المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
من هم المحسنين؟
2024-11-23
ما هي المغفرة؟
2024-11-23
{ليس لك من الامر شيء}
2024-11-23
سبب غزوة أحد
2024-11-23
خير أئمة
2024-11-23
يجوز ان يشترك في الاضحية اكثر من واحد
2024-11-23



الجاحظ  
  
10967   08:59 صباحاً   التاريخ: 29-12-2015
المؤلف : عمر فرّوخ
الكتاب أو المصدر : تأريخ الأدب العربي
الجزء والصفحة : ج2، ص303-317
القسم : الأدب الــعربــي / تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-04-2015 2140
التاريخ: 9-04-2015 2134
التاريخ: 24-7-2016 4305
التاريخ: 22-06-2015 4695

هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، ولد نحو سنة 160 ه‍ (777 م) في الأغلب في مدينة البصرة و فيها نشأ و قضى أكثر عمره. و قد كان أسود اللون: قيل لم يكن عربيّا، بل مولى لأبي القلمّس عمرو ابن قلع الكناني (معجم الأدباء 16:74) ، و قيل بل كان عربيّا خالصا، و إنّما جاءه السواد من قبل إحدى جدّاته في عمود نسبه.

و تعلّم الجاحظ على الأدباء المسجديّين (و هم الذين كانوا يجتمعون في المسجد الجامع في البصرة) ، كما أخذ كثيرا من علوم العربية عن أبي عبيدة معمر ابن المثنّى و الأصمعي و أبي زيد الأنصاريّ، و أخذ النحو خاصّة عن الأخفش (1) و علم الكلام عن أبي اسحاق ابراهيم النظّام على أنّ علمه الواسع جاء من مطالعاته الخاصّة في الكتب.

كان الجاحظ في أول أمره ضيّق الرزق يبيع الخبز و السمك بسيحان (2)؛ و لم يبزغ نجمه إلاّ بعد أن انتقل من البصرة إلى بغداد لمّا دخلها المأمون آئبا من خراسان، سنة 204 ه‍. ثم علا نجمه لمّا اتّصل بوزير المعتصم محمّد بن عبد الملك الزيّات فأصبح من الموسرين. و يبدو أن الجاحظ عمل مدّة يسيرة في ديوان الرسائل مع ابراهيم بن العبّاس الصوليّ، في أيام المأمون، و لكنّه كره حياة الديوان وشيكا فتركها.

في ذلك الحين كان الجاحظ صديقا لابن الزيّات الوزير مناوئا للقاضي أحمد ابن أبي دؤاد (لأن ابن الزيّات كان عدوّا لابن أبي دؤاد) و كان يقول فيه: «ابن أبي دؤاد أعلم ما هو أعلم بالفقه، و هو لا يعلم من الفقه شيئا» . فلمّا نكب الخليفة المتوكّل وزيره محمد بن عبد الملك الزيّات و قتله (233 ه‍-837 م) و أصبحت لابن أبي دؤاد اليد العليا في الدولة استقدم الجاحظ مقيّدا في الحديد ثم عفا عنه في حديث طويل و قرّبه و أحسن جوائزه. ثم اتّصل الجاحظ بالفتح بن خاقان الذي وزر للمتوكّل، نحو سنة 240 ه‍ (854 م) و نال حظوة عنده.

في هذه الاثناء زار الجاحظ سامرّا ثم زار دمشق و أنطاكية؛ و لعلّ ذلك كان في صفر من سنة 244 ه‍(أيّار-مايو 858 م) حينما نقل المتوكّل العاصمة إلى دمشق ثم عاد فردّها إلى سامرّا بعد شهرين لأن مناخ الشام لم يوافقه. و بعد مقتل الفتح بن خاقان و المتوكّل (247 ه‍-861 م) ، أو قبل ذلك بقليل، عاد الجاحظ إلى البصرة نهائيا.

و فلج الجاحظ في أواخر عمره و عاش في الفالج سبع سنوات، و لكنه ظل حاضر الذهن قويّ الذاكرة قادرا على التأليف. و في المحرّم من سنة 255 ه‍(شباط-فبراير 869 م) سقطت عليه مجلّدات من كتب فمات، و عمره نحو ستّ و تسعين سنة.

كان الجاحظ، كما يدل لقبه، جاحظ العينين (أي بارزهما) ، أسود دميم الخلق قصيرا، و لكنه كان قويّ البنية نشيط الجسم.

خصائصه الفنّيّة:

كان الجاحظ عظيم الذكاء قويّ الملاحظة واسع التفكير بارعا في كثير من علوم اللغة و الأدب و من العلوم الطبيعية و العقلية. و كان يجمع إلى ذلك حبّ اللهو و الدعابة و المرح الأصيل. و كذلك كان مفكّرا حرّا قليل الاهتمام بما تواضع عليه الناس، و خصوصا فيما يتعلق بسلوكه الشخصي في الحياة، و لم يتزوّج الجاحظ، و لكنّه كان يتّخذ جارية بعد أخرى.

اتخذ الجاحظ أصول البلاغة أساسا للنقد و لتبيان مراتب الكلام. و مع أنه لم يجر في ذلك على أسلوب منظّم أو شامل، فانه حاول أن يضع أسسا لمعرفة الكلام الجيّد.

يرى الجاحظ أن حقيقة البيان هي الكشف عن المعنى بألفاظ تؤدّي إلى الفهم و الإفهام: إن المعاني كثيرة متشعبة و لكنها مستورة في الصدور، و إنما الفضل في الدلالة عليها باللفظ الحسن. و الجاحظ يرى أن الكلام الفاسد الساقط آلف لآذان الناس (العاديين) و أسرع إلى العلوق بألسنتهم و أشد التحاما بالطبائع. و الإنسان بالتعلم و التكلف و بطول الاختلاف (3) إلى العلماء و مدارسة كتب الحكماء يجود لفظه و يحسن أدبه (4). «و كما لا ينبغي أن يكون الكلام عاميّا ساقطا سوقيّا، فكذلك لا ينبغي له أن يكون غريبا وحشيّا إلا أن يكون المتكلم به أعرابيا، فان الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي (5) من الناس كما يفهم السوقي رطانة السوقي-. و كلام الناس في طبقات كما أن الناس أنفسهم في طبقات. فمن الكلام الجزل و السخيف و المليح و الحسن و القبيح. . . و كلّه عربيّ. . . و قد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، و ربما أمتع (السخيف) بأكثر من إمتاع الجزل الفخم من الألفاظ الشريفة الكريمة المعاني (6). و الجاحظ يوافق بعض الربّانيين من الأدباء في قوله: «إن المعنى إذا اكتسى لفظا حسنا و أعاره البليغ مخرجا سهلا و منحه المتكلم قولا متعشّقا صار في قلبك أحلى و لصدرك أملا (7). و المعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة و ألبست الأوصاف الرفيعة تحوّلت في العيون عن مقادير صورها و أربت على حقائق أقدارها بقدر ما زيّنت به و على حسب ما زخرفت» (8).

و كان للجاحظ شيء من الشعر، هو من باب شعر العلماء: معاني و منطقا و متانة في التعبير و لكن بلا طبع و لا ديباجة و لا رونق. و يبدو أن الجاحظ كان قد حاول التكسّب بالشعر في أوّل أمره. و في شعره شيء من الحكمة.

كتب الجاحظ كثيرة جدا و متنوعة الموضوعات، فقد كتب الجاحظ في معظم الفنون التي كانت معروفة في أيامه. فمن كتبه (بعد حذف كلمة «كتاب») : نظم القرآن، مسائل القرآن، فضيلة المعتزلة، الردّ على اليهود، الردّ على النصارى، الردّ على العثمانية (9)، إمامة معاوية، إمامة بني العبّاس، كتاب اللصوص، صياغة الكلام، تصويب عليّ في تحكيم الحكمين، افتخار الشتاء و الصيف، كتاب المعلّمين، كتاب الجواري، فخر القحطانية و العدنانية، أخلاق الملوك، التسوية بين العرب و العجم، المزاح و الجدّ، رسالة في القلم، فضل اتّخاذ الكتب، رسالة في مدح النبيذ، رسالة في ذمّ النبيذ، رسالة في مدح الكتّاب، رسالة في ذمّ الكتّاب، رسالة في من يسمّى من الشعراء عمرا، الاستبداد و المشاورة في الحرب، رسالة في القضاء و الولاة، كتاب الملوك و الأمم السالفة و الباقية، النرد و الشطرنج، غشّ الصناعات، كتاب ذوي العاهات.

للجاحظ في كتبه أسلوبان: أسلوب أنيق (فيه صناعة و موازنة و سجع و تأنّق في اختيار الألفاظ و ترديد للمعنى الواحد في تراكيب مختلفة) . و يكاد يكون هذا الأسلوب مقصورا على مقدّمات كتبه و مطالع فصوله. ثم له أسلوب يجري فيه على السليقة و يعالج به الموضوعات التي يتناولها في متون كتبه.

و الجاحظ في أسلوبه فصيح الألفاظ متين التركيب يمزج الجدّ بالهزل و يكثر التهكّم، كما يكثر من الاستطراد. و الاستطراد هو أن يخرج الكاتب عن الموضوع الذي يعالجه إلى موضوع آخر قريب منه أو بعيد. و كان الجاحظ يفعل ذلك ترويحا عن القارئ و دفعا للملل عنه.

و الأسلوب الذي يجري فيه الجاحظ على السليقة شديد الصلة بأسلوب ابن المقفّع في كتاب كليلة و دمنة. إلاّ أن أسلوب الجاحظ أمتن و آنق. و نحن اليوم إذا أردنا أن نخطب في أمر عامّ أو أن نحاضر في موضوع علميّ أو أن نكتب في مجلّة أو جريدة لجأنا في الأكثر إلى أسلوب ابن المقفع. أما إذا أردنا أن نكتب مقدّمة لكتاب أو أن نطنب في وصف أمر من الأمور، خطابة أو كتابة، فإننا نلجأ عادة إلى أسلوب الجاحظ.

و في ما يلي عرض موجز لخطّة الجاحظ في كتبه الثلاثة المهمّة:

-كتاب الحيوان أكبر كتب الجاحظ حجما و أجمعها لفنون العلم و الأدب معا. و قد جمع الجاحظ في هذا الكتاب كلّ مفيد و كل طريف لأنه كان يريد أن يحبّب العلم إلى الناس، لا أن يعلّمهم العلم.

و كتاب الحيوان جامع للكلام على أنواع الحيوان و أجناسه و أعضائه و لأحواله و طرق حياته. و قد استمدّ الجاحظ معلوماته في هذا الكتاب من القرآن الكريم و الحديث الشريف و من الشعر العربي و أقوال العرب. و اعتمد الجاحظ في هذا الكتاب اعتمادا كبيرا على كتاب الحيوان للفيلسوف اليوناني أرسطوطاليس، (ت 322 ق. م.) ، إلاّ أنه كان ينتقد أرسطو في كثير من الأمور. و في كتاب الحيوان استطراد كثير إلى ذكر القصص المتعلّقة بالحيوان و إلى شيء كثير من الشعر و من أخبار الأدب و الفلسفة و من الكلام على الحياة الاجتماعية. و مع أنّ القصد الأول من وضع هذا الكتاب كان الإحاطة بعلم الحيوان، فإنّ قيمته لنا اليوم إنّما هي في أخباره الأدبية و التاريخية التي كان الجاحظ قد استطرد اليها استطرادا. إنّ في كتاب الحيوان مثلا خمسين طرديّة (قصيدة في وصف الصيد) لأبي نواس. أما الأمور العلمية المتعلقة بالحيوان فليس لها اليوم قيمة علمية لأن علم الحيوان قد تقدّم كثيرا في الألف و المائة سنة التي تفصلنا عن الجاحظ.

-كتاب البخلاء كتاب جمع فيه الجاحظ قصصا عن البخل و البخلاء، و خصوصا البخل بالطعام. و أكثر هذه القصص واقعة و لكنّ الجاحظ ستر أسماء نفر من أصحابها. و يقصد الجاحظ أن يصوّر في هذا الكتاب طبائع الناس و خصوصا أولئك الذين يبخلون بشيء دون شيء أو يبخلون على أنفسهم خاصة و يتحملون كل مشقة في أجسامهم و في أنفسهم في سبيل ادّخار المال، كما يتساهلون في سبيل ذلك بكثير من مثلهم العليا.

ثم إن الجاحظ يريد أن يصف جانبا من الحياة في العصر العبّاسي: حياة البخل في خضمّ من الترف، و حياة أولئك الذين كانوا فقراء ثم أيسروا فجأة من طريق رواج تجارتهم أو صناعتهم أو ارتفاع أثمان أراضيهم بعد ذلك الانقلاب الاقتصادي الذي حدث في العراق في صدر العصر العباسي.

و أسلوب الجاحظ في كتاب البخلاء حسّي ماديّ، فهو يحرص على استعمال الكلمات التي تقرّب الصورة الحسيّة من الذهن و لو كانت قريبة من العامّيّة، نحو «قوّر الرغيف» . و قلّما يذكر الجاحظ المغزى المقصود من القصّة التي يحكيها، بل يترك ذلك للقارئ يستنتج ما يستطيع أن يتخيّل به القصّة واضحة أو البخل الذي تشير اليه مجسّما مبالغا فيه. و ليس في كتاب البخلاء استطراد، لأنّ موضوع الكتاب كلّه فكاهيّ.

ألّف الجاحظ في أواخر عمره، بعد تصنيف كتاب الحيوان، كتابا سمّاه البيان (وضوح كلام العرب) و التبيين (التعبير بوضوح عن مقاصد الإنسان) . و كانت غاية الجاحظ من تأليف هذا الكتاب أن يدافع عن تفوق البيان العربي في جميع مظاهره و أن يردّ على الشعوبية الذين كانوا يريدون أن ينتقصوا العرب بالتعريض ببعض أحوالهم الاجتماعية و الأدبية كحملهم العصا عند الخطابة، حتى إنّه عقد فصلا طويلا في هذا الكتاب سماه باب العصا للرد على الشعوبية خاصة.

و قد تكلم الجاحظ في هذا الكتاب على الألفاظ و التراكيب و على لهجات العرب في البدو و الحضر ثمّ تكلم على الشعراء و الخطباء و النساك و المعتزلة و على مكانة البيان العربي بالإضافة إلى عبقرية الأمم، و على أن عبقرية العرب إنما هي في لغتهم و بيانهم و شعرهم. و جمع الجاحظ في هذا الكتاب نماذج من الشعر و النثر تمثّل أوجه التعبير عن المقاصد و تصف أحوال الإنسان و تأتي شواهد على الآراء و المعتقدات و على حقائق الأمور. و في هذا الكتاب استطراد كثير.

المختار من آثاره:

-من كتاب البخلاء:

قال خاقان بن صبيح: دخلت على رجل من أهل خراسان، و إذا هو قد أتانا بمسرجة فيها فتيلة في غاية الدقّة، و قد ألقى في دهن المسرجة شيئا من ملح، و علّق على عمود المنارة عودا بخيط و قد حزّ فيه حتى صار فيه مكان للرباط. فكان المصباح إذا كاد ينطفئ أشخص رأس الفتيلة بذلك العود.

قال خاقان: فقلت له: ما بال العود مربوطا؟

قال: هذا عود قد تشرّب الدهن، فإذا ضاع و لم يحفظ احتجنا إلى واحد عطشان. فإذا كان هذا دأبنا و دأبه ضاع من دهننا في الشهر بقدر كفاية ليلة.

قال خاقان: فبينا أنا أتعجّب في نفسي و أسأل اللّه جلّ ذكره العافية و الستر، إذ دخل شيخ من أهل مرو، فنظر إلى العود فقال: يا أبا فلان، فررت من شيء فوقعت في شبيه به! أ ما تعلم أن الريح و الشمس تأخذان من سائر الاشياء؟ أو ليس قد كان (هذا العود) البارحة عند إطفاء السراج أروى و هو عند إسراجك الليلة أعطش؟ قد كنت أنا جاهلا مثلك حتى وفّقني اللّه إلى ما هو أرشد! اربط-عافاك اللّه-بدل العود إبرة أو مسلّة صغيرة، و على أن العود و الخلال (10) و القصبة ربما تعلقت بها الشعرة من قطن الفتيلة إذا سوّيناها بها فتشخص بها (11)، و ربما كان ذلك سببا لانطفاء السراج. و الحديد أملس، و هو مع ذلك غير نشّاف.

قال خاقان: ففي تلك الليلة عرفت فضل أهل خراسان على سائر الناس، و فضل أهل مرو على سائر أهل خراسان!

-من كتاب البيان و التبيين: الشعر:

و العرب يذكرون الكلام الموزون و يمدحون به. و كان الشاعر في الجاهلية يقدّم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي كان يقيّد عليهم مآثرهم و يفخّم شأنهم و يهوّل على عدوّهم. فلما كثر الشعر و الشعراء و اتخذوا الشعر مكسبة و رحلوا إلى السوقة و تسرّعوا إلى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر (12). و لقد قال الأول: الشعر أدنى مروءة السريّ (13) و أسرى مروءة الدنيء (14). قال: و لقد وضع (15) قول الشعر من قدر النابغة، و لو كان في الدهر الاول (16) ما زاده ذلك إلا رفعة. و الخطباء كثيرون، و الشعراء أكثر. و من يجمع الخطابة و الشعر قليل. . . و أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج (17)، قد أفرغ إفراغا واحدا و سبك سبكا واحدا فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان.

و قد يتّفق الوزن في الكلام و لا يكون شعرا. و قد طعن في قوله عليه السلام (18): هل أنت إلاّ إصبع دميت، و في سبيل اللّه ما لقيت (19). و كذلك (طعن في) قول الباعة: «من يشتري باذنجان» ، أو قول الغلام المريض: «اذهبوا بي إلى الطبيب و قولوا قد اكتوى» .

و من شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولا يردّد فيها نظره إشفاقا على أدبه. و كانوا يسمّون تلك القصائد الحوليّات و المقلّدات و المنقّحات و المحكّكات.

-من كتاب البيان و التبيين: الخطابة:

و كانوا يمدحون الجهير الصوت و يذمّون الضئيل الصوت.

ثم اعلم بعد ذلك أن جميع خطب العرب من أهل المدر و الوبر و البدو و الحضر على ضربين، منها الطوال و منها القصار، و لكلّ ذلك مكان يليق به و موضع يحسن فيه. و من الطوال ما يكون مستويا في الجودة و مشاكلا في استواء الصنعة، و منها ذات الفقر الحسان و النّتف الجياد و ليس فيها بعد ذلك شيء يستحق الحفظ. و وجدنا عدد القصار أكثر و رواة العلم إلى حفظها أسرع. و كانوا يحبون ترصيع الخطب بآيات القرآن حتى قال بعضهم: هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القرآن. و أكثر الخطباء يتمثّلون في خطبهم الطوال بشيء من الشعر، و لا يكرهونه في الرسائل إلاّ أن تكون إلى الخلفاء.

-من كتاب البيان و التبيين: فضل العصا:

قال الجاحظ: كانت العرب تخطب بالمخاصر (20) و تعتمد على الارض بالقسيّ و تشير بالعصيّ و القنا حتى كانت المخاصر لا تفارق أيدي الملوك في مجالسها.

قال أبو عثمان (21): و قد طعنت الشعوبية على أخذ العرب المخصرة في  خطبها و القنا (22) و القضيب، و الاتّكاء و الاعتماد على القوس، و الخدّ (23) في الأرض، و الإشارة بالقضيب، بكلام مستكره.

و نبدأ على اسم اللّه تعالى بذكر مذهب الشعوبية و من يتحلّى باسم التسوية (24) و بمطاعنهم على خطباء العرب: بأخذهم المخصرة عند مناقلة الكلام و مساجلة الخصوم بالمنثور و المقفّى و الموزون الذي لم يقفّ و بالأرجاز عند المتح (25)، و في مقامات الصلح و القول عند المعاقدة و المعاهدة، مع الذي عابوا من الإشارة بالعصيّ و الاتّكاء على أطراف القسيّ و خدّ وجه الارض بها، و لزومها العمائم في أيام الجمع و أخذها المخاصر في كل حال و جلوسها في خطب النكاح (26) و قيامها في خطب الصلح و كل ما دخل في باب الحمالة (27).

-من كتاب الحيوان: تقسيم الحيوان:

إنّ العالم بما فيه من الأجسام على ثلاثة أنحاء: مختلف و متّفق و مضادّ، و كلّها في جملة القول جماد و نام (28). . . . ثمّ إن النامي على قسمين: حيوان و نبات. و الحيوان أربعة أقسام: شيء يمشي، و شيء يطير، و شيء يسبح، و شيء ينساح (29). و الشيء الذي يمشي ناس و بهائم و سباع و حشرات. . . .

-من كتاب الحيوان: عجائب الوجود:

ثمّ اعلم أنّ الجبل ليس أدلّ على اللّه من الحصاة (30)، و لا الفلك المشتمل على عالمنا هذا بأدلّ على اللّه من بدن الإنسان. و إنّ صغير ذلك و دقيقه كعظيمه و جليله. و لم تفترق الأمور في حقائقها و إنّما افترق المفكّرون فيها.

-من كتاب الحيوان: الحية التي تصيد طعامها:

إنّ في رمال بلعنبر (31) حيّة تصيد العصافير و صغار الطير بأعجب صيد. زعموا أنّها إذا انتصف النهار و اشتدّ الحرّ و امتنعت الأرض على الحافي و المنتعل و رمض الجندب (32) غمست هذه الحيّة ذنبها في الرمل ثمّ انتصبت كأنّها رمح مركوز أو عود ثابت. فيجيء الطير الصغير أو الجرادة، فإذا رأى عودا قائما و كره الوقوع على الرمل لشدّة حرّه وقع على رأس الحيّة على أنها عود. فإذا وقع على رأسها قبضت عليه. فإن كان جرادة أو جعلا (33) أو بعض ما لا يشبعها مثله ابتلعته و بقيت على انتصابها، و إن كان الواقع على رأسها طائرا يشبعها مثله أكلته و انصرفت.

-من كتاب الحيوان: إلحاح الذبّان (34) على الجاحظ:

فأما الذي أصابني أنا من الذبّان فإنني خرجت أمشي من عند ابن المبارك أريد دير الربيع، و لم أقدر على دابّة. فمررت بعشب و نبات ملتفّ كثير الذبان، فسقط ذباب من ذلك الذبان على أنفي، فطردته فلم أقدر فتحوّل إلى عيني. فزدت في تحريك يدي فتنحّى بقدر شدة حركتي و ذبّي (35) عن عيني. و لذبّان الكلأ و الغياض و الرياض (36) وقع ليس لغيرها. ثم عاد إليّ فعدت عليه. ثم عاد فعدت بأشدّ من ذلك. فلما عاد استعملت كمّي فذببت به عن وجهي. ثم عاد، و أنا في ذلك أحثّ السير أؤمل بسرعتي انقطاعه عني. فلما عاد نزعت طيلساني من عنقي فذببت به عني بدل كمّي. فلمّا عاد و لم أجد له حيلة استعملت العدو (37) فعدوت منه شوطا لم أتكلّف مثله منذ كنت صبيّا. فتلقّاني الأندلسيّ فقال لي: ما لك، يا أبا عثمان؟ هل من حادثة؟ قلت: نعم، أريد أن أخرج من موضع للذبّان عليّ فيه سلطان! فضحك حتى جلس. و انقطع عني، و ما صدّقت بانقطاعه عني حتى تباعد جدا.

-من شعره: الشيخوخة و الشباب:

أ ترجو أن تكون و أنت شيخ... كما قد كنت أيّام الشباب

لقد كذبتك نفسك: ليس ثوب... دريس كالجديد من الثياب (38)

__________________

1) في معجم الأدباء (16:75) : «و أخذ النحو عن الأخفش أبي الحسن، و كان صديقه» . غير أن أبا الحسن الأخفش هو علي بن سليمان المعروف بالأخفش الصغير أو الأخفش الأصغر الذي توفي سنة 315 ه‍ (معجم الأدباء 13:241،257) ، و كان مولده نحو سنة 235 ه‍، فليس من المعقول أن يكون استاذا للجاحظ الذي ولد سنة 160 ه‍. و لعله يقصد الأخفش الاوسط سعيد بن مسعدة الذي توفي نحو 221 ه‍(وفيات الاعيان 1:372) .

2) معجم الأدباء 16:74. و سيحان نهر بالبصرة.

3) التردد، الذهاب.

4) البيان و التبيين 1:85-86؛ راجع 77، و ما بعدها.

5) الوحشي من الناس الذي يسكن بعيدا عن العمران.

6) البيان و التبيين 1:132-133.

7) أملأ، أكثر ملا.

8) البيان و التبيين 1:211.

9) أنصار عثمان بن عفان و خصوم علي بن أبي طالب[عليه السلام] في النزاع بين علي[عليه السلام] و عثمان.

10) عود رفيع من خشب تنظف به الاسنان مما يعلق بها.

11) يرتفع (بغير قصد) .

12) راجع الجزء الأول 179-180.

13) السري: الشريف (يقصد: الشعر أقل محاسن الرجل إذا اتخذه حرفة يمدح به الآخرين) .

14) يقصد: الشعر أشرف ما يتصف به الدنيء (الوضيع) إذا مدحه الآخرون به.

15) وضع: حط، نقص.

16) الزمن القديم (قبل أن يتعود الشعراء التكسب بالشعر) .

17) متجانس الالفاظ، سلسا في القول.

18) المقصود: نفيت عنه صفة الشعر، لأن الوزن اتفق فيه اتفاقا، و لم يقصد الرسول أن ينظم شعرا لما قال هذه الجملة.

19) و يقال ان الرسول استشهد بهذا البيت (و هو في الأصل شعر) .

20) المخصرة: عصا قصيرة، و قد تكون لينة.

21) الجاحظ.

22) القنا جمع قناة: القصبة، الرمح. القسيّ جمع قوس.

23) خد الارض: جرح وجهها، شقها.

24) القائلون بالتسوية: غير العرب الذين كانوا يقولون ان العرب و غير العرب سواء و لا فضل لأمة على أخرى.

25) المتح: استقاء الماء من البئر بالحبل جذبا.

26) عند عقد الزواج يخطب أحد رؤساء القبيلة خطبة قصيرة في فضل الزواج.

27) الحمالة: الكفالة: حمل الدية عن الذين يعجزون عن أدائها.

28) النامي: الذي ينمو، الحي.

29) ينساح: يزحف على بطنه (كالحية) .

30) الحصاة: الحجر الصغير (المتكون على ما هو عليه لا المنفصل من غيره) .

31) بلعنبر-بنو العنبر.

32) الجندب: نوع من الجراد صغير الحجم يقفز و لا يطير. رمض: اشتد الحر على صدره الملامس للرمضاء (الرمل الحار) .

33) الجعل: خنفساء، دويبة سوداء كريهة الريح و المنظر.

34) في القاموس (1:68) : الذباب (بضم الذال) : اسم جمع، و الواحدة ذبابة و الجمع ذبان (بكسر الدال) و الملموح من النص أن الجاحظ يطلق «الذباب» على الواحدة من الذبان.

35) الذب: التنفير، الطرد.

36) للذبان الموجود في الكلأ (العشب، منابت العشب المرتفع) و الغياض (جمع غيضة بفتح الغين: الشجر المجتمع في أرض منخفضة و فيها ماء) و الرياض (جمع روضة بفتح الراء و جمع ريضة بكسر الراء: مكان في الرمل فيه ماء مستنقع و عشب-القاموس 2:333) .

37) العدو (بفتح العين و سكون الدال) : الجري، الركض.

38) الدريس: البالي، الخلق (بفتح الخاء و اللام) ، المتهرئ.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.