أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-7-2022
2011
التاريخ: 27-2-2021
1957
التاريخ: 2023-03-26
1625
التاريخ: 1-8-2021
2441
|
من أهم الامور التي تعمل على تقوية دعائم الثقة العامة والخاصة بين الأفراد هو (الوفاء بالعهد والميثاق) الذي يعد من الفضائل الأخلاقية المهمة في حركة الإنسان التكاملية ، وبعكس ذلك (نقض العهد) الذي يعد من أسوأ الخصال والرذائل الأخلاقية.
إنّ لزوم الوفاء بالعهد يعدّ ركناً من أركان الفطرة الإنسانية السليمة ، وبتعبير آخر إنّ هذا المفهوم هو من الأمور الفطرية غير القابلة للإنكار.
والفطرة هي من الامور التي يدركها كل إنسان ويقبلها كل شخص بدون الحاجة إلى دليل وبرهان ، من قبيل حسن العدل وقبح الظلم وكذلك أهمية الوفاء بالعهد وقبح نقض العهد حيث تعتبر من أوضح الامور الفطرية لدى الناس ، وكل إنسان عند ما يراجع وجدانه يرى صحة هذه المفاهيم ويسلم بها من موقع القبول والإذعان الوجداني ، ولهذا السبب فانّ هذه المفاهيم يقبل بها كل قوم من الأقوام البشرية سواءاً كانوا على دين معين ومذهب سماوي أولم يكونوا كذلك ، فانّ الوفاء بالعهد مطلوب عند جميع الأمم والشعوب حتى أنّ الذي يتحرك على مستوى نقض العهد يسعى إلى ذريعة وحجة لتبرير هذا التصرف حتى لا يتهم بنقض العهد ولا يزول اعتباره وشخصيته بين الآخرين ، لأنّه يعلم أنّ الناس لا ترضى بنقض العهد ولا تحب المرتكب لهذا الفعل حيث لا تبقى قيمة واعتبار لديهم لمن يتهم بنقض عهده ووعده وسيفقد بذلك تأييد الناس وحبّهم وتعاونهم معه.
وحتى في الأقوام الجاهلية نرى أنّ الوفاء بالعهد والميثاق يعدّ من الوظائف والواجبات الحتمية للأفراد حيث نجد سعيهم الكبير في حفظ عهودهم والتعامل مع الآخرين من موقع الوفاء بالعهد والميثاق ، ونقرأ في الآيات القرآنية والروايات الإسلامية في هذا الباب تعابير قوية وشديدة تبين الوفاء بالعهد وتذم الذين ينقضون العهد والميثاق.
وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته وضوحاً أكثر في هذا الباب :
1 ـ (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا)([1]).
2 ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ)([2]).
3 ـ (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُولاً)([3]).
4 ـ (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)([4]).
5 ـ (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)([5]).
6 ـ (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً)([6]).
7 ـ (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)([7]).
8 ـ (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)([8]).
تفسير واستنتاج :
«الآية الأولى» من الآيات محل البحث تتحدث عن الأساس والأصل لجميع أعمال الخير والصلاح وتذكر ستة صفات وعناوين لذلك ، الأول منها هو الإيمان بالله تعالى ويوم القيامة والملائكة والأنبياء والكتب السماوية ، ثم تأتي بعدها مسألة الأنفاق في سبيل الله وتشير أيضاً إلى إقامة الصلاة وأداء الزكاة ، وتذكر في الصفة الخامسة من هذه الصفات (الوفاء بالعهد) وفي الصفة السادسة تأتي أهمية الصبر والاستقامة في مقابل تحدّيات الواقع الصعبة والمشاكل التي تواجه الإنسان في حركة الحياة والصبر في ميدان القتال ، وبالنسبة إلى الوفاء بالعهد تقول (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا).
وهذا التعبير يوضّح ، أنّ الوفاء بالعهد في دائرة المفاهيم الإسلامية والقرآنية مهم إلى درجة أنّه وقع رديفاً للإيمان بالله والصلاة والزكاة.
ومع ملاحظة أنّ المادة الأصلية لهذه الكلمة (وفى) هي أن يصل الشيء إلى حدُّ الكمال والتمام ، فعند ما يترجم الشخص عهده ووعده عملياً على أرض الواقع يقال له (وفى بعهده) أو (أوفى بعهده) ، وعليه فإنّ الثلاثي المجرّد أو المزيد لهذه المفردة يأتيان بمعنى واحد.
وكلمة (عهد) تأتي في الأصل بمعنى (الحفظ) ولهذا فإنّها تقال لكل شيء لا بدّ من حفظه والاهتمام به فيقال (عهد) لذلك.
والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم حث على وجوب الوفاء بالعهد في هذه الآية بدون أي قيد وشرط ، وعليه فإنّه يشمل جميع أشكال العهد مع الله تعالى ومع الناس ، سواءً كانوا مسلمين أو غير مسلمين ، أي ما دام الشخص قد ارتبط بعهد وميثاق مع المسلمين ، فيجب عليهم مراعاة عهده والوفاء به.
«الآية الثانية» تستعرض صفات المؤمنين الحقيقيين وتفتتح السورة آياتها بالقول «قَد أَفلَحَ المُؤمِنُونَ» ثم تذكر سبع صفات من الصفات المهمّة والأساسية للمؤمنين ، وفي الصفة الخامسة والسادسة تقول : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ).
وفي هذه الآية والتي وردت في القرآن الكريم في سورتين نجد أنّها أشارت إلى الأمانة والعهد بصورة مقترنة ، ولعل ذلك إشارة إلى أنّ الأمانات هي نوع من العهد والميثاق كما أنّ العهد هو نوع من الأمانة.
والتعبير بكلمة (راعون) المأخوذة في الأصل من (رعى) يتضمّن مفهوماً أعمق من مفهوم الوفاء بالعهد ، لأنّ الرعاية والمراعاة تأتي بمعنى المراقبة الكاملة من موقع المحافظة بحيث لا يصل أي مكروه أو ضرر للشيء ، فالإنسان الذي قبل الأمانة أو ارتبط مع غيره بعهد وميثاق يجب عليه مراعاته بحيث لا يصل أي ضرر لهذه الأمانة والعهد.
وطبعاً فإنّ الأمانة لها مفهوم واسع جدّاً وكذلك العهد أيضاً حيث ستأتي الإشارة إلى ذلك لاحقاً.
«الآية الثالثة» تتحدّث عن مسألة لزوم الوفاء بالعهد بتعبير جديد وتقول : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً).
وقد ذكر المفسّرون تفسيرات عديدة في جملة (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُولاً).
أحدها : ما ذكرنا آنفاً من أنّ الإنسان هو المسؤول ، والعهد مسؤول عنه ، يعني أنّه يسأل الإنسان عن وفائه بعهده.
والآخر : أنّ نفس العهد يكون مسؤولاً ، كما ورد في عبارة الموءودة التي يسأل عنها «إذا المَوءودةُ سُئِلتْ» وكأنّه إشارة إلى الموجودات العاقلة والحية التي يسأل منها ، هل نالت حقّها ووفى الإنسان لها أم لا؟ وهذا هو نوع من المجاز الذي يستعمل للتأكيد.
ولكن التفسير الأول أقرب لسياق الآية وأكثر انسجاماً معها.
وضمناً يجب الالتفات إلى أنّ سورة الاسراء وردت في بيان أهم الأحكام الإسلامية من الآية 22 إلى 39 ، من مسألة التوحيد إلى حق الوالدين إلى قتل النفس والزنا وأكل أموال اليتامى والوفاء بالعهد وحتى مسؤولية العين والاذن والقلب ، وهذا يبيّن أنّ مسألة الوفاء بالعهد جاءت ضمن إطار أهم الأحكام الإسلامية.
واللطيف أنّ هذه الأحكام ختمت بقوله تعالى : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ).
وفي «الآية الرابعة» بعد أن يذم القرآن الكريم طائفة من أهل الكتاب الذين لم يراعوا الأمانة في تعاملهم تقول : (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).
وهنا نجد أنّ الوفاء بالعهد وقع رديفاً للتقوى التي هي أفضل زاد السالك إلى الله تعالى وسبب ورود الإنسان إلى الجنّة والمعيار الأتم لشخصية الإنسان ومقامه عند الله تعالى.
وهذا التعبير يدلّ على أنّ الوفاء بالعهد هو أحد الفروع المهمّة للتقوى ، وتعبير الآية هنا هو من قبيل ذكر العام بعد ذكر الخاص.
«الآية الخامسة» من الآيات مورد البحث تتحدّث عن ضرورة احترام العهود من قبل المسلمين تجاه المشركين وتأمرهم بالوفاء بعهودهم ما دام المشركون لم يتحرّكوا في تعاملهم مع المسلمين من موقع النقض لهذه العهود (رغم أنّ الصارف المقابل هم من الكفّار المشركين) ، فتقول الآية : (بعد إعلان البراءة من المشركين كافّة) (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).
ونعلم أنّ مراسم البراءة من المشركين وقعت في السنة التاسعة للهجرة وبعد فتح مكّة واستقرار الإسلام في ربوع الحجاز والجزيرة العربية حيث أمر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الإمام علي (عليه السلام) بقراءة الآيات الاولى من سورة براءة لمراسم الحج أمام جميع الناس والإعلان للمشركين بأنّه بقيت لهم فرصة أربعة أشهر فأمّا أن يتركوا الشرك ويدخلوا في الإسلام أو يمتنعوا من الدخول إلى المسجد الحرام ، وبعد انقضاء الأشهر الأربعة عليهم فيما لو لم يتركوا الشرك وعبادة الأوثان أن يستعدوا لمواجهة المسلمين عسكرياً.
ولكن مع هذا الحال فإنّ بعض المشركين كانت تربطهم بالمسلمين رابطة العهد والميثاق فأمر الله تعالى أن يحفظوا لهم عهودهم إلى انتهاء مدّتهم.
وهنا يتبيّن من خلال استثناء هذه الطائفة إلى جانب ما ورد من التعبير الشديد في بداية سورة التوبة ، يتبيّن من ذلك الأهميّة الكبيرة التي يوليها الإسلام للوفاء بالعهد ، ويتبيّن أيضاً ضمن هذا الاستثناء أنّه عند ما يلغي النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عهده وميثاقه مع بعض الطوائف الاخرى فالسبب في ذلك أنّهم كانوا قد بدأوا نقض العهد أولاً ، وإلّا فلا دليل على اختلاف تعامل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) معهم عن غيرهم.
وفي ذلك اليوم كانت وظيفة الإمام علي (عليه السلام) هي أن يعلن للناس في مراسم الحج أربع مواضيع :
1 ـ إلغاء العهود مع المشركين الذين سبق وأن نقضوا عهدهم مع المسلمين.
2 ـ منع المشركين من الاشتراك في مراسم الحج للسنة القادمة.
3 ـ منع ورود المشركين إلى بيت الله الحرام.
4 ـ منع الطواف في حالة التعرّي والتي كانت سائدة في ذلك الزمان.
وعلى أية حال ونظراً إلى أنّ هذه الواقعة كانت بعد فتح مكّة وأنّ المسلمين كانوا قد سيطروا على تلك المنطقة سيطرة تامّة ولا تستطيع أي قدرة أن تقف في مقابلهم إلّا أنّهم في نفس الوقت احترموا عهودهم مع طائفة من المشركين ، وبذلك يتّضح أنّ مسألة الوفاء بالعهد لا تقبل المساومة تحت أية ظروف ([9]).
والملفت للنظر أنّ مدّة العهد الباقية لهذه الطائفة (قبيلة بني خزيمة) عشر سنوات منذ صلح الحديبية ، وكان قد بقي لديهم من هذا الزمان وهو عام الفتح سبع سنين ، حيث يجب على المسلمين تحمّل وجودهم إلى نهاية هذه المدّة الطويلة ، فمع أنّ موقف الإسلام الشديد تجاه مسألة الشرك والوثنية إلّا أنّه مع ذلك أوجب على المسلمين رعاية هذا الحق في هذه المدّة الطويلة.
«الآية السادسة» تخاطب جميع المسلمين وتأمرهم بالوفاء بعهد الله وتقول : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً).
أمّا المراد من عهد الله تعالى في هذه الآية ما هو؟ فهناك اختلاف بين المفسّرين ، فمنهم من ذهب إلى أنّ معناه هو العهود التي يبرمها الناس مع الله تعالى ، أو البيعة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، في حين ذهب البعض الآخر إلى أنّ المراد هو جميع العهود التي يبرمها الإنسان مع الله تعالى أو مع الناس أو النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، وعليه يكون لها مفهوم عام وأنّ الله تعالى أمر بذلك ، فهو نوع من عهد الله تعالى ، أو يكون المراد العهود التي تبرم بين الأشخاص في ظل اسم الله تعالى كما يشبه الإيمان القسم الذي يورده الإنسان باسم الله مع الآخرين.
وعلى كلّ حال فإنّ مفهوم الآية سواء كان عامّاً أو خاصّاً فإنّه يدل على أهمية الوفاء بالعهد في دائرة المفهوم القرآني والإسلامي.
واللطيف أنّ القرآن الكريم بعد أن ذكر مسألة الوفاء بالعهد والقسم في هذه الآية فإنّه يتابع ذلك بالقول : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ»)([10]).
ويستفاد من هذا التعبير أنّ عدم الالتزام باليمين والعهد من موقع الوفاء والانضباط هو نوع من الحماقة والسفه ، وكذلك الحال في الاستفادة من العهود لغرض الخيانة والخداع والفساد.
ودليل ذلك واضح ، لأنّه لو تزلزلت أركان الوفاء بالعهد واليمين في المجتمع البشري فإنّ ذلك من شأنه أن يثير الفوضى وعدم الثقة بالآخرين ، وفي الواقع فإنّ الناقضين للعهود يضربون جذورهم بأيديهم ، ولهذا فلا يوجد عاقل يرتكب مثل هذه الحماقة.
ونظراً إلى أنّ بعض الأقوياء أو الفئات المتنفّذة في المجتمع تبيح لنفسها أحياناً نقض العهد بذرائع واهية وتتحرّر من قيود القيم والتعهدات الفردية والاجتماعية لذلك يقول القرآن الكريم : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) وهو في الحقيقة إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أنّه إذا كانت فئة من الناس أقوى وأكثر عدداً من فئة اخرى فلا ينبغي ذلك أن يكون مسوّغاً لنقض العهد من قبلهم ، لأنّ ذلك سوف يتسبب فيما بعد بالحاق الضرر لهم ، فالآخرون عند ما تسنح لهم الفرصة ويكونون أقوياء في المستقبل سوف يعاملوهم بنفس المعاملة.
وهذه الآية لا تقرّر ضرورة الوفاء بالعهد في الإطار الفردي فحسب ، بل تتسع لتشمل البنود والمواثيق الجماعية والعالمية أيضاً كما تشير إلى ذلك هذه العبارة من الآية الشريفة : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ).
وفي «الآية السابعة» يشير القرآن الكريم إلى سيرة الأقوام السالفة وعاقبتهم المؤلمة ويذكر بعض نقاط ضعفهم وانحرافهم ، ومن ذلك يشير إلى أمرين مهمين في دائرة السلوكيات السلبية الذميمة ، يقول : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ).
وهذا العهد هو العهد العام الذي أخذه الله على الامم السابقة ولكنّهم نقضوه ولم يفوا به ، ولكن ما هو ذلك العهد العام؟
هناك اختلاف وكلام بين المفسّرين في هذا المجال ، فذهب البعض إلى أنّ المراد منه العهد والميثاق الفطري الذي قرّره الله تعالى في واقع الفطرة لجميع الناس أن يتحرّكوا في خط التوحيد والتقوى والاستقامة ، مضافاً إلى أنّ النعم والمواهب الإلهية المعطاة للإنسان من العقل والعين والاذن وغير ذلك ، فإنّ مفهومها أنّ الإنسان يستخدمها في طريق الخير والصلاح ويفتح أبواب عقله وفكره على الحقائق والامور الواقعية ويذعن لها من موقع الطاعة والإيمان ولا يستسلم أمام الأوهام والخرافات ولا يتحرّك بوحي الأهواء والشهوات.
وكذلك يمكن أن تكون إشارة إلى العهد والميثاق الذي أخذه الأنبياء (عليهم السلام) على الناس في بداية الدعوة ولكن الكثير من الناس الذين يقبلون بهذه الدعوة السماوية في البداية ، فإنّهم ينقضونها فيما بعد ويتحرّكون في خط الانحراف والباطل.
ويمكن أن تكون إشارة إلى جميع العهود والمواثيق المذكورة آنفاً سواءً الفطرية والتشريعية.
وعلى أيّة حال فإنّ الآية الشريفة محل البحث شاهدة على هذه الحقيقة ، وهي أنّ مسألة نقض العهد وعدم الالتزام بالمواثيق هي أحد العوامل المؤثّرة في شقاء الامم وانحطاطهم وسلوكها في خط الانحراف والضياع كما نجد هذا الحال في الامم الدنيوية المعاصرة التي تلتزم بالعهود والمواثيق ما دامت ضعيفة ولكن إذا وجدت في نفسها قوّة وقدرة على الطرف الآخر فإنّها لا تعترف بأي عهد وميثاق ، بل تكون الرابطة بينهما هي رابطة القوة ، والقانون هو قانون الغاب.
«الآية الثامنة» والأخيرة من الآيات مورد البحث بعد أن تتحدّث عن بعض جرائم اليهود وأزلامهم تقول : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، ونقض العهد هذا من جانبهم يدلّ على كفرهم وعدم إيمانهم.
فمن جهة نرى أنّهم قد أخذ عليهم العهد بأن يؤمنوا بالنبي الموعود الذي وردت البشارة به في التوراة ، ولكنهم ليس لم يؤمنوا به فحسب بل أنهم نقضوا العهود مع هذا النبي بعد هجرته إلى المدينة وانضمّوا إلى صفوف أعدائه وخاصة في حرب الأحزاب حيث اتحد اليهود مع المشركين ضد رسول الله والمسلمين في المدينة وأجهروا بعداوتهم واستعدوا للمشاركة في قتال المسلمين.
وهذا هو خلق اليهود القديم حيث ينقضون العهود والمواثيق دائماً ؛ وينسون جميع المقررات والعهود فيما لو تعرضت مصالحهم إلى الخطر في أي زمان ومكان.
وفي هذا العصر أيضاً نجد صدق قول القرآن الكريم في هذا الوصف لليهود والصهاينة وأنهم كلما تعرضت منافعهم إلى الخطر فأنهم يسحقون جميع العهود والمواثيق التي أمضوها مع مخالفيهم وحتى إنّهم لا يلتزمون بالمعاهدات الدولية في دائرة الروابط بين الشعوب والدول والتي اشتركت في تدوينها وإمضائها جميع الدول ، فنجدهم يتمسكون بذرائع واهية وتبريرات سخيفة ليتحرّكوا في تعاملهم من موقع نقض العهود والمواثيق ، وهذه المسألة واضحة في عصرنا الحاضر إلى درجة أنّ بعض المفسرين ذكر في تفسير الآية أعلاه أنّ هذه الآية معجزة قرآنية حيث أخبرت عن المستقبل البعيد وكأنّنا نرى بأمّ أعيننا نقض العهود والمواثيق لبني إسرائيل حاضراً ، كما كانوا في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله).
لقد كان لهؤلاء عهود ومواثيق كثيرة مع نبيّهم موسى والأنبياء الذين جاءوا من بعده وكذلك مع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، ولكنهم لم يفوا بواحدة من تلك العهود والمواثيق.
والتعبير بكلمة (فريق) في بداية الآية ، وكذلك التعبير (أكثرهم) في ذيل الآية يشير إلى أنّ المراد بالفريق هنا هو أكثر هذه الطائفة من الناس ، وكذلك يشير إلى أنّ العلاقة بين نقض العهد وعدم الإيمان هي علاقة وثيقة.
إنّ سياق الآيات الشريفة المذكورة آنفاً يدل بصراحة على أنّ الوفاء بالعهد والميثاق له منزلة رفيعة ومكانة سامية من بين المفاهيم الإسلامية والتعاليم القرآنية ، فهو أحد علائم الإيمان ويقع في مرتبة التقوى والأمانة ، وعلى درجة من الأهمية بحيث أنّ المسلمين وغير المسلمين سيان في ذلك ، أي أنّ المسلم أو جماعة المسلمين إذا ارتبطوا بعهدٍ وميثاق مع آخرين فيجب عليهم الالتزام بذلك العهد والميثاق سواءاً كان الطرف الآخر مسلماً أو كافراً ما دام ذلك الطرف ملتزماً بذلك العهد ، وأيضاً تدل هذه الآيات على أنّ أحد أهم العوامل والأسباب في شقاء الإنسان وانحطاطه هو نقض العهد وعدم الوفاء به.
[1] سورة البقرة ، الآية 117.
[2] سورة المؤمنون ، الآية 8 ؛ سورة المعارج ، الآية 22.
[3] سورة الاسراء ، الآية 34.
[4] سورة آل عمران ، الآية 76.
[5] سورة التوبة ، الآية 4.
[6] سورة النحل ، الآية 91.
[7] سورة الاعراف ، الآية 102.
[8] سورة البقرة ، الآية 100.
[9] راجع تفصيل الكلام في الآية الاولى من سورة البراءة في ج 9 ، من نفحات القرآن.
[10] سورة النحل ، الآية 92.
|
|
دليل التغذية الأولى للرضيع.. ماذا أنسب طعام بعد 6 شهور؟
|
|
|
|
|
ماذا نعرف عن الطائرة الأميركية المحطمة CRJ-700؟
|
|
|
|
|
شعبة الخطابة الحسينية النسوية تطلق اختبارات مسابقة (سبيل المنتظرين) في كربلاء المقدسة
|
|
|