المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17751 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
نظرية ثاني اوكسيد الكاربون Carbon dioxide Theory
2024-11-24
نظرية الغبار البركاني والغبار الذي يسببه الإنسان Volcanic and Human Dust
2024-11-24
نظرية البقع الشمسية Sun Spots
2024-11-24
المراقبة
2024-11-24
المشارطة
2024-11-24
الحديث المرسل والمنقطع والمعضل.
2024-11-24

تدخلات الأب
11-1-2016
عصمة النبي وتنزيهه عن المنفرات
3-08-2015
Laser : Optical Cavity and Output Coupler
3-3-2020
إمتهان الزمخشري بشأن القراء في تفسيره
10-10-2014
بيان موقف المصلى منفرداً أو الإمام والمأمومين.
21-1-2016
سلوك العودة الى البيت في الحيوانات Homing behavior
11-8-2021


قصّة موسى (عليه السلام) بحسب مواضعها من القرآن الكريم  
  
8471   04:03 مساءاً   التاريخ: 10-10-2014
المؤلف : محمد باقر الحكيم
الكتاب أو المصدر : علوم القرآن
الجزء والصفحة : ص 380-410 .
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / قصص الأنبياء / قصة النبي موسى وهارون وقومهم /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-10-09 242
التاريخ: 2024-06-25 569
التاريخ: 2023-03-17 1312
التاريخ: 10-10-2014 1788

الموضع الأوّل :

الآيات التي جاءت في سورة البقرة والتي تبدأ بقوله تعالى :

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة : 49 - 51] ، إلى أن يختم بقوله تعالى :

{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 74].

والملاحَظ في هذا المقطع :

أوّلاً :

جاء في سياق قوله تعالى :

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [البقرة : 40].

ثانياً :

إنّه يتناول أحداثاً معيّنةً أنعم الله بها على بني إسرائيل مرّةً بعد الأُخرى ، مع الإشارة إلى ما كان يعقب هذه النعم من انحرافٍ في الإيمان بالله تعالى أو في الموقف العبادي الذي تفرضه طبيعة هذا الإيمان.

ثالثاً :

إنّ القرآن الكريم بعد أن يختم هذا المقطع يأتي ليعالج المواقف الفعليّة العِدائيّة لبني إسرائيل من الدعوة ، ويربط هذه المواقف بالمواقف السابقة لهم بقوله تعالى :

{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *... وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [ البقرة : 75 ـ 122].

وعلى أساس هذه الملاحظة يمكننا أن نقول : إنّ هذا المقطع جاء يستهدف غرضاً مزدوجاً وهو تذكير بني إسرائيل بنعم الله المتعدّدة عليهم ، وذلك موعظة وعبرة لهم تجاه موقفهم الفعلي من ناحية ، ومن ناحيةٍ أُخرى ، كشف الخصائص الاجتماعية والنفسيّة العامّة التي يتّصف بها الشعب الإسرائيلي للمسلمين ، لئلاّ يقع المسلمون في حالة الشك والريب في هذه المواقف ، فيتصوّر بعضهم أنّها تنجم عن رؤيةٍ موضوعيّةٍ تجاه الرسالة ، الأمر الذي جعل اليهود يتوقّفون عن الإيمان بها ، خصوصاً وأنّ اليهود هم أهل الكتاب في نظر عامّة المسلمين فأراد القرآن هنا أن يبيّن أنّ هذا الموقف إنّما هو موقف نفسي وذاتي ومتأثّر بهذه الخصائص الروحيّة والاجتماعية.

وهذا الغرض فَرَض أُسلوباً معيّناً على استعراض الأحداث ، إذ اقتصر المقطع على ذكر الوقائع التي تلتقي مع هذا الغرض وتتناسب مع هذا الهدف ، دون أن يعرض التفصيلات الأُخرى للأحداث التي وقعت لموسى (عليه السلام) مع فرعون أو الإسرائيليين.

الموضع الثاني :

الآيات التي جاءت في سورة النساء ، والتي تبدأ بقوله تعالى :

{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء : 153]

إلى قوله تعالى :

{ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء : 161].

والملاحَظ في هذا المقطع :

أوّلاً : إنّه جاء ضمن سياق عرضٍ عامٍّ لمواقف فئات ثلاث من أعداء الدعوة الإسلامية تجاهها ، وهو : موقف المنافقين ، وموقف اليهود من أهل الكتاب ، وموقف النصارى من أهل الكتاب ، وعَرْض الموقف الأوّل يبدأ بقوله تعالى :

{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء : 138].

وعَرْض الموقف الثاني يبدأ بقوله تعالى :

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } [النساء : 150].

وعَرْض الموقف الثالث يبدأ بقوله تعالى :

 {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا} [النساء : 171].

ثانياً :

إنّ المقطع يتناول بعض الأحداث ذات الدلالة على نبوّة موسى ، والمواثيق الغليظة المأخوذة على اليهود بصدد الامتثال والطاعة ، وموقف اليهود من ذلك والمخالفات التي ارتكبوها ، سواء فيما يتعلّق بالجانب العقيدي من الفكرة أم بالجانب العملي التطبيقي منها.

وعلى أساس هاتين الملاحظتين يمكن أن نستنتج :

أنّ هذا المقطع من القصّة جاء ليوضح أنّ موقف اليهود من الدعوة بطلبهم المزيد من الآيات والبيّنات ليس نابعاً من الشك بالرسالة ، وإنّما هو موقف شكلي ذرائعي يستبطن الجحود والطغيان ، ولذا نجد المقطع يكتفي بعرض هذا الطلب العجيب الذي تقدّم به اليهود إلى موسى ، ويضيف إلى ذلك المواثيق التي أُخذت منهم في الطاعة ، ونكولهم عنها بمخالفاتهم العديدة ، الأمر الذي يكشف عن إصرارهم على الجحود والطغيان وأنّهم يتذرّعون بمثل هذه المطالب.

وقد فرض السياق العام للسورة الكريمة : تكرار القصّة ، على أساس إيضاح ومعالجة موقف اليهود من الدعوة ، إلى جانب إيضاح ومعالجة موقف المنافقين والنصارى من أهل الكتاب؛ لأنّ هذه المواقف هي المواقف الرئيسة التي كانت تواجهها الدعوة الإسلامية حينذاك.

الموضع الثالث :

الآيات التي جاءت في سورة المائدة ، وهي قوله تعالى :

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة : 20 ، 21]

إلى قوله تعالى :

{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة : 26].

ويُلاحَظ في هذا المقطع :

أوّلاً :

إنّه جاء في سياق دعوةٍ عامّةٍ لأهل الكتاب إلى الإيمان بالرسول الجديد ، مع إيضاح حقيقة رسالته ، ومناقشة ما يقوله اليهود والنصارى ، وإقامة الحجّة عليهم بذلك ، إذ يختم هذا السياق بقوله تعالى :

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [المائدة : 19].

ثانياً :

إنّ المقطع يكتفي بأن يذكر دعوة موسى لقومه إلى دخول الأرض المقدّسة حيث كان دخولها منتهى آمالهم ، ولكنّهم يأبون ذلك فيكون مصيرهم التيه أربعين سنة.

وعلى أساس هاتين الملاحظتين يمكن أن نستنتج :

أنّ القرآن الكريم يبدو وكأنّه يريد أن يذكّر أهل الكتاب ويفتح الطريق أمامهم؛ ليحقّقوا أهدافهم الصحيحة من وراء الدين والشريعة بدخولهم دعوة الإسلام ، ولا يكون موقفهم كموقف قوم موسى حين دعاهم إلى دخول الأرض المقدّسة ، مع أنّها أُمنيتهم وهدفهم ، فتفوتهم الفرصة السانحة ، ويصيبهم التيه الفكري والعقائدي والاجتماعي في عصر نزول الرسالة ، كما أصابهم التيه السياسي والاجتماعي من قبل.

ومن هنا نعرف السر الذي كان وراء اكتفاء القرآن الكريم بذكر هذا الموقف الخاص لبني إسرائيل دون غيره؛ لأنّه هو الذي يحقّق هذا الغرض ، خصوصاً إذا عرفا أنّ هذه القصّة ممّا يؤمن به اليهود والنصارى.

كما أنّ هذا الجانب من القصّة لم يُذكر في القرآن الكريم إلاّ في هذا الموضع.

الموضع الرابع :

الآيات التي جاءت في سورة الأعراف والتي تبدأ بقوله تعالى :

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف : 103]

والتي تختم بقوله تعالى :

{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف : 171].

ونُلاحِظ في هذا الموضع من القصّة عدّة أُمور :

الأوّل :

إنّ القصّة جاءت في عرض قصصي مشترك مع قصّة نوح ، وهود ، ولوط ، وشعيب ، تكاد تتحدّد فيه صيغة الدعوة والتكذيب ، والعقاب الذي ينزل بالمكذبين.

الثاني :

إنّ هذا العرض القصصي العام يأتي في سياق بيان القرآن الكريم لحقيقة حشر المخلوقات وصورته وأنّهم يحشرون أُمماً بكاملهم من الجن والإنس ، وعلى صعيدٍ واحدٍ يتلاعبون بينهم ، أو يتحابون :

{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 38].

{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [ الأعراف : 42 ــ 43].

ثمّ يعرض القرآن الكريم مشاهد متعدّدةً من هذا الحشر ، وبعض العلاقات التي تسود الناس فيه ، وإنّه تصديقٌ لدعوة الرسل وما بشّروا وأنذروا منه.

الثالث :

إنّ القصّة على ما جاء فيها من التفصيل واستعراضٍ للحوادث تبدأ في سرد الوقائع من حين بدء البعثة والدعوة ، كما أنّها تذكر الوقائع في حدود المجابهة ـ التي كان يواجهها الرسول ـ الخارجية مع فرعون وملئه ، والداخلية مع بني إسرائيل ، وفي إطار بيان ما ينزل بالمكذِّبين والمنحرفين من عذابٍ وعقابٍ وإضرار.

الرابع :

إنّ القصّة تتناول في معرض حديثها عن الحوادث جوانب من المفاهيم الإسلامية العامّة والسنن التأريخية : كتأكيد أهمّيّة (الصبر) ، و (وراثة المتّقين للأرض) ، وأنّ الرحمة لا تنال إلاّ الذين اتقوا وآتوا الزكاة وآمنوا بآيات الله واتبعوا الرسول الأُمّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم.

وعلى أساس هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج :

أنّ القصّة جاءت منسجمةً مع السياق العام للعرض القصصي ، ومحقِّقةً لأغراضه ، على ما أشرنا إليه في حديثنا عن أغراض القصّة ، ومع ذلك فإنّه لا تغفل عن الفرصة المناسبة لتأكيد المفاهيم الإسلامية العامّة منسجمةً مع الهدف القرآني العام في التربية.

كما أنّها تؤكّد بصورةٍ خاصّةٍ نبوّة محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) وكأنّها سيقت بتفاصيلها لتحقيق ربط هذه الدعوات والرسالات بهذه النهاية الخاتمة لها ، وأنّ هذه المفاهيم والسنن والأهداف التي عاشتها هذه الرسالات سوف تتحقّق في نهاية المطاف في اتّباع رسالة الإسلام :

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... } [الأعراف : 157].

على أنّ هناك شيئاً تجدر الإشارة إليه ، وهو : أنّ القرآن الكريم يهتمّ عادةً بتفصيل قصص الرسل الذين هم من أُولي العزْم : كنوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى ، ذلك لأغراض متعدّدة (1) يمكن أن يكون من جملتها :

أ ـ إنّ هؤلاء الأنبياء يمثّلون مراحل مختلفةً لرسالة السماء ، وإنّهم مع صلة القربى والوحدة في دعوتهم نجدهم يشكّلون مواضع فاصلة في تطوّر الدعوة الدينية النازلة من السماء.

ب ـ إنّ لبعض هؤلاء الأنبياء أتباعاً وأُمماً عاشت حتّى نزول رسول الإسلام ممّا يفرض الاهتمام بمعالجة أوضاعهم وعلاقتهم بدعوة الإسلام الجديدة.

ج ـ إنّ أحداثاً مفصّلةً ومختلفةً عاشها هؤلاء مع أُممهم وأقوامهم تمثّل جوانب عديدة ممّا تعيشه كلُّ دعوةٍ دينيّة عامّة واسعة النطاق تستهدف تغييراً جذريّاً لواقع ذلك المجتمع.

الموضع الخامس :

الآيات التي جاءت في سورة يونس والتي تبدأ بقوله تعالى :

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } [يونس : 75]

والتي تُختم بقوله تعالى :

{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [يونس : 93].

وتُلاحَظ في هذا المقطع القرآني من القصّة الأُمور التالية :

أوّلاً :

إنّ المقطع جاء بعد مقارنةٍ عرضها القرآن الكريم بين مصير اتباع الحق والمؤمنين بالله وبالرسل والمصدِّقين بهم ، ومصير اتباع الباطل والمفترين على الله والمكذِّبين بالرسل :

{الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ... قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [ يونس : 63 ـ 70].

ثانياً :

إنّ هذا المقطع من القصّة جاء بعد إشارةٍ قصيرةٍ إلى نبأ نوحٍ وقومه ، تتبعها لمحةٌ عامّةٌ عن الرسل من بعد نوح ، وموقف قومهم منهم.

ثالثاً :

إنّ المقطع لا يتناول من التفاصيل إلاّ القدر الذي يرتبط بموقف فرعون وملئه من موسى ، والمصير الذي لاقاه هؤلاء نتيجة لإعراضهم عن الدعوة وتكذيبهم بها كما أنّه يشير إلى نهاية بني إسرائيل الطيبة بعد معاناتهم الطولة في المجتمع الفرعوني.

وبعد هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج :

أنَّ القصّة إنّما جاءت هنا من أجل تصديق (الحقيقة) التي ذكرها القرآن الكريم في مقارنته بين الذين آمنوا والذين يفترون على الله الكذب.

كما أنّ السياق العام هو الذي فرض مجيء القصّة بشيءٍ من التفصيل؛ لأنّ قصّة موسى تمثّل بتفاصيلها الانقسام بين جماعتين ، إحداهما مؤمنة به ، والأُخرى كافرة بدعوته ، حيث يقع الصراع بينهما وينتهي بالغلبة للمؤمنين على الكافرين ، بخلاف قصص الأنبياء الآخرين فإنّها تُعرض في القرآن الكريم على أساس أنّ النبي لم يؤمن به إلاّ النزر اليسير من الناس ، ولذلك ينزل العذاب بقومه بشكلٍ عام ؛ فهذه القصص تمثّل جانباً واحداً من المقارنة ، وهو جانب المصير الذي يواجهه المكذِّبون والمنحرفون ، بخلاف قصّة موسى فإنّها تمثّل الجانبين معاً :

جانب المؤمنين وجانب المكذِّبين؛ ومن هنا يمكن أن نفسِّر مجيء قصّة نوح في هذا الموضع مختصرة مع الإشارة العامّة لموقف بقيّة الأنبياء.

إضافةً إلى أنّ نوحاً يمثّل بداية الأنبياء الذي لاقى قومهم العذاب في قصص القرآن ، وموسى يمثّل نهايتهم وختامهم.

ويؤكّد هذا التفسير لسياق القصّة ما أشرنا إليه في الملاحظة الثالثة من أنّ التفاصيل التي تناولها المقطع انحصرت في بيان التزام بني إسرائيل الحق ، دون أن تتعرّض إلى الجوانب الأُخرى لموقفهم ، والتي تمثّل الانحراف والعصيان لأوامر موسى ، وهذا الالتزام يكاد يشعرنا أنّ القصّة سيقت لإبراز صدق هذه المقارنة في التأريخ الإنساني والتي كانت تتحكّم في المواجهة التي يلاقيها الأنبياء.

ومن الممكن أن نلاحظ في تكرار القصّة بهذا المقطع ملامح السبب الرابع من أسباب التكرار التي ذكرناها سابقاً ، حيث إنّ طريقة عرض القصّة في هذا المقطع حقّقت غرضاً معيّناً ما كان يحصل لو عُرضت القصّة بجميع تفاصيلها كما أشرنا.

الموضع السادس :

الآيات التي جاءت في سورة هود وهي قوله تعالى :

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ *  يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [ هود : 96 ـ 99].

ويُلاحَظ في هذا المقطع القرآني من القصّة ما يلي :

أوّلاً :

إنّه جاء في عرضٍ قصصيٍّ عام يبدأ بنوحٍ (عليه السلام) ويختم بهذه اللمحة عن قصّة موسى (عليه السلام).

ثانياً :

إنّ هذا العرض العام جاء في سياق الحديث عن مكذِّبي الرسول (صلّى الله عليه وآله) وما يجب أن يكون الموقف العام منهم والمصير الذي ينتظرهم في الآخرة ، كما أنّه يختم العرض بما يشبه بيان الغاية منه ، وهو قوله تعالى :

{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ *  وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [ هود : 100 ـ 102].

ثالثاً :

إنّ المقطع جاء لمحةً عابرةً عن القصّة ونهايتها على خلاف قصص الأنبياء الآخرين التي جاءت في شيءٍ من التفصيل؛ ومن هنا يمكن أن نستنتج أنَّ الإتيان بهذا المقطع من القصّة كان من أجل إكمال الصورة التي بدأها بنوح وأراد القرآن الكريم أن يختمها بموسى ، ليظهر بذلك الارتباط الوثيق بين أُسلوب الأنبياء في الدعوة إلى الله ، وجهودهم في سبيل هذه الغاية والمواجهة التي كانوا يلاقونها من أُممهم وأقوامهم ، والنتيجة الحاسمة التي كان ينتهي إليها مصير هذه الأُمم من العذاب الشديد والعقاب القاسي.

الموضع السابع :

الآيات التي جاءت في سورة إبراهيم وهي قوله تعالى :

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [ إبراهيم : 5 ـ 8].

ويُلاحَظ في هذا المقطع القرآني من القصّة ما يلي :

أوّلاً :

إنّ القرآن الكريم قد مهّد لهذه الإشارة بقوله :

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم : 4].

ثانياً :

إنّ القرآن يتحدّث بعد هذا المقطع من القصّة عن المفاهيم العامّة التي كان يطرحها الرسل ، والأساليب التي كانوا يسلكونها لتحقيق أغراضهم الرساليّة.

ثالثاً :

إنّ الحديث عن القصّة في المقطع ، جاء بشكلٍ مختصرٍ وقد أكّد المشكلة العامّة التي كان يعانيها الإسرائيليون ، والنعمة العامّة التي تفضّل بها عليهم ، والدعوة لشكر النعمة وإنّ الله لا يضره كفرانها.

ومن هنا يمكن أن نستنتج :

أنّ المقطع قُُصد به التمثيل على صدق الحقيقة التي أشار إليها القرآن الكريم من مجيء كلِّ رسولٍ بلسان قومه ، حيث قد يُراد بلسان القوم اللُّغة التي يتكلّم بها القوم ـ كما لعلّه هو الظاهر ـ ولكن قد يُراد من اللسان ـ كما يُشير إليه السياق ـ هو الجوانب والمشاكل الاجتماعية والسياسية والإنسانية المثيرة التي تستقطب اهتمام الأُمّة ونظرتها ومشاعرها ، فيكون تأكيدها أُسلوباً ولساناً لإلفات نظر الأُمّة إلى الدعوة وقيمتها الروحية والاجتماعية ، ولذا جاءت قصّة موسى مثالاً لهذه الحقيقة؛ لأنّه دعا لإنقاذ قومه من مشكلةٍ اجتماعيةٍ عامّةٍ كانوا يعانونها.

ولعلّ ما يؤكّد هذا القصد هو : أنّ العرض جاء بلسان الخطاب إلى القوم ، لا بلسان الحديث عن القضايا والأحداث.
ولمّا كانت الغاية الحقيقيّة من إرسال الرُسل هي هداية الناس وإرشادهم ، لذلك نجد القرآن الكريم ، بعد هذه الإشارة إلى قصّة موسى ، وتصديق الحقيقة ، يعود فيتحدّث عن المفاهيم العامّة التي كان يطرحها الرُسُل ، على أساس أنّها الشيء المطلوب من الناس التصديق به ، دون أن يكون للأُسلوب المعيّن المتّبع في تحقيق هذا الهدف أهمّيّة ذاتيّة خاصّة.

الموضع الثامن :

الآيات التي جاءت في سورة الإسراء وهي قوله تعالى :

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً *  قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً * فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [ الإسراء : 101 ـ 104].

ويُلاحَظ في هذا المقطع القرآني من القصّة ما يلي :

أوّلاً :

إنّه جاء في سياق المطاليب التعجيزيّة المتعدّدة التي كان يقترحها المشركون والكفّار على الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعدم اكتفائهم بالقرآن الكريم دليلاً ومعجزةً على النبوّة :

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً * وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً *  أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً} [ الإسراء : 89 ـ 92].

ثانياً :

إنّ القرآن الكريم يعقّب على القصّة بالحديث عن القرآن بقوله :

{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء : 105].

ثالثاً :

إنّ القرآن لم يشر في هذا المقطع من القصّة إلاّ إلى الآيات التسع التي جاء بها موسى ، ورَفْض فرعون لدعوته ، ومصيره نتيجةً لهذا الرفض.

ويمكن أن نستنتج من هذه الملاحظة :

أنّ القصّة إنّما جاءت هنا شاهداً على أنّ هذه المطالب المتعدّدة التي صدرت من الكفّار لم تكن بسبب حاجةٍ نفسيّةٍ يحسّها هؤلاء الكافرون تجاه هذه المطاليب وإنّما هو أُسلوبٌ عام يتذرّع به الكفّار للتمادي في الضلال والإصرار عليه؛ والشاهد على ذلك قصّة موسى (عليه السلام) ، حيث جاء موسى بتسع آيات ، ومع ذلك فقد كان موقف فرعون منها موقف المكذِّبين ، بالرغم من أنّ هذه الآيات التسع جاءت في أزمنةٍ متعدّدة.

فالسياق هو الذي فرض الإتيان بالقصّة على أساس الاستشهاد بها ، وهذا شيءٌ تفرضه طبيعة الواقع التأريخي لرسالة موسى الذي أرسله الله سبحانه بالآيات التسع.

كما أنّ التكرار كان بسبب تأكيد مفهومين :

الأوّل :

إنّ طلبات الكفار وتمنيّاتهم ليست نتيجةً لواقعٍ نفسيٍّ يدعوهم إلى الشك بالرسالة ويفرض عليهم التأكّد من صحّتها ، ولا يكون عدم إتيان الرسول بمطاليبهم حينئذٍ بسبب فقدان صلته بالسماء ، وإنّما بسبب كفاية القرآن الكريم لإقامة الحجّة عليهم ، كما دلّت الآية الكريمة بعد القصّة على ذلك.

الثاني :

إنّ مصير هؤلاء المكذِّبين كمصير فرعون من الهلاك والهزيمة ، وأنّ أتباع النبي يصيرون إلى ما صار عليه بنو إسرائيل من وراثة الأرض.

الموضع التاسع :

الآيات التي جاءت في سورة الكهف ، والتي تبدأ بقوله تعالى :

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا } [الكهف : 60 ، 61]
والتي تُختم بقوله تعالى :

{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف : 82].

ويبدو هذا المقطع منفصلاً عن قصّة موسى المذكورة في مواضع مختلفة من القرآن الكريم؛ لأنّه يتحدّث عن جانبٍ معيّنٍ من شخصيّة هذا الإنسان يختلف عن الجوانب الأُخرى التي تصوّرها القصّة ، والتي تظهر فيها شخصيّة موسى النبي ، صاحب الرسالة والدعوة ، الذي يجاهد من أجل التوحيد وإقامة العدل الإلهي والدفاع عن المستضعفين ، أو تتحدّد فيها معالم هذه الشخصيّة من خلال سيرته ونشأته الذاتية؛ أما هنا فيبدو موسى الإنسان الذي يسير في طريق التعلّم والحريص على تفسير الظواهر غير العاديّة.

وحين نُلاحِظ أنّ القرآن الكريم يأتي بهذا المقطع في سياق قوله تعالى :

{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف : 58 ، 59] قد نستنتج أنّ الإتيان به كان من أجل التدليل على مدى مطابقة الحكمة الإلهيّة للمصلحة ، وانسجامها مع واقع الأشياء مهما بدت غير واضحة المقصد والهدف.

فإنّ هاتين الآيتين اللتين جاء المقطع في سياقهما تشيران إلى وجود حكمةٍ إلهيّةٍ من وراء تأخير العذاب ، وعدم التعجيل به مع استحقاق الظالمين له ، مع أنّه قد يبدو في النظرة السطحيّة الإنسانية أنّ التعجيل بالعذاب أوفق بالمصلحة ، حيث يكون رادعاً للآخرين عن الظلم ، فجاء المقطع تأكيداً لحقيقة الحكمة الإلهيّة ونظرتها البعيدة ، وأنّ هذه الحكمة قد تخفى حتّى على الأنبياء أنفسهم؛ حيث نلاحظ في هذا المقطع ثلاثة أعمال وتصرفات يقوم بها العبد الصالح ، كلّها تبدو في ظاهرها أنّها بعيدةٌ عن العدل والمصلحة ، الأمر الذي يُثير استغراب موسى إلى الحد الذي يجعله يتخلّى عن التزامه السابق بعدم السؤال ، ثمّ يشرح العبد الصالح هذه الأعمال ويبيّن مدى انسجامها مع العدل والمصلحة العامّة.

فالسياق العام للسورة هو الذي فرض الإتيان بالقصّة في هذا المورد ، ولا حاجة إلى تكراره في مواضع أُخرى مستقلاًّ أو في سرد الحوادث؛ لأنّه لا يحقّق الغرض الذي جيء به في هذا المورد.

الموضع العاشر :

الآيات التي جاءت في سورة مريم ، وهي قوله تعالى :

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً * وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} [ مريم : 51 ـ 53].

وقد جاءت هذه اللمحة من القصّة في عرضٍ قصصيٍّ مشتركٍ عن الأنبياء ، وذلك بصدد تعداد من أنعم الله علهيم من عباده وأنبيائه ، ومقارنتهم بمن خلف بعدهم ممّن أضاع الصلاة واتّبع الشهوات :

{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم : 58].

فالسياق العام هو الذي فرض مجيء هذه القصّة بهذا الشكل من العرض والاختصار؛ وذلك لتعداد العباد الصالحين ونعمة الله عليهم.

الموضع الحادي عشر :

الآيات التي جاءت في سورة طه ، والتي تبدأ بقوله تعالى :

{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى } [طه : 9 ، 10].

والتي تُختم بقوله تعالى :

{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه : 97 ، 98].

ونُلاحِظ في هذا المقطع القرآني من القصّة الأُمور التالية :

الأوّل :

إنّ القصّة جاءت في سياق بيان أنّ القرآن الكريم لم ينزل من أجل أن يشقى النبي ويتألّم ، لمجرّد أنّ قومه لم يؤمنوا به أو يظن في نفسه التخلّف والتقصير أو القصور عن أداء الرسالة ، وإنّما نزل القرآن تذكرةً لمن يخشى من الناس :

{طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} [ طه : 1 ـ 3].

الثاني :

إنّ هذا المقطع القرآني ينتهي بقوله :

{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا } [طه : 99].

الثالث :

إنّ المقطع يؤكّد بشكلٍ خاصٍّ ملامح معاناة النبيّ موسى (عليه السلام) في سبيل الدعوة ، سواء في ذلك المعاناة النابعة من الذات : من الانفعالات والمخاوف النفسيّة أم الحرص الشديد على نجاح الدعوة وسلامتها والتزام أبنائها بها ، أم التي تكون نتيجة العقبات والمشاكل والصعوبات التي تُثار عند المواجهة والتطبيق ، سواء من قِبَل الكافرين بالدعوة أصلاً أم المؤمنين بها ، أو نعم الله وألطافه به من خلال ذلك.

فهناك عدّة انعكاسات لمواقف الرسالة والدعوة في ذات موسى :

الأوّل :

مفاجأته بالرسالة ، وكذلك فزعه من المعجزة وتحوّل العصا إلى حيّة.

الثاني :

تردّده في الإقدام على الدعوة بمفرده ، وطلبه انضمام أخيه هارون إليه.

الثالث :

خوفه مع أخيه من التحدّث إلى فرعون ومواجهته بالدعوة ، مع أنّهما أُمرا أن يقولا قولاً ليّنا.

الرابع :

احساسه بالخوف من سحرهم وتوجّسه من نتائج المباراة.

الخامس :

موقفه مع ربّه في المواعدة ومخاطبة الله له بأنّه قد أعجل عن قومه.

السادس :

غضب موسى وأسفه وموقفه الصارم من قومه وأخيه والسامري.

وقد صاغ القرآن الكريم هذه الانفعالات من خلال طريقة العرض ، على الشكل الذي يؤكّد معاناة النبي ويُبرز ملامح شخصيّته ، حيث كان يؤكّد في طريقة العرض ضمير المخاطبة ، سواء بين الله وموسى أم بين موسى والآخرين.

وإضافةً إلى ذلك ، نجد أمام موسى (عليه السلام) مجموعةً من العقبات والمشاكل الحقيقية المهمّة ، مثل :

محاولة السحرة تضليل الناس ، أو استخدام فرعون لأُسلوب القمع والتهديد به ، أو مطاردة فرعون وجيشه لموسى وبني إسرائيل في محاولتهم للعبور ، أو فتنة السامري للإسرائيليين وتمرّدهم على هارون.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نستنتج :

أوّلاً :

إنّ القصّة سيقت لإبراز معاناة الأنبياء في دعواتهم بصفتها نتيجة طبيعية لِعِظَم المسؤوليّة التي يتحمّلونها والمشاكل التي تواجههم ، وبشكلٍ خاصٍّ تُشير إلى المعانة الذاتيّة ، ويشهد لذلك أنّ القصّة تؤكّد المواقف التي تظهر فيها انفعالات الرسول ، كما أنّها تؤكّد ما ينعم به الله على الرسول خلال المجابهة ، وحين ينتهي عرض دور الانفعال نجد القصّة تنتقل إلى عَرْض الدور الآخر ، دون أن تقف عند المَشاهد الأُخرى ، فهي ـ مثلاً ـ تنتقل من العبور إلى المواعدة رأساً.

كما أنّنا حين نقارن بين هذا المورد الطويل من القصّة والمورد السابق الطويل منها الذي جاء في سورة الأعراف ، أو المورد الثالث الطويل منها الذي يأتي في سورة القصص ، نجد هذا المورد هو الوحيد بينها يؤكّد بهذا التفصيل هذه الملامح لشخصيّة الرسول.

ثانياً :

إنّ السبب الذي فرض على القصّة هذا الأُسلوب الخاص من العَرْض والتصوير واقتضى في نفس الوقت بعض التكرار هو مخاطبة الرسول وتخفيف الألم والعذاب النفسي اللذين كان يعانيهما تجاه الدعوة ، ويدلّنا على ذلك ما لاحظناه في الأمر الأوّل والثاني ، حيث استهدف القرآن الكريم إبراز الصلة الوثيقة بين ما يعانيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في دعوته وبين ما كان الأنبياء السابقون يعانونه :

{مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إلاّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى}

{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً} .

الموضع الثاني عشر :

الآيات التي جاءت في سورة الشعراء والتي تبدأ القصّة فيه بقوله تعالى :

{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ ألا يَتَّقُونَ} [ الشعراء : 10 ـ 11]

والتي تختم بقوله تعالى :

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [ الشعراء : 67 ـ 68].

ويُلاحَظ في هذا المقطع القرآني من القصّة الأُمور التالية :

الأوّل :

إنّ المقطع من القصّة جاء بعد عتابٍ من الله سبحانه لرسوله محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) في إجهاده لنفسه وإرهاقها ، حتّى يكاد يقتلها بسبب أنّ قومه لم يكونوا مؤمنين : {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء : 3].

وبعد هذا العتاب يذكر القرآن الكريم قانوناً اجتماعيّاً يتحكّم في التأريخ ، وهو : أنّ كلّ ذكرٍ جديدٍ من الله سبحانه يحدث ردّة فعلٍ كهذه لدى الكفار ، حيث يقاومونه ويعرضون عنه ، ولم يكن ذلك بسبب عجز الله سبحانه ، وعدم قدرته على اخضاعهم لرسالته وإرغامهم عليها :

{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء : 4 ، 5].

الثاني :

إنّ القرآن الكريم ينبّه ـ بعد هذا التفسير العام للتأريخ ـ إلى أنّ هذا الموقف العام للكافرين تجاه الذكر لم يكن بسبب عدم توفّر الدليل الصالح على صحّة الرسالة :

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ *  وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [ الشعراء : 7 ـ 9].

الثالث :

إنّ هذا المقطع جاء في عَرْضٍ قصصيٍّ مشتركٍ للأنبياء يتميّز بطابعٍ خاصٍّ إلى جانب هذا التفسير التأريخي للموقف العام ، وهو : أنّ كلّ نبيٍّ نجده يبذل جهده في استعمال الأساليب المختلفة من الكلام الليّن الهادئ ، أو التذكير بالنعم الإلهيّة الظاهرة التي يتمتّع بها أقوامهم ، وقد يعضد أقواله هذه أحياناً بآية ومعجزة سماوية تشهد له على صحّة دعوته ، ومع كلِّ ذلك تكون النتيجة واحدةً ويختتم بقوله تعالى : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} .

الرابع :

إنّ القرآن الكريم بعد أن يأتي على نهاية العرض القصصي المشترك هذا يرجع فيتحدّث عن (آيات الكتاب المبين) بوصفها شيئاً مرتبطاً بالسماء ومتّصفاً بجميع الصفات التي تبرز هذا الاتصال ، ممّا يسمح لذوي البصيرة والقلوب النيّرة أن يطّلعوا على واقعه ويهتدوا به.

وعلى أساس هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج أنّ القصّة جاءت لتحقيق هدفين ضمن عَرْضٍ قصصي مشترك :

أحدهما : إيضاح القانون الطبيعي الذي يتحكّم في مواجهة الأفكار الإلهيّة الجديدة ، وأنّ تلكّؤ الكافرين في الإيمان بالدعوة الإسلامية ورسالتها ليس بسبب تخلّف الرسول (صلّى الله عليه وآله) عن المستوى الأمثل للعمل والنضال ، أو نتيجة لعدم توفّر الأدلّة الكافية على صحّة الرسالة ، وإنّما هو قانون عام له أسبابه النفسيّة والاجتماعية الأُخرى ، وخضعت له الرسالات الإلهيّة كلّها.

والآخر : إنّ النهاية سوف تكون لعباد الله الصالحين وأنّهم هم الذين يرثون الأرض ، ومن أجل إلفات النظر إلى هذا الهدف ـ الذي قد يضيع ضمن العَرْض العام للقصص ـ وتأكيده جاءت قصّة موسى بشيءٍ من التفصيل الذي يؤكّد هذا الجانب ، ويمكن ـ أيضاً ـ أن نفسِّر التكرار للقصّة بأحد السببين التاليين أو كليهما :

الأوّل :

تأكيد هدفٍ وغرضٍ سبق أن استهدفه القرآن الكريم من قصّة موسى نفسها في سورة طه وهو : التخفيف من الألم الذي يعانيه الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهذا هو السبب الثاني من الأسباب الموجبة للتكرار.

الثاني :

إنّ القصّة استهدفت غرضاً دينيّاً جديداً وهو : تصوير المفهوم الإسلامي العام عن طبيعة موقف المشركين تجاه الرسالة ، وأنّه هو الموقف العام لهم تجاه كلّ الرسالات ، وهذا هو السبب الأوّل من الأسباب الموجبة للتكرار.

وقد جاءت القصّة في أُسلوبها وطريقة عرض الأحداث فيها منسجمةً مع أهدافها وأغراضها حيث تناولت جوانب معيّنة من حياة موسى وعرضت بشكلٍ  خاصٍّ تنتهي عند هذه الأهداف؛ فنجد الحديث في القصّة ـ مثلاً ـ ينتهي عند العبور ، كما أنّها أكّدت الأُسلوب الذي سار عليه موسى وهارون في مخاطبة فرعون. 

الموضع الثالث عشر :

الآيات التي جاءت في سورة النمل والتي تبدأ بقوله تعالى :

{إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } [النمل : 7]
والتي تختم بقوله تعالى :

{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل : 14].

وتُلاحظ في هذا المقطع القصير الذي يتحدّث عن القصّة بشكلٍ عام ، الأُمور التالية :

الأوّل :

إنّ القصّة جاءت في سياق التحدّث عن الكافرين بالآخرة وما سوف يلاقون من عذاب ، وعن واقع نزول القرآن وتلقّيه :

{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ *  وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [ النمل : 4 ـ 6].

الثاني :

إنّ هذا المقطع يختم بقوله تعالى :

{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل : 14].

الثالث :

إنّ المقطع على اختصاره يكاد يختص بذكر الحوادث والآيات الغيبيّة ، فهو يذكر المناداة ومعجزة العصا واليد ، ويُشير إلى الآيات التسع.

وهذه الملاحظة تدعونا لأن نستنتج : أنّ القصّة سيقت لإظهار حقيقةٍ من الحقائق التي ترتبط بالجانب النفسي للمجتمع الذي يواجه دعوةً جديدةً ، وهذه الحقيقة هي أنّ نكران الآخرة وعدم الإيمان بها إنّما يقوم على أساسٍ نفسيٍّ وعاطفي ، لا على أساسٍ موضوعيٍّ ودراسةٍ علميّة ، هذا الشيء الذي عبّر عنه القرآن الكريم بالجحود؛ وذلك لأنّ الدراسة الموضوعيّة كانت تقتضي أن تنتهي الحالة بالناس إلى الإيمان بالآخرة بعد أن أكّدت الآيات والمعاجز ارتباط النبي بعالم الغيب ، وهذه الآيات والمعاجز توفّر عناصر اليقين عند الإنسان العادي الذي يعيش وضعيّةً عاطفيّةً مستويةً ومستقيمة؛

ونتيجةً لذلك (وهو : عدم الإيمان بالرغم من توفّر الأدلّة والحجج) ينزل العذاب بالكافرين بعد أن لم يستجيبوا للحقائق والأدلّة.

ولا يفوتنا أن ننبّه هنا إلى نكتة دقيقة ولطيفة ، وشاهد يؤكّد لنا أنّ القصّة سيقت لهذا الغرض ، هو : أنّ القرآن يصوّر لنا خوف موسى من العصا بالشكل الذي يدعوه إلى الهروب ، وفي هذا تأكيد أنّ هذا التحوّل في حالة (العصا) كان نتيجة تدخّلٍ غيبيٍّ ولذا ترك أثره على موسى نفسِه ، لا أنّه نتيجة عملٍ بشريٍّ قام به موسى ، ولعلّ السرَّ في تكرار القصّة هنا هو السببان التاليان :

الأوّل :

إنّ المقطع جاء في عَرْض قصصٍ مشترك لتأكيد تفسير إسلامي لموقف المنكرين للقرآن والدعوة ، على أساس عدم كفاية الآيات والمعجزات لإثباتها ، وقد عرفنا في هذا التأكيد السبب الثاني للتكرار كما سبق.

الثاني :

إنّ القصّة جاءت مختصرةً في تصوير الموقف وهذا يدعونا لأن نرى أنّها وردت في مرحلةٍ متقدّمةٍ من مراحل الدعوة ، حين كان يعالج القرآن مشاكلها بشكل مختصر ، وهذا ما ذكرناه سبباً ثالثاً للتكرار.

الموضع الرابع عشر :

الآيات التي جاءت في سورة القصص ، والتي تبدأ بقوله تعالى :

{نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص : 3] والتي تختم بقوله تعالى : {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص : 42].

وتُلاحظ في هذا المقطع من القصّة الأُمور التالية :

الأوّل :

إنّ السورة تكاد تبدأ بالقصّة دون أن يسبقها شيءٌ عدا آيتين : هما قوله تعالى :

{طسم *  تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [ القصص : 1 ـ 2].

الثاني :

إنّ القرآن الكريم يأتي في سياق القصّة بعدها بقوله تعالى :

{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * ... وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ *  وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [ القصص : 44 ـ 46].

الثالث :

إنّ القصّة تذكر تفاصيل وحوادث ذات طابعٍ شخصيٍّ من حياة موسى (عليه السلام) تكاد تكون جانبية ، كحادثة إلقائه في اليم ، واستنقاذ آل فرعون له ، ورفضه للرضاعة من غير أُمّه ، وقتله الرجل ثمّ محاولته قتل الآخر وهروبه ، ثمّ قضيّة زواجه مع تفاصيلها.

الرابع :

إنّ القصّة تبدأ بذكر أحكامٍ عامّةٍ عن الوضع الاجتماعي حينذاك والغاية المتوخّاة من تغييره :

{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [ القصص : 4 ـ 6].

وعلى ضوء هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج أنّ القصّة استهدفت أمرين :

الأوّل :

إنّ القرآن الكريم كتابٌ منزل من الله سبحانه وتعالى ، وإنّه ليس من صنع محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) ، وهذا هو الهدف الرئيس من سرد القصّة في هذا المورد ـ كما يُشير إلى ذلك الأمر الأوّل والثاني ـ وهو في نفس الوقت من الأهداف المهمّة التي يؤكّدها القرآن الكريم في مناسباتٍ كثيرةٍ لما له من تأثير في سير الدعوة.

وبهذا يمكن أن نفسِّر ما أشرنا إليه في الأمر الثالث؛ لأنّ في الحديث عن تفاصيل جانبيّةٍ من حياة الرسول دلالة قويّة على ارتباط القرآن بعالم الغيب ، حيث من المفروض أن لا يطّلع على هذه التفاصيل جميع الناس؛ لأنّها تعيش حياة الرسول حين كان فرداً عاديّاً في المجتمع ، على خلاف تفاصيل حياته بعد النبوّة فإنّها ـ بطبيعة الحال ـ تكون معروفةً للناس لتسليط الأضواء على شخصيّته من قِبَلهم.

الثاني :

إيضاح أنّ عمليّة التغيير الاجتماعي قد تتم حتّى في أبعد الظروف ملاءمةً واحتمالاً ، وفي ظل أشد ظروف الظلم والاضطهاد والطغيان ، بحيث تبدأ عمليّة التغيير من نقطةٍ هي في منتهى البُعد والضعف نسبةً لهذه العمليّة وذلك نتيجة للإيمان الواعي بالله وما يستلزمه ذلك من الإصرار والصبر على تبنّي العقيدة والنضال من أجلها.

ولذلك نجد القصّة في هذا الموضع تؤكّد ملامح الاضطهاد الذي كان يعانيه المجتمع بشكلٍ عام ، والإسرائيليون بشكلٍ خاص ، كما تؤكّد الوضع القاسي الذي كان يعيشه شخص الرسول في كونه منذ البداية في معرض خطر الموت والهلاك ، ثمّ مطارداً من المجتمع بتهمة القتل العدواني ، ثمّ مهاجراً وبعيداً عن المواقع الطبيعية لحركة التغيير.

وفي هذين الهدفين ما يُبرّر التكرار الذي يمكن أن يكون بالسبب الأوّل أو الثاني من أسباب التكرار.

الموضع الخامس عشر :

الآيات التي جاءت في سورة المؤمن والتي تبدأ بقوله تعالى :

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ *  إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ المؤمن : 23 ـ 24]

والتي تختم بقوله تعالى :

{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *  فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [ المؤمن : 44 ـ 45].

ويُلاحظ في هذا المقطع من القصّة ما يلي :

الأوّل :

إنّ السورة التي جاء فيها هذا المقطع تتحدّث في مطلعها عن مصير من يجادل في آيات الله :

{ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ } [ المؤمن : 4].

الثاني :

إنّ القصّة تأتي في سياق أنّ هذا المصير للمجادلين نتيجة طبيعية لعنادهم ، بعد أن تأتيهم البيّنات ، فيكفرون بها :

{أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} [ المؤمن : 21].

الثالث :

إنّ القصّة تؤكّد بشكلٍ واضحٍ موقف مؤمن آل فرعون ، والأساليب التي استعملها في دعوته لهم ومحاولته ذات الجانب العاطفي في هدايتهم مع تذكيرهم بمصير من سبقهم من الأُمم وما ينتظرهم نتيجة لعنادهم وكفرهم.

وقبالة هذا الموقف يظهر لنا موقف فرعون وقد تمادى في غيّه حتّى حاول أن يطّلع على إله موسى.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نستنتج :

أنّ القصّة سيقت لتوضيح مصير من يجادل في آيات الله ، مع إيضاح الفرق بين الأُسلوب الذي يستعمله الداعية والأُسلوب الذي يستعمله المجادل والكافر ، وأنّ العذاب لا ينزل بهؤلاء إلاّ بعد أن تتمّ الحجّة عليهم.

وإنّ الهداية والحجّة من الوضوح بحيث يمكن أن يقتنع بها حتّى أُولئك الأشخاص الذين يعيشون في الوسط المتنفّذ والمترف ـ كما هو الحال بالنسبة إلى مؤمن آل فرعون ـ كما أنّها تؤكّد الدور الذي يجب أن يقوم به الإنسان تجاه هداية الآخرين ، وأنّها مسؤوليّة شرعيّة وإنسانية يتحمّلها كلُّ الناس ، حتّى لو كان من الوسط الضال ، كما فعل مؤمن آل فرعون.

وفي هذا العَرْض القرآني للقصّة يظهر لنا ـ أيضاً ـ هذا الامتزاج بين الرحمة والغفران ، وبين النقمة وشدّة العذاب :

{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر : 3].

فإنّ الله سبحانه يجعل تحت متناول عقول عباده وأنظارهم آياته وأدلّته وبراهينه ، ويتوسّل إلى هدايتهم بالوسائل المختلفة التي لا تشل عنصر الاختيار فيهم ، كلّ ذلك رحمة منه وفسحة لقبول التوبة والاستغفار ، ولكنّه ـ مع ذلك ـ لا يعجزه شيءٌ عن عقابهم أو القدرة على إنزال العذاب فيهم.

الموضع السادس عشر :

الآيات التي جاءت في سورة الزخرف والتي تبدأ بقوله تعالى :

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الزخرف : 46]

والتي تختم بقوله تعالى :

{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف : 55 ، 56].

ويُلاحظ في هذا الموضع من القصّة ما يلي :

إنّ هذا المقطع القرآني من القصّة جاء في سياق الحديث عن شبهةٍ أثارها الكفّار في وجه الدعوة :

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف : 31].

وقد ناقش القرآن الكريم هذه الشبهة من ناحيتين :

الأُولى :

إنّ الرزق والمال ليس عطاءً بشريّاً أو نتيجةً للجهد الشخصي والذكاء والعبقريّة والفضل فحسب ، بل هو عطاء إلهي له غاية اجتماعية تنظيمية :

{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف : 32].

الثانية :

إنّ هذا العطاء الإلهي المادّي ليس مرتبطاً بالفضل والامتياز عند الله ، والقربى لديه كما هو شأن العطاء البشري ومقاييسه ، بل قد يكون العكس هو الصحيح :

{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [الزخرف : 33].

فإنّ ظاهر هذه الآية الكريمة هو أنّه لولا مخافة أن يكون الناس أُمة واحدة على الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن... وقد يكون ذلك تعويضاً لهم عمّا يلحق بهم من الخسران والعذاب في الدار الآخرة فإنّ (الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر) (2).

ومن هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج :

إنّ هذا المقطع جاء ليضرب مثلاً واقعيّاً تجاه هذه الحقيقة والفكرة التي عاشتها الإنسانية ، وهذا المثل هو موقف فرعون من دعوة موسى؛ حيث نزلت الرسالة على شخصٍ فقيرٍ مطاردٍ ويتعرّض قومه إلى الاضطهاد ، مع أنّ فرعون هو صاحب الثروة والغنى.

والذي يؤكّد هذا الاستنتاج : أنّ المقطع يتبنّى إظهار جانب ما يتمتّع به فرعون من ثروةٍ وملكٍ وغنى ، في مقابل موسى الذي هو مهين ، على حد تعبير فرعون ، وليس في المواضع الأُخرى من القرآن ما يشبه هذا الموقف من فرعون.

فالتكرار فرضه السياق القرآني إلى جانب تحقيق الغرض الديني.

الموضع السابع عشر :

الآيات التي جاءت في سورة الذاريات وهي قوله تعالى :

{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات : 38 - 40].

وهذه اللمحة العابرة التي تأتي في عَرْضٍ قصصيّ مشتركٍ عن الأنبياء من أجل تعداد آيات الله سبحانه ، وإثبات صدق الدعوة والنبوّة ، نجد أُسلوب السورة المكّيّة الذي كان يفرض طبيعة الموقف فيه ذكر القصص القرآنية بشكلٍ مختصرٍ وعابر.

الموضع الثامن عشر :

الآية التي جاءت في سورة الصف :

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف : 5].

وفي هذه إشارة إلى موقفٍ معيّنٍ لبني إسرائيل تجاه موسى ، حيث آذوه مع علمهم بنبوّته ، وقد كان الغرض من الإشارة إليه هو مقارنة موقف أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله) تجاهه وموقف هؤلاء تجاه موسى ، وكذلك موقف بني إسرائيل تجاه عيسى (عليه السلام) من تكذيبه ومخالفته بعد أن جاءهم بالبيّنات ، وفي هذا تذكير لأصحاب النبي وتحذير لهم من الوقوع في مثل هذه المواقف والمخالفات ، وإلاّ لساروا في طريق النفاق ، وكانوا ممّن يقولون ما لا يفعلون ، كما يدلّ السياق على ذلك.

الموضع التاسع عشر :

الآيات التي جاءت في سورة النازعات ، وهي قوله تعالى :

{هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [ النازعات : 15 ـ 25].

وهذا المقطع القرآني من القصّة ينسجم مع السياق العام للسورة التي تتحدّث عن الحشر ، وتصوّر قدرة الله سبحانه على تحقيقه (بزجرة) واحدة؛ لأنّ الموقف فيها ينتقل من دعوة موسى لفرعون مع ما له من القدرة الدنيوية ، وتكبره وتجبّره وعظمته ، إلى أخذ الله سبحانه له نكال الآخرة والأُولى ، فإنّ هذا الانتقال يصوّر لنا هذه السرعة والقدرة في الحشر والنشر ، ولذا نجد القرآن يرجع بعد إعطاء هذه الصورة الواقعيّة عن القدرة إلى الاستدلال على هذه الحقيقة بأدلّةٍ وجدانيّة :

{أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا *  وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [ النازعات : 27 ـ 32].
_____________________
(1) تحدّثنا عن هذا الموضوع بشيءٍ من التفصيل في بداية هذا الفصل.
(2)  من لا يحضره الفقيه 4 : 363.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .