أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-5-2017
37080
التاريخ: 8-8-2017
1874
التاريخ: 8-4-2021
2569
التاريخ: 16-5-2022
2101
|
هنا لابد من تحديد الوقت الذي تبدأ به خلافة الوارث ، بعبارةٍ اخرى الوقت الذي تنتقل فيه الملكية من المورث الى الورثة . وبازاء ذلك فإننا نكون امام حالاتٍ ثلاث :
الحالة الاولى
حالة موت المورث دون سابق مرض ظاهر .
الحالة الثانية
حالة موت المورث بعد أن كان مريضاً بمرض الموت .
الحالة الثالثة
حالة موت المورث وقد ترك تركةً مدينة .
ولسوف نفصل القول في هذه الحالات .
مثال ذلك ان يموت المورث فجأة بالسكتة القلبية مثلاً ، او في حادثٍ معين . في هذه الحالة يكون وقت خلافة الوارث لمورثه هو نفس وقت المورث بلا خلاف يعتد به بين الفقهاء ، اذ لم يسبق الوفاة مرض يثير الخلاف بينهم في ان وقت الخلافة هو وقت مرض الموت او وقت الوفاة التي ازالت ملكية المتوفى لما كان يملكه حال حياته ،وجعلته للوارث بعد اداء ما للميت من حاجات وما عليه من حقوق .
2- الحالة الثانية : موت المورث المريض بمرض الموت
في هذه الحالة لا يموت المورث فجأةً وانما بعد الاصابة بمرض الموت ، واننا نعلم ان مرض الموت هو المرض الذي يغلب فيه هلاك صاحبه عادةً وينتهي بموته سواء كان مسبباً عنه او حدث بسببٍ اخر في المرض . وعند الاصابة بمرض الموت يظهر ان ذمة المورث قد اصبحت غير صالحة لتعلق الديون بها ، بل صارت هذه الديون متعلقة بما لَه من اموال لا بذمته ، وبجانب هذا يظهر ايضاً تعلق حق الورثة بالتركة ، ومن اجل ذلك يرى الفقهاء ان ابتداء المرض الذي ظهر فيما بعد انه كان ( مرض الموت ) هو الوقت الذي يثبت فيه حق الدائنين وحق الورثة في التركة . وعلى الرغم من تعلق حق الدائنين والورثة بالتركة في مرض الموت الا انهما يختلفان في نوع التعلق، وفي مدى هذا التعلق كما في ادناه :-
ان حق الدائنين يتعلق بمال المدين فقط لا بأعيان التركة ، لان غاية ذلك هو استيفاء الدين ، ولهذا يقول الفقهاء ان حق الدائنين يتعلق بتركة المريض مرض الموت معنىً لا صورةً ، أي لا يتعلق بذات التركة بل بمقدار ما فيها من قيمة ، ويترتب على ذلك الاثار الاتية :
أ-يصح للورثة بعد موت مورثهم ان يقوموا بوفاء الديون واستيفاء التركة لهم .
ب.كما يجوز للورثة ان يشتروا بعض اعيان التركة بما يعادل قيمتها اثناء مرض المورث مرض الموت .
جـ- كذلك يصح للمريض مرض الموت ان يبيع بعض ماله لاجنبي بثمن المثل .
ان هذه الامور الثلاثة تصح دون اعتراض من الدائنين . ولو ان حق الدائنين قد تعلق بذات التركة لم تجز هذه التصرفات ، اما وان حق الدائنين في مالية التركة ، فهذه التصرفات من شأنها الابقاء على قيمة التركة المالية سواء بأعيان مادية او بقيمٍ مالية. اما حق الورثة فأن هنالك اراء تذهب الى انه يتعلق بمالية التركة تارة ، وبعينها تارةً اخرى ، فاذا كان تصرف المريض مع غير وارث ، كان تعلق حق الورثة بالمالية ، ولذا جاز له ان يبيع للاجنبي بمثل القيمة لا بأقل ، واذا كان تصرفه مع وارث ، كان حقهم متعلقاً بعين التركة ، فلا يؤثر احداً بشيء منها ولو بالبيع له بمثل القيمة ، لان الايثار كما يكون بالعطاء بغير عوض ، ويكون بما يختار له من الاعيان ، ولو كان بمثل القيمة . وهنالك رأي يذهب الى انه حقٌ متعلق بالمالية ، أي بقيمة التركة التي يقومها بها المقومون واهل الخبرة ، ولا يتعلق بعين التركة ، وهذا ما يعني انه يشبه حق الدائنين هاهنا(1). وكما اُختلف في كون حق الورثة في مرض الموت متعلقاً بمالية التركة او بعينها ، اُختلف ايضاً في نوع هذا الحق ، هل هو حق ملكية ، ام هو مجرد حق في الخلافة ؟
ذهب المتقدمون من الحنفية الى انه حق ملكية ، ويستدلون على ذلك بضروبٍ من الادلة ، بعضها يستند على النص ، وبعضها الآخر يستند على الاجماع ، وبعضها الثالث يستند على نظر العقل . فمن النصوص قول الرسول ( ص ) : ( ان الله تصدق عليكم بثلث اموالكم في اخر اعماركم زيادةً …الحديث ) . فانه يدل على ان الملكية قد زالت عن المورث في الثلثين الى وارثة ، ولم تبق له الا في الثلث الذي تصدق الله به عليه . وبدلالة الاجماع على ان تصرفه في مرض الموت لا ينفذ الا من الثلث ، اما اذا كان اكثر من ذلك فلا ينفذ الا بأجازة الورثة ، فلو كان ملكه في الثلثين باقياً لنفذ تبرعه بالأكثر من الثلث ، لانه يكون حينئذ تصرفاً صادراً من اهله ووقع في محله ، ولكن هذه الملكية لا تظهر الا بعد الموت ، فعدم نفاذ تبرعه بالزيادة على الثلث دليل على زوال الملكية ، ولا تزول ملكيته الا الى مالك ، وهم الورثة لانهم خلفاؤه ، ولهذا يكون من حقهم نقض تصرفات مورثهم التي صدرت عنه في مرض موته وكانت ضارة بحقهم في هذين الثلثين . ومن الاستدلال بالنظر العقلي ان المال الذي يزيد عن حاجات الميت يكون ملكاً لورثته فأذا ظهرت هذه الحقيقة ، وحصل استغناء المريض مرض الموت فعلاً عن ماله ، كان هذا دليلاً على ثبوت ملك الوارث لهذا الذي فضل عن حاجات المورث . اما المتأخرون فانهم قالوا ان حق الورثة في مرض الموت هو مجرد حق في الخلافة وليس ملكية بأي وجه ، وذلك صيانةً لثلثي التركة لهم ، وهذا الحق يمنع المريض من التصرف فيه بعد الموت ولا تنفذ وصيته بأكثر من الثلث الا بأجازة الورثة . ويستدلون على ذلك بالقول ان تبرعه في مرض الموت لا ينقض في حياته ، ولكن ينقض بعد موته ، وهذا يدل على أن الورثة لا ملكية لهم في شيءٍ من مال مورثهم وهو حي ، لانه لو كانت لهم تلك الملكية لكان لهم نقض التصرف . ويضيفون الى هذا الدليل دليلاً اخراً ، وهو ان للميراث شروطاً ، منها الاهلية له ، ومن المتفق عليه ان هذا الشرط ان لم يكن موجوداً وقت الموت في شخص ما ، ثم وجد فيه عند الموت ، كان من الورثة بيقين ، وكان له كل حقوق الورثة الذين كانت لهم اهلية الميراث وقت المرض وعند الوفاة . بعبارةٍ اخرى انه لو كان حق ملكية لمنع الميراث من كان غير وارث وقت مرض الموت بمانعٍ كالكفر مثلاً ثم اسلم قبل الموت مباشرةً ، مع انه يرث بالاتفاق ، فلو كانت الملكية ثابتة للورثة من او مرض الموت لما ورث ، لان باقي الورثة قد ملكوا الميراث ، وزالت ملكيته من المورث الاصلي(2). وبالموازنة بين هذين الرأيين ، يمكن القول ان هذا الخلاف انما هو خلافٌ نظري ليس له نتيجة عملية . هذا من جهة ، ومن جهةٍ اخرى يبدو ان الرأي القائل بأن حق الورثة في مال مورثهم المريض مرض الموت مجرد حق في الخلافة وليس حق ملكية هو الأرجح . وذلك لقوة حجتهم ، ولانه لم يعهد في الشرع ، ان يكون الشيء الواحد ملكاً لشخصين في وقت واحد ، ملكاً خالصاً لكل منهما ، ولان ثبوت مجرد الحق في الخلافة ثابت ضرورة لحفظ حق الوارث في الثلثين . وفي جواز ان ينقض بعد موت المورث تصرفاته في مرض الموت ، وما كان للضرورة يقدر بقدرها لا يعدوها ، فلا يكون ملكاً ، لان مجرد الحق في الخلافة ، كان لحفظ حقه في الثلثين ، وفي نقضه لتصرفات المورث بعد موته .
وان الاحتجاج بالحديث ، وعدم نفاذ تبرع المريض مرض الموت ، وكون الوارث خليفة الميت لا يدل على الملكية ، لان عدم تصرفه في الثلثين ، وعدم نفاذ تبرعه ، لتعلق هذا الحق به ، ولان ثبوت خلافته عن الميت بالرد بالعيب ، والرد به عليه ، كان لهذه الخلافة بعد ان توجت بالملك بالوفاة ، فلو كانت له ملكية ، كانت له ولاية معه حال حياته ، ولم يقل احد به ، وما ذلك الا لانه لا ملك له مع وجوده بل هو مجرد حق في الخلافة .
3- الحالة الثالثة : حالة التركة المدينة
ونعني بهذه الحالة ان يتوفى المورث و عليه ديون لغيره من الناس ،اذ يتعلق الدين بالتركة في هذه الحالة ،ولذلك يصح القول بان التركة مدينة. و فيما يتعلق بوقت خلافة الوارث في تركة مورثة المدين فانه جديرٌ بالتنويه ان من يستعرض اراء الفقه الاسلامي في هذه الحالة يستطيع ان يخلص الى نتيجةٍ مؤداها ان هنالك ثلاثة اراء او ثلاث نظريات تحكم هذا الموضوع . خلافا لما ذهب اليه معظم الكتاب و فقهاء القانون الذين يقولون بان النظريات هنا هي عبارة عن نظريتين فقط(3).
واتساقا مع ما تقدم فاننا سنتناول النظريات الثلاث في هذا الشأن كالاتي :
ا ـ النظرية الاولى :
مؤدى هذة النظرية ان لا حق و لا ملك للورثة في التركة الا بعد و فاء ما عليها من الديون، بمعنى ان ملك المتوفى "المورث" باقٍ لا ينتقل الى المورث الا بعد وفاء ما عليها من ديون ،وسواء كانت التركة مستغرقة ام لا(4) . بعبارةٍ اخرى فان الدين طبقا لهذه النظرية سواء كان مستغرقا او غير مستغرق ، فانه يمنع انتقال التركة الى الوارث . و من القائلين بهذا الراي الحنفية في القول الراجح و احدى الروايتين عن الحنابله ، وقولٌ الشافعية .
و يستند هذا الرأي على ادلةٍ من الكتاب و المعقول :
1ـ اما الكتاب :
ففي قوله تعالى : " من بعد وصيةٍ يوصي بها او دين " فقد جعل الله تعالى اوان الميراث ما بعد قضاء الدين , و الحكم لا يسبق اوانه فيكون حال الدين كحال حياة المورث في المعنى . ثم ان الآية جاءت مطلقة و لم يقيد الدين بانه مستغرق ، و على هذا فان الاية تنطبق على الدين مطلقا ،مستغرقاً كان أو غير مستغرق .
2 ـ واما المعقول :
فان الوارث يخلف المورث فيما يفضل من حاجته ، و اما المشغول بحاجته فلا يخلفه وارثه فيه واذا كان الدين محيطا بتركته فالمال مشغول بحاجته ،و قيام الاصل يمنع ظهور الخلف و لا يقال ان المال يبقى حينئذ من غير مالك ، لانه يكون باقيا على ملك الدين حكما لبقاء حاجته(5).
و يُفهم من هذا ان ملكية الوارث هنا لا تتحقق بمجرد وفاة المورث مباشرة ، ذلك ان صاحب التركة يعد في حقيقة الامر محتاجا الى هذا المال , فكما انه يعد محتاجا اليه في نفقات التجهيز و الدفن ، فانه كذلك يعد محتاجا اليه في سداد ديونه . و اذاً لا تتحقق ملكية الوارث الا اذا استغنى المتوفى عن ماله ، و استغناء الميت عن ماله نهائيا يكون بتجهيزه و دفنه و سداد ديونه ، وما دام أن عليه دين , فانه يعد محتاجا الى التركة حتى يسدد الدين تماما . فان كان الدين يساوي نصف التركة مثلا , فان ملكية التركة لا تنتقل الى الورثة الا بعد الوفاء بالدين , لان المورث في حاجه الى التركة كلها لسداد دينه ، اذ ان كل جزء منها يحتمل ان يكون محتاجا اليه , على تقدير هلاك الجزء الباقي .
ب ـ النظرية الثانية :
ومؤداها ان الدين سواء كان مستغرقا او غير مستغرق فانه لا يمنع انتقال التركه الى ورثة الدين فتكون على ملكهم و لكن الديون متعلقة بها , اذ الورثه خلفاء الميت , و تتحقق هذه الخلافة بمجرد الوفاة , حيث ان الامور لا تتراخى عن اسبابها , الا لمانعٍ يمنع عمل الاسباب . والموت سببٌ للتوريث فتتحقق الوراثه فوره , ووجود الديون متعلقه بالتركه و كونها مشغوله بحاجة الميت لا يمنع من تحقق الوراثة . اذا كان ذلك التعلق للاستيثاق من الاداء و لضمان حقوق الغرماء ، و ذلك ليس بمانعٍ من تحقق الوراثة ، كما لم يمنع الرهن ملكية العين المرهونه للمدين ، و مثل تعلق الديون بالتركه كمثل الرهن ، فهما في الجملة سواء . اذا لا يمنع الدين مستغرقا كان او غير مستغرق من انتقال التركه الى الورثه بمجرد وفاة المورث ،ولا تتوقف ملكية الوارث للتركه المدينة على اداء الدين او الابراء منه. لقد ذهب الى هذا الراي كل من جمهور الشافعيه و الحنابله في المشهور عنهم و اكثر الشيعه الاماميه، وعلى هذا الاساس فان من توفي و ترك تركةً و عليها ديون، فان الورثه يقتسمون هذه التركه و يلحق كلا منهم من الدين بمقدار نصيبه من الميراث، فمن ورث النصف او الربع كان عليه نصف الدين او ربعه يؤديه لا صحابه الدائنين . و حجة هذه النظريه تتمثل بالاتي :
1 ـ الحديث : و يتمثل في قول الرسول ( ص ) : " من ترك مالاً او حقا فلورثته" (6) . فهذا الحديث مطلق , و المطلق يجري على اطلاقه , وعلى هذا فان كل مال و كل حق يتركه الميت , ياخذه الورثة , وسواء كان على المال او الحق التزامات ام لا .
2- المعقول : ويتمثل بالوجوه الاتية :-
اذ الامور لا تتراخى عن اسبابها الا لمانع يمنع عمل الاسباب ، والموت هو سبب الميراث ، فتحقق الوراثة فوره . وان وجود الديون المتعلقة بالتركة وكونها مشغولة بحاجة الميت لا يمنع تحقق الوراثة اذا كان ذلك التعلق لغرض الاستيثاق من الاداء ولضمان حقوق الغرماء ، وذلك ليس بمانع من تحقق الوراثة كما لم يمنع الرهن ملكية العين المرهونة للدين .
ب-ان التركة لو لم تنتقل الى الورثة لكان يستحق فيها بالميراث كل من كان غير وارث لمانع وقت الوفاة ، ويزول المانع قبل سداد الديون ، وهذا باطل فيبطل ما يؤدي اليه .
جـ- ان تعلق الدين بالتركة لا يزيل ملك مالكها وهو حي ، وكذلك لا يمنع من انتقال هذا الملك متى جاء سببه وهو وفاة مورثه(7) .
جـ- النظرية الثالثة :
مفاد هذه النظرية التفرقة بين الدين المستغرق للتركة ، والدين غير المستغرق، والقول بأن الاول ( الدين المستغرق ) يمنع انتقال التركة ، وان الثاني ( الدين غير المستغرق ) لا يمنع انتقالها الى الورثة . وهذا ما ذهب اليه الحنفية في احد الاقوال وفريق من الحنابلة والامامية في احد القولين . والحجة في ذلك ان الدين المستغرق يمنع انتقال التركة للأسباب المذكورة انفاً عند التطرق للنظرية الاولى ، وان الدين غير المستغرق لا يمنع ذلك اعتماداً على الاسباب المذكورة في النظرية الثانية ، بأعتبار ان تعلق الدين بأعيان التركة لا يتنافى وثبوت ملكيتها للورثة، كالعين المرهونة فهي مملوكة للراهن مع تعلق حق المرتهن ،اذ لم يمنع تعلق حق الغير من الملكية(8).
الترجيـح
بالموازنة بين الآراء المتقدمة يمكن الخلوص الى ان الرأي الراجح هو ما ذهب اليه انصار النظرية الثانية القائلون بأن الدين لا يمنع من انتقال التركة سواء اكان مستغرقاً ام غير مستغرق ، وسواء كان لاجنبي ، ام لوارث ، وهو قول جمهور الشافعية ،وبعض الحنابلة، واكثر الشيعة الامامية .وفي معرض الترجيح هذا يمكن الاستناد إلى الادلة الاتية :
اولاً : قوله ( ص ) : ( من ترك مالاً أو حقاً فلورثته ) ، فان قوله ( ص ) "مَنْ" لفظ عام يعم كل ميت ، سواء أكان عليه دين ام لا ،وسواء أكان الدين مستغرقاً ام لا . وقوله ( ص ) : (مالاً أوحقاً) يشمل كل مال وكل حق ، سواء ما تعلق به دين وما لم يتعلق به ، وايضاً سواء أكان الدين مستغرقاً او لا . اذ معنى الحديث ان كل من مات مديناً كان او غير مدين ، وترك حقاً او مالاً فهو ملك لورثته ، لا يمنع من ملكيته دين ، مستغرقاً كان او غير مستغرق ، وذلك لعموم الحديث ، وهذا الحديث لا يتعارض مع الاية :( من بعد وصيةٍ يوصي بها اودين ) لان معناها يحتمل انه لايخلص للورثة ، ما حدد لهم من سهام ، ولا تقسم التركة بينهم الا بعد سداد الدين ، وانفاذ الوصية ،بل الحديث يؤيد هذا الاحتمال .
ثانياً : ان تعلق الدين بتركة المتوفي لا يمنع انتقال الملكية للورثة بمجرد الوفاة ، لان الوارث يخلف المورث في التركة ، والتركة كانت مملوكة للميت حال حياته ، مع اشتغالها بالدين ، فهي كالعين المرهونة او المستأجرة ، فكذلك تكون ملكاً للوارث ، وقد اتفق الفقهاء على ان العين المرهونة او المستأجرة يتعلق بها حق المرتهن وحق المؤجر .اذاً فملك الورثة للتركة بمجرد الوفاة هو المتعين ، ذلك ان الميراث من اسباب نقل الملكية للورثة ، وهو مترتب على الوفاة فيتحقق بتحققها مالم يوجد مانع يمنع منه .
ثالثاً : ان القول بعدم انتقال الملكية للورثة فور الوفاة ، فيه اثبات ملكية للميت ، ولا يصح اثبات ملك لمن هو ليس اهلاً له ، ولذا يقول احد الفقهاء بهذا الشأن(9) : ( ان التركة تنتقل الى الوارث لمعلومية عدم بقاء المال بلا مالك ، كمعلومية عدم كونه في المقام للغرماء للأجماع بقسميه وغيره ، بل والميت ضرورة كون الملك صفة وجودية ، لا تقوم بالمعدوم كالمملوكية ، ولذا لم يدخل في ملكه جديداً ، اذ لا فرق بين الابتداء والاستدامة ) .
رابعاً : ان القول بانتقال الملكية للورثة فور الوفاة ، فيه تطبيقٌ لقاعدة ان الخلافة عن المورث في حقوقه ، وفيما تتحمله التركة ويمكن استيفاؤه منها من الالتزامات التي تقدر على الوفاء بها ، وفيه تنسيق للقواعد العامة ، وابتعادٌ عن الافتراض ، كافتراض وجود ذمة للميت ، وفيه ابتعادٌ عن الاستثناء ايضاً ، وهو كما مر موافقٌ للحديث ولا يتنافى مع الاية(10) .
خامساً : في حالة عدم إنتقال الملكية إلى الورثة بعد الوفاة مباشرةً ،يلزم إما ان تكون ملكية التركة بعد الوفاة وقبل تسديد الديون ، للمتوفى ،أو تبقى سائبةً أي بلا مالك ، وكلا الاحتمالين باطل ،لان ذمة الإنسان تتولد بولادته وتموت بموته ،فلا يكون المتوفى مالكاً للذمة ،ومن ثم لايكون مالكاً للتركة . وأما الإحتمال الثاني فسبب بطلانه أنه لا توجد الملكية السائبة لا في الفقه الإسلامي،ولا في القانون، أي لاتوجد هنالك ملكية بمفهومها الصحيح بدون أن يكون لها مالك .
وبناءاً على هذه الأدلة يتبين لنا أن الصواب هو أن الدين المتعلق بالتركة لا يكون مانعاً من إنتقالها إلى الورثة (11).
ثمرة الخـلاف
ان للاختلاف في الرأي المتقدم حول وقت الخلافة وانتقال الملكية للورثة ، ثمرة واثاراً ، يمكن اجمالها بالامور الاتية :
1- نماء التركة :
ان التركة قد تنمو في الفترة ما بين وفاة المورث وسداد ديونه ، كشجرٍ اثمر ، وزرعٍ احصد ، ودابة ولدت ، وكذلك غلات التركة ، كأجرة دار للسكنى ، او ارض للزراعة ، وكأوراق مالية في الشركات والبنوك ظهر لها ربح او زادت اسعارها .فأن كل هذا يعد نماءاً للتركة ، ولقد اختلف الفقهاء في ملكيته تبعاً لاختلافهم في وقت انتقال ملكية التركة . فالقائلون بأن التركة المدينة تكون على حكم ملك الميت لا تنتقل الى ورثته الا بعد سداد الدين ( الحنفية ومن وافقهم ) قرروا بأن الدائنين تتعلق حقوقهم بالنماء والتركة بالقدر الذي كان متعلقاً بأصل التركة ، فأذا كان الدين مستغرقاً للتركة ، فأن حق الدائنين يتعلق بكل النماء ، واذا كان الدين غير مستغرق فأن حق الدائنين يتعلق بالنماء بمقدار ما يشغل الدين من التركة . واما القائلون بملكية الورثة للتركة من وقت الوفاة والذين لا يعدون تعلق الديون بالتركة مانعاً من ثبوتها ( الشافعية والامامية ومن وافقهم ) فأنهم يرون ان نماء التركة وغلاتها يكون ملكاً للورثة ، ولا يتعلق بها حق الدائنين لان الديون قد تعلقت برقبة التركة لا بنمائها ، حيث ان النماء ثمرة الملكية ، ومثل ذلك ايضاً زوائد الرهن ، فأنها تكون ملكاً للراهن ولا يتعلق بها حق المرتهن ، كما تعلق بالاصل . على ذلك فأنه اذا اضاف اصل التركة عن الوفاء بالديون فلا يستوفون من النماء شيئاً بل يقسم الاصل على الدائنين بالمحاصة اذا تساوت الديون قوةً .
2- مؤنة التركة :
ان مئونة التركة، من نفقاتٍ للحفظ والصيانة ،او للتغذية والابقاء وحفظها من الفناء وغير ذلك ،تكون على وفق مقتضى نظرية الحنفية ومن وافقهم من التركة نفسها ، فأن لم يكن في التركة ما ينفق منه ، كانت بين الدائنين والورثة ، كلٌ على قدر حصته ، على ان يضاف الى الدين ما ينفق او يستدان عليها بأمر القاضي لا جل الانفاق . واما على وفق نظرية الشافعية والامامية ومن وافقهم، فأن نفقات التركة على الورثة ، ذلك انهم قد ملكوا التركة فور الوفاة ، وهذه نفقات املاكهم ، وان كانت حقوق الدائنين قد تعلقت بها لسداد ديونهم ، وان لهم نماءها ، فعليهم نفقاتها ، والغنم بالغرم .
3- ما يجد من الملك :
وهي الامور التي باشر المالك اسبابها ، ولم يتم الملك فيها الا بعد موته ، كأن يكون قد حفر حفرةً في ملكه ليصطاد فيها حيواناً ، فوقع الصيد فيها بعد موته ، فأنه يكون حكمه حكم سائر التركة على وفق النظرية الاولى ( الحنفية ومن وافقهم ) وتتعلق به حقوق الدائنين ، في حين انه يكون بحكم الزوائد والنماء ، فيكون ملكاً للورثة فقط ولا يتعلق به حق الدائنين ،على وفق النظرية الثانية ( الشافعية والامامية ومن وافقهم ) .
4- ثبوت الشفعة :
اذا كان المتوفى ( المورث ) شريكاً في عقار ، فباع هذا الشريك حصته منه ، قبل سداد الدين فأنه على وفق الرأي الاول لا يكون للورثة حق طلب الشفعة ، وذلك لعدم تملكهم لما ترك مورثهم حين البيع ، فهم ليسوا شركاء في هذا العقار حتى يستحقوا الشفعة فيه . واما على الرأي الثاني فأن هذا الحق ( حق الشفعة ) يثبت لهم ، لانهم مالكون لحصة مورثهم من حين الوفاة ، فهم مالكون لها وقت البيع ، وشركاء في هذا العقار فيستحقون الشفعة فيه .وكذلك يثبت لهم هذا الحق اذا كان الدين غير محيط على رأي من يقول ان الدين غير المحيط يمنع ملكية ما يقابله ، لانهم في هذه الحالة يملكون ما عدا ما يقابل الدين ، فهم شركاء بقدر ما يملكون مما فضل عما يسدد به الدين .
5- التصرف في التركة وقسمتها :
اذا كانت التركة مستغرقة بالدين فأنه لا تصح قسمتها ولا التصرف فيها على الرأي الاول ، لان الورثة لم يملكوها قبل سداد الدين. واما على الرأي الثاني فأنه تصح قسمتها ، ويكون على كل وارث ما يقابل حصته من الدين ويصح تصرف كل وارث في حصته قبل القسمة اذا ادى ما عليها من الدين . هذا ما يقتضيه ظاهر القولين السابقين ، وهما القول بعدم ملكية الورثة للتركة المدينة بمجرد الوفاة ،والقول بملكيتها .وقد اختلف اصحاب الرأي الاول في صحة التصرف ، مع اتفاقهم على عدم ملكية الورثة لها ، فمنهم من رأى عدم صحته ، ومنهم من رأى صحته . وكذلك اختلف اصحاب الرأي الثاني ، مع اتفاقهم على ان الورثة مالكون لها بمجرد الوفاة(12) .
لقد اشتهر بين القانونيين مبدأ ( لا تركة الا بعد سداد الدين ) على انها نظرية شرعية ، ولعلها كانت نظرية او قاعدة قانونية(13).اذا فسرنا مبدأ ( لا تركة الا بعد سداد الدين ) تفسيراً حرفياً ، بمعنى انه لا ملك للورثة الا بعد سداد الدين ، فأننا نجدها تنطبق انطباقاً حرفياً على التركة المستغرقة بالدين على وفق نظرية الحنفية ومن وافقهم التي عرضناها سابقاً ، والتي ترى ان لا ملك للورثة في التركة المدينة بدين مستغرق الا بعد سداد الدين. اما انطباقها على التركة غير المستغرقة بالدين فلا يمكن تطبيقها حرفياً ، بل تخرّج على ان المراد بها انه لا تخلص التركة للورثة خلوصاً ثابتاً غير قابل للنقض الا بعد سداد الدين ، فأنها قبل ذلك لا تخلص لهم ذلك الخلوص بل يكون حقهم فيها شائعاً ، والهلاك السماوي يكون عليهم ، وان قسمت مع ذلك قبل سداد الدين ، فأن القسمة تكون قابلة للنقض ، وكل هذا يقتضي ان نصيبهم في التركة لا يخلص خلوصاً مستقراً قبل السداد ، ولكن ليس معنى ذلك ان لا ملكية لهم قبل السداد في حال عدم استغراق التركة بالدين . اما على وفق النظرية الثانية ( نظرية الشافعية والامامية ومن وافقهم ) فأن هذا المبدأ لا ينطبق مطلقاً ، لا في حال استغراق التركة ولا في حال عدم استغراقها ، لان الملكية تثبت لهم في التركة فور الوفاة . وعلى ذلك يكون من يفهم ان مبدأ او قاعدة ( لا تركة الا بعد سداد الدين ) مؤداها ان لا تكون ملكية للورثة ، ولو لم تكن مستغرقة بالدين ، فهمه خطأ لا يستقيم على وفق النظرية الثانية مطلقاً .
___________________
1- يذهب الى الرأي الاول ابو حنيفة ، بينما يذهب الى الرأي الثاني الصاحبان .
2- ينظر بصدد ما تقدم : الكاساني ، بدائع الصنائع ، ج7 ، ص30 ، السرخي ، المبسوط ، ج18 ، ص27-33 ، د. محمد يوسف موسى ، الميراث في الشريعة الاسلامية ، ص378-382 ، الكشكي ، التركة ، ص188-192 .
3- و منهم الشيخ محمد ابو زهرة ، احكام التركات و المواريث, ص23 ، و احمد الحصري التركات و الوصايا , ص 18 و د . محمد يوسف موسى , الميراث في الشريعة الاسلامية , ص 384 .
4- تكون التركة مدينة بدين مستغرق , اذا كانت كل عناصرها من اموالٍ و حقوق مالية , لا تكفي الا لسداد الديون فقط , او اقل من ذلك , اما التركة المدينة بدين غير مستغرق , فهي التي تعلق بها دين للغير , لا يستنفد كل عناصرها بل لا يستنفد الا مقدارا ،منها و يظل الباقي للورثة .
5- ينظر : السرخي , المبسوط , ج29 ، ص137 ، الكاساني , بدائع الضائع ,ج7 , ص30 ( المكتبة الاسلامية ) ج2 ، ص402 ، احمد ابراهيم ، مصدر سابق ، ص370 ، علي الخفيف ، مدى تعلق الحقوق ، ص260-261 .
6- لقد تم تخريج هذا الحديث سابقا .
7- ينظر بصدد ما تقدم : البهوتي ، كشاف القناع ، ج2 ، ص150 ، البجيرمي ، حاشية البجيرمي ، المكتبة الاسلامية ، ج2 ، 401-402 ، السيوطي الاشباه والنظائر ، ص328 ، ابن قدامه ، المغني ، ج4 ، ص437 ، الشربيني ، مغني المحتاج ، ج3 ، ص4 ، الجواهري ، جواهر الكلام ، ج26 ، ص84-89 ، احمد ابراهيم ، مصدر سابق ، ص372 ، محمد ابو زهرة ، التركات والمواريث ، ص23-24 ، احمد محمد علي ، مصدر سابق ، ص82-83 .
8- ينظر : المصادر المذكورة انفاً .
9- وهو العلامة الحلي ، ينظر : الجواهري ، جواهر الكلام ، كتاب الحجر ، ج26 ، ص85 .
10- ينظر : الكشكي ، التركة ، ص121-123 .
11- لقد قام الشيخ معروف النودهي بنظم هذا الكلام شعراً ، وذلك في كتابه قطر العارض ،إذ قال :
والدينُ لايمنعُ من أن يملكا ورثة المدين ما قد تركــا
لكن به علق كالمرهـون ِ لأنه أحوطُ للمدفــــون ِ
فلم يكن تصرفٌ فيه نفـذ من وارثِ اذنَ الغريمِ ما أخذ
12- ينظر بصدد ما تقدم : السنهوري ، مصادر الحق ، ج5 ، ص85-87 ، محمد ابو زهرة ، احكام التركات والمواريث ، ص26-29 ، ، الكشكي ، التركة ، ص124-126 .
13- لقد نال هذا المبدأ الاهتمام الكبير من لدن المحاكم والكتاب القانونيين ، وكان هنالك جدلٌ فكري حول معناه، وان ذلك الجدل القانوني كان نتيجة حتمية للاختلاف بين فقهاء الشريعة المتقدم ذكره ، فمن قائلٍ بفكرة نظرية الحنفية ، ومن متبنٍ لنظرية الشافعية والامامية ، ولطلب المزيد من التفصيلات تراجع المقالات الاتية :
علي زكي العرابي ، مركز الوارث في القوانين المصرية ، مجلة المحاماة المصرية ، السنة الاولى ، العدد الخامس ، 1920 ، ص325 ، عبد الحميد بدوي ، لا تركة الا بعد دين ، العدد الثامن من نفس المجلة ، 1921 ، ص269 ، احمد عبد اللطيف ، مركز الوارث في القوانين المصرية ، العدد الثالث من نفس المجلة السنة الثانية ، 1931 ، ص113 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|