لم يصدق كون المعلول في رتبة علّته صدق عدم كونه في رتبتها بنحو السلب التحصيلي أو بنحو السلب المحمولي للمقيّد ، على أن يكون القيد للمسلوب .

فتلخّص : أنّ نقيض كون المعلول في رتبة العلّة عدم كونه في رتبتها ، لا كون العدم في رتبتها حتّى يقال : إنّ النقيضين في رتبة واحدة .

وأمّا ثانيتها : فهو أوضح فساداً ممّا تقدّم ; إذ الرتب العقلية لا ربط لها بالخارج الذي هو ظرف الضدّية ، والمترتّبان عقلا مجتمعان خارجاً ومتّحدان زماناً ، والضدّان يمتنع اجتماعهما في الوجود الخارجي ، فأين هو من الرتب العقلية ؟ حتّى لو فرضنا أنّ البياض والسواد مختلفا الرتبة عقلا يكون اجتماعهما الوجودي في موضوع واحد محالا أيضاً .

وبما عرفت من عدم وحدة الرتبة في النقيضين سقط ما ذكر من إثبات وحدة الرتبة في الضدّين من وحدتها في النقيضين لأجل كون مناط الامتناع في اجتماع الضدّين هو لزوم اجتماع النقيضين .

هـذا ، مضافاً إلى أنّ في هـذه الدعوى أيضاً كلاماً بل خلطاً ، والتفصيل مـوكول إلى مظانّه .

وبما ذكر يظهر الحال في النتيجة ، بل لو سلّمنا كون النقيضين والضدّين في رتبة واحدة فلإنكار لزوم كون أحد العينين في رتبة نقيض الآخر مجال واسع ; لعدم البرهان على أنّ الرتب العقلية حكمها حكم الزمان في الخارج ; لو لم نقل بأنّ البرهان قائم على خلافه ; لأنّ للرتب العقلية ملاكات خاصّة ، ربّما يكون الملاك موجوداً في الشيء دون متّحدة في الرتبة ، ألا ترى أنّ ملازم العلّة لا يكون مقدّماً على المعلول رتبة ; لفقدان ملاك التقدّم فيه ; وهو كون وجوب الشيء من وجوبه ووجوده من وجوده .

وما ربّما يتمسّك بقياس المساواة فغفلة عن حقيقة الحال ، ولعلّه لقياس الرتب العقلية من حيث المساواة واللامساواة بالمقادير والأزمنة .

فتلخّص : أنّ الشيء ونقيضه ليسا في مرتبة واحدة سلباً تحصيلياً ، كما ليس بينهما التقارن والتقدّم كذلك .

الثالث من المناقشات ـ وهو أيضاً يستفاد من كلامه ـ قدس سره ـ  ـ وحاصله : أ نّه لو توقّف وجود الضدّ على عدم ضدّه لزم الدور ; لأنّ التوقّف لأجل التمانع من الطرفين ، فعدم أحد الضدّين أيضاً متوقّف على وجود الآخر ; توقّف العدم على وجود مانعه(10) ، انتهى .

قلت : إنّ مقتضى التمانع بين الضدّين هو أ نّه لو توقّف وجود الضدّ على عدم الآخر لزم أن يتوقّف وجود الضدّ الآخر على عدم ذاك ، لا أن يتوقّف عدم الآخر على وجوده ، فيرتفع الدور; لاختلاف الموقوف والموقوف عليه ; لأنّ وجود البياض متوقّف على عدم السواد ، ووجود السواد متوقّف على عدم البياض ; أخذاً بحكم التمانع بين وجودي الضدّين ، لا أنّ عدم السواد متوقّف على وجود البياض حتّى يتخيّل الدور ; لأنّ العدم ليس بشيء حتّى يتوقّف تحقّقه على شيء .

ثمّ إنّ التحقيق : أنّ التوقّف باطل مطلقاً ; أي لا يتوقّف العدم على شيء ولا يتوقّف شيء عليه .

وتوضيحه ـ وإن كان ما أوعزنا إليه كافياً في رفع الحجاب ـ هو أنّ العدم ليس أمراً حقيقياً واقعياً ، بل هو مفهوم اعتباري يصنعه الذهن إذا تصوّر شيئاً ، ولم يجده شيئاً إذا رجع إلى الخارج وتفحّص عن مظانّه ، وحقيقته خلوّ صحيفة الوجود عن الشيء المتصوّر بالسلب التحصيلي وخلوّ نفس الأمر عن وجوده ; فيكون مقابل الوجود ومقابل نفس الأمر بمراتبه الطولية ، وما شأنه هذا يكون بطلاناً محضاً ، ولا يعقل أن يصير دخيلا في تحقّق شيء أو متأثّراً من شيء ; إذ ما لا شيئية له يسلب عنه جميع الاُمور الثبوتية ; ومنها التوقّف بكلا قسميه بالسلب التحصيلي .

 وبالجملة : كون شيء شرطاً لشيء أو متأثّراً عنه أو دخيلا في وجوده قضايا إيجابية ، يتوقّف صدقها على وجود موضوعها ومحمولها ، وقد فرضنا العدم لا شيئاً محضاً وبطلاناً خالصاً .

وقولك : إنّ عدم الضدّ موقوف عليه أو عدمه موقوف على وجود الضدّ من الموجبات ، وثبوت حكمها للعدم فرع ثبوت المثبت له ، وهو هنا ممتنع .

فظهر : أنّ العدم مسلوب عنه أحكام الوجود والثبوت ; إذ لا شيئية له ، فلا تقدّم له ولا تأخّر ولا مقارنة ، بل كلّ الحيثيات مسلوبة عنه سلباً تحصيلياً ، لا بمعنى سلب شيء عن شيء ، بل السلب عنه من قبيل الإخبار عن المعدوم المطلق بأنّه لا يخبر عنه الحاصل بالتوسّل بالعناوين المتحصّلة في الذهن .

وقد تقدّم : أنّ ما ربّما يقال : إنّ عدم العلّة علّة لعدم معلوله مسامحة في التعبير(11) ، كما أنّ ما يتكرّر بين كلمات المشاهير من أهل الفنّ من عدّ عدم المانع من أجزاء العلّة(12)  مرجعه إلى أنّ وجوده مانع عن تحقّق المعلول لا أنّ عدمه دخيل ، فعبّروا عن مزاحمة المقتضيات والتمانع بين الوجودات بكون عدم المانع من أجزاء العلّة ; إذ العدم ـ مطلقه ومضافه ـ أقصر شأناً من أن يحوم حوله التوقّف ; لأنّه البطلان واللاشيئية .

وأوضح فساداً منه ما يقال : إنّ للأعدام واقعية وظروفاً بحسب أحوالها ، كما أنّ للماهيات أوعية متسانخة مع مظروفاتها ; إذ كلّ ظرف لابدّ وأن يرجع إلى صحيفة الوجود ، وإلاّ فالظرف والمظروف عاطلان باطلان .

والعجب عن المحقّق المحشّي ـ مع نبوغه وكثرة مساعيه في هاتيك المباحث ـ  حيث أفاد هنا ما لا ينبغي أن يصدر عن مثله ; حيث قال : إنّ عدم الضدّ من مصحّحات قابلية المحلّ لقبول الضدّ; لعدم قابلية الأبيض للسواد ولا الأسود للبياض ، وأنّ القابليات والاستعدادات والإضافات وأعدام الملكات وإن كان لا مطابق لها في الخارج لكنّها من الاُمور الانتزاعية وحيثيات وشؤون لأمور خارجية ، وثبوت شيء لشيء لا يقتضي أزيد من ثبوت المثبت له بنحو يناسب ثبوت الثابت(13) ، انتهى .

وفيه : أمّا أوّلا : فلأنّ الأعدام المضافة إذا لم تكن متأثّراً عن شيء لإبائها عن الفاعل والقابل فلا تكون مؤثّرة ولا شرطاً ; إذ التفكيك بينهما في الموجود الإمكاني باطل ، وما ليس بشيء لا يكون مؤثّراً ولا متأثّراً .

وأمّا عدم تحقّق الضدّ عند وجود الآخر وتحقّقه عند عدمه فليس إلاّ لأجل التمانع بين الوجودين، فإذا عدم أحدهما تحقّق الآخر ، لا لجهة الاستناد إلى عدمه ، بل إلى إيجاب علّته التامّة .

وإن شئت قلت : إنّ قابلية المحلّ مـن شؤون نفسه ، مـن غير دخالـة عـدم شيء فيها ، فالجسم قابل للسواد ; كان موصوفاً بالبياض أولا ، ولا يتوقّف قبوله له على عدم البياض .

وأمّا عدم قبوله في حال اتّصافـه به فإنّما هـو لأجل التمانع بين الوجودين ، لا لتوقّف القابلية على عدم الضدّ ; إذ العدم لايمكن أن يكون مؤثّراً في تصحيح القابلية ، بل لايكون من شؤون الاُمور الخارجية ، ولا منتزعاً منها .

وثانياً : أنّ عدّ الأعدام المضافة في عداد الاستعدادات لا يخلو من خلط ; فإنّ الإمكان الاستعدادي له نحو وجود في المادّة ; إذ لا يمكن إنكار أنّ للقابليات والاستعدادات ـ بل الإضافات ـ نحو وجود في الخارج ، بخلاف أعدام الملكات ; فإنّ التحقّق لحيثية الملكة لا لحيثية العدم ، فتدبّر .

هذه حال المناقشات الثلاثة المتوجّهة إلى المقدّمة الاُولى ، وقد عرفت حالها بالنقض والإبرام .

وأمّا المقدّمة الثانية ـ أعني وجوب المقدّمة ـ فقد تبيّن حاله أيضاً .

وأمّا المقدّمة الثالثة ـ أي اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن نقيضه ـ فللمنع عنه مجال واسع :

أمّا عدم الاقتضاء بالمطابقة والتضمّن فواضح ; إذ البعث لا يكون عين الزجر ولا متضمّناً له .

وأمّا الالتزام ـ أعني كون النهي عن النقيض لازماً للأمر ، كما ربّما يقال : إنّ نفس تصوّر الوجوب والإلزام يكفي في تصوّر النهي عن الترك(14) ـ ففيـه : أ نّه إن اُريد به الانتقال التصوّري فمع عدم ثبوته لا يفيد ، وإن اُريد اللزوم الواقعي ، بأن يدّعي أنّ المولى إذا أمر بشيء يجب أن ينهى عن نقيضه فهو واضح البطلان ; لأنّ المفروض أنّ الصادر منه هو الأمر لا غيره ، وإن اُريد أ نّه لو التفت إليه لنهى عنه فهو كما ترى .

فإن قلت : ليس البحث في البعث الاعتباري ، بل في استلزام الإرادتين ; إذ الإرادة المتعلّقة بشيء مستلزمة للإرادة المتعلّقة بترك تركه .

قلت : إن اُريد من الاستلزام العينية والتضمّن فهو واضح الفساد ; لأنّ إرادة الزجر عن ترك شيء ليس عين إرادة نفس الشيء بالحمل الأوّلي ، وانطباقه عليه في الخارج ـ مع فساده في نفسه ـ ليس بمفيد .

وإن اُريد منه المعنى الذي يذكر في باب المقدّمة(15)  بأنّه إذا تعلّقت إرادة تشريعية بشيء فمع الالتفات إلى تركه تتعلّق إرادة تشريعية على ترك تركه ، يرد عليه ما أوضحناه في بابها(16)  من أنّا لا نتصوّر لهذه الإرادة غاية ولا مبادئ .

وتوضيحه : أ نّه بعد تعلّق الإرادة التشريعية الإلزامية بشيء لا معنى لتعلّق إرادة اُخرى على ترك تركه ; لعدم تحقّق مبادئ الإرادة وغايتها ; فإنّ غايتها التوصّل إلى المبعوث إليه ، ومع إرادة الفعل والبعث إليه لا معنى لبعث إلزامي آخر إلى ترك تركه ، فلا غاية للإرادة التشريعية.

وقد تقدّم : أنّ القول بأنّ تعلّق الإرادة بالمقدّمة قهري لازمه تعلّقها بشيء بلا ملاك وهو ممتنع(17) ، ويجري مثله في المقام أيضاً .

فتلخّص : أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ولا الخاصّ ، من جهة مقدّمية الترك ، فتدبّر .

الوجه الثاني : الاستدلال على حرمة الضدّ من جهة الاستلزام :

وحاصل هذا الوجه امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم ; حيث إنّ عدم الضدّ لو لم يكن مقدّمة لوجود ضدّه فلا أقلّ من كونه ملازماً له ، وما شأنه هذا يمتنع أن يكون مباحاً إذا كان عدله واجباً .

وتوضيحه ببيان اُمور :

الأوّل : أنّ وجود كلّ من العينين مع عدم ضدّه متلازمان ; لأنّ وجود الضدّ يمتنع أن يتحقّق في موضوع تحقّق فيه الضدّ الآخر ; لمكان الضدّية ، فلابدّ أن  يتحقّق فيه عدمه لئلاّ يلزم ارتفاع النقيضين ، وحيث لايمكن الصدق الذاتي بين الوجود والعدم فلابدّ وأن يكون عرضياً بنحو التلازم في الصدق ، وهو المطلوب . فظهر أنّ وجود كلّ من الضدّين مع عدم الآخر متلازمان.

الثاني : أنّ المتلازمين محكومان بحكم واحد لا محالة ; لأنّ ترك الضدّ لو كان واجباً إذا كان الآخر واجباً فهو ، وإلاّ يلزم أن يكون جائز الترك ; لعدم خلوّ الواقعة عن الحكم ، وهذا الجواز مشترك بين غير الحرمة من الأحكام الباقية . وحينئذ إن بقي الآخر على وجوبه لزم التكليف بالمحال ، وإلاّ خرج الواجب المطلق من كونه واجباً مطلقاً .

الثالث : أنّ الأمر بالشيء مقتض للنهي عن ضدّه العامّ ، والمراد من الضدّ العامّ مطلق نقيض المأمور به ـ كما تقدّم ـ وهو هنا فعل الصلاة .

تزييف الوجه الثاني بعدم تمامية الاُمور المتوقّفة عليها:

والجواب عن الأوّل : ما حقّقناه(18)  من أنّ نقيض كلّ شيء رفعه ، لا إثبات هذا الرفع ، فنقيض قولنا «يصدق عليه السواد» هو أ نّه «لا يصدق عليه السواد» ، لا أ نّه يصدق عليه عدم السواد ، وكم فرق بين السالبة المحصّلة وبين الموجبة المعدولة ، أو الموجبة السالبة المحمول ! كما إذا قلت «يصدق عليه أ نّه ليس بسواد» .

والحاصل : أنّ نقيض صدق إحدى العينين على الاُخرى عدم صدقها عليها على نعت السلب التحصيلي لا الإيجاب العدولي ، وإلاّ لزم ارتفاع النقيضين ; لأنّ العين ـ أعني الموجبة المحصّلة ـ والنقيض المتخيّل ـ أعني الموجبة المعدولة  ـ كلتاهما كاذبتان ; إذ الموجبة المعدولة كالموجبة المحصّلة مفادها إثبات نعت لموضوع ، ويمتنع أن يكون العدم صادقاً على الوجود ومتلازماً له . كيف ، وأنّه لا  شيئية له حتّى يكون ملازماً لشيء .

أضف إليه : أنّ التلازم في الوجود يقتضي عروض الوجود للمتلازمين ، فيلزم اجتماع النقيضين . فالغلط ناش من عدم اعتبار الحيثيات وتقديم الحمل على السلب ، وعدم التفريق بين السوالب المحصّلة والموجبات المعدولة .

فإن قلت : يلزم منه بطلان الموجبة المعدولة ; إذ ما من معدولة إلاّ وفيها إثبات وصف عدمي لموضوع موجود ، فما معنى الاتّصاف بصفة هي بطلان محض ؟ وقس عليه إذا كان المحمول العدمي ملازماً معه .

قلت : إنّه يعتبر في المعدولات أن يكون للموضوعات شأنية واستعداد ، فتكون القضية المعدولة حاكية عن حيثية بها يكون للموضوع شأنية الاتّصاف وقوّة الفعلية ، ولهذا يصحّ قولك «زيد لا بصير» ، ولا يصحّ «الجدار لا بصير» . فليس الاعتبار في المعدولات إثبات أمر عدمي للموضوع ، بل الاعتبار فيها هو ثبوت شأنية للموضوع مع فقدان فعليتها ، فلا يلزم إثبات السلب كما توهّم .

وأمّا عن الثاني : فلأنّ عدم الخلوّ إنّما هو في الوقائع الثابتة التي يكون للأمر والزجر فيها معنى محصّل ، وأمّا العدم فهو أنزل من أن يلحق بالوقائع ; فإنّه بطلان محض ، ولذا لابدّ من تأويل المواضع التي توهّم تعلّق التكليف فيها بالترك ، كوجوب تروك الإحرام وتروك المفطرات .

على أنّ عدم خلوّ الواقعة عن حكم لم يدلّ عليه دليل ـ لو لم يدلّ على خلافه ـ إذ الإباحة المسبّبة عن اقتضاء التساوي إباحة شرعية وتعدّ من الأحكام .

 وأمّا إذا فرضنا عدم اقتضاء للواقعة أصلا فلابدّ وأن لا يكون لها حكم شرعي ; إذ جعل الإباحة بلا ملاك لغو ، فينطبق على الإباحة العقلية قهراً ، ويخلو عن الجواز الشرعي ، وليكن المقام من نظائره . هذا ، مع أ نّه لو سلّم ذلك لا يلزم ما ذكر ، كما لا يخفى .

 وأمّا عن الثالث : فقدّمنا الجواب عنه مفصّلا ، والخطب بعد سهل .

وقد يقال بعدم الاقتضاء في الأضداد الوجودية إلاّ في الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، كالحركة والسكون ; لأنّ عدم السكون وإن لم يكن عين الحركة إلاّ أنّ العرف لا يرى فرقاً بين أن يقول «تحرّك» وبين أن يقول «لا تسكن»(19) .

وفيه : أ نّه إن أراد أنّ مفاد الأمر عين مفاد النهي فهو أمر غريب ; إذ أيّ شخص لا يفرّق بين المفادين ؟ وأيّ متسامح يرى أنّ الحيثية الوجودية عين العدمية ؟

وإن أراد أ نّه ينتقل من الأمر إلى النهي عن الضدّ ففيه : أنّ مجرّد الانتقال الذي ليس إلاّ صرف تصوّر الشيء لا يوجب كون السكون منهياً عنه ; إذ هو يحتاج إلى إنشاء الزجر ، وهو مترتّب على مقدّمات لا تحصل بالتصوّر .

وإن أراد أنّ المولى ينتقل بعد الأمر إلى حالة اُخرى ، فيستقلّ بإنشاء الزجر فهو أوضح فساداً .

واعلم : أنّ الدليلين المتقدّمين إنّما يعدّان دليلين مستقلّين إذا قلنا بوجوب مطلق المقدّمة ، وأمّا على القول بوجوب الموصلة منها فالدليل الثاني ـ أعني اتّحاد المتلازمين في الحكم ـ من متمّمات الدليل الأوّل .

وقد عرفت أنّ الدليل الأوّل مؤلّف من مقدّمات ثلاث : اُولاها مقدّمية ترك الضدّ لفعل الضدّ الآخر ، وثانيتها كون مقدّمة الواجب واجبة ، وثالثتها أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ .

فعلى وجوب مطلق المقدّمة فالواجب من باب المقدّمة هو ترك الصلاة ، وضدّه العامّ بالمعنى الذي عرفت(20)  هو فعلها ، فيتمّ الاستدلال ; لأنّ ترك الصلاة واجب بملاك المقدّمية ، ومهما وجب شيء حرم ضدّه ، كالصلاة في المورد .

وأمّا على القول بوجوب الموصلة فالمأمور به هو الترك المقيّد بالإيصال ، وليس نقيضه إلاّ رفع هذا الترك أو ترك هذا الترك ، فإذا وجب الترك الموصل حرم رفع هذا الترك الموصل ، وهو ليس عين فعل الصلاة ، بل يلازمها إذا تحقّق في ضمنها ، لا في ضمن الترك المجرّد ، فلا يلزم حرمة الفعل إلاّ مع تمامية دليل الاستلزام ; فإذن يتّحد الدليلان ويتوحّد الاثنان .

الأمر الرابع : في بيان ثمرة البحث:

وهي فساد العبادة على القول باقتضاء الأمر النهي عن ضدّه ; إذ النهي فيها يوجب الفساد .

ولك إنكارها ; إذ المسلّم من فساد العبادة عند تعلّق النهي ما إذا كان المنهي عنه مشتملا على مفسدة لا يصلح معها أن يتقرّب بها ، كصلاة الحائض ; فإنّ النهي فيها للإرشاد إلى عدم الصحّة ، أو كان الإتيان بمتعلّق النهي مخالفة للمولى ومبعّداً عن ساحته ، كما في النواهي المولوية ، فلا يكون مقرّباً .

وليس النهي في المقام من قبيل شيء من القسمين ; إذ النهي في المقام لا يكشف عن مفسدة ، بل العقل يحكم بتحقّق المصلحة الملزمة في الضدّ المزاحم ; لعدم المزاحمة بين المقتضيات ، كما أنّ مخالفة النهي المقدّمي ـ كالأمر المقدّمي ـ لا يوجب البعد عن ساحة المولى ، كما لا يوجب القرب منه ، فالبحث إذن عادم الثمرة .

مقالة شيخنا البهائي في إنكار الثمرة وما اُجيب عنها:

وأنكر شيخنا البهائي ثمرة البحث بطريق آخر ; وهو أنّ الأمر بالشيء وإن لم يقتض النهي عن ضدّه إلاّ أ نّه يقتضي عدم الأمر به ، وهو كاف في بطلان العبادة(21) .

واُجيب عنه بوجوه :

كفاية الرجحان الذاتي في العبادة:

الأوّل : كفاية الرجحان الذاتي في العبادة ; إذ الفرد المزاحم من الصلاة وغيره متساويان في الملاك والمحبوبية الذاتية ، وإنّما أوجب الابتلاء بالأهمّ سقوط أمره فقط ، فهو باق بعد على ما كان عليه(22) .

تصحيح الأمر بالمهمّ بالأمر المتعلّق بالطبيعة:

الثاني : أنّ ذلك يتمّ في المضيّقين ،  وأمّا إذا كان أحدهما موسّعاً فصحّة الفرد المزاحم من الصلاة بمكان من الإمكان ; وإن قلنا بتوقّف الصحّة على الأمر .

توضيحه : أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع ، والخصوصيات الفردية خارجة منها ; إذ الأمر لايتعلّق إلاّ بما يقوم به الغرض ، وهو ليس إلاّ نفس الطبيعة بوجودها الساري ، ولا دخل لغيرها في حصول الغرض ; فلا يتصوّر أخذه فيه مع عدم دخله في الغرض على الفرض ، ولا يتعدّد الأمر المتعلّق بالواجب الموسّع باعتبار أوّل الوقت وآخره ; إذ الزمان اُخذ بنحو الظرفية للمأمور به .

نعم ، في آخر الوقت وانحصار الفرد يحكم العقل بإيجادها فوراً في ضمن ذلك الفرد المنحصر ، من غير تغيير في ناحية الأمر .

وبالجملة : ما هو المضادّ للمأمور به ـ الذي هو الإزالة ـ هو المصداق من الصلاة لا الطبيعة ، وما هو المأمور به هي الطبيعة لا المصداق . هذا من غير فرق بين الأفراد الطولية والعرضية .

وحينئذ بما أنّ للطبيعة أفراداً غير مزاحمة ـ وإن كان هذا الفرد مزاحماً ـ وبما أنّ القدرة على إيجاد الطبيعة ـ ولو في ضمن فرد ما ـ كافية في تعلّق الأمر بها ; لخروجه عن التكليف بما لا يطاق ، فحينئذ يجوز الإتيان به بداعي الأمر المتعلّق بالطبيعة ، ولا يحتاج خصوص الفرد إلى الأمر ; لما عرفت أنّ متعلّق الأوامر هي الطبائع ; حتّى يقال : إنّه بعد الأمر بالإزالة لايمكن الأمر بذاك الفرد المزاحم ; لاستلزامه الأمر بالضدّين .

هـذا كلّه فيما إذا كـان وقت الفرد المزاحـم موسّعاً ، كإتيان الصلاة أثناء النهار وقـد كلّف بالإزالـة ، وقـد عرفت صحّـة الأمـر بالطبيعـة وإتيان الفرد بـداعي أمرها .

فظهر : أنّ نفي الثمرة في الباب ـ بناءً على توقّف صحّة العبادة على الأمر ـ لا يستقيم على إطلاقه ، بل يختصّ بالمضيّقين دون الموسّع والمضيّق .

نعم ، لو قلنا إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه كان ذلك الفرد من الصلاة المزاحم للإزالة منهياً عنه ، وبعد تعلّق النهي لايمكن الإتيان بداعي أمر نفسه ; لعدم الأمر به بالخصوص ، ولا بداعي الطبيعة ; إذ يقيّد إطلاق الأمر بالنهي المفروض ، فلا يمكن انطباق الطبيعة على الفرد المزاحم ; ولو قهرياً .

ويمكن إجراء هذا التقريب فيما إذا صار وقت الصلاة مضيّقاً ; لأنّ الأمر لا يتجافى عن متعلّقه بصيرورة الوقت مضيّقاً .

نعم ، في آخر الوقت ـ كما تقدّم ـ يحكم العقل بإيجادها فوراً ، من غير تغيير في ناحية الأمر ، فيمكن قصد الأمر المتعلّق بالطبيعة مع الإتيان بالفرد المنحصر في الوقت المضيّق ; ولو زاحم الضدّ الأهمّ .

هذا غاية توضيح وتوجيه لما حكي عن المحقّق الكركي(23) ، وهو بكلامه هذا وإن لم يكن بصدد الجواب عن مقالة البهائي ; لتقدّم عصر المحقّق ـ قدس سره ـ عليه ، إلاّ أنّ عبارته المحكية ممّا يمكن أن يستفاد منه ما يصلح جواباً لمقالته .

ولك أن تقول : إنّ ملاك استحالة الأمر بالضدّين موجود مع تضيّق الوقت أو انحصار الفرد أو كون الأفراد طولية ، كما إذا كان وقت الصلاة وسيعاً ; فإنّ معنى تعلّق الأمر بالطبيعة هو البعث إلى إيجادها . فمع كون الوقت مضيّقاً إن كان البعث إلى إيجاد الطبيعة فعلياً وإلى ضدّه كذلك لزم منه التكليف بالمحال ; فإنّ إيجاد الطبيعة وضدّ مصداقها ممّا لايمكن في الوقت المضيّق .

وكـذا الحال مـع انحصار المصداق ، بل مـع كون الأفراد طوليـة ، فإنّ فعلية الأمـر بالطبيعـة في وقت يكون الفرد فيه مبتلى بالضدّ الـواجب الفعلي ممّا لا  يمكن تحقّقه ، وصرف كون الأمر متعلّقاً بالطبيعة وعدم التنافي بينها وبين الواجب المضيّق لا يدفع الاستحالة ، بعد كون لازمه التكليف بالمحال ، إلاّ أن يصار إلى ما سنحقّقه إن شاء الله .

تصوير الأمر بالأهمّ والمهمّ بلا تشبث بالترتب

الثالث : ما حقّقناه في هذا الباب وبنينا عليه واستفدنا منه في أبواب اُخر ، سيوافيك ـ بإذن الله ـ وملخّصه : هو تصوير الأمر بالأهمّ والمهمّ في عرض واحد ، بلا تقييد واحد منهما بالعصيان ، كما عليه القوم في تصوير الأمر بالمهمّ ; حيث يقولون : إنّ الأمر به مترتّب على عصيان أمر الأهمّ ، على تفصيل سيمرّ بك بيانه وبيان بطلانه(24) . ثمّ إنّ توضيح المختار يستدعي رسم مقدّمات :

المقدّمة الاُولى :

التحقيق ـ كما سيأتي(25) ـ أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع ; لأنّ الغرض قائم بنفس الطبيعة ; بأيّ خصوصية تشخّصت وفي ضمن أيّ فرد تحقّقت ، فلا معنى لإدخال أيّة خصوصية تحت الأمر بعد عدم دخالتها في الغرض . على أنّ الهيئة تدلّ على البعث والمادّة على الماهية اللابشرط ، فلا دالّ على الخصوصيات .

المقدّمة الثانية :

أنّ الإطلاق ـ بعد فرض تمامية مقدّماته ـ ليس معناه إلاّ كون الطبيعة تمام الموضوع للحكم بلا دخالة شيء آخر ، أو ليس إلاّ أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع له ; هذا ليشمل ما إذا كان الموضوع جزئياً .

 وأمّا جعل الطبيعة مرآة لمصاديقها أو جعل الموضوع مرآة لحالاته فخارج من معنى الإطلاق وداخل تحت العموم ; أفرادياً أو أحوالياً .

وبالجملة : فرق بين قولنا «اعتق رقبة» وبين قولنا «اعتق كلّ رقبة» ; إذ الأوّل مطلق ; بمعنى أنّ تمام الموضوع هو الرقبة ليس غير ، والثاني عموم ويدلّ على وضع الحكم على الأفراد بتوسيط العنوان الإجمالي الذي لوحظ مرآة إليها .

وسيجـيء فـي بابـه : أنّ العمـوم لا يستغنى بـه عـن الإطـلاق الأحـوالي للأفراد ; لأنّ غاية ما يدلّ عليه العموم هو كون الأفراد محكوماً بالحكم ،  وأمّا أنّ  كلّ فرد تمام الموضوع للحكم بلا دخالة وصف آخر فلابدّ فيه من التمسّك بالإطلاق .

وبه يظهر : أنّ الغاية من الإطلاق غير الغاية من العموم ، وأنّ تقسيم الإطلاق إلى الشمولي والبدلي وغيرهما فاسد جدّاً ; إذ ليس للإطلاق تعرّض لحيثية سوى كون ما اُخذ موضوعاً تمام الموضوع ،  وأمّا كون الحكم متعلّقاً بالفرد على البدل أو لكلّ فرد أو للمجموع فلابدّ في استفادة كلّ من ذلك من التمسّك بدوالّ لفظية ; من لفظ «كلّ» أو «اللام» أو «بعض» أو غيرها .

والسرّ في ذلك : أنّ الطبيعة لايمكن أن تكون حاكية عن الأفراد ; وإن كانت متّحدة معها خارجاً ، بخلاف العموم ; فإنّ أداته وضعت لاستغراق أفراد المدخول ، فيتعلّق الحكم فيه بالأفراد المحكية بعنواني الكلّ والجميع .

 وأمّا ما عن بعضهم في تصوير كون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً من أنّ الطبيعة إذا لوحظت سارية في أفرادها تتّحد معها وتحكي عنها(26) ، مخدوش بأنّ الاتّحاد غير الحكاية التي تدور مدار الوضع والاعتبار ، والمفروض أنّ الملحوظ عند وضع الإنسان ـ مثلا ـ نفس الماهية اللابشرطية ، فكيف يحكي هذا اللفظ عن الخصوصيات مع عدم وضع لها ؟

ولو كان الاتّحاد العيني كافياً في الحكاية لزم أن يحكي الجسم عن أعراضه . نعم الاتّحاد وجوداً يوجب الانتقال إلى الخصوصية وهو غير الحكاية ، كما ينتقل

من تصوّر أحد الضدّين إلى الآخر ، بل هو من باب تداعي المعاني الذي منشؤه غالباً الموافاة الوجودية أو المطاردة في الموضوع . هذا قليل من كثير ، وغيض من غدير ، وسيجيء تفصيل الكلام في محلّه .

المقدّمة الثالثة :

أنّك قد عرفت(27)  أنّ الأوامـر المتعلّقة بالطبائع لا تعرّض لها على أحوال الطبيعـة وأفرادها ، ومنه يظهر : أنّ التزاحمات الواقعة في الخارج بين أفراد الطبائع بالعرض غير ملحوظة في تلك الأدلّة ; لأنّ الحكم مجعول على العناوين الكلّية ، وهو مقدّم على التزاحم الواقع بين الأفراد برتبتين : رتبة تعلّق الحكم بالعناوين ، ورتبة فرض ابتلاء المكلّف بالواقعة ، وما له هذا الشأن من التقدّم لا يتعرّض لحال ما يتأخّر عنه برتبتين .

والحاصل : أنّ التزاحم بين وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ووجوب الصلاة ـ حيث يتحقّق ـ متأخّر عن تعلّق الحكم بموضوعاتها وعن ابتلاء المكلّف بالواقعة المتزاحم فيها ، ولايكون الأدلّة متعرّضة لحاله ; فضلا عن التعرّض لعلاجـه ; إذ قد تقدّم أنّ المطلق لايكون ناظراً إلى حالات الموضوع في نفسه ; فضلا عن حالاته مع غيره ، وعن طروّ المزاحمة بينهما ; فضلا عن أن يكون ناظراً إلى علاج المزاحمة .

هب أ نّا أغمضنا عن أنّ علاج المزاحمة متأخّر رتبة عن جعل القانون بمراتب ، إلاّ أ نّه لايمكن الإغماض عن أنّ الأمر له مادّة وهيئة ، ولا دلالة لشيء

منهما على الأفراد الخارجية ـ على ما حرّر في محلّه ـ فإذن بأيّ دالّ استفيد الفرد المزاحم بغيره ؟ أم بأيّ شيء عولج ذلك التزاحم ؟ مع أنّ كلّها خارجة من مدلول الأمر ، ولا يمكنه أن يتكفّلها بعد كون معناه محدوداً في البعث إلى الطبيعة .

فاتّضح : بطلان اشتراط المهمّ بعصيان الأهمّ الذي يبتنى عليه أساس الترتّب ; لأنّ المراد من الشرطية إن كان أ نّه شرط شرعاً فقد عرفت أ نّه لايمكن أن يكون مفاد الأدلّة ; لأنّ الحاكم في مقام إلقاء الحكم لا يتوجّه إلاّ إلى إنشائه لا إلى تصحيح علاج المزاحمة ; لأ نّه متأخّر عنه ، كما تقدّم . على أ نّك قد عرفت انحصار مفاد الأمر فيما مرّ .

 وأمّا كـون العقل كاشفاً عـن اشتراطـه شرعاً أو كونـه حاكماً بذلك فسيجيء الكلام فيه .

المقدّمة الرابعة :

أنّك إذا تتبّعت كلمات الأعلام في تقسيم الحكم إلى مراتبه الأربعة(28)  تجد فيها ما لا يمكن الموافقة معه ; إذ قد عدّوا منها ما هو من مبادئ الحكم وملاكاته ، كالمصالح والمفاسد التي يعبّر عنها بمرتبة الاقتضاء ، كما قد عدّوا منها ما هو من أحكام العقل بعد تمامية الحكم ـ أعني التنجيز ـ لأ نّه حكم عقلي غير مربوط بمراتب الأحكام المجعولة ، ومعنى تنجّزه قطع عذر المكلّف في المخالفة وعدم كونه معذوراً ، من غير تبديل وتغيير في الحكم ولا الإرادة .

وأعجب منه : كون حكم فعلياً في ساعة وإنشائياً في اُخرى ، وفعلياً في

حـقّ شخص وإنشائياً في حـقّ آخـر ، إلى غير ذلك ممّا يدمغه البرهان وحكم العقل بامتناع تغيّر الإرادة في حـقّ الشارع ، بل ولا يناسبه القوانين العقلائية ; عالميـة كانت أو غيرها .

فإذا انحصر مراتب الحكم في الإنشائية والفعلية فلابدّ من توضيحهما ، فنقول : الناموس المطّرد في قوانين العالم هو أنّ الحاكم بعد ما تصوّر صلاح شيء وفساده وجزم أنّ في جعل حكم له صلاحاً لحال أتباعه يتعلّق الإرادة على إنشائه بصورة قانون كلّي لعامّة البشر أو لجماعة منهم ، فينشئه حكماً عمومياً جاعلا له في مظانّه التي يطلبه فيها المراجعون ، ويرجع إليها في استعلام الوظيفة المكلّفون .

ولا يتفاوت فيما ذكرنا كون الحاكم شخصاً واحداً أو أشخاصاً متعدّدين ، غير أنّ الحكم في الثاني يدور مدار غالبية الآراء وأكثريتها .

ثمّ إنّ للمحيط وحال المكلّفين دخلا تامّاً في إجراء الحكم وإعلانه ; فإن ساعدت الأحوال ووجدت شرائط الإجراء يأمر الحاكم بإعلانه وإيصاله إلى المكلّفين ، وإلاّ فيترقّب تناسب المحيط واستعداد الناس بقبوله ، ويترك هـو في سنبله الإنشائي .

والذي نسمّيه حكماً إنشائياً أو شأنياً هو ما حاز مرتبة الإنشاء والجعل ; سواء لم يعلن بينهم أصلا حتّى يأخذه الناس ويتمّ عليهم الحجّة ; لمصالح في إخفائها ، كالأحكام التي بقيت مخزونة لدى ولي العصر ـ عجّل الله تعالى فرجه  ـ ويكون وقت إجرائها زمان ظهوره ; لمصالح تقتضي العناية الإلهية ، كنجاسة بعض الطوائف المنتحلة بالإسلام وكفرهم ، فهو حكم إنشائي في زماننا ، وإذا بلغ وقت إجرائه يصير فعلياً .

أو أعلن بينهم ، ولكن بصورة العموم والإطلاق ; ليلحقه التقييد والتخصيص بعد بدليل آخر ، كالأحكام الكلّية التي تنشأ على الموضوعات ، ولا تبقى على ما هي عليها في مقام الإجراء .

فالمطلقات والعمومات قبل ورود المقيّدات والمخصّصات أحكام إنشائية بالنسبة إلى موارد التقييد والتخصيص ; وإن كانت فعليات في غير هذه الموارد . والذي نسمّيه حكماً فعلياً هو ما حاز مرتبة الإعلان ، وتمّ بيانه من قبل المولى بإيراد مخصّصاته ومقيّداته ، وآن وقت إجرائه وحان موقع عمله .

فحينئذ ; فقوله تعالى : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] بهذا العموم حكم إنشائي ، وما بقي بعد التقييد أو التخصيص حكم فعلي . هذا هـو المختار في معنى إنشائيـة الحكم وفعليته .

فتلخّص : أنّ الأحكام منقسمة إلى حكم إنشائي ; وهو مالم ير الحاكم صلاحاً في إجرائه ; وإن كان نفس الحكم ذا صلاح ، كالأحكام المودوعة عند صاحب الأمر الواصلة إليه من آبائه ـ عليهم السَّلام ـ  ، أو يرى صلاحاً في إجرائه ، ولكن أنشأ بصورة العموم والإطلاق ; ليلحق به خصوصه وقيده ، هو نفسه أو وصي بعده ، وإلى حكم فعلي قد بيّن وأوضح بخصوصه وقيوده ، وآن وقت إجرائه وانفاذه .

وعليه : إذا فرضنا حصول عائق عن وصول الحكم إلى المكلّف ـ وإن كان قاصراً عن إزاحة علّته ـ أو عروض مانع ، كالعجز والاضطرار عن القيام بمقتضى التكليف لا يوجب ذلك سقوط الحكم عن فعليته ول يمسّ بكرامتها ولا يسترجعه إلى ورائه ، فيعود إنشائياً ; لأنّ ذلك أشبه شيء بالقول بانقباض إرادة المولى عند طروّ العذر وانبساطها عند ارتفاعه .

والسرّ في ذلك : أنّ غاية ما يحكم به العقل هو أنّ المكلّف إذا طرء عليه العذر أو دام عذره وجهله لا يكون مستحقّاً للعقاب ، بل يخرج من زمرة الطاغين وعداد المخالفين ; لعدم المخالفة عن عمد ،  وأمّا كونه خارجاً من موضوع التكليف ; بحيث تختصّ فعلية الحكم بغير الجهّال وذوي الأعذار فلا وجه له ، وسيأتي أنّ الخطابات القانونية ليست مثل الخطابات الشخصية ; فإنّ الثانية لا يجوز توجيهها لغير القادر ، بل يقبح خطاب العاجز بشخصه دون الاُولى . فحينئذ فلا وقع للسؤال عن أنّ إسراء الحكم إلى العاجز والجاهل إسراء بلا ملاك ، فارتقب .

وبذلك يتّضح : أنّ الفعلية والشأنية بالمعنى المعروف ـ من إنشائية الحكم بالنسبة إلى شخص كالجاهل والغافل والساهي والعاجز ، وفعليته بالنسبة إلى مقابلاتها  ـ ممّا لا أساس له ; لأنّ الاشتراط الشرعي في بعضها غير معقول ، مع عدم الدليل عليه في جميعها . والتصرّف العقلي أيضاً غير معقول ; لعدم إمكان تصرّف العقل في إرادة الشارع ولا في حكمه ، وسيأتي توضيحه .

وبالجملة : أنّ الأحكام المضبوطة في الكتاب والسنّة لا يعقل فيها هاتان المرتبتان بالمعنى الدائر بينهم ، فقوله تعالى : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [آل عمران: 97]  إلى آخره لا يختلف بالنسبة إلى الجاهل والعالم ، ولا معنى للفعلية والشأنيـة في هـذا الحكم المجعول المنضبط ، بل جعل الحكم على العنوان وإجـراؤه بين المكلّفين عند ذكـر مخصّصاته ومقيّداتـه يوجب فعلية الحكم على عامّـة الناس ; سواء العالم والجاهل والقادر والعاجز ، وقد عرفت أنّ العقل يرفع حكم العقاب لا نفس التكليف .

المقدّمة الخامسة :

كلّ حكم كلّي قانوني فهو خطاب واحد متعلّق لعامّة المكلّفين ، بلا تعدّد ولا تكثّر في ناحية الخطاب ، بل التعدّد والكثرة في ناحية المتعلّق .

ويشهد عليه وجدان الشخص في خطاباته ; فإنّ الشخص إذا دعا قومه لإنجاز عمل أو رفع بلية فهو بخطاب واحد يدعو الجميع إلى ما رامه ، لا أ نّه يدعو كلّ واحد بخطاب مستقلّ ; ولو انحلالا ; للغوية ذلك بعد كفاية الخطاب الواحد بلا تشبّث بالانحلال .

وما اشتهر من انحلال الخطاب الواحد إلى الخطابات حسب عدد المكلّفين غير تامّ ; لأنّ ملاك الانحلال في الإخبار والإنشاء واحد ، فلو قلنا بالانحلال في الثاني لزم القول به في الأوّل أيضاً ، مع أ نّهم لا يلتزمون به ، وإلاّ يلزم أن يكون الخبر الواحد الكاذب أكاذيب في متن الواقع .

وعليه : لو قال قائل بأنّ النار باردة فقد كذب بعدّة أفراد النار ، وهو رأي عازب أو قول كاذب ، لا يلتزم به ذو مسكة .

فتحصّل ممّا ذكر : أ نّه لا ينحلّ الخطاب إلى خطابات ; بحيث يكون كلّ واحد مورداً لخطاب خاصّ .

 وأمّا الميزان في صحّة الخطاب الكلّي فهو إمكان انبعاث عدّة من المخاطبين بهذا الخطاب ، لا انبعاث كلّ واحد منهم ; لبطلان القول بالانحلال .

والسرّ في ذلك : أنّ أمر الآمر إذا كان لداعي الانبعاث ـ وإن كان الانبعاث مستنداً لمبادئ آخر ; من الخوف والطمع أيضاً ـ يصحّ الخطاب به مولوياً عند العقلاء لو قام بامتثاله طائفة من المأمورين ، كما يستهجن لو علم الآمر عدم انبعاث واحد منهم .

ثمّ إنّ الخلط بين الأحكام الجزئية والكلّية صار منشأً لاشتباهات :

منها : حكمهم بعدم منجّزية العلم الإجمالي إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء ; لأنّ الخطاب بالنسبة إليه مستهجن(29) .

قلت : إنّ ما ذكـروه صحيح لو كان الخطاب شخصياً قائماً بمخاطب واحـد ،  فيستهجن خطابه بزجـره مثلا عن ارتكاب ما في الإناء الموجـود في بلدة قاصيـة ،  وأمّا إذا كان بطريق العموم فيصحّ الخطاب لعامّـة المكلّفين لو وجـد ملاك الخطاب ـ  أعني الابتلاء ـ في عدّة منهم ـ كما في المقام ـ ولذا التزمنا بوجـوب الاجتناب في محلّه فيما إذا خرج أحد الإنائين من محلّ الابتلاء ; سواء كان قبل العلم أم بعده .

وممّا يؤيّد ذلك : أنّ الاستهجان المدّعى لو صحّ في التكليفية لصحّ في الوضعية من الأحكام ; خصوصاً على القول بمجعوليتها ; فيلزم أن لا يكون الخمر الواقع في أقاصي البلاد نجساً ، وأن يكون الأحكام الوضعية نسبية ، وهو باطل بضرورة الفقه .

ومنها : توهّم أنّ الخطاب لا يعقل أن يتوجّه إلى العاجز والغافل ; ضرورة أنّ الخطاب للانبعاث ، ولا يعقل انبعاث العاجز ومثله(30) .

وأنت خبير : أنّ الخطاب الشخصي إلى العاجز ومثله لغو ممتنع صدوره من

الملتفت ، وهذا بخلاف الخطابات الكلّية المتوجّهة إلى العناوين كـ «الناس» و«المؤمنين» ; فإنّ مثل تلك الخطابات يصحّ من غير استهجان إذا كان فيهم من ينبعث عنها ، ولا يلزم أن تكون باعثة أو ممكنة البعث بالنسبة إلى جميعها في رفع الاستهجان ، كما تقدّم .

أضف إليه : أنّ الضرورة قائمة بأنّ الأوامر الإلهية شاملة للعصاة لا بعنوانهم ، والمحقّقون على أنّها شاملة أيضاً للكفّار ، مع أنّ الخطاب الخصوصي إلى الكفّار  وكذا إلى العصاة المعلوم طغيانهم من أقبح المستهجنات ، بل غير ممكن لغرض الانبعاث ، فلو كان حكم الخطاب العامّ كالجزئي لوجب الالتزام بتقييد الخطابات بغيرهم .

وكذا الحال في الجاهل والغافل والساهي ; إذ لا يعقل تخصيص الخطاب في مرتبة الإنشاء بالعالم الملتفت ; وإن كان يصحّ في مرتبة الفعلية ، كما سيأتي في المباحث العقلية .

وبالجملة : لا يصحّ إخراجهم ولايمكن توجّه الخطاب الخصوصي إليهم ، وقد تقدّم أنّ الجاهل وأمثاله معذورون في مخالفة الحكم الفعلي .

والسرّ فيما ذكرنا ـ مضافاً إلى أنّ الخطاب الواحد لا ينحلّ إلى خطابات ـ هو أنّ الإرادة التشريعية ليست إرادة متعلّقة بإتيان المكلّف وانبعاثه نحو العمل ، وإلاّ يلزم في الإرادة الإلهية عدم تفكيكها عنه وعدم إمكان العصيان ، بل هي عبارة عن إرادة التقنين والجعل على نحو العموم ، وفي مثله يراعى الصحّة العقلائية ، ومعلوم أ نّه لا تتوقّف عندهم على صحّة الانبعاث من كلّ أحد ، كما يظهر بالتأمّل في القوانين العرفية .

المقدّمة السادسة :

أنّ الأحكام الشرعية غير مقيّدة بالقدرة ـ لا شرعاً ولا عقلا ـ وإن كان حكم العقل بالإطاعة والعصيان في صورة القدرة .

توضيحه : أنّ الأحكام الشرعية الكلّية عارية بحكم الإطلاق عن التقييد بالقدرة ، فتشمل الجاهل والعاجز بإطلاقها .

وتوهّم : أنّ الإرادة الاستعمالية وإن تعلّقت بالمطلق إلاّ أنّ الجدّية متعلّقة بالمقيّدة بالقدرة ، مدفوع بأنّ التقييد إمّا من جانب الشرع أو من ناحية العقل ، وكلاهما فاسدان :

أ مّا الأوّل : فلأنّه لو كانت مقيّدة بها من الشرع لزم القول بجريان البراءة عند الشكّ في القدرة ، وهم لا يلتزمون به بل قائلون بالاحتياط مع الشكّ فيها ، ولزم أيضاً جواز إحداث ما يعذّر به اختياراً ، ولا أظنّ التزامهم به .

ومنه يعلم : عدم كشف التقييد الشرعي عقلا ، على أنّ ذلك لا يجامع ما أجمعوا عليه من بطلان اختصاص الأحكام بالعالمين ; لأنّ التفكيك بين العلم والقدرة غير واضح ; إذ لو كشف العقل عن التقييد بالقدرة شرعاً فلابدّ وأن يكشف عن التقييد بالعلم أيضاً ; لأنّ مناط التقييد واحد ; وهو قبح خطاب العاجز والجاهل .

 وأمّا الثاني ـ أعني تقييد العقل مستقلاّ ـ فلأنّ تصرّف العقل بالتقييد في حكم الغير وإرادتـه مع كـون المشرّع غيره باطل ; إذ لا معنى أن يتصرّف شخص في حكم غيره .

والحاصل : أنّ تصرّفـه في الأدلّـة لا يرجـع إلى محصّل ، بل تصرّف العقل في إرادة المولى أو جعله لا معنى معقول له ; إذ التقييد والتصـرّف لايمكن إلاّ للجاعل لا لغيره .

نعم ، يخصّ للعقل حكم مقام الإطاعة والعصيان ، وتشخيص أنّ مخالفة الحكم في أيّ مورد توجب استحقاق العقوبة وفي أيّ مورد لا توجبه ، وليس للعقل إلاّ الحكم بأنّ الجاهل والعاجز ونظيرهما معذورون في ترك الواجب أو إتيان الحرام ، من غير تصرّف في الدليل .

فظهر : أنّ ما يطلب من العقل لإنقاذ الجهّال والعجزة عن لهيب النار يحصل بحكمه بأنّ هؤلاء معذورون في ترك الامتثال ، ولا حاجة معه إلى التقييد ، لو لم نقل إنّه محال . والذي أوقعهم فيه هو توهّم قبح الخطاب إليهم ; غافلا عن أنّ الملاك في الأحكام الكلّية غير الجزئية والشخصية ، كما نبّهنا عليه .

فإن قلت : لا بأس في خطاب العاصي بشخصه ، لكن لا بداعي الانبعاث عن البعث ، بل بداعي إتمام الحجّة عليه ; ليهلك من هلك عن بيّنة .

قلت : ما هو موضوع الاحتجاج من الموالي على العبيد هو صدور البعث عنهم بداعي انبعاثهم ،  وأمّا البعث لا بهذا الداعي فليس العقل حاكماً بلزوم امتثاله ، كما لو فرضنا أنّ العبد اطّلع على أنّ داعيه هو الامتحان وكشف الحال .

المقدّمة السابعة :

أنّ الأمر بكلّ من الضدّين أمر بالمقدور الممكن ، والذي يكون غير مقدور هو جمع المكلّف بين متعلّقيهما في الإتيان ، وهو غير متعلّق للتكليف .

وتوضيحه : أ نّه إذا قامت الحجّة في أوّل الزوال على وجوب الصلاة ، وقامت حجّة اُخرى على وجوب الإزالة عن المسجد فكلّ واحد حجّة في مفاده مستقلاّ لا في الجمع بينهما ، وليس قيام الحجّتين على الضدّين إلاّ كقيامهما على الأمرين المتوافقين غير المتزاحمين في أنّ كلّ واحد حجّة في مفاده لا في الجمع بينهما ، وكلّ واحد يدعو إلى إتيان متعلّقه لا إلى الجمع .

والذي صدر من الآمر على نحو القانون هو الأمر بهذا والبعث إلى آخر ، ومجموع الأمرين ليس موجوداً على حدة ، والأمر بالجميع أو المجموع غير صادر من المولى ، وقد تقدّم أنّ الأمر لا يتعلّق إلاّ بنفس الطبائع المطلقة ، من غير نظر إلى الخصوصيات والحالات الطارئة وجهات التزاحم وعلاجه ، ومعنى إطلاقها أنّ المتعلّق تمام الموضوع بلا دخالة قيد ; لا أنّ معناه أ نّه المطلوب ; سواء اجتمع مع هذا أم لا ; إذ كلّ ذلك خارج من محطّ الإطلاق .

وقد نبّهنا فلا تنس : أنّ توارد الأمرين على موضوعين متضادّين ، مع أنّ الوقت الواحد غير واف إلاّ بواحد منهما إنّما يقبح لو كان الخطابان شخصيين ،  وأمّا الخطاب القانوني الذي يختلف فيه حالات الأشخاص ; فربّ مكلّف لا يصادف أوّل الزوال إلاّ موضوعاً واحداً ; وهو الصلاة ، وربّما يصادف موضوعين ، فيصحّ توارد الأمرين على عامّة المكلّفين ومنهم الشخص الواقف أمام المتزاحمين ، ولا يستهجن .

والذي يحكم به العقل هو أنّ العبد لابدّ أن يتمحّل لإجابة الأمرين على نحو لو خالف واحداً منهما لعدم سعة الوقت لعدّ معذوراً .

إذا عرفت هذه المقدّمات فنقول : إنّ متعلّقي التكليفين قد يكونان متساويين في الجهة والمصلحة ، وقد يكون أحدهما أهمّ :

فعلى الأوّل : لا إشكال في حكم العقل بالتخيير ; بمعنى أنّ العقل يرى أنّ المكلّف مخيّر في إتيان أيّهما شاء ، فإذا اشتغل بأحدهما يكون في مخالفة الأمر الآخر معذوراً عقلا ، من غير أن يكون تقييداً واشتراطاً في التكليف والمكلّف به .

ومع عدم اشتغاله بذلك لا يكون معذوراً في ترك واحد منهما ; فإنّه قادر بإتيان كلّ واحد منهما . فترك كلّ واحد يكون بلا عذر ; فإنّ العذر عدم القدرة ، والفرض أ نّه قادر بكلّ منهما ، وإنّما يصير عاجزاً إذا اشتغل بإتيان أحدهما ، ومعه يعدّ معذوراً في ترك الآخر .  وأمّا مع عدم اشتغاله به فليكون معذوراً في ترك شيء منهما ، وليس الجمع بمكلّف به حتّى يقال : إنّه غير قادر عليه .

وبعبارة أوضح : أنّ العبد لو سمع دعوة العقل بصرف القدرة في واحد من الغريقين وأنقذ واحداً منهما فقد عجز عن إنقاذ الآخر بلا اختيار فيقبح العقاب على ترك هذا الأمر الفعلي الجدّي ، فيثاب لأجل إنقاذ الآخر . وإن تخلّف عن حكم العقل ولم ينقذ واحداً منهما استحقّ عقوبتين ; لأنّه ترك كلّ واحد من الأمرين بلا عذر ، ويقال : لِمَ تركت هذا بلا عذر ؟ ثمّ لِمَ تركت الآخر كذلك ؟

فإن قلت : ليس هنا إلاّ قدرة واحدة وهو يستدعي تكليفاً واحداً ، وجزاء مخالفة التكليف الواحد عقاب فارد .

قلت : كأنّك نسيت ما حرّرناه في المقدّمات ; لأنّ البحث في الأحكام القانونية والتكليف فيها لم يتعلّق بالفرد المردّد ولا بالجمع حتّى يستلزم التكليف بالمحال ، والمفروض أنّ كلّ واحد من الأمرين تامّ في الباعثية ، وليس ناظراً إلى حال اجتماعه مع الآخر ; لما عرفت أنّ التزاحم وعلاجه متأخّران عن رتبة الجعل والفعلية .

فحينئذ : كلّ واحد يقتضي تحقّق متعلّقه وإيجاده في الخارج ، إلاّ أن يظهر من العبد عذر في ترك امتثاله ، فإذا صرف قدرته في واحد منهما فقد حقّق دعوته بالامتثال وترك دعوة الآخر عن عذر ، وأمّا إذا لم يصرف قدرته في شيء منهما فقد ترك دعوة كلّ واحد بلا عذر ، فيستحقّ عقابين .

ويترتّب على ذلك : أ نّه لو ترك واشتغل بفعل محرّم لاستحقّ ثلاث عقوبات ; لملاك العصيان في كلّ واحد .

وأمّا إذا كان أحدهما أهمّ : فإن اشتغل بإتيان الأهمّ فهو معذور في ترك المهمّ ; لعدم القدرة عليه مع اشتغاله بضدّه بحكم العقل ، وإن اشتغل بالمهمّ فقد أتى بالمأمور به الفعلي ، لكن لايكون معذوراً في ترك الأهمّ ، فيثاب بإتيان المهمّ ويعاقب بترك الأهمّ .

وبالجملة : أنّ العقل يحكم بصرف القدرة في امتثال الأهمّ ; كي يكون معذوراً في ترك المهمّ ، ولو عكس لاستحقّ عقوبة على الأهمّ ; لأ نّه تركه بلا عذر ، ولكنّه يثاب على المهمّ لإتيانه ، ولو تركهما لاستحقّ عقوبتين ، ولو اشتغل بمحرّم لاستحقّ ثلاثة عقوبات .

فظهر ممّا قدّمنا أمران :

الأوّل : أنّ الأهمّ والمهمّ نظير المتساويين في أنّ كلّ واحد مأمور به في عرض الآخر ، وهذان الأمران العرضيان فعليان متعلّقان على عنوانين كلّيين ، من غير تعرّض لهما لحال التزاحم وعجز المكلّف ; إذ المطاردة التي تحصل في مقام الإتيان لا توجب تقييد الأمرين أو أحدهما أو اشتراطهما أو اشتراط أحدهما بحال عصيان الآخر ; لا شرعاً ولا عقلا ، بل تلك المطاردة لا توجب عقلا إلاّ المعذورية العقلية في ترك أحد التكليفين حال الاشتغال بالآخر في المتساويين ، وفي ترك المهمّ حال اشتغاله بالأهمّ .

والثاني : أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي عدم الأمر بضدّه في التكاليف القانونية ، كما في ما نحن فيه .

وأظـنّ : أنّ الـذي أوقـع الأساتذة فيما أوقـع ـ حيث زعموا أنّ لازم ذلك  هـو الأمر بالضدّين ـ هو أنّ كلّ مكلّف لـه خطاب خاصّ وإرادة مستقلّة مـن  المولى لامتثاله ، فجعلوا الخطاب شخصياً ورتّبوا عليه مـا رتّبوا ; ذهولا عـن أنّ وضـع التكاليف القانونيـة غير هـذا ، بل ليس هنا إلاّ خطاب واحـد متوجّـه إلـى العنوان .

والخطاب الواحد بوحدانيته إذا وضع الحكم فيه على العنوان يكون حجّة على المكلّفين ما دامت الشريعة قائمة ، ويحتجّ به الموالي على العبيد إذا دخلوا تحت العنوان واجتمع سائر الشرائط ; من العقل والبلوغ وغيرهما ، من دون أن يكون لكلّ واحد خطاباً وإرادة .

فإن قلت : إنّ الإهمال في عالم الثبوت غير معقول ، فحينئذ عجز المكلّف والمطاردة والتزاحم وإن كانت بوجودها متأخّرة عن رتبة الجعل والتشريع إلاّ أنّ الحاكم يمكن أن يتصوّر حين إرادة التشريع تزاحم هذا الحكم الكلّي مع الكلّي الآخر إذا أراد المكلّف إيجادهما في الخارج .

وبالجملة : يمكن أن يتصوّر تزاحم الحكمين الكلّيين في مقام الامتثال ، فحينئذ نسأل : أنّ الإرادة المتعلّقة على هذا العنوان هل هي باقية على سعتها وعمومها بالنسبة إلى حال التزاحم التي فرضنا أنّ المولى توجّه إليها حين تعلّق الإرادة أولا ؟

فعلى الأوّل يلزم تعلّق الإرادة التشريعية بشيء محال ، وعلى الثاني يلزم التقييد في جانب الإرادة ، ولازمه التقييد في جانب الخطاب . وليس الكلام في مفاد اللفظ حتّى يقال : إنّ الإطلاق ليس معناه التسوية في جميع الحالات ، بل في الإرادة المولوية التي لا تقبل الإجمال والإهمال .

قلت : ليس معنى عدم الإهمال الثبوتي أنّ الحاكم حين الحكم يلاحظ جميع الحالات الطارئة على التكليف والمكلّف ، ويقايس التكليف مع سائر تكاليفه جمعاً ومزاحمة ; ضرورة بطلان ذلك ، بل المراد من عدم الإهمال هو أنّ الآمر بحسب اللبّ : إمّا أن تتعلّق إرادته وحكمه بنفس الطبيعة بلا قيد ، فتكون الطبيعة بنفسها تمام الموضوع ، وإمّا أن تتعلّق بها مع قيد أو قيود ، فتكون موضوعها هو المقيّد والإهمال إنّما هو في مقام البيان لا في مقام الواقع .

 وأمّا الحالات الطارئة للمكلّف أو للتكليف بعد جعله فهي ليست دخيلة في الموضوع حتّى يتقيّد بها أو يكون الحاكم ناظراً إليها . فالحاكم في مقام الحكم لا ينظر إلاّ إلى موضوع حكمه وكلّ ما هو دخيل فيه لا غير .

ثمّ إنّ ما ذكرناه : من النقض والإبرام حول الأحكام القانونية أو الإرادة المولوية إنّما هو بالنظر إلى القوانين العرفية المرسومة بين الموالي والعبيد والرعايا والسلاطين ،  وأمّا الأحكام الشرعية فهي بما أ نّها مشتملة على زجر وبعث ، وأنّ الاحتجاج مطلقاً أمر عقلائي فلابدّ أن يسلك فيها في قضية الاحتجاج ما سلكناه في العرفيات .

 وأمّا الإرادة المولوية فيه سبحانه وكيفية تعلّقها بالأشياء ـ تكويناً كان أو تشريعاً ـ فلا يصل إليه أفهامنا ، فلابدّ من الاستمداد منه ـ عزّ وجلّ ـ وقد حقّق عند أهله أنّ التشريع داخل في النظام الإلهي الكلّي ، وتعلّق الإرادة الأزلية به نحو تعلّقها بالنظام التكويني ، والتفصيل يطلب من مظانّه .

___________
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 301 .

2 ـ تقدّم في الصفحة 20 .

3 ـ تقدّم في الصفحة 251 .

 4ـ كفاية الاُصول : 161 .

5 ـ نهاية الدراية 2 : 180 .

6 ـ الحكمة المتعالية 1 : 345 ، شرح المنظومة ، قسم الحكمة : 47 ـ 48 .

7 ـ راجع الحكمة المتعالية 1 : 370 ، شرح المنظومة ، قسم الحكمة : 50 .

8 ـ كفاية الاُصول : 161 .

9 ـ حاشية كفاية الاُصول ، المحقّق القوچاني : 112 .

10 ـ كفاية الاُصول : 161 .

11 ـ تقدّم في الصفحة 411 .

12 ـ راجع فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 307 و309 ، نهاية الأفكار 1 : 363

13 ـ نهاية الدراية 2 : 183 .

14 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 303 .

15 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 262 و284 .

16 ـ تقدّم في الصفحة 398 .

17 ـ تقدّم في الصفحة 396 ـ 397 .

18 ـ تقدّم في الصفحة 417 .

19 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 304 .

20 ـ تقدّم في الصفحة 409

21 ـ زبدة الاُصول : 99 ، الاثنا عشرية في الصلاة اليومية : 55 ، الهامش 193 .

22 ـ كفاية الاُصول : 166 .

23 ـ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 312 ـ 313 ، جامع المقاصد 5 : 13 ـ 14 .

24 ـ يأتي في الصفحة 447 .

25 ـ يأتي في الصفحة 487 .

26 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1 : 37 ـ 39 .

27 ـ تقدّم في الصفحة 430 .

28 ـ راجع درر الفوائد ، المحقّق الخراساني : 70 .

29 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 233 ، كفاية الاُصول : 410 ، فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 50 ـ 51 .

30 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 363 و 437 ، فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 314 .




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.