المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الأخلاق والأدعية والزيارات
عدد المواضيع في هذا القسم 6346 موضوعاً
الفضائل
آداب
الرذائل وعلاجاتها
قصص أخلاقية

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية



الغفلة  
  
389   11:50 صباحاً   التاريخ: 2024-12-27
المؤلف : الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : الأخلاق في القرآن
الجزء والصفحة : ج2/ ص209-232
القسم : الأخلاق والأدعية والزيارات / الرذائل وعلاجاتها / الجهل و الذنوب والغفلة /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-5-2020 2721
التاريخ: 28-9-2016 1734
التاريخ: 28-9-2016 2123
التاريخ: 15-5-2020 3685

تنويه :

«الغفلة» لها مفهوم واسع وشامل بحيث تستوعب في طياتها الجهل بشرائط الزمان والمكان وظروف الواقع الّذي يعيش فيه الإنسان وتشمل الظروف الماضية والحاضرة والمستقبلية ، وكذلك أفعال الشخص وصفاته وسلوكياته وما يظهر له من آيات الحقّ والنذر والعِبر الّتي تتزامن مع حوادث المعيشة والوقائع الّتي تصيب الإنسان في حركة الحياة ، والغفلة عن هذه الوقائع والحوادث وعدم اتخاذ موقف صحيح منها يمثل خطراً كبيراً يواجه سعادة الإنسان وشخصيته ، هذا الخطر الّذي يمكن أن يحيط بالإنسان ويبتلعه ويهوي به في مطاوي النسيان والعدم ، الخطر الّذي بإمكانه أن يهدر أتعاب الإنسان بسنوات لذيذة من عمره في لحظة واحدة.

ولعلّكم سمعتم كثيراً بأن الشخص الفلاني الّذي كان يمتلك ثروة طائلة قد فقدها في لحظة من لحظات الغفلة ، وهكذا حال الإنسان في طريق السعادة والحياة المعنوية ، فيمكن أن يعيش الإنسان الغفلة في لحظة واحدة حتّى تتحول ثروته المعنوية وملكاته الإنسانية إلى رماد وتراب.

ولهذا السبب فإنّ علماء الأخلاق قد تحركوا في كتاباتهم لاستعراض مسألة «الغفلة» وما يقابلها من «التذكر» وبحثوا أسباب هذه الظاهرة والعوامل الّتي تؤدي إلى استفحالها في وجود الإنسان أو الطرق الكفيلة بإزالتها والحدّ من نتائجها السلبية.

وبهذه المقدمة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الإلهية ما يسلط الضوء على هذه المسألة المهمة في حياة الإنسان ، والآيات الكريمة الّتي تتحدّث عن ظاهرة الغفلة كالتالي :

1 ـ (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)([1]).

2 ـ (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ)([2]).

3 ـ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)([3]).

4 ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ* أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)([4])

5 ـ (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ)([5])

6 ـ (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)([6]).

7 ـ (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)([7]).

8 ـ (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ)([8]).

9 ـ (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)([9]).

10 ـ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ). ([10])

11 ـ (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ). ([11])

12 ـ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)([12]).

تفسير واستنتاج :

«الغفلة» المنبع الأصلي للمشكلات

«الآية الاولى» من الآيات محل البحث تتحدّث عن أسوأ أفراد البشر وتستعرض في طياتها فئة من الناس هم أشقى الناس جميعاً وتصفهم بعدّة أوصاف وتقول (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)([13]).

في هذه الآية الشريفة نجد أنّ عنصر الغفلة يمثل العامل الأساس لشقاء الإنسان والسبب الأصلي الّذي يدفع الإنسان إلى جهنم وبئس المصير ، الغفلة الّتي تنشأ من ترك الإنسان بالتفكر والتدبر وعدم استخدام بصيرته وعدم إصغائه لصوت الحقّ حتّى يصل به الأمر إلى أن يصل إلى مستوى الانعام بل اضل منها واتعس ، لأن الأنعام إنّما تعيش الغفلة في حياتها بسبب انها خلقت كذلك وعدم وجود ملكة التنبه والتعقل في ذاتها ، في حين إن الإنسان إذا عاش الغفلة في حياته مع وجود عوامل التنبه بأدوات التذكر والتعقل فسيكون أضل من الأنعام بالتأكيد.

إن مفهوم الآية أعلاه لا يعني أنّ الله تعالى يجبر بعض الناس على سلوك طريق جهنم بل كما ورد التصريح في الآية نفسها أنّ أهل النار عند ما صاروا من أهل النار بسبب اختيارهم لهذا الطريق والسلوك الشائن ، لأن الله تعالى قد أعطاهم العقل ولكنهم لم يستخدموا عقولهم ، وأعطاهم السمع والبصر ولكنهم لم يصحوا إلى الحقائق الإلهية في آذانهم ولم يروا آيات الله بأبصارهم ، إذن فكلما يواجهونه من مشاكل دنيوية أو اخروية فهو بسبب اختيارهم ومن ناحيتهم ، وغاية الأمر أنّ الله تعالى قد قرر قانوناً وناموساً يحكم عالم الوجود في دائرة الإنسان ، وهو أنّ كلّ من لم يستخدم المواهب الإلهية في مجالها الخاصّ ولم يتحرّك في سبيل استخدام قابلياته الذاتية في طريق التكامل المعنوي فسيكون مصيره إلى جهنم في الآخر، فحصول هذا الشرط في هذا القانون يرتبط بإرادة الإنسان ذاته.

«الآية الثانية» تتحدّث عن الكتاب في عرصات يوم القيامة ، في ذلك الوقت الّذي يقترب فيه وعد الله حيث تسري فيه الوحشة ويملك الخوف جميع وجودهم وتتحجر عيونهم من الرعب ، وهناك يتعالى صراخهم وعويلهم وينادون بالويل والثبور على ما كانوا في غفلةٍ من هذا الحال (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ)([14]).

وعلى هذا فإنّ هذه الفئة من الناس يُقرون بأن «الغفلة» هي العامل الأساس في انحرافهم عن جادة الحقّ ، الغفلة الّتي دعتهم إلى أن يتحركوا من موقع الظلم على أنفسهم وعلى الآخرين وتركهم لدعوة الأنبياء والكتب السماوية والقاءها وراء ظهورهم.

هؤلاء يتحدّثون بهذا الكلام عند ما تصيب الزلزلة جميع عالم الوجود وتتجلّى يومئذٍ علامات القيامة وتزول حجب «الغفلة» ، وهناك يعيش هؤلاء الندم حيث تكون أبواب التوبة والانابة إلى الله مؤصدة أمامهم ([15]).

«شاخصة» من مادّة «شخوص» وهي في الأصل بمعنى الخروج من المنزل أو المدينة إلى مدينة اخرى ، وبما أنّ الإنسان عند ما يستولي عليه الرعب تشحب عيناه وتتوقفان عن الحركة حيث يظل ينظر إلى نقطة معينة في حالة من البهت بحيث تكاد تخرج حدقة العين من مكانها ، فهذه الحالة يطلق عليها بالشخوص.

«الآية الثالثة» تخاطب النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله) من موقع الارشاد لمن يصح معاشرتهم والحياة معهم وتقول (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)([16]).

في هذه الآية نقرأ صفات الأشخاص الّذين يمتلكون اللياقة ليكونوا في صحبة النبي ورفقته من موقع اتصافهم بالإيمان والعبادة وذكر الله تعالى في الصباح والمساء ، وتحذر الآية الشريفة أيضاً من اطاعة الغافلين عن ذكر الله والّذين يتحركون من موقع الأهواء والشهوات إلى درجة الافراط ، ومن خلال مضامين هذه الآية الكريمة نستوحي وجود علاقة بين اتباع الهوى وبين الغفلة ، أجل فإنّ الغافلين عن ذكر الله هم الّذين يتبعون أهوائهم ويعيشون حالة الافراط في سلوكياتهم ، ولو لم يكن في ذمّ «الغفلة» الا هذا لكفى.

وطبقاً لما بيّنته الآية أعلاه من أنّ الله تعالى قد أغفل قلوب هؤلاء «أغفلنا قلبه عن ذكرنا» يتضح جيداً أنّ ذلك كان نتيجة أعمالهم السيئة في الحياة الدنيا وعلى شكل عقوبة إلهية.

والمعروف أنّ الآية محل البحث نزلت في طائفة من الأثرياء والمتكبرين في عصر النزول حيث جاءوا إلى النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله) وقالوا له : يا رسول الله ، إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيت عنّا هؤلاء وأرياح جبابهم ـ يعنون بذلك سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف ولم يكن عليهم غيرها ـ جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله : إنا اعتدنا للظالمين ناراً ... ([17]).

إن الله تعالى كان يعلم ما في نفوس هؤلاء الغافلين وأنّهم يعيشون الادعاءات الفارغة والشعارات الجوفاء وأنّهم ليسوا بقابلين للاعتماد والثقة لا في حالة الصلح ولا في زمن الحرب ولا يمكن الاستفادة من أفكارهم ، ولهذا حذّر الله تعالى نبيّه الكريم (صلى ‌الله ‌عليه وآله) من وساوسهم.

«الآية الرابعة» تتحرك في سياقها من خلال استعراض بعض أوصاف أهل النار وتقول : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ* أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)([18])

في هذه الآية الكريمة نقرأ أنّ السبب الأساس لإنكار المعاد لدى بعض الناس ورضاهم بالحياة الدنيا ونسيان الآخرة هو «الغفلة» عن آيات الله والّتي تمثل هذه الحالة المحور والمصدر الحقيقي لشقاء الإنسان وتورطه في المشاكل والمصائب ، في حين أنّ السبب الحقيقي لسعادة المؤمنين وأصحاب النعيم في الآخرة يمتد في جذوره إلى حالة التنبؤ والتذكر والانفتاح على الله تعالى كما ورد ذلك في الآيات الّتي تلي هذه الآية.

ونقرأ في تفسير روح البيان في ذيل هذه الآية حديثاً قدسياً يقول : العجب ممّن يؤمن بالنار كيف يضحك؟ وممّن يتعلق بالدنيا وهو يعلم أنّه مفارقها ، ومن الغافلين كيف يلهون في حين أنّهم يعلمون أنّه لا يُغفل عنهم.

ويتحدّث صاحب التفسير المذكور في ذيل هذا الحديث الشريف عن قصة «النعمان بن المنذر» الّذي كان أحد ملوك الحيرة في عصر الجاهلية ، ويقول : في أحد الأيّام كان هذا الملك جالساً للهو واللعب تحت شجرة وارفة الظلال ، فقال له «عدي» وكان أحد أقربائه : أيّها الملك أنّ هذه الشجرة تغني فهل تعلم ما تقول؟ هذه الشجرة تقول :

رُبَّ رَكْبٍ قَدْ اناخُوا حَولَنا
 

 

يَمزَجُون الخَمْرَ بِالمَاءِ الزُّلالِ
 

ثُمَّ اضْحُوا اسَفَ الدَّهرُ بِهِم
 

 

وَكَذاك الدَّهرُ حالاً بَعد حالٍ ([19])
 

 

 «الآية الخامسة» تتحدّث عن الأشخاص الّذين يعيشون «الغفلة» عن أسرار وقضايا عالم الوجود ولا يرون إلّا ظواهر الامور ، ويقنعون بهذا الظاهر الجذّاب لهذه الحياة الدنيا عن حقيقتها مع الغفلة عن باطنها الّذي يشير إلى الحياة الاخرى وتقول «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْأَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ». ([20])

فلو أنّ الغفلة لم تلق عليهم بظلالها ولم تكبل عقولهم بقيودها لرأوا في كلّ شيء وفي كلّ كائنٍ وموجود من هذا العالم آية من الآيات الّتي تدلّ على الله تعالى والمعاد ، فالقرآن الكريم يستعرض أسرار عالم الخلقة ويقرر أنّ هذا النظام المدهش للعديد من عالم المادّة والطبيعة إنّما هو آية وعلامة على وجود الله تعالى وعلامة كذلك على المعاد والحياة بعد الموت من خلال الحوادث المشاهدة والملموسة في حركة الحياة والواقع ، غاية الأمر انه لا يدرك مغزى هذه الآيات والعلامات ولا يقرأ مضمونها الباطني سوى أصحاب البصيرة الّذين قرأوا نغمة التوحيد والمعاد في باطن هذه الحوادث لا الأشخاص الّذين يتعاملون مع الحياة الدنيا من موقع الأهواء والنوازع المادية الرخيصة.

هذا وإن تكرار ضمير «هم» في الآية الشريفة يعد تأكيداً على هذا المطلب ، وهو أنّ «الغفلة» هي السبب في أن يتحرّك الإنسان من موقع الظواهر فحسب ولا يرى واقع الحال ويتوغل في باطن الامور.

والجدير بالذكر أنّ مفردة «الغفلة» وردت في موارد تكون فيها أسباب ومقدمات التذكر والتنبه متوفرة لدى الإنسان ، ولكنه وبسبب اتباعه للأهواء أو بسبب ضعف الإيمان أو لأسباب اخرى فإنه يتغافل عنها ، والشاهد على ذلك الآيات الّتي وردت بعد هذه الآية من سورة الروم حيث يستعرض الله تعالى فيها نماذج من آثار التوحيد والمعاد في عالم الخلقة وفي واقع الإنسان ويحذّر الغافلين عن التمادي في غفلتهم وينذرهم من عاقبة هذه الحالة الوخيمة.

«الآية السادسة» تتحدّث عن أخطر فئة من الكفّار ، وهم الّذين يعيشون حالة التكبر والعناد مضافاً إلى كفرهم ، وفي آخر الآية تقرر السبب الّذي ساقهم إلى الشقاء الدائم ، وهو الغفلة عن آيات الله وتقول : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)([21]).

وقد وقعت هذه الجملة من الآية الكريمة (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) مورداً لبحث المفسّرين ومناقشاتهم ، ولعلّه كان بسبب أنّ من المسلّم أنّ الله تعالى يهدي الناس إلى طريق الحقّ ، وأساساً فإنّ جميع الأنبياء والأوصياء كانوا يهتمون بإرشاد الناس وهدايتهم إلى الله تعالى ، فكيف يجتمع هذا المعنى مع قوله تعالى (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) وانه تعالى هو الّذي يحرم هؤلاء عن الهداية والتوفيق لرؤية هذه الآيات على نفسها ، ولهذا نجد أنّ الكثير من المفسّرين قد تكلفوا تأويل هذه الآية بما لا يتناقض مع الاصول والمبادئ المسلمة.

ويتضح الجواب عن هذا السؤال من خلال استعراض الآيات القرآنية الاخرى في هذا المجال ، حيث تمثل بعض اعمال الإنسان وحالاته النفسية من قبيل التكبر والعناد أمام الحقّ والتعصب الشديد حجباً مظلمة على قلب الإنسان تمنعه من مشاهدة جمال الحقّ ، وفي الواقع أنّ هذه الأعمال والصفات القبيحة هي الّتي تسبب حجبهم عن الحقّ وتمنعهم من رؤية آيات الله ، وعند ما تنسب الآية عملية الحجب هذه إلى الله تعالى فإنما ذلك بسبب أنّ الله تعالى قد جعل هذه النتيجة كعقوبة طبيعية واثر طبيعي مترتب على تلك الأعمال والصفات ، أي أنّ الانصراف عن آيات الله هو نتيجة طبيعية مقررة في قانون الخلقة لمن يمارس تلك الأعمال والصفات القبيحة.

والجدير بالذكر أنّ الآية الشريفة تقرر في ختامها وتؤكد على أنّ سبب انصرافهم عن آيات الله هو تكذيبهم وغفلتهم عن هذ الآيات.

«الآية السابعة» تتحرك من خلال استعراض حالة العناد لدى الفراعنة في مقابل الآيات الإلهية والبلايا المتنوعة الّتي أنزلها الله على هؤلاء القوم الفاسقين لينتهوا من غفلتهم ويؤوبوا إلى رشدهم ويتبعوا نبيّهم «موسى بن عمران» وتقول (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)([22]).

ومن خلال السياق القرآني في هذه الآية نستوحي أنّ مصدر شقاء قوم فرعون وهلاكهم هو تكذيب الآيات الإلهية والغفلة عنها ، ويمكن أن تكون «الغفلة» سبباً للتكذيب ، فإنّ الجذر الأصلي لشقائهم هو «الغفلة» عن آيات الله ، أو أنّهم قد تحركوا في مقابل الدعوة السماوية من موقع التكذيب أحياناً والغفلة أحياناً اخرى ، وبهذا يكون كلّ من التكذيب والغفلة سبباً مستقلاً للشقاء والهلاك.

بعض المفسّرين يرى أنّ ضمير «عنها» يعود إلى النقمة الإلهية والعذاب الإلهي ، ففي هذه الصورة يكون عنصر التكذيب بآيات الله هو الموجب لشقائهم ، ولكن هذا الاحتمال ضعيف جداً لأن هذا الضمير ورد إلى جانب الآيات ، وحسب الظاهر انه يعود عليها ، وقد أورد بعض المفسّرين سؤالاً هنا ، ولعلّ هذا السؤال كان هو السبب في احتمال عودة الضمير إلى النقمة والعذاب ، وهو أنّ «الغفلة» حالة غير اختيارية ولذلك لا يمكن أن تستوجب عذاب الله للإنسان.

ولكن الجواب عن هذا السؤال واضح ، لأن «الغفلة» في كثير من الموارد تكون اختيارية في جذورها ومقدماتها ، فعند ما يتحرك الإنسان باتجاه آيات الله ولا يتدبر فيها ولا يصغي لكلمات الأنبياء ، فمن الطبيعي أن تستولي عليه حالة الغفلة ، ومن هذا المنطلق نجد الناس كثيراً ما يذمون المجرمين والمنحرفين بسبب غفلتهم.

«الآية الثامنة» وبالرغم من انها لم تذكر كلمة «الغفلة» في سياقها ، إلّا أنّ محتواها العام يتضمّن مفهوم الغفلة ، فهذه الآية تتحدّث عن المشركين في عصر النزول الّذين كانوا يتحركون من موقع الغفلة الشديدة وأحياناً ينتبهون من غفلتهم ويتجهون نحو التوحيد في حالات خاصّة ، وأحياناً اخرى يغرقون في مستنقع الشرك والضلالة تماماً ، فتقول الآية (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ)([23]).

أجل ، فإنّ اعصار الحوادث والأخبار من شأنه أن يزيح حُجب «الغفلة» عن أبصار هؤلاء ويتجلّى لهم حقيقة الأمر وواقع الحياة الدنيا ، فطائفة منهم تستثمر هذا التنبيه وهذه اليقظة في حركتها التكاملية والمعنوية ويتحركون لإصلاح أخطائهم وجبران ما فاتهم من العمر، ولكن هناك طائفة اخرى وهم الأكثرية يتنبهون في هذه اللحظات فحسب وبعد انتهاء الحادثة يعودون ادراجهم نحو ما كانوا يعيشونه من الغفلة واتباع الهوى في خط الباطل والانحراف.

بعض المفسّرين يذكر في ذيل هذه الآية أنّ المشركين كانوا يصطحبون معهم أصنامهم في أسفارهم البحرية ليحفظوهم من الغرق ولكنهم عند ما يواجهون الخطر ويرون أمواج البحر الرهيبة الّتي تتقاذفهم من كلّ جانب كالريشة في مهب الريح فإنّهم يلقون بأصنامهم في البحر ويتجهون نحو الله بكلّ اخلاص ويتعالى صراخهم «يا الله يا الله» ([24]).

«الآية التاسعة» تقرر حكماً عاماً وكلياً بالنسبة إلى جميع أفراد البشر وتقول (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)([25]).

أجل ، فإنّ التوجه إلى الله تعالى يتسبب أن يكون الذاكر جليس الملائكة بمقتضى قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ...).

والحال أنّ التغافل عن ذكر الله يفضي بالإنسان أن يكون قرين الشياطين الّذين يسوقونه إلى حيث يريدون كما تقول الآية الشريفة (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) وفي الواقع أنّ عمله هذا أي «الغفلة» عن آيات الله يورثه البعد عن رحمة الله وبالتالي يكون قرين الشياطين البعيدة عن رحمة الله ، وبعبارة اخرى : أنّ هذه الحالة هي جزاءه الدنيوي على حالة الغفلة هذه.

وبالنظر إلى أنّ كلمة «يعش» من مادّة «عشو» على وزن «نَشَر» ، بمعنى ضعيف النور في بصره فلا يرى شيئاً بوضوح وكأنما يغطي عينه حجاب فلا يرى الحقيقة بوضوح ، ومفهومها ليس هو سوى الغفلة والاعراض عن الله تعالى ، ويقول رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله) «إذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ شَرّاً قيِّضَ لَهُ شَيطاناً قَبْلَ مَوتِهِ بِسَنَةٍ ، فَلا يرى حَسَناً الّا قَبَّحَهُ عِنْدَهُ حَتَّى لا يَعْمَلُ بِهِ ، وَلا يَرى قَبِيحاً الّا حَسَّنَهُ حَتّى يَعْمَلُ بِهِ» ([26]).

وفي «الآية العاشرة» يتحدّث القرآن الكريم عن المتقين والّذين يقابلون امواج الوساوس الشيطانية ويعالجون حالات الغفلة مهما كانت قليلة بذكر الله تعالى ، فتكون النتيجة أنّ حجب الغفلة وتراكمات الوساوس تنقشع عن القلب وتنفتح البصيرة فتقول الآية (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ)([27]).

هذا التعبير في الآية الكريمة يشير إلى أن ذكر الله تعالى يورث الإنسان بصيرةً في قلبه في حين أنّ الغفلة عن ذكر الله تمهد الطريق لنفوذ الشياطين إلى قلبه.

«طائف» يعني من يطوف حول شيء معين ، والمراد به كما ذكره جمعٌ من المفسّرين الكبار هو الوساوس الشيطانية الّتي تطوف حول قلب الإنسان لتتمكن من العثور على منفذ لها في كعبة القلب وتحول هذا القلب إلى معبد للأوثان ، وعملية النفوذ هذه لا تتسنى لهؤلاء الشياطين إلّا في حالة «الغفلة» عن ذكر الله ، لأن الإنسان بمجرد أن يذكر الله تعالى فإنّ الوساوس والخطرات الشيطانية سوف تبتعد وتتلاشى ، ويتجلّى حينئذٍ نور الحقّ أمام بصيرة الإنسان في حركته المنفتحة على الله والحقّ.

«الآية الحادية عشر» تتحدّث عن الغافلين الّذين يعيشون حالة الغفلة والجهل المطلق إلى آخر عمرهم ، ولكن عند ما يحين أجلهم ويقعون في سكرات الموت ويرون بأم أعينهم آثار أعمالهم السيئة فحينئذٍ يعيشون الرعب والقلق الشديد ، فيقال لهم حينئذٍ (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)([28]).

إن الآيات القرآنية هذه توحي بوجود ملكين يصطحبون الإنسان في عرصات المحشر ، أحدهما يسوقه إلى محكمة العدل الإلهي ، والآخر يحضر بعنوان الشاهد على أعماله ، ويحتمل أن يكون هذان الملكان هما الّذين كانا يصطحبان الإنسان في الحياة الدنيا ويكتبون أعماله الصغيرة والكبيرة ، ففي القيامة يأخذان بيد المجرمين ومعهما كتابهما هذا إلى حيث المحكمة الإلهية الكبرى ، ولكنَّ هؤلاء المجرمين لم يكونوا يحسون بوجود هذين الملكين في الحياة الدنيا بل لم يكونوا يؤمنون بوجودهما بالرغم انهما يصحبون كلّ إنسان في هذه الحياة ، ويوم القيامة حيث تزاح الحجب وتزال الاستار وتنفتح عين البصيرة يرى الإنسان هذه الحقيقة الناصعة.

«الآية الثانية عشر» والأخيرة من هذه الآيات محل البحث تتحدّث عن يوم القيامة وتبين حالات الغافلين في هذا اليوم المليء بالحسرات واشكال الحزن وتقول (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)([29]).

وأحد أسماء يوم القيامة هو يوم الحسرة ، لأن الغافلين الّذين كانوا يعيشون في هذه الدنيا بعيداً عن الحقّ سوف ينتبهون من نومتهم هذه ويرون جميع أعمالهم ، فهناك سيجدون أمامهم كتاب يقرر ما ارتكبوه من أعمال ، فهناك من جهة اخرى الملائكة الّذين يشهدون عليهم ، ومن جهة ثالثة والأشد من ذلك هو شهادة أعضاء الإنسان حتّى الجلد على ما ارتكبته في الحياة من أعمال وسلوكيات شائنة ، وهناك ترتفع نار الندم والحسرة وتستولي على وجود الإنسان ولكنهم لا يجدون طريقاً سوى مزيد التحسر على ما فاتهم من فرص ثمينة في الحياة الدنيا ، فليس لهم الرجوع للعودة لجبران ما فات لأن الطريق موصد من خلفهم والكتب قد اغلقت ، فلا مجال للتوبة والانابة ، ولذلك سيملأ الحزن وجودهم وخاصّةً عند ما يسمعون نداء الملائكة الموبخ لهم حيث يقولون «لقد كنت في غفلةٍ من هذا».

وبديهي أنّ هذه الغفلة لا تتعلق بحالات يوم القيامة ولا عالم البرزخ ، لأن الإنسان وبمجرد أن ينتقل من هذه الدنيا ويعانق الموت فإنّ سحب الغفلة ستزول أمام عينه ويرى حقائق العالم كما هي ، وحينئذٍ لا يبقى معنى لمفهوم «الغفلة» كما تقول الآية 99 و 100 من سورة المؤمنون (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

النتيجة :

وممّا نستوحيه من الآيات المذكورة آنفاً أنّ الخطر الّذي يعيشه الإنسان بسبب الغفلة

عن ذكر الله وتجاهل الحقائق الّتي تستبطن عالم الوجود أكثر ممّا يتصور عادةً حيث بإمكان «الغفلة» أن تدمر جميع اركان سعادة الإنسان وتحرق في أجوائها جميع الآمال الإيجابية في حياة كريمة وتهدر جميع طاقاته وقابلياته الّتي يمكنه التوصل بها إلى أعلى مراتب الكمال المعنوي والإنساني وتحولها إلى رماد وهباء منثور.

الغفلة في الروايات الإسلامية :

وقد ورد في النصوص الروائية أحاديث مثيرة حول عواقب الغفلة وآثارها السيئة والمدمرة في حياة الإنسان ، وبسبب كثرة هذه الروايات فسوف نختار منها ما يلي :

1 ـ عند ما توجه النبي (صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله) في معراجه إلى السماء سمع الخطاب الإلهي له يقول «يَا احْمَدَ انْتَ لا تَغْفَلْ ابَداً مَنْ غَفَلَ عَنِّي لا ابَالِي بِايٍّ وَادٍ هَلَك» ([30]). وهذا الحديث يبين بوضوح أنّ عاقبة الغفلة هي الهلاك والدمار والمحقّ.

2 ـ ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) في عبارة مختصرة ومليئة بالمعنى «الْغَفْلَةُ اضَرُّ الاعْدَاء» ([31]) لأن الغفلة هي السبب في الكثير من الذنوب والآثام في واقع الإنسان وسلوكه.

3 ـ ويقول أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أيضاً في حديث آخر «الْغَفْلَةُ تَكْسِبُ الإغْتَرارَ وَتُدْنِي مِنَ البَوَارِ» ([32]).

4 ـ وأيضاً ورد عن هذا الإمام (عليه‌ السلام) أنّه قال : «الْغَفْلَةُ ضَلالُ النُّفُوسِ وَعُنْوَانُ النُّحُوسِ» ([33]).

لأن الطريق الوحيد للنجاة من الضلال هو التفكر والتدبر ولكن الغفلة هي الّتي تصد الإنسان عن هذا الطريق المنفتح على الله والحقّ.

5 ـ وفي حديث آخر عن هذا الإمام (عليه‌ السلام) أيضاً أنّه قال : «وَيلٌ لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ فَنَسِىَ الرَّحْلَةَ وَلَمْ يَسْتَعِدْ» ([34]).

6 ـ وعن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) أنّه قال : «إنْ كَانَ الشَّيطانُ عَدُوّاً فَالْغَفْلَةُ لِمَا ذَا» ([35]).

وتقدّم في الأحاديث السابقة أنّ الغفلة تارةً تكون عن الله ، واخرى عن يوم القيامة ، وثالثة عن وساوس الشياطين وهكذا.

7 ـ ويقول أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) : «فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ انْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً وَانْ تُؤَدِّيَهُ ايَّامُهُ الَى الشَّقْوَةِ» ([36]).

والمقصود من الغفلة في هذا الحديث هو الغفلة عن أداء الوظائف والواجبات الدينية طيلة العمر.

8 ـ وقد ورد في بعض الروايات أنّ هذه المسألة إلى درجة من الأهمية حتّى انها اعتبرت هي الهدف لبعثة الأنبياء ، أي لعلاج مرض «الغفلة» بين الناس ، كما نقرأ في الخطبة 108 من خطب نهج البلاغة في بيان صفات النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله) «مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ» ([37]).

9 ـ وفي حديثٍ آخر عن هذا الإمام العظيم يتحدّث فيه عن آثار الغفلة المخربة ونتائجها المدمرة في حياة الإنسان ويقول : «بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمَوْعِظَةِ حِجَابٌ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالغِرَّةِ» ([38]).

10 ـ وقد ورد في الروايات الإسلامية عن حالات عيسى ابن مريم أنه مرّ على قرية مات أهلها بسخط الله ، فأحيا عيسى بن مريم واحداً منهم وسأله عن أعمالهم. قال : عبادة الطاغوت وحبّ الدنيا مع خوف قليل وأمل بعيد وغفلة في لهو ولعب» ([39]).

11 ـ ويقول أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) بالنسبة للآثار الاجتماعية لحالة الغفلة «مِنْ دَلائِلِ الدَولَةِ قِلَّةُ الْغَفْلَةِ» ([40]).

أجل فإنّ الغفلة وتجاهل الامور الاجتماعية ستفضي إلى ضياع الدولة.

12 ـ ونختم هذا البحث بحديثٍ عن أمير المؤمنين حيث يبين للناس مخاطر الغفلة ويحذرهم من سوء عاقبتها ويقول «اتَّقِ ايُّهَا السَّامِعُ مِنْ سَكْرَتِكَ وَاسْتَيْقِظْ مِنْ غَفْلَتِكَ ، وَاخْتَصِرْ مِنْ عَجَلَتِكَ» ([41]).

وطبقاً لهذا البيان الشامخ فإنّ السبب الأساس لشقاء الإنسان يكمن في ثلاث أشياء : سكر الشهوة ، الغفلة عن حقائق العالم ، العجلة في الامور ، حيث نجد أنّ الإمام أمير المؤمنين يحذر في هذا الكلام المختصر أفراد الإنسان من كلّ طائفة وقوم من هذه العناصر الثلاثة ليكونوا من أهل النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة.

النتيجة :

وبالرغم من أنّ أكثر الناس يعيشون الغفلة عن نتائج حالة الغفلة ، ولكن أئمّة الدين كانوا يرون الفاجعة المترتبة على هذه الحالة المأساوية ، وبيّنوا للناس بعبارات مختلفة وخامة هذا المرض العضال كما تقدّم آنفاً في الأحاديث الشريفة ودعوا الناس إلى التدبر والتفكر.

والجدير بالذكر أنّ «الغفلة» لها مفهوم واسع وشامل ، أي أنّ هذه المفردة وهذا المفهوم يشمل موارد كثيرة منها الغفلة عن الله ، والغفلة عن يوم القيامة ، والغفلة عن كون الحياة الدنيا مهزوزة وغير مستقرة ، والغفلة عن الشيطان ووساوسه ، وبشكل عام فإنّ الغفلة تستوعب جميع الامور الّتي تتعلق بشكل أو بآخر بسعادة الإنسان في حركة الحياة.

ملاحظات مهمة حول الغفلة :

بالرغم من أنّ هذه الصفة لها تأثير كبير في حياة الإنسان ومصيره وتعد من الصفات الرذيلة ، ولكن قد يثار هذا السؤال ، وهو انه لماذا لم يتعرض علماء الأخلاق لهذه الرذيلة في كتاباتهم وكلماتهم ، وحتّى لو تعرضوا لها بالكلام فلا يكون كلاماً وافياً لهذا الموضوع المهم ، وعلى أي حال فهناك عدّة مباحث في هذا الموضوع تستحق الدراسة والبحث كلاً على انفراد وهي :

1 ـ عوامل الغفلة

أ) الجهل

«الغفلة» لها مصادر وأسباب كثيرة ، من أهمها الجهل وعدم الاطلاع على حقيقة الحال ، وكذلك عدم معرفة الله في مقام الربوبية وعدم الاهتمام بمسألة المعاد وكذلك عدم معرفة وهمية الثروة والمناصب الدنيوية والجهل بوساوس الشيطان وأمثال ذلك.

ويقول الإمام أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) في هذا المجال «انَّ مَنْ عَرَفَ الايَّامَ لَمْ يَغْفَل عَنَ الاسْتِعْدَادِ» ([42]).

ب) الغرور والانانية

يعتبر الغرور أحد عوامل الغفلة وأحياناً يكون الغرور نتيجة للغفلة أيضاً ، لأن الإنسان المغرور لا يرى إلّا نقاطه الإيجابية ولا يفكر إلّا بميزاته الذاتية ، وقد يتصور أحياناً انها باقية له مدى الحياة ، وهذا الأمر يسبب له الغفلة عن الحقائق في عالم الوجود والّتي يكون لها دور هام في أن يتعرض هذا الإنسان للهزيمة والاندحار.

وقد شوهد في التاريخ البشري شخصيات كثيرة قد وقعت في أسر «الغفلة» بسبب الغرور والعجب وتعظيم الذات حيث سلبتهم هذه الحالة القدرة على رؤية الواقع كما هو فتعرضوا للهزيمة أمام الأعداء ولم يتمكنوا من الصمود لأنهم لم يكونوا يروا نقاط ضعفهم.

ج) سكر النعمة

سكر النعمة (والّذي يشبه الغرور إلى درجة كبيرة ولكنه يختلف عنه في الواقع) قد يوقع الإنسان في مستنقع الغفلة أيضاً ، فعند ما تنفتح الدنيا على بعض الأشخاص فسوف يصابون بسكر النعمة ، وسكر النعمة هذا يوقعهم في مهاوي الغفلة عن الواقع المحيط بهم وتستمر هذه الغفلة حتّى يحين أجلهم ويستيقظون من نومتهم وسكرهم كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) قوله «مَنْ غَفَلَ عَنْ حَوَادِثِ الايَّامِ ايْقَظَهُ الْحِمَامُ» ([43]).

ويقول الإمام زين العابدين (عليه‌ السلام) أيضاً «انَّ قَسْوَةَ الْبَطْنَةِ وَفَتْرَ الْمَيْلَةِ وَسَكْرَ الشَّبَعِ ، وَعِزَّةَ الْمُلْكِ مِمَّا يُثَبِّطُ وَيُبْطِئ عَنِ الْعَمَلِ وَيَنْسِي الذِّكْرَ وَيُلْهِي عَنِ اقْتِرَابِ الاجَلِ حَتّى كَانَّ الْمُبْتَلى بِحُبِّ الدُّنيَا بِهِ خَبْلٌ مِن سُكْرِ الشَّرَابِ» ([44]).

د) العافية والسلامة البدنية

بالرغم من أنّ السلامة البدنية والعافية الجسمانية تعد من النعم الإلهية الكبرى على الإنسان ، ولكنها من جهة اخرى تعد من عوامل الغفلة أيضاً ، وهذا فإنّ من الالطاف الإلهية الخفية أن تؤخذ هذه السلامة البدنية من الإنسان ويبتلى بألوان المحنة والمرض لكي تزول عن بصيرته سُحب الغفلة ، فيرى بعين القلب حقائق العالم ، ويتحرك حينئذٍ في سلوكياته وأفكاره بالاتجاه المناسب والطريق الصحيح.

ولهذا أيضاً نجد أنّ الحديث الشريف الوارد عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله) يذكر فيه منافع وبركات المرض ويقول مخاطباً سلمان الفارسي حينما عاده في مرضه «انتَ مِنَ اللهِ بِذِكْرٍ وَدُعَاؤُكَ فِيهِ مُسْتَجَابٌ» ([45]). أي أنك الآن تعيش حالة التذكر والتنبه وقد زالت منك حجب الغفلة ولهذا فإنّ دعائك مستجاب.

ه) طول الأمل

وأحد العوامل الاخرى للغفلة هو طول الأمل والتمنيات الدنيوية الموهومة ، حيث تستولي على قلب الإنسان وفكره وتجعله غافلاً عمّا يراد به ، ويقول أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) في الخطبة المعروفة بالديباج واعلموا عباد الله ان الامل يذهب العقل ويكذب الوعد ويحث على الغفلة ويورث الحسرة ([46]).

2 ـ العواقب المشؤومة للغفلة

إن الغفلة عن ذكر الله والمعاد وما يتعرض له الإنسان في هذه الحياة من محن وابتلاءات بسبب الذنوب والآثام كلّ هذه الامور تؤدي بالإنسان إلى الوقوع في منزلقات الخسران والفناء وتسبب له اضراراً غير قابلة للجبران والتدارك ، كما ورد هذا المعنى في كلمات المعصومين وأئمّة الدين (عليهم ‌السلام) ومن ذلك :

أ) الغفلة تورث قساوة القلب

إن قساوة القلب ليست سوى نتيجة للغفلة والابتعاد عن المعارف الإلهية ، لأن العامل المهم في لطافة الروح وانعطاف القلب أمام الحقّ هو ذكر الله تعالى ، فعند ما ينقطع مطر الرحمة الإلهية عن أرض القلب بانقطاع الذكر فسيتحول القلب إلى صحراء قاحلة مليئة بالأشواك والحجارة كما ورد عن الإمام الباقر (عليه‌ السلام) أنّه قال : «ايَّاكَ وَالْغَفْلَةَ فَفِيهَا تَكُونُ قَسَاوَةُ الْقَلْبِ» ([47]).

ب) الغفلة وموت القلب

الغفلة تفضي في النهاية إلى موت القلب أيضاً ، أي أنّ الإنسان بعد أن يعيش حالة القساوة وعدم الانعطاف في قلبه وروحه فسوف يقترب من موته المعنوي بحيث لا تعد المواعظ والنصائح تأثر في مثل هذا الإنسان ، وفي هذه الصورة سوف يوصد باب العودة والانابة إلى الله أمامه ولا يبقى هناك أمل في نجاته ، يقول أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) «مَنْ غَلَبَتْ علَيْهِ الْغَفْلَةُ مَاتَ قَلْبُهُ» ([48]).

وفي حديث آخر عن هذا الإمام (عليه‌ السلام) أنّه قال : «بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمَوْعِظَةِ حِجَابٌ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْغِرَّة» ([49]).

ج) الغفلة وفساد الأعمال

كما وأنّ «الغفلة» تسبب في بطلان أعمال الإنسان وفسادها ، ولهذا نجد أنّ الأشخاص الّذين يعيشون الغفلة عن الله والآخرة قلما يتحركون في سلوكياتهم في دائرة الخيرات والمبرات ، ولو أنّهم تحركوا في هذا السبيل فإنّ الغفلة لا تسوغ لهم أن يتمتعوا بحالة الإخلاص في طريق الانفتاح على الله ، فلا يصدر منهم ذلك العمل بنية خالصة.

ومن ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) «ايَّاكَ وَالْغَفْلَةَ وَالِإغْتِرَارَ بِالْمُهْلَةِ فَانَّ الْغَفْلَةَ تُفْسِدُ الاعْمَالَ» ([50]).

ويحتمل في تفسير هذا الحديث أنّ المراد منه فساد الأعمال السالفة للإنسان بسبب الغفلة اللاحقة ، لأنّ الغفلة تتسبب في ارتكاب الذنب والوقوع في وادي الخطيئة ، والخطيئة بدورها تستوجب حبط الأعمال وافسادها.

د) الغفلة والقرب الإلهي

مضافاً إلى ذلك فإنّ الغفلة تستوجب سلب الإنسان اللياقة لنيل مرتبة القرب من الله تعالى ولقائه ، لأن الوصول إلى هذه المرتبة ونيل هذا المقام السامي لا يتسنّى للإنسان إلّا في ظلّ المعرفة والتذكر والتفكر وأن يعيش الإنسان حالة الوعي والاتصال مع المبدأ.

وقد ورد في بحار الأنوار للعلّامة المجلسي إشارة إلى هذا الموضوع في مناجات أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) حيث يقول : «الهِي انْ أَنامَتْنِي الْغَفْلَةُ عَنِ الاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِكَ فَقَدْ نَبَّهْتَنِي الْمَعْرَفَةُ بِكَرمِ آلائِكَ» ([51]).

«مَنْ طَالَتْ غَفْلَتُهُ تَعَجَّلَتْ هَلَكَتْهُ» ([52]).

هذه العبارة هي مقطع للمناجات المعروفة بالمناجات الشعبانية حيث يقول العلّامة المجلسي عنها انها المناجات الّتي كان أمير المؤمنين والأئمّة المعصومين (عليهم ‌السلام) يدعون الله بها في شهر شعبان.

ه) الغفلة سبب الوقوع في الهلكة

«الغفلة» كذلك تسبب للإنسان الهلاك في الدنيا والآخرة ، لأن الإنسان الغافل سوف لا يدرك جيداً منافعه «سواء المادية أو المعنوية» وبالتالي فسوف يضيع الفرص الثمينة الّتي تتعرض له ، وسوف يؤدي به هذا الحال إلى اتلاف طاقاته وقابلياته الحيوية ، ومن هذا المنطلق نقرأ في الحديث الشريف الوارد عن الإمام علي (عليه‌ السلام) «مَنْ طَالَتْ غَفْلَتُهُ تَعَجَّلَتْ هَلَكَتهُ» ([53]).

3 ـ علائم الغفلة

الكثير من الناس يمكن أن يترددون في كونهم من الغافلين ولا يعلمون بهذه الحقيقه وهي هل أنّهم يتسمون بسمة الغفلة أم لا؟ إذاً فمن الضروري أن يفحص السالك إلى الله ويتدبر حالته في كلّ مرحلة من حياته لئلّا يقع في زمرة الغافلين ، ولذلك لا بدّ من الالتفات والانتباه إلى علائم «الغفلة» حتّى لا يتورط في الوقوع في مخالبها وأسرها.

ولحسن الحظ فإنّ النصوص الشريفة والأحاديث الإسلامية قد أوردت علائم كثيرة للغافلين نكتفي بالإشارة إلى بعضها :

1 ـ ورد في الحديث الشريف والمفصل عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله) في جوابه لشمعون بن لاوي أحد أقطاب النصارى في ذلك الزمان عند ما سأل شمعون النبي الأكرم عن علائم الغافلين فقال : «امَّا عَلَامَةُ الغَافِلِ فَأرْبَعَةٌ الْعَمى وَالسَّهْو وَاللهْو وَالنِّسْيَانْ» ([54]).

ونفس هذا المضمون نجد في حكم ونصائح لقمان الحكيم لولده حيث يقول : يا بني لكلّ شيء علامة يعرف بها ويشهد عليها ... وللغافل ثلاث علامات : السهو واللهو والنسيان ([55]).

والفرق بين السهو والنسيان هو أنّ النسيان بمعنى عدم تذكر الحوادث والامور السابقة ، ولكن السهو يعني عدم التوجه والانتباه للُامور الّتي ينبغي التوجه والانتباه لها.

2 ـ وإحدى علائم الغفلة هي أنّ الإنسان يتحرك في معاشرته ومجالسته مع الفاسدين والمفسدين ويبتعد عن مجالس العبادة ، وفي ذلك يقول الإمام الحسن (عليه‌ السلام) «الْغَفْلَةُ تَرَكُكَ الْمَسْجَد وَطَاعَتُكَ الْمُفْسِدَ» ([56]).

3 ـ ومن العلامات المهمة الاخرى للغفلة هي عدم الاكتراث بالنذر ، مثلاً عند ما يمر الشخص على مقبرة فإنه لا يخطر في ذهنه انه سوف يكون من أهالي هذه المقبرة غداً ، أو عند ما يشترك في تشييع جنازة أحد أقربائه أو أصدقائه فإنه لا يفكر في أنّه سوف يتعرض يوماً لمثل هذا الموقف ويكون هو المشيع ويسير الآخرون وراء جنازته.

وقد ورد في نهج البلاغة أنّ الإمام علي (عليه‌ السلام) كان يسير خلف جنازة لأحد المؤمنين فسمع أحدهم يضحك بصوت عال فتألم الإمام من ذلك وقال : «كَأَنَّ المَوْتَ فيهَا عَلَى غَيرِنَا كُتِبَ وَكَأَنَّ الْحَقَّ فيهَا عَلَى غَيرِنَا وَجَبَ وَكَأَنَّ الّذي نَرَى مِنَ الْاموَاتِ سَفْرٌ عَمَّا قَلِيلٍ الَيْنَا رَاجِعُونَ».

ثمّ أضاف : «نُبَوِّئُهُمْ اجْدَاثَهُمْ وَنَأْكُلُ تُرَاثَهُمْ كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُم» ([57]).

4 ـ ومن العلامات الاخرى للغفلة أنّ الإنسان ينفق وقته وعمره الثمين في امور موهومة لا تنفعه لحياته الاخروية ، أو يتلف السنوات المديدة من عمره وشبابه في مواقف وأعمال لا تعود عليه بالنفع الدنيوي ولا الاخروي ، يقول أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) : «كَفى بِالْرَّجُلِ غَفْلَةً انْ يُضِيعَ عُمْرَهُ فِي مَا لا يُنْجيهِ» ([58]).

وفي رواية اخرى عنه أنّه قال : «كَفى بِالْمَرْءِ غَفْلَةً أَن يَصْرِفَ هِمَّتَهُ فِي مَا لا يَعْنِيهِ» ([59])

4 ـ الطرق الكفيلة بمكافحة الغفلة

تعتبر «الغفلة» من الأمراض الأخلاقية الخطرة ، ولا بدّ في علاجها من استخدام الأصول الكلية والمبادئ العامّة المستخدمة في هذه المباحث الأخلاقية.

ففي المرحلة الاولى علينا التفكر في عواقب ونتائج الغفلة وخاصّة ما تقدّم ذكره من الروايات الشريفة والمباحث الأخلاقية السابقة في هذا الموضوع ، فإنّ التدبر في العواقب الوخيمة هذه له أثرٌ كبير في التنبه في أن يعيش الإنسان حالة التنبه والوعي ويعود إلى سلوك طريق المعرفة واليقظة ، مثلاً عند ما يريد التخلص من الإدمان على المواد المخدرة أو يريد الوقاية من الوقوع في أسرها ، فعليه أن يتفكر في الأشخاص الّذين ابتلوا بهذه البلية السوداء ، وما كانت نتيجة حالهم وعاقبة أمرهم ، وما حلَّ بهم وبأسرهم وابنائهم من الدمار والارباك والاهتزاز في العلاقة العائلية ، وحينئذٍ سوف يتسنّى له التوقف والانتباه وسلوك طريق العودة بل وتقديم النصح للآخرين وتحذيرهم من الوقوع في هذا الوادي المهلك ، وكذلك لا بدّ من الرجوع إلى جذور هذه الحالة والعمل على علاجها وقطع جذورها و... فما دامت أسباب المرض باقية في روح الإنسان فإنّ العلاج سوف يكون ابتراً.

وقد تقدّم في المباحث السابقة تفصيل الكلام عن جذور الغفلة وأسبابها ، فلا حاجة إلى التكرار ، ولكن نواصل إلى المطالب السابقة نذكر فيما يلي بعض النقاط النافعة لإزالة الآثار السيئة للغفلة في واقع الإنسان.

1 ـ كسب العبرة من التاريخ

يجب دراسة التاريخ بدقة وتأمل وكسب العبرة من حوادثه ومجرياته ، فإيوان كسرى في المدائن واطلال قصور الملوك واهرام مصر تحدثنا بلسانها غير الناطق وتخبرنا عمّا جرى على الأقوام السالفة لنأخذ العبرة منهم ، والخلاصة لا بدّ من استطلاع تاريخ البشرية ومشاهدة آثارهم الباقية واستيحاء العبرة من كلّ ذلك.

القبور المندثرة للأبطال وقادة الحروب بالأمس ترزح أبدانهم المترفة أسيرة التراب ، رؤية المسنين والعجائز الّذين كانوا بالأمس القريب شباباً ممتلئين حيوية ونظارة وهم الآن يعيشون العجز وعدم القدرة على ممارسة نشاطاتهم اليومية ، كلّ هؤلاء كانوا بالأمس القريب أشخاصاً أقوياء وممتلئين بالفتوة والحيوية ، ولكن حوادث الأيّام والسنين قد أخذت منهم مآخذها وأكلت منهم قوتهم وسلبتهم نشاطهم ، ونحن الآن على آثارهم وسوف نبتلي بحالتهم.

ومن الواضح إننا كلّما تفكرنا في هذا المواضع أكثر وتأملنا في تحول الأيّام وتبدل الحكومات وانتقال الثروات وتبدلّ المناصب الدنيوية فإننا سوف لا نعيش حالة الغفلة.

الإمام أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) يقول : «انَّ مَنْ عَرَفَ الْايَّامَ لَمْ يَغْفَل عَنْ الاسْتِعْدادِ» ([60]).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) قال «اغْفَلَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَتَّعِظ بِتَغَيُّرِ الدُّنْيَا مِنْ حَالٍ إلَى حالٍ» ([61]).

2 ـ استمرار ودوام الذكر

والعامل المؤثر الآخر لطرد آثار الغفلة هو استمرار ودوام الذكر ، لأن ذكر الله تعالى يحيي القلب ويجلي الروح ويفتح نور البصيرة حيث يرى الإنسان حقائق عالم الوجود ويرى الحقّ حقّاً والباطل باطلاً ، وحينئذٍ يتمكن من تشخيص الصديق والعدو لسعادته وكماله المعنوي في حركة الحياة.

ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) «بِدَوَامِ ذِكْرِ اللهِ تَنْجابُ الْغَفْلَةُ» ([62]).

3 ـ الصلاة مع حضور القلب

إن أداء الصلاة في الوقت المقرر مع حضور القلب والتوجه إلى مضامينها السامية ومفاهيمها العالية والتعامل مع الله تعالى في الصلاة من موقع الفقر والمناجاة كلّ ذلك من شأنه أن يطهر القلب من أدران «الغفلة» ويجلي مرآة الروح الإنسانية في حركة الانفتاح على الله والكمالات الإلهية.

إن طبيعة الحياة الدنيوية موجبة للغفلة عادةً ، ولذلك قد ينشغل الإنسان أحياناً إلى درجة انه ينسى ويغفل عن كلّ شيء حتّى عن نفسه ، والصلاة تعتبر فرصة مناسبة جداً للعودة إلى الذات والتدبر في واقع النفس وكيفية انقاذها من مخالب «الغفلة» ، ولذلك يقول الإمام الباقر (عليه‌ السلام) : «ايُّمَا مُؤْمِنٍ حَافَظَ عَلَى الصَّلَواتِ الْمَفْرُوضَةِ فَصَلّاهَا لِوَقَتِهَا فَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْغَافِلين» ([63]).

4 ـ التفكر والتدبر

الطريق الآخر للوقاية من الغفلة وعلاجها هو التفكر والتدبر في الامور ، فكلّما تحرك الإنسان في أعماله وأفعاله من موقع التدبر في نتائجها الإيجابية والسلبية وتفكر فيما يترتب عليها من نتائج معنوية في دائرة النفس والروح فإنّ ذلك من شأنه أن يبعد أمواج «الغفلة» الظلمانية عن الإنسان.

وقد ورد هذا المعنى في الحديث الشريف في خطابه لأبي ذرّ قال «يَا أَباذَر! هَمِّ بِالْحَسَنةِ وَانْ لَمْ تَعْمَلْهَا لِكَي لا تُكْتَبَ مِنَ الْغَافِلِينَ» ([64]).

التفكير بالموت ونهاية الحياة من جملة الأفكار الّتي تورث الإنسان اليقظة وتبعده عن الغفلة وخاصّةً عند ما يمر الشخص على مقبرة من المقابر ويتصور انه في الغد القريب سيكون أحد سكنة هذه المقبرة وينقطع عن الحياة الدنيا ، فهذا التفكير من شأنه أن يزيل استار الغفلة الّتي تتراكم على القلب بسبب الأهواء والشهوات والنوازع الدنيوية الاخرى.

وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) في أحد وصاياه لابنه الإمام الحسين (عليه‌ السلام) «ايْ بُنَيَّ الْفِكْرَةُ تُورِثُ نُوراً وَالْغَفْلَةُ ظُلْمَةً» ([65]).

5 ـ تغير المحيط

إن الكثير من الاجواء الاجتماعية والطبيعية تورث الإنسان الغفلة وخاصةً الاشتراك في مجالس الغافلين والبطالين ، وجلسات اللهو واللعب ، والسكن في القصور الفخمة والمزخرفة وأمثال ذلك ، فكلها تقود الإنسان باتجاه الغفلة عن حقائق الامور ، وحتّى الكثير من المدن في عالمنا المعاصر قد تبدلت إلى مركز من مراكز الفساد والغفلة.

وأحد الطرق للخلاص من قيود الغفلة هذه هو ترك المشاركة في مثل هذه الجلسات والاماكن ، والهجرة من المدن الملوثة بالفساد ، وفي غير هذه الصورة فإنّ التخلص من سلطان الغفلة عسيرٌ جداً.

فلذلك نرى أنّ الإمام السجاد يقول لأبي حمزة الثمالي عند بيان أحد عوامل سلب التوفيق : «او لَعَلَّكَ رَأَيْتَني آلِفُ مَجَالِسَ البَطَّالِينَ فَبَيْني وبَيْنَهُم خَلَّيْتَني».

ونختم هذا البحث بحديثٍ عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) حيث قال «احْذَرْ مَنَازِلَ الْغَفْلَةِ وَالْجَفاءِ وَقِلَّةَ الاعْوَانِ عَلَى طَاعَةِ الله» ([66]).

5 ـ اليقظة والانتباه

«اليقظة» هي اليقظة المقابلة للغفلة وتأتي بمعنى الانتباه من النوم البدني أو النفسي ، وقد ذهب بعض العرفاء إلى أنّ اليقظة هي أوّل منازل السير والسلوك لأرباب المعرفة.

واليقظة في مصطلح العرفاء الإسلاميين هي الانتباه من نوم «الغفلة» والتوجه للأعمال والأفعال من موقع الضبط والوعي ولجبران الأخطاء السالفة وتصحيح المسيرة في حركة السلوك المعنوي للإنسان.

الإمام الخميني يرى في كتاب «الجهاد الأكبر أو جهاد النفس» ضمن اعتقاده بان اليقظة هي الخطوة الاولى في تهذيب النفس يقول في ذيل بحثه عن اليقظة «إلى متى تريد أن تبقى في نوم «الغفلة» وأنت غارق في لجة الفساد والشر ، اتقِ الله وأحذر عواقب الامور وانتبه من نوم الغفلة ، فأنت لحدّ الآن لم تخطو الخطوة الاولى في سلوكِكَ إلى الله تعالى فالقدم الأوّل في دائرة السلوك هو «اليقظة» ، ولكنك ما زلت في حالة النوم ، فافتح عينيك وقلبك واترك نومك ، فلو أنّ قلبك لم يكن ملوثاً بآفاق الذنوب السوداء لم تقنع وتستمر على هذا النوم وكأن شيئاً لم يكن ، فلا تشعر ما ذا يجري حولك بل تستمر في سلوكك وأعمالك وأقوالك الباطلة ، فلو أنك تفكرت قليلاً في أمر آخرتك وعاقبتك المخيفة يوم القيامة لتحركت من موقع الاهتمام بالتكاليف وأداء المسؤوليات الثقيلة الملقاة على عاتقك».

امّا الآيات والروايات الشريفة الّتي تقرر هذا المضمون والمحتوى فكثيرة ، وأساساً فإنّ جميع آيات الإنذار والبشارة هو من أجل الوصول إلى هذه الغاية والهدف ، أو إزالة آثار الغفلة عن قلب الإنسان وإيقاظه إلى ما ينتظره في الغد ولكي لا يبقى في نوم الغفلة والجهل.

إن من جملة التعبيرات القرآنية في دائرة الانذار والتحذير هي (أَفَلا تَعْقِلُونَ)([67]) (أَفَلا تَذَكَّرُونَ)([68]) و (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) ولم يتدبروا القرآن وأمثال ذلك.

فكلّها بمثابة الاعلام عن الخطر المحدق بالإنسان وايقاظه من النوم العميق الّذي يعيشه

في أجواء الطبيعة المادية ، ولذلك كان لا بدّ له من منبه وجرس انذار ليستعد للمسير في خط الإيمان والصلاح والتقوى ، وكذلك الآيات الّتي تؤكد على ذكر الله تعالى لأن الاعراض عن ذكر الحقّ من شأنه أن يفسد حياة الإنسان ، ويعيش بالتالي «معيشة ضنكا» في هذا العالم ويحشر يوم القيامة أعمى ، ولذلك نجد أنّ المفاهيم القرآنية تتحرك باتجاه تحذير المسلمين من اسباب اللهو أو الغفلة وتسوقهم باتجاه ذكر الله تعالى ، وكلّ ذلك من شأنه انعاش حالة «اليقظة» والوعي بالمصير في واقع الإنسان وفكره.

وقد أشارت الروايات الإسلامية بشكل واسع إلى مسألة «اليقظة» منها :

1 ـ ما ورد عن أمير المؤمنين في خطبته لدى الإشارة إلى الهدف من بعثة النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله) وقال ايها الناس ان الله ارسل اليكم رسولا ليزيح به علتكم ويوقظ به غفلتكم ([69]).

وليس هذا الهدف مختصٌ بنبي الإسلام فحسب بل يشمل جميع الأنبياء فإنّهم بعثوا لهذا الغرض أيضاً ، وايقاظ الناس من غفلتهم ، أو على الأقل أنّ هذا الهدف هو أحد الأهداف الأساسية من دعوتهم.

2 ـ ويقول الإمام الحسن (عليه‌ السلام) في خطبته لأهل الكوفة :

ايها الناس تيقظوا من رقدة الغفلة ومن تكاشف الظلمة ، فو الذي خلق الحبة وبرأ النسمة وتردى بالعظمة ، لئن قام الي منكم عصبة بقلوب صافية ونيات مخلصة ، لا يكون فيها شوب نفاق ولا نية افتراق لا جاهدن السيف قدما قدما ولا ضيقن من السيوف جوانبها ومن الرماح اطرافها ومن الخيل سنابكها فتكلموا رحمكم الله ([70]).

وهنا نرى أنّ الإمام الحسن (عليه‌ السلام) في هذا الكلام يدعو أهل الكوفة إلى جهاد معاوية وجيش الشام في حين أنّهم قد تمكنت منهم «الغفلة» فلم يستجيبوا له.

3 ـ ونقرأ في كتاب «فلاح السائل» الدعاء الّذي أقرّه الإمام الصادق (عليه‌ السلام) أيضاً بغرض جبران الأخطاء والغفلة في الصلاة حيث قال «فَصَلِّ عَلَى مُحَمّدٍ وَآلِهِ وَاجْعَلْ مَكَانَ نُقْصَانِها تَماماً وَعَجَلَتي تَثَبُّتاً وَتَمَكُّناً ، وَسَهْوِي تَيَقُّظاً ، وَغَفْلَتي تَذَكُّراً ، وكَسَلي نَشاطاً» ([71]).

4 ـ وورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) في نهج البلاغة قوله مخاطباً للإنسان اللاأبالي «أما مِنْ دائك بُلُولٌ امْ لَيْسَ مِنْ نَوْمِكَ يَقْظَةٌ» ([72]).

5 ـ ويقول أمير المؤمنين في حديثٍ آخر أيضاً «ا لَا مُسْتَيْقِظٌ مِنْ غَفْلَتِهِ قَبْلَ نَفَادِ مُدَّتِهِ» ([73]).

وفي جميع هذه الروايات نجد أنّ «الغفلة» شبهت بنوعٍ من النوم تارةً ، واخرى بنوعٍ من السكر ، وشُبه قصد التذكر بنوعٍ من الانتباه واليقظة ، ويقول أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) في هذا المجال : «سُكْرُ الْغَفْلَةِ وَالْغُرورِ ابْعَدُ افاقَةَ مِنْ سُكْرِ الْخُمُورِ» ([74]).

6 ـ ونختم هذا البحث بحديثٍ آخر عن الإمام أمير المؤمنين في تشبيهه اليقظة بالمصباح المنير حيث قال «فَاسْتَصْبِحُوا بِنُورِ يَقْظَةٍ فِي الابْصَارِ وَالاسْماعِ وَالافْئِدَةِ» ([75]).

التغافل الإيجابي :

كما تقدّم أنّ الغفلة في نور الحياة سببٌ للشقاء والانحطاط المادي والمعنوي فإنّ «التغافل» بالنسبة إلى هذه الامور يؤدي إلى نفس هذه النتيجة ، أي أنّ الإنسان يجب أن يعلم بأن الواقع الدنيوي متزلزل وأنّ هذا العالم غير ثابت على أمرٍ واحد ، وعليه أن يعبرهُ إلى حيث الحياة الخالدة ، وأنّ الموت هو قانون طبيعي حتمي على الأشياء ولا اعتبار بالقوى الطبيعية والثروات المادية ، ولكن مع كلّ ذلك فإنّ الإنسان الّذي يعيش الغفلة و«التغافل» يمر على هذه الحقائق من الكرام ولا يعنيه من أمرها شيء.

هذا هو التغافل السلبي الّذي قد يترتب عليه آثار ونتائج مضرة أكثر من الغفلة نفسها ، لأن «الغافلين» قد يقعون في دوامة الحوادث والمشاكل عن جهلٍ وعدم علمٍ بواقع الحال ، اما «المتغافل» فهو يخطو باتجاه هذه المشاكل عن وعي وعلم مسبق ، وبذلك تكون مسؤوليته الإلهية أكثر وظلم الناس له أشد.

اما «التغافل الايجابي» فهو أن يعيش الإنسان بحالة يخفي معها الأشياء الّتي ينبغي اخفاؤها ، أي أن يقوم الشخص بإظهار عدم اطلاعه وعدم علمه بالأشياء الّتي يعلم بها ولكنَّ اظهارها له عواقب سيئة ، ويتصرف معها تصرف المتغافل ويمر عليها مرّ الكرام من موقع سعة الصدر وقوّة الشخصية ، لغرض حفظ ماء وجه الآخرين واحترامهم وحيثيتهم الاجتماعية.

ومن جملة موارد التغافل الايجابي هو اخفاء عيوب الآخرين ، فإنّ لكلّ شخص عيوباً وأخطاءً لا يحب أن يطلع عليها الآخرون ، ولذلك يسعى لكتمانها ، ولكن أحياناً يعلم بها بعض الأشخاص الأذكياء ، ففي مثل هذه الموارد يكون التغافل مطلوباً ، وفي الحقيقة هو نوعٌ من ستر العيوب الخفية الّتي لا ينبغي اظهارها إلّا في موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك بشكل لطيف ومستور أيضاً.

وهناك بعض الموارد يكون الكشف عن العيب فيها مؤدياً إلى تسقيط شخصية الأفراد وكذلك يؤدي إلى حث الآخرين على المعصية ، فالفضيحة قد تؤدي إلى زيادة الايغال في ارتكاب الذنوب ، وبعبارة اخرى : إذا زال حجاب الحياء عن المذنبين فإنّهم سوف يقدمون على ارتكاب الذنوب المختلفة ، ولهذا ففي مثل هذه الموارد يكون «التغافل» مانعاً عن تفشي هذه الظاهرة الاجتماعية السلبية.

وببيان عام يمكن القول أنّ أحد الاصول المهمة بالحياة الهادئة والوادعة هي أن يعيش الإنسان «التغافل» عن بعض الامور لا سيّما بالنسبة إلى المدراء وأصحاب المناصب الحساسة في المجتمع حيث يجب عليهم الاستفادة من هذه المسألة بشكلٍ جيد لحلّ الكثير من المشاكل الّتي تعترضهم في عملهم الاجتماعي ، وهذا يعني انه كلّما احتاج الأمر إلى تحذير وتنبيه فعليهم أن يقوموا بهذا الأمر ، وكلّما احتاجت المسألة إلى «تغافل» لحلّها أو جعلها تراوح في مكانها ولا تنتشر وتتفشى وتتعاظم فإنه عليهم سلوك هذا الطريق ، ومن المعلوم ان المدير الّذي لا يرى للتغافل شيئاً حاسماً في سلوكه الإداري ولا يعير له اهتماماً فإنه سيوقع نفسه في مشاكل وصعوبات غير موجهة وبدون مبرر.

ولهذا السبب فإنّ الأئمّة المعصومين (عليهم ‌السلام) أكدوا على هذه المسألة في أفعالهم وأقوالهم ، فمثلاً نجد أنّ النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله) يتعامل مع بعض الامور من موقع التغافل بحيث أدّى ذلك إلى اعتراض بعض المسلمين الجهلة ، فمثلاً اعترضوا على النبي بأنه سريع التأثر بما يسمعه من كلمات من هنا وهناك ، فلو قيل له إنّ فلان يقول عنك كذا وكذا لأسرع في تصديقه وقبوله وأرسل خلف ذلك الشخص معاتباً إياه ، ولو أنّ ذلك الشخص أقسم له انه لم يقل هذا الكلام في حقّه لأسرع كذلك إلى تصديقه أيضاً.

القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في الآية 61 من سورة التوبة ويقول (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ...).

ومن البديهي أنّ نبي الإسلام مع كلّ ذلك الذكاء والحركة والدراية الّتي اعترف بها الأعداء والأصدقاء لم يكن بالشخص الساذج إلى هذه الدرجة ، بل كان يرى أنّ وظيفته في بعض الموارد هي «التغافل» وهذا التغافل يُعد مصدر رحمة لجميع المؤمنين.

التغافل في كلمات المعصومين (عليهم ‌السلام) :

1 ـ ورد في الحديث المعروف عن الإمام زين العابدين (عليه‌ السلام) وكذلك الإمام الباقر والصادق (عليهما ‌السلام) عن «التغافل» قولهم «صَلاحُ حالِ التَّعايُشِ وَالتَّعَاشُرِ مِلُ مِكْيَالٍ ثُلْثاهُ فِطَنَةٌ وَثُلْثُهُ تَغَافُلٌ» ([76]).

هذه الرواية في الواقع ضمن تأكيدها على التغافل الايجابي تحذر الإنسان من التغافل السلبي ، ففي البداية تؤكد على الفطنة والانتباه واليقظة في الامور وترك الغفلة وأنّ ذلك يعد ثلثي مكيال المعاشرة ، ومفهومه هو أنّ الإنسان لا ينبغي أن يعيش الغفلة وعدم الاطلاع بالنسبة إلى مسائل الحياة والمعيشة بل يجب الانتباه واليقظة والتعامل مع الامور بدقّة متناهية ليحرز بذلك خيره وصلاحه ، ولكن من جهة اخرى يجب عليه أن يعيش «التغافل» بالنسبة إلى الامور الّتي ينبغي عليه التغافل عنها وجعلها في زاوية النسيان والاهمال من قبيل التفكير في المسائل الجزئية للحياة والّتي ليست بذات قيمة ، لأنّ التفكر في مثل هذه الامور والسفاسف بإمكانه أن يمنع الإنسان من التفكير في المسائل الأهم منها ، وكذلك اخفاء عيوب الآخرين المستورة في الموارد الّتي تستوجب المصلحة ذلك فإنّ التغافل في مثل هذه الموارد يعتبر أمراً محموداً.

2 ـ وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) قوله «مِنْ اشْرَفِ اعمالِ الْكَريمِ غَفْلَتُهُ عَمَّا يَعْلَمُ» ([77]).

3 ـ وفي حديثٍ آخر عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أنّه قال : «مَنْ لَمْ يَتَغَافَلْ وَلَا يَغُضَّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الاموُرِ تَنَغَّصَتْ عِيْشَتُهُ» ([78]).

وبديهي أنّ الحياة الدنيا لا تخلو من بعض الامور الّتي قد تحدث للإنسان من غير توقع أو لا تسير الحياة كما هو المطلوب وكما يريد لها الإنسان ، فلو أنّ الشخص قد تحرّك في تعامله مع الحياة من موقع الفحص والدقّة في جزئيات الامور وعاش الفضول في حياة الآخرين وأخذ يحاسبهم ويعاتبهم على كلّ صغيرة وكبيرة فإنّ حياته ومعيشته سوف تتنغص ويتفرق الآخرون من حوله.

ونختم هذا البحث بالحديث الشريف الوارد عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أيضاً حيث يقول «وَعَظِّموُا اقْدَارَكُمْ بِالتَّغَافُلِ عَنِ الدَّنِّيِ مِنَ الامُورِ ... وَلَا تَكوُنوا بَحَّاثِينَ عَمَّا غَابَ عَنْكُمْ ، فَيَكْثُرُ عَائِبُكُمْ ... وَتَكَرَّموُا بِالتّعَامِي عَنِ الاسْتِقْصَاءِ» ([79]).

ومن هذا الحديث وكذلك بعض الأحاديث الاخرى يستفاد جيداً أنّ هذا المفهوم «التغافل» لا يرد إلّا في الموارد الجزئية والصغيرة من سفاسف الحياة والواقع الاجتماعي.

وعلى هذا الأساس فإنّ «التغافل» لا يتقاطع مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والانتقاد البنّاء في حركة الحياة الاجتماعية لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعلقان بالواجبات والمحرمات الّتي هي خارجة عن دائرة «التغافل» ، واما الانتقاد البنّاء فيتعلق بالأمور المصيرية في حياة الفرد والمجتمع والّتي يترتب عليها نتائج مهمة ، في حين أنّ التغافل لا يتعلق بالأمور الجسيمة وذات الأهمية أو الامور الّتي تكون المصلحة في سترها والتغاضي عنها.


[1] سورة الأعراف ، الآية 179.

[2] سورة الأنبياء ، الآية 97.

[3] سورة الكهف ، الآية 28.

[4] سورة يونس ، الآية 7 و 8.

[5] سورة الروم ، الآية 7.

[6] سورة الأعراف ، الآية 146.

[7] سورة الأعراف ، الآية 136.

[8] سورة العنكبوت ، الآية 65.

[9] سورة الزخرف ، الآية 36.

[10] سورة الأعراف ، الآية 201.

[11] سورة ق ، الآية 22.

[12] سورة مريم ، الآية 39.

[13] سورة الأعراف ، الآية 179.

[14] سورة الأنبياء ، الآية 97.

[15] وقع اختلاف في مرجع الضمير «هي» وانه على من يعود؟ والأفضل عوده على الأبصار ، فهناك نوع من التقديم والتأخير في كلمات الآية.

[16] سورة الكهف ، الآية 28.

[17] ذكر شأن النزول هذا كلّ من الطبرسي في «مجمع البيان» والقرطبي في تفسير «الجامع لأحكام القرآن» والبرسوني في «روح البيان» وجماعة آخرون مع بعض الاختلاف في النقل (والجدير بالذكر أنّه بالرغم من أنّ سورة الكهف مكية ولكن المفسرين ذكروا أنّ الآية مورد البحث (28) نزلت في المدينة).

[18] سورة يونس ، الآية 7 و 8.

[19] روح البيان ، ج 4 ، ص 18.

[20] سورة الروم ، الآية 7.

[21] سورة الأعراف ، الآية 146.

[22] سورة الأعراف ، الآية 136.

[23] سورة العنكبوت ، الآية 65.

[24] روح البيان ، ج 6 ، ص 493.

[25] سورة الزخرف ، الآية 36.

[26] روح البيان ، ج 8 ، ص 369.

[27] سورة الأعراف ، الآية 201.

[28] سورة ق ، الآية 22.

[29] سورة مريم ، الآية 39.

[30] ارشاد القلوب ، ج 1 ، ص 214 ، طبع دار الفكر ـ بيروت.

[31] شرح غرر الحكم ، ج 1 ص 128.

[32] شرح غرر الحكم ، ج 7 ، ص 295.

[33] المصدر السابق ، ج 1 ، ص 369.

[34] شرح غرر الحكم ، ج 6 ، ص 227.

[35] بحار الأنوار ، ج 75 ، ص 190.

[36] نهج البلاغة ، الخطبة 64 و 7.

[37] نهج البلاغة ، الخطبة 108 و 5.

[38] شرح غرر الحكم ، ج 7 ، ص 296.

[39] سفينة البحار ، مادّة غفل.

[40] شرح غرر الحكم ، ج 7 ، ص 296.

[41] المصدر السابق ، ج 7 ، ص 296.

[42] ميزان الحكمة ، ج 3 ، ح 15189 ، (باب الغفلة).

[43] شرح غرر الحكم ، ج 7 ص 296.

[44] تحف العقول ، كلمات الإمام السجّاد (عليه‌ السلام) (ومن كلامه (عليه‌ السلام) في الزهد) ، ص 311 ، طبع انتشارات العلمية الإسلامية مع الترجمة.

[45] بحار الأنوار ، ج 74 ، ص 60.

[46] بحار الأنوار ، ج 74 ، ص 293.

[47] بحار الأنوار ، ج 75 ، ص 164.

[48] شرح غرر الحكم ، ج 5 ، ص 293.

[49] شرح غرر الحكم ، ج 3 ، ص 268.

[50] شرح غرر الحكم ، ج 2 ، ص 312.

[51] بحار الأنوار ، ج 91 ، ص 96 ـ 99.

[52] شرح غرر الحكم ، ج 5 ، ص 272.

[53] المصدر السابق.

[54] بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 122.

[55] الخصال للصدوق ، ص 138 ، طبع انتشارات العلمية الإسلامية مع ترجمة السيّد أحمد فهري.

[56] بحار الأنوار ، ج 75 ، ص 115.

[57] نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الحكمة 122.

[58] شرح غرر الحكم ، ج 4 ، ص 585.

[59] المصدر السابق.

[60] ميزان الحكمة ، ج 3 ، ص 2285 ، ح 15189.

[61] بحار الأنوار ، ج 74 ، ص 112.

[62] غرر الحكم ، ح 4269.

[63] فروع الكافي ، ج 3 ، ص 270.

[64] ميزان الحكمة ، ج 3 ، ح 15188.

[65] بحار الأنوار ، ج 74 ، ص 237.

[66] غرر الحكم ، ح 2600 ـ ميزان الحكمة ، ح 15147.

[67] ذكرت هذه العبارة 13 مرّة في القرآن الكريم.

[68] ذكرت أيضاً هذه العبارة في 7 مواضع.

[69] بحار الأنوار ، ج 74 ، ص 296.

[70] بحار الأنوار ، ج 44 ، ص 67.

[71] بحار الأنوار ، ج 83 ، ص 14.

[72] نهج البلاغة ، الخطبة 223.

[73] غرر الحكم ، ح 2752.

[74] غرر الحكم ، ح 5651.

[75] نهج البلاغة ، الخطبة 222.

[76] تحف العقول ، ص 264. البقية غير مترجم.

[77] نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الرقم 222.

[78] غرر الحكم ، ح 9149.

[79] بحار الأنوار ، ج 75 ، ص 64.




جمع فضيلة والفضيلة امر حسن استحسنه العقل السليم على نظر الشارع المقدس من الدين والخلق ، فالفضائل هي كل درجة او مقام في الدين او الخلق او السلوك العلمي او العملي اتصف به صاحبها .
فالتحلي بالفضائل يعتبر سمة من سمات المؤمنين الموقنين الذين يسعون الى الكمال في الحياة الدنيا ليكونوا من الذين رضي الله عنهم ، فالتحلي بفضائل الاخلاق أمراً ميسورا للكثير من المؤمنين الذين يدأبون على ترويض انفسهم وابعادها عن مواطن الشبهة والرذيلة .
وكثيرة هي الفضائل منها: الصبر والشجاعة والعفة و الكرم والجود والعفو و الشكر و الورع وحسن الخلق و بر الوالدين و صلة الرحم و حسن الظن و الطهارة و الضيافةو الزهد وغيرها الكثير من الفضائل الموصلة الى جنان الله تعالى ورضوانه.





تعني الخصال الذميمة وهي تقابل الفضائل وهي عبارة عن هيأة نفسانية تصدر عنها الافعال القبيحة في سهولة ويسر وقيل هي ميل مكتسب من تكرار افعال يأباها القانون الاخلاقي والضمير فهي عادة فعل الشيء او هي عادة سيئة تميل للجبن والتردد والافراط والكذب والشح .
فيجب الابتعاد و التخلي عنها لما تحمله من مساوئ وآهات تودي بحاملها الى الابتعاد عن الله تعالى كما ان المتصف بها يخرج من دائرة الرحمة الالهية ويدخل الى دائرة الغفلة الشيطانية. والرذائل كثيرة منها : البخل و الحسد والرياء و الغيبة و النميمة والجبن و الجهل و الطمع و الشره و القسوة و الكبر و الكذب و السباب و الشماتة , وغيرها الكثير من الرذائل التي نهى الشارع المقدس عنها وذم المتصف بها .






هي ما تأخذ بها نفسك من محمود الخصال وحميد الفعال ، وهي حفظ الإنسان وضبط أعضائه وجوارحه وأقواله وأفعاله عن جميع انواع الخطأ والسوء وهي ملكة تعصم عما يُشين ، ورياضة النفس بالتعليم والتهذيب على ما ينبغي واستعمال ما يحمد قولاً وفعلاً والأخذ بمكارم الاخلاق والوقوف مع المستحسنات وحقيقة الأدب استعمال الخُلق الجميل ولهذا كان الأدب استخراجًا لما في الطبيعة من الكمال من القول إلى الفعل وقيل : هو عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ.
وورد عن ابن مسعود قوله : إنَّ هذا القرآن مأدبة الله تعالى ؛ فتعلموا من مأدبته ، فالقرآن هو منبع الفضائل والآداب المحمودة.