أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-03-2015
1637
التاريخ: 23-03-2015
11711
التاريخ: 26-09-2015
4872
التاريخ: 22-03-2015
10267
|
إن التمييز بين الكثير والقليل، وبين
الكبير والصغير، وبين الأبيض والاسود، وبين اللغة واللغة، وبين الفنّ والفنّ، وبين
الجيّد الجيّد والرديء الرديء أمر سهل جدا. ولكنّ التمييز بين المتشابهين من فنّ واحد
وترجيح أحدهما على الآخر أمر في غاية الصعوبة. وهكذا نشأ في تاريخ الأدب العربي فنّ
عرف باسم طبقات الشعراء، ثم أصبحت كلمة طبقات عنوانا لكتب متعددة في تاريخ الأدب (1)
وفي غير تاريخ الأدب (2). وأغرم مؤرّخو الأدب خاصة بتقديم بعض
الشعراء على بعض، وتضاربت آراؤهم في ذلك حتى أننا لا نجد لهم إجماعا على أحد، ولا
على امرئ القيس (3). وكان اختلاف النقاد في غير امرئ القيس أكثر، قال ابن
سلاّم (ص 74): «سمعت يونس بن حبيب يقول: ما شهدت مشهدا قطّ ذكر فيه جرير والفرزدق
وأجمع أهل المجلس على أحدهما».
وكان النقّاد يتّخذون لتفضيل شاعر على آخر
مقاييس مختلفة: منهم من قدم الشاعر لتقدمه في الزمن. ومنهم من يقدّم الشاعر لجودة معناه،
أو لحسن لفظه. ومنهم من قدّم الشاعر لهوى أو عصبية (4). سئل بشار بن برد
عن الاخطل والفرزدق وجرير فقال: «لم يكن الاخطل مثلهما، ولكنّ ربيعة تعصّبت له وأفرطت
فيه» (5). ومن النقاد من يختار الشعر (ويقدّم صاحبه) على خفّة الرويّ، أو
على غرابة المعنى، أو على نبل قائله، أو على ندرته، لأن صاحبه لم يقل غيره، وعلى
سوى ذلك (6).
والترجيح لا يكون في تقديم شاعر على شاعر
فقط، بل يكون في إدراك خصائص الشعر نفسه، والنثر أيضا، ومعرفة مرتبته في الاجادة. والعرب
يسمّون هذا الفنّ «النقد»، ويسمّونه أيضا الترجيح لأن من شأنه أن يرجّح بين حقيقة ومجاز،
أو بين حقيقتين، أو بين مجازين، ويكون (المرجّح) ناظرا في ذلك كله إلى الصناعة الخطابية
(7). وبعض المعاصرين لنا يسمّون هذا الفنّ «نظرية الجمال» أو «الفنّ الجمالي»
أو «النقد الجمالي» (8)؛ ويحسن أن يسمّى النقد البديعي أو البديعيات أيضا.
ومهما جعلنا اسمه فانه يقوم على الادراك المعنوي
لقيمة النصوص الأدبية عند نقدها للمفاضلة بينها وترجيح بعضها على بعض. ولقد عبّر ابن
سلاّم الجمحي عن هذا الادراك المعنوي للشعر خاصة بمثل مادي حينما قال (ص 3): «وللشعر
صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات. . .. ومن ذلك الجهبذة
(9) بالدينار والدرهم لا تعرف جودتهما بلون ولا مسّ ولا طراز ولا حسّ ولا
صفة. ويعرفها الناقد عند المعاينة: يعرف بهرجها وزائفها وستوقها ومفرّغها (10)
. . .. وكذلك البصر بالرقيق: توصف الجارية فيقال: «ناصعة اللون جيّدة الشطب نقية الثغر
حسنة العين والأنف جيّدة النهود طريفة اللسان واردة (11) الشعر، فتكون بهذه
الصفة بمائة دينار وبمائتي دينار، وتكون (جارية) أخرى بألف دينار وأكثر لا يجد واصفها
مزيدا على هذه الصفة».
_________________
1) طبقات الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي؛
الشعر والشعراء أو طبقات الشعراء لأبي محمد عبد اللّه بن مسلم ابن قتيبة؛ طبقات الشعراء
لابن المعتز.
2) كتاب الطبقات الكبير لابن سعد (في تراجم
الصحابة).
3) طبقات الشعراء 16 وما بعد؛ العمدة
1:76؛ جمهرة أشعار العرب 20 وما بعد. قال ابن سلام: «ما ينتهي إلى واحد يجتمع عليه
(في الشعر)، كما لا يجتمع على أشجع الناس وأخطب الناس وأجمل الناس».
4) كان الرواة يتعصبون لشعراء من أقطارهم
(العمدة 1:80): «إن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس بن حجر؛ وان أهل الكوفة كانوا
يقدمون الأعشى؛ وان أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيرا والنابغة» (طبقات الشعراء
16).
5) طبقات الشعراء 86.
6) الشعر والشعراء 5 وما بعدها. راجع العمدة
1:93 وما بعدها.
7) المثل السائر 26.
8) والغربيون يسمون ذلك «استيتيك، أستتكس»
ويشتقون ذلك من كلمة يونانية هي «آيثيثسيس» ومعناها «الحس والادراك».
9) الجهبذ
(بكسر الجيم): النقاد الخبير.
10)
البهرج: الباطل الرديء؛ المفرغ: الدينار يثقب ويسحب من داخله شيء من الذهب ثم يملأ
مكانه بمعدن آخر أرخص قيمة؛ الزائف: ما كان فيه غش، مخلوط بمعدن أقل قيمة؛ ستوق: بهرج
ملبس بالفضة (درهم يسك من النحاس أو الرصاص ثم يموه بالفضة).
11)
الشطب: الطول، القوام؛ واردة الشعر: شعرها طويل مسترسل.