أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-10-2014
![]()
التاريخ: 4-08-2015
![]()
التاريخ: 12-4-2017
![]()
التاريخ: 29-3-2017
![]() |
نعتقد أن من صفاته تعالى الثبوتية الحقيقية الكمالية التي تسمى بصفات " الجمال والكمال "، كالعلم والقدرة والغنى والإرادة و الحياة، هي كلها عين ذاته ليست هي صفات زائدة عليها، وليس وجودها إلا وجود الذات، فقدرته من حيث الوجود حياته، وحياته قدرته، بل هو قادر من حيث هو حي، وحي من حيث هو قادر، لا اثنينية في صفاته ووجودها، وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية.
نعم هي مختلفة في معانيها ومفاهيمها، لا في حقائقها ووجوداتها، لأنه لو كانت مختلفة في الوجود وهي بحسب الفرض قديمة وواجبة كالذات للزم تعدد واجب الوجود ولا نثلمت الوحدة الحقيقية، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد (أ).
وأما الصفات الثبوتية الإضافية كالخالقية والرازقية والتقدم والعلية فهي ترجع في حقيقتها إلى صفة واحدة حقيقية وهي القيومية لمخلوقاته وهي صفة واحدة تنتزع منها عدة صفات باعتبار اختلاف الآثار والملاحظات (ب).
وأما الصفات السلبية التي تسمى بصفات " الجلال " فهي ترجع جميعها إلى سلب واحد وهو سلب الإمكان عنه، فإن سلب الإمكان لازمه، بل معناه سلب الجسمية والصورة والحركة والسكون والثقل والخفة وما إلى ذلك، بل سلب كل نقص (ج).
ثم إن مرجع سلب الإمكان في الحقيقة إلى وجوب الوجود، ووجوب الوجود من الصفات
الثبوتية الكمالية (د)، فترجع الصفات الجلالية " السلبية " آخر الأمر إلى الصفات الكمالية " الثبوتية ".
والله تعالى واحد من جميع الجهات لا تكثر في ذاته المقدسة ولا تركيب في حقيقته الواحد الصمد (هـ).
ولا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى رجوع الصفات الثبوتية إلى الصفات السلبية لما عز عليه أن يفهم كيف أن صفاته عين ذاته فتخيل أن الصفات الثبوتية ترجع إلى السلب ليطمئن إلى القول بوحدة الذات وعدم تكثرها، فوقع بما هو أسوأ إذ جعل الذات التي هي عين الوجود ومحض الوجود والفاقدة لكل نقص، وجهة إمكان جعلها عين العدم ومحض السلب - أعاذنا الله من شطحات الأوهام وزلات الأقلام - (و).
كما لا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى أن صفاته الثبوتية زائدة على ذاته فقال بتعدد القدماء ووجود الشركاء الواجب الوجود، أو قال بتركيبه تعالى عن ذلك.
قال مولانا أمير المؤمنين وسيد الموحدين عليه السلام: " وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله. " نهج البلاغة، الخطبة الأولى (ز).
________________
(أ) ولا يخفى عليك أن عدة من المتكلمين والمحدثين ذهبوا إلى أن ذات الواجب لا يتصف بشئ من النعوت والصفات، لكونه بسيطا محضا وأحدي الذات، والاتصاف بالصفات المختلفة يوجب التكثر في الذات، وهو خلف في بساطته، وحمل هؤلاء جميع الاستعمالات القرآنية الدالة على صفاته تعالى على نوع من المجاز بدعوى أن اتصاف ذاته في الكتاب بالعلم والحياة ونحوهما من باب أن نوع فعله تعالى يشبه فعل ذات له علم وحياة.
وفي مقابل هؤلاء عدة أخرى من المتكلمين ذهبوا إلى أن ذاته تعالى متصف ببعض الصفات والنعوت، وصفاته زائدة على ذاته، بحكم مغايرة كل صفة مع الموصوف بها، وحيث أن الموصوف بها قديم وكان هذا الاتصاف من القديم فهذه الصفات كالموصوف واجبات وقدماء، ولذا اعتقدوا بالقدماء الثمانية في ناحية الذات وصفاته (1).
وكلا الفريقين في خطأ واضح، فإن لازم القول الأول هو خلو الذات في مرتبته عن الأوصاف الكمالية وهو عين الحد والنقص عليه، ولا يناسب مع إطلاقه وكونه غير محدود بحد ونهاية، هذا مضافا إلى ما في حمل الاستعمالات الحقيقية القرآنية على المجاز، ومضافا إلى التصريح بخلافه في قوله تعالى: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " (2)، " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " (3). إذ تعليل شئ بشئ اخر ظاهر بل صريح في كون العلة امرا واقعيا على أن نفي الاضداد يرجع إلى اثبات الأوصاف فيما إذا كانت الاضداد مما لا ثالث لها فان نفي كل ضد يلازم وجود الاخر لعدم امكان ارتفاع الضدين اللذين لا ثالث لهما كما لا يمكن اجتماعهما فإذا نفينا عنه الجهل مثلا لزم ان نثبت له تعالى العلم بل الامر كذلك ان قلنا بان التقابل بين العلم والجهل أو القدرة والعجز تقابل السلب والايجاب إذ لا يمكن ارتفاع النقيضين فإذا نفينا الجهل لزم ان نثبت العلم له تعالى لا محالة.
كما أن لازم القول الثاني هو تعدد الواجب وانثلام الوحدة الذاتية كما أشار إليه المصنف في المتن، وتبطله أدلة وحدانية الواجب وبساطته، هذا مضافا إلى أن لازمه افتقار الذات إلى الصفات الزائدة، وهو خلف في كونه غنيا مطلقا ومضافا إلى لزوم النقص ومحدودية الذات، لأنه حينئذ خال عن الصفات في مرتبة الذات، وهو أيضا خلف في كونه كمالا مطلقا وغير محدود بحد ونهاية.
فالحق هو ما صرح به في المتن من كون صفاته عين ذاته تعالى، وهو الذي نسب إلى الحكماء وجملة من المتلكمين، وهو الذي يقتضيه الجمع بين الآيات والروايات. ففي عين كون صدق العالم والحي والقادر ونحوها عليه تعالى حقيقيا لا مجازيا، وبالعناية لا يكون مصداق الصفات إلا ذاتا واحدا بسيطا (4).
هذا كله من باب إثبات المقصود من ناحية ذكر التوالي الفاسد للقولين المذكورين، ولكن يمكن الاستدلال على وجود الصفات وعينيتها مع الذات من طريق آخر، وهو أن ذلك مقتضى كون الواجب مطلق الكمال وصرفه، إذ كمال المطلق لا يشذ عنه كمال من الكمالات، ولا حاجة له إلى غيره، وإلا فهو خلف في كونه مطلق وكل الكمال وصرفه، ولذا صرح العلامة الطباطبائي - قدس سره - بأن الحاجة والقيد لما كانا منفيين عن الله تعالى فلا بد من أن يكون كل كمال له، عين ذاته لا خارجا عنه، إذ الكمال الخارجي لا يمكن تصويره إلا بحاجة الذات إليه، وبكونه مقيدا لا مطلقا (5).
ولعل إليه يشير ما ذكره العلامة الحلي - قدس سره - في شرح التجريد حيث قال في تعليل استحالة اتصاف الذات تعالى بالصفات الزائدة: " لأن وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن كل شئ فلا يفتقر في كونه قادرا إلى صفة القدرة ولا في كونه عالما إلى صفة العلم ولا غير ذلك من المعاني والأحوال " (6).
ثم إنه لا استيحاش في صدق المفاهيم المختلفة على مصداق واحد بسيط من جميع الجهات فإن هذا الصدق لا يختص بهذا المورد، بل عندنا أمور لا تكثر فيها، بل هي بسيطة، ومع ذلك يطلق عليها المفاهيم المختلفة كإطلاق المعلوم والمقدور والموجود على المتصورات الذهنية، مع أنه لا تكثر فيها، بل هي بذاتها معلومة ومقدورة وموجودة لنا، فيمكن أن يكون البسيط مصداقا للمفاهيم المختلفة فذاته تعالى من حيث أنه وجود، موجود، ومن حيث أنه مبدأ للانكشاف عليه، علم، ولما كان مبدأ الانكشاف عين ذاته، فهو عالم بذاته، وكذلك الحال في القدرة وغيرها من الصفات الذاتية الثبوتية.
روى هشام بن الحكم أن الزنديق سأل أبا عبد الله - عليه السلام - أتقول:
إنه سميع بصير فقال أبو عبد الله - عليه السلام -: هو سميع بصير، سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه، وليس قولي: إنه يسمع بنفسه أنه شئ والنفس شئ آخر، ولكنني أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولا وإفهاما لك إذ كنت سائلا فأقول: يسمع بكله لا أن كله له بعض ولكني أردت إفهامك والتعبير عن نفسي وليس مرجعي في ذلك إلا إلى أنه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف معنى (7). وعن الإمام الكاظم - عليه السلام - علم الله لا يوصف منه بأين، ولا يوصف العلم من الله بكيف، ولا يفرد العلم من الله ولا يبان الله منه وليس بين الله وبين علمه حد (8).
ثم إن من اعتقد بزيادة الصفات على الذات هل يكون خارجا عن زمرة المسلمين وحوزة الإسلام أم لا؟ صرح الأستاذ الشهيد المطهري بأن التوحيد الصفاتي أمر يحتاج إلى تعمق زائد، فلذا وقع علماء الأشاعرة في الشرك الصفاتي، ولكنه حيث كان من الشرك الخفي، لا يوجب خروجهم عن حوزة الإسلام والمسلمين (9).
ولعل وجهه أنهم كانوا أيضا من المجتنبين عن الشرك، وحيث لم يعلموا بلازم مختارهم في التوحيد الصفاتي فهو شرك معذور، لأنهم اعتقدوا بالتوحيد ولكن أخطأوا في التطبيق. نعم من التفت إلى لوازم قوله ومع ذلك إعتقد به فلا إشكال في كونه موجبا للخروج عن حوزة الإسلام والمسلمين، فافهم.
هذا كله بالنسبة إلى الصفات الذاتية التي لا حاجة في انتزاعها إلى أمر خارج عن الذات، وهذه الصفات تسمى بالصفات الثبوتية الحقيقية.
(ب) ولا يخفى عليك أن للصفات تقسيمات مختلفة:
منها أنها منقسمة إلى الثبوتية والسلبية، والثبوتية منقسمة إلى الحقيقية المحضة كالحياة أو العلم بذاته، والإضافية المحضة كالخالقية والرازقية، والحقيقية المحضة لا يعبر في مفهومها الإضافة المتأخرة عن وجود الطرفين ويكفى الذات لانتزاعها فهو حي سواء كان شئ آخر أم لا، وهو عالم بنفسه وبغيره سواء كان شئ آخر أم لا، وهو قادر في نفسه سواء كان شئ آخر أم لا وهكذا، وهذه الصفات هي الصفات الحقيقية الثبوتية التي عرفت عينيتها مع الذات، والإضافية المحضة هي التي يكون مفهومها مفهوما إضافيا ويتوقف انتزاعها على وجود شئ آخر مضايف، وراء الذات كالرازقية والخالقية والتقدم والعلية والجواد، لتقومها بالطرفين من الخالق والمخلوق والرازق والمرزوق وهكذا البواقي.
فهذه الصفات معان اعتبارية انتزاعية لا حقايق عينية، إذ ليس في الخارج إلا وجود الواجب وتعلق وجود المخلوق المحتاج في وجوده وبقائه واستكماله إليه، وهو الذي عبر عنه المصنف بالقيومية لمخلوقاته، كما عبر عنه صدر المتألهين بالإضافة الواحدة المتأخرة عن الذات وعبر عنه المحقق اللاهيجي بالمبدئية حيث قال:
" فكما أن ذاته تعالى علم باعتبار، وقدرة باعتبار، وإرادة باعتبار، كذلك تكون مبدئيته للأشياء خالقية باعتبار، ورازقية باعتبار، ورحيمية باعتبار، ورحمانية باعتبار، إلى غير ذلك من سائر الإضافات ولا اختلاف إلا بحسب الاعتبار، فجميع الإضافات والاعتبارات ينتهي إلى المبدئية المذكورة (10).
ثم إن المراد من القيومية هو التقويم الوجودي، لا مبالغة القيام الوجودي فإن الثاني من صفات الذات ومرادف مع وجوب وجوده والتقويم الوجودي كما أوضحه العلامة الطباطبائي - قدس سره - في تعليقته على الأسفار هو كونه بحيث يقوم به غيره من وجود أو حيثية وجودية، فإن الخلق والرزق والحياة والبدء والعود والعزة والهداية إلى غير ذلك حيثيات وجودية في موضوعاتها من الوجودات الإمكانية، وهي جميعا قائمة به تعالى مفاضة من عنده (11).
ثم إن الظاهر من كلام المصنف " فهي ترجع في حقيقتها إلى صفة واحدة حقيقية وهي القيومية لمخلوقاته وهي صفة واحدة تنتزع منها عدة صفات.
الخ " أن القيومية صفة حقيقية لا أمر اعتباري إضافي.
ولعل مراده منها هي الإضافة الإشراقية وهي القيومية الحقيقية الظلية التي هي فعله تعالى، لا أمرا منتزعا إضافيا عن ايجاده تعالى للمخلوقات، وإن صح ذلك أيضا بعد وجود الأشياء بالإضافة الاشراقية، ومن المعلوم أنها ناشئة عن كمال الذات ومن صفات الفعل ولا تصلح لأن تكون وصفا للذات لأنها متأخرة عن الذات تأخر الفعل عن فاعله وبقية الكلام في محله.
وبالجملة فالصفات الثبوتية الإضافية كالخالقية والرازقية وغيرهما أمور اعتبارية انتزاعية عن مقام الفعل بعد فرض تحقق الذات قبله، لا حقايق عينية فهي خارجة عن الصفات التي يبحث عن عينيتها مع الذات أو زيادتها عليها، ولا كمال في نفس الإضافة حتى يكون فقدانها في الذات موجبا لنقص الذات، إذ الكمالات حقايق عينية لا أمور اعتبارية انتزاعية، بل الإضافات المذكورة تنتزع بعد قيومية المبدأ المتعال لكل الأشياء وهي ليس إلا بعد تمامية الذات وكماله، فهذه الإضافات متفرعة على كمال الذات لا أنها موجبة للكمال (12).
(ج) لما عرفت من أنه تعالى صرف الوجود وكماله المعبر عنه بواجب الوجود، إذ مع فرض كونه واجب الوجود يستحيل أن يكون ممكن الوجود وإلا لزم الخلف في وجوب وجوده، فالواجب مقتض لسلب الإمكان عنه وهذا السلب الوحيد مساوق لجميع سلوب النقائص عنه، لأن كل نقص من ناحية الإمكان لا الوجوب، فإذا لم يكن للإمكان فيه تعالى سبيل في أي جهة من الجهات فكل نقص مسلوب عنه تعالى بسلب الإمكان عنه، فكماله الوجودي الذي لا يكون له نهاية وحد يصحح سلب جميع النقائص عنه تعالى (13).
ثم إن سلب الجسمية والصورة والحركة والسكون والثقل والخفة ونحوها بسلب الإمكان عنه واضح. لأن هذه المذكورات من خواص التركيب وعوارضه، إذ المادة والصورة والجنس والفصل لا تكون بدون التركيب، كما أن الحركة والسكون والثقل والخفة من أحوال المحدود والجسم وعوارضه، وحيث عرفت أن الواجب تعالى غير محدود بقيد وحد وشئ من الأشياء، وغير محتاج إلى شئ، بل هو صرف الوجود والكمال والغنى، فلا يكون مركبا من الأجزاء الخارجية المعبر عنها بالمادة والصورة، ولا من الأجزاء الذهنية المعبر عنها بالجنس والفصل، وإلا لزم الخلف في صرفيته ووجوبه، ولزم الحاجة إلى الأجزاء، ولزم توقف الواجب في وجوده على أجزائه ضرورة تقدم الجزء على الكل في الوجود، وهو مع وجوب وجوده وضرورته له محال.
فهذه الصفات أمور لا تمكن إلا في المهيات الممكنة فإذا سلب الإمكان عنه تعالى سلبت هذه الصفات عنه تعالى بالضرورة، إما لأن هذه الأمور من لوازم بعض أصناف المهيات الممكنة بداهة انتفاء الأخص بانتفاء الأعم، أو لأن كل نقص من النقائص المذكورة عين المهيات الإمكانية، فطبيعي الممكن متحد مع هذه النقائص فإذا تعلق السلب به كان معناه سلب جميع أفراده ومنها هذه النواقص لا أنها منتفية بالملازمة كما أشار إليه المصنف بالإضراب حيث قال: " بل معناه سلب الجسمية والصورة الخ ".
(د) إذ سلب الإمكان عنه بأي معنى كان سواء أريد به الإمكان الماهوي أو الإمكان الفقري والوجودي، يرجع إلى أن الوجود ضروري الثبوت له بحيث لا يحتاج إلى شئ من الأشياء، بل مستقل بنفسه وذاته، كما أن سلب النقص والحاجة عنه بقولنا: إنه ليس بجاهل أوليس بعاجز أوليس بمركب ونحوها يرجع إلى إيجاب الكمال وإثباته، لأن النقص والحاجة في قوة سلب الكمال، فسلب النقص راجع إلى سلب سلب الكمال وهو ايجاب الكمال، فمعنى أنه ليس بجاهل سلب سلب العلم ومعناه ايجاب العلم (14).
وبالجملة فهو تعالى حقيقة مطلقة مستقلة غير متناهية واجبة الذات من جميع الجهات، بحيث لا يشذ عنه كمال من الكمالات، بل هو واجدها بالفعل من دون حاجة إلى الغير، ولا سبيل للإمكان والقوة ولوازمهما إليه فهو واجب بالذات لذاته.
(هـ) إشارة إلى ما في سورة التوحيد، والعجب كل العجب من إفادة السورة المباركة التوحيد بمراتبه المختلفة من التوحيد الذاتي والصفاتي، بل الأفعالي بموجز كلامه مع حسن بيانه وإعجاز أسلوبه.
ولقد أفاد وأجاد العلامة الطباطبائي - قدس سره - حيث قال: " والآيتان تصفانه تعالى بصفة الذات وصفة الفعل جميعا فقوله: " الله أحد " يصفه بالأحدية التي هي عين الذات، وقوله: " الله الصمد " يصفه بانتهاء كل شئ إليه وهو من صفات الفعل، - إذ الصمد هو السيد المصمود إليه، أي المقصود في الحوائج على الإطلاق - والآيتان الكريمتان الاخريان أعني: " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " تنفيان عنه تعالى أن يلد شيئا بتجزيه في نفسه، فينفصل عنه شئ من سنخه بأي معنى أريد من الانفصال والاشتقاق، كما يقول به النصارى في المسيح - عليه السلام -: إنه ابن الله، وكما يقول الوثنية في بعض آلهتهم: إنهم أبناء الله سبحانه، وتنفيان عنه أن يكون متولدا من شئ آخر ومشتقا منه بأي معنى أريد من الاشتقاق كما يقول الوثنية. ففي آلهتهم من هو إله أبو إله، ومن هو آلهة أم إله، ومن هو إله ابن إله، وتنفيان، أن يكون له كفوء يعدله في ذاته أو في فعله وهو الايجاد والتدبير (15).
ولقد زاد أيضا بأن الذي بينه القرآن الكريم من معنى التوحيد أول خطوة خطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أن أهل التفسير والمتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة والتابعين ثم الذين يلونهم، أهملوا هذا البحث الشريف.
فهذه جوامع الحديث وكتب التفسير المأثورة منهم لا ترى فيها أثرا من هذه الحقيقة لا ببيان شارح ولا بسلوك استدلالي، ولم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلا ما ورد في كلام الإمام علي بن أبي طالب - عليه أفضل الصلاة والسلام - خاصة، فإن كلامه هو الفاتح لبابها والرافع لسترها وحجابها على أهدى سبيل وأوضح طريق من البرهان، ثم ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميين بعد الألف الهجري، وقد صرحوا بأنهم استفادوه من كلامه (16).
ويشهد لما ذكره ما رواه في " نور الثقلين " عن الكافي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد قال: سئل علي بن الحسين - صلوات الله عليه - عن التوحيد فقال: إن الله عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون، فأنزل الله تعالى " قل هو الله أحد " والآيات من أول سورة الحديد إلى قوله: " عليم بذات الصدور " فمن رام وراء ذلك فقد هلك " (17).
(و) وجعل الذات عين العدم ومحضه فاسد وواضح البطلان، إذ العدم ليس بشئ ولا شئ له حتى يعطي شيئا إلى غيره، وحيث أن كل كمال أمر وجودي وينتهي إليه تعالى، علم أنه محض الوجود وعينه، إذ معطي الشئ لا يكون فاقدا له، بل لا يخلطه العدم ولا يشوبه العدم، لأنه كما عرفت في أدلة اثبات المبدأ صرف الوجود وكمال الوجود من دون أن يكون له حد وقيد وشرط. وهذا من خصيصة واجب الوجود، إذ غيره أيا ما كان، محدود بحد وقيد. وبعبارة أخرى مركب من أيس وليس وايجاب وسلب كالإنسان، فإنه إنسان وليس بملك وجن مثلا في حاق وجوده، فإنه محدود في وجوده وليس بمطلق فيه، وهكذا غيره من سائر الممكنات. ولذا قلنا مرارا: إن واجب الوجود لا يشذ عنه كمال من الكمالات، فهو محض الكمال وعينه وصرف الكمال ولا سبيل للعدم إلى ذاته.
ولا ينافي ما ذكر، حمل الصفات السلبية عليه تعالى ككونه ليس بجسم، لما مر من أنها ترجع إلى سلب السلب، وهو ايجاب الكمال، إذ لا سبيل للسلب المحض ومفهوم العدم المطلق إلى ساحة قدسه، فالسلب لا بد أن يكون إضافيا، ومرجع السلب الإضافي إلى نفي النقائص، والنقائص هي أمور وجودية مشوبة بحدود عدمية، وسلب الحدود العدمية يرجع إلى إثبات الاطلاق الوجودي، وهو عين الكمال ومحضه. وبقية الكلام في محله (18).
(ز) لقد أجاد في توضيح فقرات الخطبة ابن ميثم البحراني حيث قال:
أما قوله: " لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف " وبالعكس فهو توطئة الاستدلال ببيان المغايرة بين الصفة والموصوف، والمراد بالشهادة هاهنا شهادة الحال، فإن حال الصفة تشهد بحاجتها إلى الموصوف وعدم قيامها بدونه، وحال الموصوف تشهد بالاستغناء عن الصفة والقيام بالذات بدونها، فلا تكون الصفة نفس الموصوف. وأما قوله: " فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه " فهو ظاهر، لأنه لما قرر كون الصفة مغايرة للموصوف لزم أن تكون زائدة على الذات، غير منفكة عنها، فلزم من وصفه بها أن تكون مقارنة لها، وإن كانت تلك المقارنة على وجه لا يستدعي زمانا ولا مكانا. وأما قوله: " ومن قرنه فقد ثناه " فلأن من قرنه بشئ من الصفات فقد اعتبر في مفهومه أمرين: " أحدهما الذات، والآخر الصفة. فكان واجب الوجود عبارة عن شيئين أو أشياء، فكانت فيه كثرة، وحينئذ ينتج هذا التركيب: إن من وصف الله سبحانه فقد ثناه. وأما قوله:
" ومن ثناه فقد جزأه " فظاهر. أنه إذا كانت الذات عبارة عن مجموع أمور كانت تلك الأمور أجزاء لتلك الكثرة من حيث أنها تلك الكثرة وهي مبادئ لها، وضم هذه المقدمة إلى نتيجة التركيب الأول ينتج أن من وصف الله سبحانه فقد جزأه. وأما قوله: " ومن جزأه فقد جهله " فلأن كل ذي جزء فهو يفتقر إلى جزء، وجزئه غيره، فكل ذي جزء فهو مفتقر إلى غيره، والمفتقر إلى الغير ممكن فالمتصور في الحقيقة لأمر هو ممكن الوجود لا واجب الوجود بذاته، فيكون إذن جاهلا به. وضم هذه المقدمة إلى نتيجة ما قبلها ينتج أن من وصف الله سبحانه فقد جهله، وحينئذ يتبين المطلوب وهو أن كمال الاخلاص له نفي الصفات عنه، إذ الاخلاص له والجهل به مما لا يجتمعان، وإذا كان الاخلاص منافيا للجهل به الذي هو لازم لإثبات الصفة له، كان إذن منافيا لإثبات الصفة له، لأن معاندة اللازم تستلزم معاندة الملزوم وإذ بطل أن يكون الاخلاص في إثبات الصفة له، تثبت أنه في نفي الصفة عنه، إلى أن قال:
وذلك هو التوحيد المطلق والاخلاص المحقق الذي هو نهاية العرفان وغاية سعي العارف من كل حركة حسية وعقلية (19).
ثم إن هاهنا سؤالا وهو أن مقتضى كلام الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - هو أنه تعالى لا يوصف بشئ من الصفات فكيف يجتمع هذا مع توصيفه بالأوصاف المشهورة كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر وغيرها؟
يمكن الجواب عنه بأن مقتضى الجمع بين قوله المذكور وبين قوله - عليه السلام - في صدر هذه الخطبة في توصيفه تعالى: " الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا اجل محدود " هو أن له صفة غير محدود وحيث أن غير المحدود لا يتكرر ولا يتثنى، فصفته متحدة مع ذاته التي تكون غير محدود، وعليه يرجع إثبات الصفة إلى الصفة المتحدة مع الذات، كما أن النفي يرجع إلى الصفات المحدودة الزائدة على الذات فلا منافاة (20). كما ارتفعت المنافاة بين ذيل تلك الخطبة وتوصيفه تعالى في الكتب الإلهية والسنن القطعية بالأوصاف المشهورة ولابن ميثم هنا جواب آخر أغمضنا عنه وأحلناه إلى مقام آخر فراجع.
دفع شبهات إن الماديين ذهبوا إلى مقالة سخيفة وهي إنكار المبدأ المتعال معه أن هذه المقالة لا يساعدها دليل عقلي ولا دليل عقلائي، بل يدلان على خلافها ولا بأس بالإشارة إليها والجواب عنها هنا (21).
ولا يخفى عليك أنهم ذهبوا إلى ما ذهبوا، إما فرارا من التكليف فإن الاعتقاد بالمبدأ والمعاد يحدد الحرية الحمقاء، مع أن التحديد الإلهي يوجب الحرية الحقيقية ولكنهم يطلبون الراحة وعدم المسؤولية وإشباع الأهواء والميول النفسانية، ويزعمون أن الحرية في إطلاق النفس في هذه الأمور. وإما اشمئزازا من عمل بعض الداعين إلى الدين كأرباب الكنيسة في عهد رنسانس، مع أن العمل سيما عن بعض الداعين لا يلزم بطلان الدعوى. وأما من جهة أوهام وشبهات، مع أنهم لو رجعوا فيها إلى علماء الدين لما بقي لهم فيها شبهة، ولكنهم لم يرجعوا عنادا أو غرورا، أو رجعوا إلى من لم يكن أهلا لذلك " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " (22).
وكيف كان فمن جملة شبهاتهم: أنهم يقولون كيف يمكن أن نعتقد بما لا يكون قابلا للادراك الحسي، مع أنه لا دليل على حصر الوجود في المحسوس بالادراكات الحسية كالسمع والبصر والشامة والذائقة واللامسة، لوجود أشياء من الماديات فضلا عن المجردات لا تدرك بتلك الادراكات، كبعض الأصوات التي لا تدرك إلا بآثارها، مثل الأمواج فوق الصوتية أو دونها التي لا نقدر على سماعها، والأنوار التي لا تحس إلا بآثارها كالأشعة غير المرئية مما يكون قبل اللون الأحمر ودونه، أو بعد البنفسجي وفوقه، هذا مضافا إلى النفس وأفعالها من الادراك والتصور وصفاتها وأحوالها من الخوف والرجاء والمحبة والعداوة والإرادة والترديد واليقين والظن والحزن والفرح والاقبال والادبار وغير ذلك مما نجدها في أنفسنا، ولا يمكن ادراكها بالادراكات الحسية ولا نعلم بها في غير أنفسنا إلا بآثارها.
ومما يشهد على وجود النفس وراء البدن هو إحضار الأرواح وإرسالها وتجريدها والمنافاة الصادقة وغيرها، وبالجملة فالله تعالى حقيقة غير محسوسة بالحواس، سئل مولانا علي بن موسى الرضا - عليهما السلام - " كيف هو وأين هو؟ قال: ويلك، إن الذي ذهبت إليه غلط هو أين الأين وكيف الكيف بلا كيف، فلا يعرف بالكيفوفية ولا بأينونية ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشئ فقال السائل الملحد: فإذا أنه لا شئ إذا لم يدرك بحاسة من الحواس. فقال أبو الحسن - عليه السلام -: ويلك لما عجزت حواسك عن ادراكه أنكرت ربوبيته ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا بخلاف شئ من الأشياء " (23) .
ومن جملة شبهاتهم: أنهم يقولون: أن الاعتقاد بالمبدأ ناش عن الوهم لا البرهان، فإن الموحدين لما رأوا بعض الحوادث ولم يعرفوا عللها الطبيعية اعتقدوا بأنها من ناحية الله، ولذا كلما كشفت العلل الطبيعية صار هذا الاعتقاد ضعيفا.
مع أنه فاسد، لأن كثيرا من المعتقدين عبر التاريخ لا سيما في عصرنا هذا، من العالمين بأسرار الطبيعة في الجملة، و مع ذلك اعتقدوا بالمبدأ المتعال، وازدادوا في الايمان والاعتقاد بازدياد كشف العلل المذكورة. فالاعتقاد بالمبدأ ليس ناشيا عن الجهل بالأسباب والعوامل، بل ناش عن النظم المشاهد في العالم أو الإمكان الذي لا يشذ عنه شئ مما سوى الله، سواء عرفت الأسباب أو لم تعرف، بل كلما ازدادت المعرفة بها زادتهم ايمانا، ولا وجه لنسبة استناد الايمان إلى الوهم في جميع المعتقدين والموحدين، ولو سلم ذلك في شرذمة من المعتقدين فلا يضر بصحة الاعتقاد بالمبدأ بعد كونه مبتنيا على أصول أصلية عقلية، أو عقلائية في جلهم.
ومن جملة شبهاتهم: أنهم يقولون: إن مقتضى كلية أصل العلية هو أن يكون للمبدأ أيضا علة أخرى، مع أن المعتقدين بالمبدأ يجعلونه العلة الأولى وينقضون بقولهم ذلك كلية الأصل المذكور، لتوقف العلية عندهم على المبدأ، ومع عدم كلية الأصل المذكور لا مجال للالتزام بانتهاء العلل والمعلولات إلى الواجب، لجواز توقف العلية على غيره أيضا بعد عدم كلية الأصل المذكور.
ولكنهم لم يتأملوا فيما ذكره الموحدون، وإلا لم يقعوا في هذه الشبهة، فإن الموحدين لا يقولون: بأن كل شئ يحتاج إلى علة حتى يلزم ذلك، بل يقولون:
إن كل معلول يحتاج إلى علة. ومن المعلوم ان المبدأ الواجب الوجود ليس بمعلول فهو غير مشمول للأصل المذكور، فلا يلزم من القول بكون المبدأ المتعال هو العلة الأولى للأشياء، نقض، للأصل المذكور كما لا يخفى.
ومن جملة شبهاتهم: أنهم يقولون: إن ما تنتهي إليه الكشفيات الجديدة في العلم الكيمياوي أن مقدار المادة ووزنها ثابتة ولا يزاد عليه في التبدلات والتحولات ولا ينقص، فلا يوجد شئ من العدم ولا يعدم شئ رأسا بعد وجوده. وعليه فلا حاجة إلى سبب خارجي مع أن الموحدين اعتقدوا بأن الأشياء مخلوقة من العدم.
وأجيب عنه: بأن قانون بقاء المادة على فرض صحته (24) أصل علمي وتجربي، فلا يعم بالنسبة إلى غير مورد التجربة من السابق واللاحق، فلا يمكن به حل مسألة فلسفية، وهي أن المادة هل تكون أزلية وأبدية أم لا؟ بل يحتاج فيه إلى العلوم العقلية، هذا مضافا إلى أن ثبات مقدار المادة والطاقة في التحولات والتغييرات لا يستلزم غناءها عن العلة بعد وجود ملاك الحاجة فيها وهو الإمكان وافتقارها الوجودي وهو أمر يدوم بدوامها، فالمادة مخلوقة وباقية بإذنه تعالى فهي محتاجة إليه تعالى في حدوثها وبقائها.
هذا مضافا إلى تجدد الحياة والشعور ونحوهما في كل لحظة مع أنها ليست من قبيل المادة والطاقة حتى ينافي ازديادها أو نقصانها مع أصل بقاء المادة والطاقة.
ثم إن الخلق باعتقاد الموحدين ليس ناشئا عن العدم، إذ العدم فقد، والفاقد لا يعطي شيئا، بل هو ناش من إيجاده تعالى وهو عين الوجود.
ومن جملة شبهاتهم: أنهم يقولون على قاعدة تطور الأنواع وخروج بعضها من بعض: إن كل نوع متولد من نوع آخر، فالإنسان متولد من الحيوان كما تشهد الآثار الحفرية على أنه متولد من القردة، مع أن الإلهيين اعتقدوا بأن الله خلق كل واحد من الأنواع على حدة.
وأجيب عنه: بأن فرضية التطور على فرض صحتها في مورد، لا دليل على عمومها وشمولها: لأن التجربة لا تقدر على إثبات القاعدة والقانون من دون ضميمة البراهين والعلوم العقلية، فدعوى تطور كل نوع من نوع آخر بمجرد تجربة تولد نوع من نوع، لا دليل عليها.
هذا مضافا إلى أن المكشوف بالآثار الحفرية هو التكامل والتطور في ناحية من النواحي كالأعضاء أو الصفات في نوع، لا تولد نوع من نوع، ولذلك قال العلامة الطباطبائي - قدس سره -: " ولم يعثر هذا الفحص والبحث على غزارته وطول زمانه على فرد نوع كامل متولد من فرد نوع آخر على أن يقف على نفس التولد دون الفرد والفرد وما وجد منها شاهدا على التغيير التدريجي فإنما هو تغيير في نوع واحد بالانتقال من صفة لها إلى صفة أخرى لا يخرج بذلك عن نوعيته والمدعى خلاف ذلك " (25).
وقال في موضع آخر: " إن التجارب لم يتناول فردا من أفراد هذه الأنواع تحول إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان، وإنما يتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصها ولوازمها وإعراضها - إلى أن قال -: فالحقيقة التي يشير إليها القرآن الكريم من كون الإنسان نوعا مفصولا عن سائر الأنواع غير معارضة بشئ علمي " (26).
والأضعف منه هو دعوى منافاة قاعدة تطور الأنواع للاعتقاد بالمبدأ المتعال، فإن التطور والتكامل على فرض صحته في الأنواع يكون بنفسه آية لوجود المبدأ المتعال، لأنه يحتوي نظما وانسجاما خاصا لا يمكن أن يتحقق بدون وجود ناظم حكيم ذي شعور.
هذا مضافا إلى أن النظام المتطور أيضا من الممكنات التي يستحيل أن تكون موجودة بدون الانتهاء إلى الواجب المتعال، ويشهد له أن كثيرا من المعتقدين بفرضية تطور الأنواع كانوا من المعتقدين بالله تعالى.
ومن جملة شبهاتهم: أنهم يقولون: بأن المادة أزلية وأبدية وباصطلاح الموحدين هي واجب الوجود. فلا حاجة إلى سبب وعلة خارجية.
وأجيب عن ذلك:
أولا: بأن الدليل التجربي الذي لا يحكي إلا عن موارد التجربة لا يقدر على حل المسألة الفلسفية وهي أن المادة هل تكون أزلية وأبدية أم لا، لأن السابق واللاحق خارجان عن دائرة التجربة وحيطتها.
وثانيا: أن الثابت في العلوم الطبيعية هو إمكان تبديل العناصر الأولية البسيطة باصطلاح القوم بعضها إلى بعض كتحويل اليورانيوم إلى عنصر الراديوم ومنه إلى الرصاص، أو تبديل المادة إلى الطاقة والطاقة إلى المادة، وثبت أيضا أن من الممكن أن يتحول بعض أجزاء الذرة إلى جزء آخر كتحويل بروتون أثناء عملية الذرة إلى نيوترون وبالعكس (27) وهو أحسن شاهد على أن العناصر، بل المادة والطاقة بما هي عناصر ومادة وطاقة لا تكون ذاتية، وإلا فلم تتخلف. فهذه بالنسبة إلى المادة عوارض وحيث أن لكل صفة عارضة، علة خارجية، فلهذه العناصر والمادة والطاقة علة خارجية، فبان أن ذات المادة في كونها عناصر أو مادة أو طاقة تحتاج إلى سبب خارجي، فحديث غنى المادة عن العلة كذب محض (28).
وثالثا: أن خواص واجب الوجود من كونه عين الفعلية، فلا سبيل للقوة والاستعداد والإمكان إليه، ومن كونه بسيطا مطلقا فلا مجال لتوهم الأجزاء الخارجية والذهنية كالجنس والفصل له، ومن كونه غير مشوب بالعدم فلذا لا يمكن فرض عدمه لا في السابق ولا في اللاحق، وغير ذلك من خواصه لا توجد في المادة حتى تكون باصطلاح الموحدين واجب الوجود، فإن المادة إمكانات لا فعليات. ومن شواهده هو التبدل والتحول الدائم فيها فهي قبل التحول إلى شئ تكون بالنسبة إليه إمكانا استعداديا، ولا تكون هي بالفعل، وإنما صارت هي بعد اجتماع الشرائط والأسباب، وحيث إن القوة هي فقدان الفعلية فلا تجتمع قوة الشئ مع فعليته في آن واحد، فالمادة التي تكون قابلة للتحول لا تخلو عن القوة والاستعداد في حال من الأحوال.
وهكذا أن المادة مركبة، سواء كانت العناصر الأولية أربعة كما عن الأقدمين من اليونانيين: الماء والهواء والتراب والنار، أو سبعة بإضافة:
الكبريت والزئبق والملح كما عن بعض آخر غيرهم، أو أزيد إلى أن بلغت إلى اثنين وتسعين ذرة - أتم - كما انتهت إليه الفيزياء الحديثة في اليورانيوم وهو أثقل العناصر المستكشفة إلى الآن، فرقمه الذري -92- بمعنى أن نواته المركزية تشتمل على -92- وحدة، من وحدات الشحنة الموجبة، ويحيط بها ما يماثل هذا العدد من الألكترونات، أي من وحدات الشحنة السالبة (29).
هذا مضافا إلى أن نفس الذرة - أتم - أيضا مركب، لأنها لا تخلو عن الجهات الست، وما لا يخلو عن الجهات الست، ذو أبعاد ومركب، وإن لم يمكن تجزئتها بالآلات والأدوات المتعارفة، وتسميتها بالجزء البسيط الذي لا يتجزأ، أو الجوهر الفرد، مسامحة في الحقيقة ولعلها باعتبار الأدوات الميسورة. فالمادة أيما صغرت لا تخلو عن التركيب مطلقا، ومن المعلوم أن كل مركب محتاج إلى أجزائه وإلى مؤلف تلك الأجزاء، والواجب غني غن كل حاجة.
على أن كل جزء من أجزاء المركب مقدم عليه في الوجود، إذ المركب يتوقف على أجزائه في الوجود توقف الكل عليها، فالمركب يوجد بعد وجود أجزائه وليس له قبل وجود تلك الأجزاء وجود، مع أن الواجب تعالى ليس بمركب ولا مسبوق بالعدم، كما أنه ليس بمحدود. وبالجملة أوصاف المادة تتغاير مع أوصاف الواجب فلا تليق بأن تسمى واجب الوجود.
ورابعا: بأن المادة إذا كانت استعدادا لقبول التطورات وليست بفعليات، فسبب صيرورة القوة إلى الفعلية: إما عدم - وهو كما ترى - إذ العدم الذي هو لا شئ لا يصلح للتأثير. وإما هو نفسها، وهو أيضا فاسد، لأنها في حال كونها قوة فاقدة الفعليات، إذ يستحيل أن تجتمع قوة الأشياء مع فعليتها في حال واحد، فانحصر الأمر إلى أن السبب هو غير المادة وهو الله تعالى.
وخامسا: أن ملاك الحاجة إلى العلة موجود في المادة أيضا، فإنها ممكنة الزوال، إذ لا يلزم من فرض عدمها محال، وكل ما لا يلزم من فرض عدمه محال فهو ممكن الزوال، ومن المعلوم أن الشئ الذي يمكن زواله ليس بواجب، بل هو ممكن من الممكنات التي تحتاج في وجودها إلى الواجب تعالى.
" ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل " (30).
ومما ذكر يظهر أيضا سخافة ما ذهبت إليه الماركسية، فإن فرضياتهم مبتنية على أصول مخدوشة مر ضعف بعضها، كأزلية المادة. ولقد أفاد وأجاد في بيان وهن تلك الأصول، الشهيد الصدر - قدس سره - في فلسفتنا (31)، فلا دليل للماديين إلا الوهم والخرص، كما نص عليه في قوله عز وجل: " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون " (32).
_______________
(1) أحدها الذات وباقيها هي الحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والإرادة والكلام النفسي راجع شرح التجريد وشرح الباب الحادي عشر والبداية والنهاية وغيرها.
(2) الاسراء: 110.
(3) الأعراف: 180.
(4) گوهر مراد: ص 172.
(5) أصول فلسفه: ج 5 ص 180، وعبارته باللغة الفارسية هكذا: چون احتياج وقيد از خدا منفى است ناچار هر صفت كمالى كه دارد عين ذاتش خواهد بود نه خارج از أو زيرا كمال خارج از ذات بي احتياج وقيد صورت نمى گيرد.
(6) شرح التجريد: ص 182.
(7) بحار الأنوار: ج 4 ص 69.
(8) توحيد الصدوق: 138.
(9) جهان بيني: ص 92 - 93.
(10) راجع گوهر مراد: ص 177 وغير ذلك من الكتب.
(11) الاسفار: ج 6 ص 120.
(12) راجع گوهر مراد للمحقق اللاهيجي: ص 177 وغيره.
(13) راجع الاسفار: ج 6 ص 122.
(14) بداية الحكمة: ص 137 - 138.
(15) الميزان: ج 20 ص 545.
(16) الميزان: ج 6 ص 109.
(17) نور الثقلين: ج 5 ص 706 ح 46.
(18) راجع النهاية: ص 243 - 244 وتعليقتها: ص 438.
(19) شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: ج 1 ص 123.
(20) راجع جهان بيني: ص 56.
(21) راجع كتاب " فلسفتنا "، وكتاب " آموزش عقائد " وغيره من الكتب.
(22) النحل: 43.
(23) الأصول من الكافي: ج 1 ص 78.
(24) راجع دروس في أصول الدين: ص 33 - 37.
(25) الميزان: ج 16 ص 272.
(26) الميزان: ج 4 ص 154.
(27) راجع فلسفتنا: ص 320.
(28) راجع فلسفتنا: ص 100.
(29) راجع فلسفتنا: ص 317 - 319.
(30) الانعام: 102.
(31) راجع أيضا إلى كتاب: نقدي فشرده بر أصول ماركسيسم، وكتاب: پاسدارى از سنگرهاى ايدئولوژيك، وغير ذلك.
(32) الجاثية: 24.
|
|
النوم 7 ساعات ليلا يساعد في الوقاية من نزلات البرد
|
|
|
|
|
اكتشاف مذهل.. ثقب أسود ضخم بحجم 36 مليار شمس
|
|
|
|
|
قرّاء جائزة العميد الدولية يؤدون مراسم زيارة مرقد أبي الفضل العباس (عليه السلام)
|
|
|