ساهمت الكشوف الجغرافية التي قامت اواخر عصر النهضة في تبدل اوضاع المجتمع الأوروبي فأدت الى انتعاش طبقة البورجوازية التجارية التي عملت على تقويض ما تبقى من نظم اقطاعية وامتيازات للأشراف. وكان للقوة والنفوذ العظيمين اللذين تمتعت بها هذه الطبقة من جراء تراكم الارباح في ايديها وسيطرتها على المقاليد الاقتصادية، أن بدأت تتطلع الى الحكم والادارة لحماية مصالحها التجارية فيما وراء البحار وفي قلب اوروبا. الأمر الذي ادى إلى قيام الحروب الضارية بين دول اوروبا للمنافسة الشديدة على استعمار الأراضي المكتشفة وحماية السلع المستوردة، وهي الحروب المعروفة بحرب الثلاثين عاماً والتي كان من بينها حرب السنوات السبع التي اشتركت فيها كل من فرنسا وانكلترا بدافع السيطرة على الممتلكات في الجهات الشمالية من القارة الاميركية. كما ان هذه الثورة الاقتصادية التي شهدتها اوروبا ساهمت الى حد بعيد في ظهور الانتاج الرأسمالي الضخم عندما أخذ التجار في الفلاندر وانكلترا يؤجرون الانوال ويشترون المواد الأولية للقرويين ويشغلونهم لحسابهم وهذا الأمر ادى ايضاً إلى الاقبال على استعمار الشعوب واستثمارها بأشد الطرق وحشية لإيجاد اسواق جديدة لتصريف الصناعات التي فاض فيها السوق الأوروبي. فتأسست البنوك التي شهدت نمواً عظياً وتضخماً مالياً جعل الحكومات الأوروبية تستدين منها لتدعيم نفوذها في الحكم ازاء الحركات الشعبية التي عرفتها القارة الاوروبية منذ قيام الثورة الفرنسية. كما أنعشت حركة النقد المصرفية (الشيكات) التعامل التجاري وازدادت عمليات التأجير النقدي فأصبحت الصناعة منذ ذلك الوقت القطاع المهيمن في عملية الإنتاج الاجتماعي بعد ان خلخلت جوهر الاستثمار الاقطاعي الذي كان سائداً من قبل. وأدت الكشوف الجغرافية ايضاً إلى انتقال مركز التجارة إلى البحار الغربية والجنوبية. فأنهت عهد البحر المتوسط وانتقلت الزعامة لدول اوروبا الغربية. وقامت موانئ لندن وبریستول وانفرس وروان مكان الموانيء المتوسطية، فقضت على اهمية موانىء الجمهوريات الايطالية التي سيطرت على التجارة الاوروبية - الشرقية منذ القرن العاشر الميلادي. وتدفقت منتجات الشرق المختلفة بكميات وافرة الى الاسواق الاوروبية بأسعار زهيدة. وعرفت اوروبا محاصيل جديدة من امريكا كالبطاطا والذرة والتبغ والكاكاو والكينا. كما تدفقت المعادن الثمينة على اوروبا واهمها الذهب والفضة حيث تم اكتشاف مناجم الذهب في بيرو والمكسيك ومناجم الفضة في بوليفيا. وازداد متوسط الانتاج السنوي للفضة زيادة كبيرة حتى سمي عصر فيليب الثاني ملك اسبانيا (1556 - 1598) (بعصر الفضة في اوروبا. وادى توفر النقد المتداول إلى ازدياد وارتفاع الاسعار نحو اربعة اضعاف خلال القرن السادس عشر (1). فانتعشت الطبقة الوسطى وازدادت نقمة الطبقة الفقيرة على التجار واصحاب المهن. وكان من نتائج الكشوف الجغرافية ايضاً تقدم العلوم الجغرافية. فأثبتت كروية الارض واكتشفت امكنة كانت مجهولة من قبل. فتضاعفت مساحة الأرض الزراعية وتغيرت خريطة العالم ولم يبق امام الفلكيين والجغرافيين سوى اكتشاف استراليا والاقاليم القطبية. كما تقدمت سائر العلوم وخاصة علم النبات وعلم الاجتماع نتيجة الاحتكاك بالشعوب الجديدة. فنشأت مفاهيم جديدة نتيجة هذا الاطلاع، كما ان حاجة المستعمرين إلى الايدي العاملة في المواطن الجديدة حملهم على امتهان تجارة الزنوج فازدهرت هذه التجارة التي حققت الارباح الضخمة لدول اوروبا واستمرت مدة ثلاثة قرون نقلت خلالها ما يقارب من اثني عشر مليوناً. أما على الصعيد الديني فقد بذل الاسبانيون والبرتغاليون جهدهم في نشر المسيحية بين السكان الاصليين في البلاد التي حلوا فيها. فالرهبان المبشرون كانوا يواكبون رحلات المستكشفين أينما توجهوا وازدادت الارساليات الدينية في الأمكنة التي استقر فيها النفوذ السياسي لإسبانيا والبرتغال. فانتشرت الكاثوليكية في اميركا الجنوبية والبروتستانتية في المستعمرات الإنكليزية في اميركا الشمالية.

.............................................

1- رولان موسینیه: تاريخ الحضارات العام. القرنان السادس عشر والسابع عشر بأشراف موريس كروزيه ترجمة يوسف داغر وفريد داغر المجلد الرابع منشورات عويدات 1966 ص 117.