المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24

الروضة واهميتها
21-6-2017
قيم الحد الطيفي لجهد عام
3-1-2021
معنى كلمة بيت
31-1-2022
زيارة لأمير المؤمنين (عليه السلام) من كتاب الأنوار.
2023-09-03
معوضات الهيدرازيد
2024-05-06
الادارة بواسطة الأهداف
24-4-2016


مفهوم المحاكاة عند ابن سينا  
  
13772   01:31 صباحاً   التاريخ: 14-08-2015
المؤلف : أصول النقد العربي القديم
الكتاب أو المصدر : د. عصام قصبجي
الجزء والصفحة : ص75-92
القسم : الأدب الــعربــي / النقد / النقد القديم /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-3-2018 1882
التاريخ: 26-7-2017 13069
التاريخ: 25-03-2015 24490
التاريخ: 26-7-2017 6263

 مثلما كان الشعر عند الفارابي محاكاة، كان كذلك ايضاً عند ابن سينا فالمحاكاة هي الجوهر الذي يتميز به الشعر من النشر والخطابة، والذي يستهوي الناس بما فيه من "تعجيب" ويستميلهم بما فيه من تخييل، والشعر انما هو "كلام مؤلف من اقوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة"(1). أما الوزن فينظر فيه من الناحية الكلية صاحب علم الموسيقا، ومن الناحية الجزئية صاحب علم العروض، "وإنما ينظر المنطقي في الشعر من حيث هو مخيل، والمخيل هو الكلام الذي تذعن له النفس، فتنبسط عن أمور، وتنقبض عن أمور، من غير رؤية وفكر، واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالاً نفسانياً غير فكري، سواء كان القول مصدقاً له أو غير مصدق، فان كونه مصدقا به غير كونه مخيلاً أو غير مخيل، فإنه قد يصدق بقول من الأقوال ولا ينفعل عنه، فإن قبل مرة اخرى، وعلى هيئة اخرى، انفعلت النفس عنه طاعة للتخييل لا للتصديق فكثيراً ما يؤثر الانفعال ولا يحدث تصديقاً، وربما كان المتيقن كذبه مخلاً، واذا كانت محاكاة الشيء بغيره تحرك النفس وهو كاذب، فلا عجب أن تكون صفة الشيء على ما هو عليه تحرك النفس ، وهو صادق، بل ذلك أوجب، لكن الناس اطوع للتخييل منهم للتصديق"(2).

 واضح اذن ان التخييل هو جوهر الشعر، بيد ان قيمة هذا التخييل لا ترجع إلى القائل، وانما إلى ما يخلفه في السامع من انفعال نفساني محض لا صلة له بالعقل، فالشعر لا يخاطب العقل، ولكنه يخاطب الشعور، وهو انما يفعل ذلك بما فيه من قوة المحاكاة من جهة وبما في النفس الانسانية من ميل فطري إلى المحاكاة من جهة ثانية(3). اما وسيلة الشعر في ذلك فهي تجريد النفس من عنصر "الارادة" و "الاختيار" بتخييل الشيء الجانبي فيها، فكأنه ينبغي ان يصل الشعر إلى النفس على نحو مباشر لا يقتضي وجود اختيار عقلي، او رؤية فكرية، بالنظر إلى ان الشعر أصلاً قول مخيل لا يشترط فيه صدق أو كذب(4). ولا يلبث ابن سينا ان يؤكد ذلك بالفصل بين التخييل والتصديق، لأن التخييل يخاطب النفس، والتصديق يخاطب العقل، فإذا لاحظنا ان الشعر انما يخاطب النفس ليؤثر فيها على نحو ما، فلا بد لنا ان ننظر إليه من هذا الباب فحسب، لأن الناس "اطوع للتخييل منهم للتصديق". على ان ابن سينا لاحظ هنا ان هذا الامر لا يعني ابتعاد الشعر عن الصدق، ولكنه يعني ان الشعر ينبغي ان يسلم سبيل التخييل لكي يؤدي غايته في الوصول إلى النفس سواء أكان بعد ذلك صادقاً أم كاذباً بل الأولى ان يكون صادقاً لولا ان الناس قد درجوا على التعلق بالقول الكاذب وهكذا، فإذا توفر عنصر التخييل لم يعد مهما ان يكون المضمون صادقاً أم كاذباً وان كان يغلب على طبيعة الشعر الأقوال الكاذبة. اذن فإن "ابن سينا" قد أدرك فيما يبدو مسألة الصدق والكذب بعيداً عن النظرة المجردة سواء أكانت خلقية ام فنية، فكان بذلك أدرى بطبيعة الشعر من قدامة مثلاً، الذي ذهب إلى ان "أعذب الشعر اكذبه"، وممن قال، ان المضمون هو الغاية وليس الشكل، فلم يبال ان يكون الشكل حسناً إذا كان المضمون صادقاً. ولا ريب أن كلام ابن سينا ــ إذا فهم بعمق ــ انما يحرر الشعر مما يكبله من قيود، لأنه يتيح للشاعر، أذا ما أوتي ملكة التخييل، ان يتناول ما شاء من افكار ليخلع عليها ثوب الفن ــ دون نظر إلى صدق أو كذب ــ ويخلب بها لب السامع ، فيغمره حزناً، او فرحاً، أو غضباً، أو خوفاً، فيهيئ له بذلك متعة لا يهيئها القول الصادق المباشر الذي يخلو من عنصر الجمال في المحاكاة، والحق ان هذه الملاحظة عميقة تنبه لها ابن سينا، وهي ان الناس ينفرون من الصدق المشهور، ويلتمسون التخييل الصادق : "وللمحاكاة شيء من التعجيب ليس للصدق، لأن الصدق المشهور كالفروغ منه، ولا طراءة له ، والصدق للمجهول غير ملتفت إليه والقول الصادق اذا حرف عن العادة، والحق به شيء  تستأنس به النفس، فربما افاد التصديق والتخييل معاً، وربما شغل التخييل عن الالتفاتات إلى التصديق والشعور به"(5). ظاهر اذن انه ينبغي ان ينظر في الشعر إلى الجانب الفني الذي تأنس به النفس حتى يكون مقبولاً، بل ان القول الصادق المباشر ينبغي أن "يحرف عن العادة" ــ ولعل ابن سينا يعني انه ينبغي ان يوشى بشيء من الغموض يبعده عن الوضوح دون ان يقترب به من المجهول ــ ويلحق بما تأنس به النفس وآنذاك فقد يكون جانب التصديق موازناً لجانب التخييل وقد يغلب جانب التخييل فتصرف إليه النفس عن الشعور بالتصديق، ولا ريب ان ثمة لمحة نافذة في هذا الكلام، "فابن سينا" لا يريد ان النفس اذ تولع بالتخييل انما تنصرف عن التصديق اهمالاً له، لأن كلامه ينصب على القول الصادق اصلاً، ولكنه يريد ان قوة الفن تكتمل حينا تبلغ مقدرة الشاعر حداً يتغلغل بيه بشعره في مسارب النفس، بحيث يغيب تماماً الحد الفاصل بين عنصري التخييل والتصديق، فالتصديق الذي يمثل العقل يكون قد انطوى في اهاب التخييل الذي يمثل الفن، وهكذا يتحدد الفكر بالفن اتحاداً كاملاً يشغل النفس عن احساسها بما قد كانت  تحس به من اثنينية شعرية، على ان يكون العنصر الغائب هو التصديق، والحق ان غيابه مجازي لأنه انما ادرج في التخييل. ويمضي "ابن سينا" فيحمل على المشهور المألوف، من خلال توكيده لطابع التخييل في الشعر، المغاير لطابع التصديق في الخطابة فيلاحظ أن التصديقات متناهية، في حين ان المحاكيات "التخييلات" غير متناهية لأن قوامها الابداع الفني: "والتصديقات المظنونة محصورة متناهية يمكن ان توضع انواعاً ومواضع، واما التخييلات، والمحاكيات فلا تحصر ولا تحد، وكيف والمحصور هو المشهور، او القريب والقريب والمشهور غير كل ذلك المستحسن في الشعر بل المستحسن فيه المخترع المبتدع"(6). ترى، أيريد "ابن سينا" ان يضع الغرابة معياراً ينم على الابداع الفني؟ ام تراه يشير إلى المبدأ القائل: ان المعاني محدودة نادرة، وانما الفضل في طريقة محاكاتها (تخييلها)؟ ان المرء ليرتاب ايضاً في ان هذا الكلام ينطوي على بذور نظرية النظم، ولا سيما إذا قرن بكلامه السابق: "فانه قد يصدق بقول من الاقوال ولا ينفعل عنه فإن قبل مرة اخرى، وعلى هيئة اخرى انفعلت النفس عنه طاعة للتخييل لا للتصديق"(7) فكأنه يقول: ان القول ذاته قد يؤثر في حالة، ولا يؤثر في اخرى، تبعاً لطريقة نظمه على نحو يكون به مخيلاً أو لا يكون. غير انه قد يكون من المفيد في تفسير هذا الكلام النظر في اغراض الشعر عند "ابن سينا" فقد ذهب إلى ان الشعر اما ان يكون ذا غاية غنية محضة، وهو ما سماه "التعجيب" واما ان يكون ذا غاية فكرية "مدنية" هي في الاصل موضوع الخطابة، وعلى حين يرى ان الشعر اليوناني يغلب عليه الطابع المدني، فإنه يرى ان الشعر العربي يغلب عليه طابع التعجيب: "والشعر قد يقال للتعجيب وحده، وقد يقال للأغراض المدنية وعلى ذلك كانت الأشعار اليونانية، والأغراض المدنية هي في أحد اجناس الامور الثلاثة، أعني: المشورية، والمشاجرية والمنافرية(8)، وإذا لاحظنا مذهب "ابن سينا" في أن المراد بالشعر التخييل، لا إفادة الآراء، أدركنا انه يميل إلى منهج الشعر العربي في محاكاة الأشياء محاكاة فنية محضة يقصد بها امتاع الخيال، دون نظر إلى ارتباط المحاكاة بالفعل الانساني من حيث الحض عليه، أو الردع عنه، وكأنه كان يرى ان النظرة الفنية المجردة تتيح للموهبة الشعرية صياغة الأقوال، في عدد غير محدود من الصور ما دام جوهر الشعر التخييل لا الاقناع.

على أنه لا يمكن جلاء هذه المسألة بمعزل عن فهم مذهب "ابن سينا" في طبيعة المحاكاة، من حيث علاتها بالمظهر أو الجوهر، ومن ثم من حيث علاقتها بالذات أو الفعل، وهي العلاقة التي ادركها "ابن سينا" من بين النقاد في وضوح تام، وفي هذا المجال، فإن من المفارقات التي تبعث عن التأمل حقاً ان كلاً من "الفارابي" و"ابن سينا" كان على بصيرة بعلم الموسيقا، بل أن الفارابي ــ فيما يروى ــ كان يؤثر في سامعيه فرحاً او حزناً، بيد أنهما عندما قرأنا الشعر بالفنون ، فأنما قرناه بالتصوير (رسما أو نحتاً)، ولم يقرناه بالموسيقا على الرغم من أنهما كانا بسبيل عرض كتاب ارسطو في الشعر "وارسطو" حيث قرن الشعر بالفنون انما ذكر الموسيقا فضلاً عن التصوير كما رأينا(9)،  بل ان "ابن سينا" ذاته جعل اللحن من عناصر التخييل الثلاثة، واستعمل في ذلك مصطلحات موسيقية، واشار إلى أثر اللحن في النفس على نحو ينم على شعوره بأثر الموسيقا، ولكنه مع ذلك لم يقل: ان الشعر محاكاة كمحاكاة الموسيقا، وانما قال انه محاكاة كمحاكاة التصوير، قال في كون الشعر يحاكى باللحن: "والشعر من جملة ما يخيل، ويحاكي بأشياء ثلاثة باللحن: "والشعر من جملة ما يخيل ، ويحاكي بأشياء ثلاثة باللحن الذي يتنغم به، فإن اللحن يؤثر في النفس تأثيراً لا يرتاب ، ولكل غرض لحن يليق به بحسب جزالته او لينه، أو توسطه، وبذلك التأثير تصير النفس محاكية في نفسها لحزن أو لغضب أو غير ذلك وبالكلام نفسه إذا كان مخيلاً محاكياً، وبالوزن، فإن من الأوزان ما يطيش ، ومنها ما يوقر، وربما اجتمعت هذه كلها، وربما انفرد الوزن والكلام المخيل فإن هذه الاشياء قد يفترق بعضها من بعض وذلك ان اللحن المركب من نغم متفقة ومن ايقاع قد يوجد في المعازف والمزاهر، واللحن المفرد الذي لا ايقاع فيه قد يوجد في المزامير المرسلة التي لا توقع عليها الاصابع اذا سويت مناسبة، والايقاع الذي لحن فيه قد يوجد في الرقص، وذلك فإن الرقص يتشكل جيداً بمقارنة اللحن اياه حتى يؤثر في النفس"(10).

اذن، فقد لاحظ "ابن سينا" ما يخلفه اللحن في النفس من أثر انفعالي يتمثل في الحزن أو الغضب، وتلك هي أيضاً غاية التخييل، فكأنه قال: ان غاية التخييل، (الشعر) هي ذاتها غاية اللحن "الموسيقا" من حيث الأثر النفساني، بيد أنه لم يستنبط من لك شيئاً، وايضاً فقد قال: ان الرقص يملك قدرة التأثير النفساني بما يشتمل عليه من ايقاع سواء اكان مجرداً ام مقترناً باللحن ولكنه لم يستنبط من ذلك ان الشعر الذي يشترك مع الرقص والموسيقا في التأثير النفساني الذي هو غاية التخييل، يمكن أن  ينهج منهجهما في محاكاة المشاعر الباطنة، دون الاقتصار على محاكاة  الاشياء الظاهرة. اما الوزن فهو ذو قيمة بالغة حقاً لأنه عنصر ضروري يكتمل به التخييل، وإذا كان "الفارابي" قد شكا من تغليب الوزن على التخييل "المحاكاة" فقد ذهب "ابن سينا" إلى ان الوزن جزء من التخييل "فان فات نقص التخييل"(11). فكأن المحاكاة ينبغي ان تحقق أثرها النفساني بوسيلة موسيقية هي الوزن الذي عرفه هو نفسه بأنه عدد ايقاعي(12) ولا ريب ان من شأن هذه الملاحظة اعلاء الجانبي الموسيقي في الشعر بكل ما ينطوي عليه من إيحاء رمزي يمس صميم المشاعر وهكذا فاذا كان "ابن سينا" قد أغفل مقارنة الشعر بالموسيقا، فانه مزجه بها، وجعله تخييلاً موسيقياً.

ويبدو ان "ابن سينا" سرعان ما خضع للعرف النقدي الذي قرن الشعر بالتصوير، فذهب إلى ان "المحاكاة كشيء طبيعي للإنسان، والمحاكاة هي ايراد مثل الشيء وليس هو هو، فذلك كما يحاكي الحيوان الطبيعي بصورة هي في الظاهر كالطبيعي ولذلك يتشبه بعض الناس في احواله ببعض، ويحاكي بعضهم بعضا، ويحاكون غيرهم"(13). ثم صرح بأن الشاعر" يجب ان يكون كالمصور، فإنه يكون كل شيء بحسنه(14). وحتى الكسلان والغضبان"(15) بل راح يطلب منه ان ينشد الحقيقة كما ينشدها المصور حين يصور فرسا: "ان الشاعر يجري مجرى المصور، فكل واحد منهما محالك، والمصور ينبغي ان يحاكي الشيء الواحد بأحد امور ثلاثة: اما بأمور موجودة في الحقيقة، واما بأمور يظن انها ستوجد وتظهر. . والشاعر يغلط من وجهين، فتارة بالذات وبالحقيقة إذا حاكى بما ليس له وجود ولا امكانه، وتارة بالعرض إذا كان الذي يحاكي به موجوداً لكنه قد حرف عن هيئة وجوده، كالمصور إذا صور فرنسا فجعل الرجلين وحقهما ان يكونا مؤخرين أما يمينيين او مقدمين، فمن غلط الشاعر محاكاته بما ليس بممكن، ومحاكاته على التحريف، وكذلك في المحاكاة، وكذبه في المحاكاة، كمن يحاكي بأيل انثى، ويجعل لها قرنا عظيماً"(16) وظاهر ان مقتضى هذه الاقوال هو ان المحاكاة ليست شيئاً غير تصوير الظاهر كما هو دون تحريف بغية الانفعال في نفس السامع، على نحو ما تخلقه صورة حيوان يشبه الحيوان الطبيعي من التذاذ فطري، ولذا فإن المصور يخطئ حتماً إذا ما جعل للظبية الانثى قرناً، بيد ان هذا الامر ينطبق على محاكاة ما هو كائن فحسب ولا ينطبق على محاكاة ما ينبغي ان يكون او ما يمكن ان يكون، ولقد نبه "ارسطو" على ما اغفله "ابن سينا" فقال ان الشاعر اذا اخطأ فصور المستحيل فان مما يسوغ خطأه قصده إلى بلوغ الغاية في تصويره، وكذلك اذا صورة ما هو غير مطابق للحقيقة فإنه يصور الشيء كما ينبغي ان يكون ثم انه قد يصور ايضاً ما يمكن ان يكون على نحو ما يتصوره الناس، ومن ذلك القصص الاسطوري، فاذا كان هذا القصص ليس اسمى من الحقيقة، او مطابقاً لها، فهو على الأقل ما يتصوره الناس(17). فالمسألة اذن ليست غلط الشاعر او صوابه وانما هي مسألة المحاكاة الشعرية ذاتها: هل تتعلق بما هو كائن ــ اي بظاهر الشيء أو بما يمكن ان يكون أي بجوهر الشيء، ويبدو ان الخلل هنا ناجم عن اختلاف مفهوم المحاكاة، فبينما يشير ارسطو إلى ان المحاكاة تتناول الفعل غالباً، يرى ابن سينا انها تتناول الشيء غالباً وقد نص "ارسطو" على "ان عمل الشاعر ليس رواية ما وقع، بل ما يجوز وقوعه وما هو ممكن على مقتضى الرجحان أو الضرورة"(18) ويلاحظ أنه لم يقربن الشاعر بالمصر في هذا الباب بالذات ــ وهو رواية ما يجوز وقوعه ــ لأنه أصلاً كان يقارن بين الشاعر والمؤرخ ويرى ان الشعر اقرب إلى الفلسفة منه إلى التاريخ لأنه يتعلق بالكليات بينما يتعلق التاريخ بالجزئيات. أما "ابن سينا" فهو يفترض مع ارسطو ان المحاكاة تتعلق بما يمكن ان يكون ثم يناقض هذا الفرض فيقول(19): ان الشاعر يخطئ إذا جعل للظبية قرناً، فكأنه يتيح له من جهة ان يتصور الشيء كما يشاء، ثم يطالبه من جهة اخرى ان يصور الشيء كما هو، وحقاً فلا يجوز للشاعر الذي يصور فرساً أو ايلاً ان يخطئ في ترتيب الاعضاء لأن غايته التصوير المحض بيد ان الشاعر الذي يحاكى فعلاً أو خلقاً انما يجد امامه عدداً غير محدود من الاحتمالات، لأن الغل قابل للاحتمال والتطور، وهو لا يتعلق بأمر جزئي كائن محدد، وانما يتعلق بأمر كلي يمكن ان يتجلى في عدة صور، ولا ريب ان هذا الامر كان واضحاً في كلام "ارسطو" ولكن انصراف "ابن سينا" إلى مفهوم معين للمحاكاة ما يمكن أن يكون ، كما في الاساطير الاغريقية مثلاً، والغريب انه ادرك بجلاء مسألة محاكاة الفعل، ولكن ما التبس عليه هو المقارنة بين الشعر والتاريخ، فقد ظن ان المقصود بالتاريخ أمثال "كليلة ودمنة"(20).

وحقاً فقد قرن "ارسطو" اشعر بالتصوير، ولكنه انما فعل ذلك في معرض كلامه على الفعل من حيث علاقته بالخير والشر، بحيث يمكن المحاكي سواء اكان شاعراً ام مصوراً ام راقصاً ام موسيقارا ــ تصوير المحاكي خيراً مما هو، أو شرا مما هو، او مثلما هو، والحق ان ذكر الرقص والموسيقا يوضح مفهوم "ارسطو" تماما، إذ لا يمكن هذين الفنيين ان بحاكياً شيئاً محسوساً، ولا سبيل لهما إلا سبيل محاكاة المطلق المجرد من علائق الحس لارتباطهما بالمشاعر الإنسانية، فكأن الفن يستلهم موضوعه من الشعور فيعبر عنه أو يحاكيه ولكنه ليس هو هو على نحو ما تكون صورة الايل نسخة من الايل، أو على نحو ما تعكس المرآة صورة ذلك الايل فهو يعبر دون ان يصور، ويوحى دون ان يوضح. ولقد

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

صفحة 83

 

اوشك "ابن سينا" ان يدرك شيئاً من هذا لولا انه كان اسير فهمه للتخييل على انه تشبيه يلاحظ العلاقة بين مظاهر الاشياء، بحيث غاب عن ذهنه ان التخييل قد يشبه الموسيقا في تصوير المعاني والمشاعر، وذلك على الرغم من ادراكه التام ان الشعر انما يجود بمحاكاة الافعال خاصة: "فإن الشاعر انما يجود شعره لا بمثل هذه الاختراعات، بل انما يجود قرضه وخرافته إذا كان حسن المحاكاة بالتخيلات وخصوصاً للأفعال وليس شرط كونه شاعراً ان يخيل لما كان فقط، بل ولما يكون، ولما يقدر كونه وان لم يكن بالحقيقة"(21) والغريب هنا ــ كما يلوح ــ ان "ابن سينا" فهم من قصص "كلية ودمنة" نقيض ما كان ينبغي ان يفهمه فعدها "اختراعات" لا تليق بالشعر، على الرغم من انها تستقيم مع مبدئه القائل: انه ليس من شرط الشاعر ان يخيل لما كان فقط، بل ايضاً لما يقدر كونه وان لم يكن بالحقيقة ويبدو ان الذي ضلله هو غلطه في فهم المقصود بالتاريخ، وهو قد رأى "ارسطو" يهاجم التاريخ لأنه رواية ما وقع فحسب ، فظن انه يقصد شيئاً من قبيل "كليلة ودمنة" على الرغم من ان هذه القصة انموذج كامل يخيل او يحاكي ما يمكن أن يكون بغية الحض على فعل أو الردع عن فعل في مضمون اخلاقي تطهيري، واذا كان الوزن هو ما ينقص "كلية ودمنة" فالوزن ليس شرطاً لجوهر الشعر وانما لشكل الشعر، ولا سيما ان "ابن سينا" هو القائل "وقد تكون اقاويل منثورة مخيلة، وقد تكون اوزان غير مخيلة "(22). ولا ريب ان ابعاد "كليلة ودمنة" عن مجال الشعر بما تنطوي عليه من خيال رمزي يشير ـ كما يرى الدكتور شكري عياد ــ إلى ايمان "ابن سينا" بالطابع الواقعي في الشعر العربي، ونفوره من الخرافة أو "الخيال" أو "الاسطورة"(23).

ومهما يكن من أمر، فقد اتيح لابن سينا ادراك المبدأ الجوهري القائل أن الشعر اليوناني يحاكي الافعال، والشعر العربي يحاكي الذوات (الأشياء) ويبدو انه استنبط ذلك من كلام ارسطو على طبيعة المحاكاة حين قال: ان المحاكاة اذا كانت تتعلق بأناس يعملون، فلا بدو أن تصور الناس خيراً مما هم، أو شراً مما هم أو مثلما هم، وذلك واضح في محاكاة التصوير، غير انه واضح أيضاً في فنون اخرى كالشعر والرقص والموسيقا بحسب اختلاف موضوع المحاكاة: "إذا كان من يحدثون المحاكاة انما يحاكون اناسا يعملون وكان هؤلاء المحاكون ــ بالضرورة ــ أما اخياراً واما اشراراً . . . فينتج من ذلك ان المحاكين اما ان يكونوا خيراً من الناس الذين نعدهم، أو شراً منهم، أو مثلهم، كما هي الحال في التصوير فقد كان "بولوجنوتس" يصور الناس خيراً مما هم، وباوزون يصورهم اسوأ مما هم، وديونوسيس يصورهم كما هم، فبين اذن ان كل واحد من المحاكيات التي ذكرت له هذه الفصول، وانه يكون مختلفاً بان يحاكي شيئاً مختلفاً على هذا النحو الذي وصفنا، فإن هذه الفروق قد توجد ايضاً في الرقص، والصفر بالناي، واللعب بالقيثار، كما توجد في الكلام المنشور، والنشر الذي لا تصاحبه الموسيقا"(24) ولقد تعرض ابن سينا لهذه المسألة في اكثر من موضع بما ينم على احاطته بها، فقد احاط مثلاً بإشارة ارسطو إلى تصوير "بولوجنوتس"، وباوزون، وديونسيس فقارنه بتصوير اصحاب "ماني" وكان المصطلحان اللذان استعملهما لدلالة على محاكاة الأفعال خيراً مما هي، أو شراً مما هي دقيقتين تماماً، وهما "التحسين" و "التقبيح" ونية ايضاً على ان العرب انما كانت تولع بالجمال المجرد، فلم تكن تشبه ــ غالباً ــ بغية غرض معين وانما لا رضاء الحس الجمالي، او لمجرد الاعجاب التشبيه ذاته، اي ان ثمة طابعاً زخرفياً تجريدياً في الشعر العربي ربما كان جزءاً من الطابع العام للفن الاسلامي، وصفوة القول ان هذه المسألة كانت واضحة تماماً في ذهن ابن سينا: "وكل محاكاة فأما يقصد بها التحسين، واما ان يقصد بها التقبيح فإن الشيء انما يحاكي ليحسن او يقبح والشعر اليوناني انما كان يقصد فيه في اكثر الامر محاكاة الافعال، والاحوال لا غير ، واما الذوات فلم يكونوا يشتغلون بمحاكاتها اصلاً كاشتغال العرب، فإن العرب كانت تقول الشعر لوجهين: احدهما ليؤثر في النفس امرأ من الامور تعد به نحو فعل او انفعال والثاني للعجب فقط، فكانت تشبه كل شيء لتعجب بحسن التشبيه واما اليونانيون، فكانوا يقصدون ان يحثوا بالقول على فعل او يردعوا بالقول عن فعل، وتارة كانوا يفعلون ذلك على سبيل الخطابة وتارة على سبيل الشعر فلذلك كانت المحاكاة الشعرية عندهم مقصورة على الأفاعيل والاحوال والذوات من حيث لها تلك الأفاعيل والأحوال وكل فعل أما قبيح وأما جميل ولما اعتادوا محاكاة الافعال انتقل بعضهم إلى محاكاته للتشبيه الصرف لا لتحسين، وتقبيح وكل تشبيه ومحاكاة للتشبيه الصرف لا التحسين، وبالجملة المدح أو الذم، وكانوا يقعلون فعل المصورين فإن المصورين يصورون الملك بصورة حسنة، والشيطان بصورة قبيحة، وكذلك من حاول من المصورين ان يصور الاحوال، كما يصور اصحاب ماني حال الغضب والرحمة، فإنهم يصورون الغضب بصورة قبيحة، والرحمة بصورة حسنة، وقد كان من الشعراء اليونانيين من يقصد التشبيه للفعل، وان لم يخيل منه قبحاً ولا حسناً بل المطابقة فقط"(25). وظاهر في هذا النص ان ابن سينا لم يمكن ترجماناً فحسب، فقد كان يضيف ملاحظاته ومقارناته التي تنم على بصيرة نافذة، والحق انه اشار في موشع آخر إلى هذه المسألة بوضوح لا لبس فيه، ففي كلامه على "الطراغوذيا" قال، "ان طراغوذيا ليس هو محاكاة للناس أنفسهم، بل لعاداتهم، وافعالهم، وجبهة حياتهم وسعادتهم،(26) وهكذا فلم تكن محاكاة الفعل غامضة اذن في ذهنه بل لعلها اوضح ما فهمه من كتاب "ارسطو" ولكن المعضلة هي انه لم يجد غالباً نماذج تطبيقية تعضد هذا الفهم النظري، فراح يلتمسها في الشعر العربي التماساً على الرغم من انه هو الذي ذهب إلى ان الشعر العربي يحاكى الشيء خلاقاً للشعر اليوناني الذي يحاكى الفعل، وكان ان تكلم على المحاكاة البسيطة في مثل قولهم: فلان قمر، والمحاكاة المركبة في مثل قولهم في الهلال والزهرة: انه قوس ذهب رمت بندقة فضة(27) ، فلم يكد يستنبط شيئاً يذكر من هذه الملاحظة الجوهرية.

على انه اذا كان مفهوماً ان العرب كانت تشبه لتعجب بحسن التشبيه فربما لم يكن مفهوماً كيف ان العرب تقول الشعر "ليؤثر في النفس امرأ تعد به نحو فعل او انفعال" وكأنها تلحظ في ذلك الاثر النفساني الاخلاقي. يقول الدكتور ..... عباس: "لقد أدرك ابن سينا تخالف طبيعتي الشعر اليوناني، والشعر ......، ولكنه حين حاول التفسير أخطأ فنقل معنى المحاكاة في عملية الخلق إلى أثرها في النفوس، وبهذا لم يعد من فرق بين الشعر الذاتي، والشعر القائم على المحاكاة لأن كليهما يتوسل الاثارة عن طريق الانفعال النفساني، وهو شيء قاله ابن سينا قبل قليل ثم نسيته"(28). وظاهر ان "ابن سينا" لو اقتصر على القول ان العرب لم تكن في الشعر ما هو أبعد من الغاية الجمالية غالباً لنجا من الاضطراب بين مفهومين عن الشعر العربي يتعلق أحدهما بالأثر النفسي، أيضاً هي إيقاع التعجب دون إيقاع الاعتقاد ولا ريب ان ذلك يرجع إلى المفهوم الراسخ عن الشعر محاكاة تتعلق بظاهر الاشياء، ويتجلى ذلك في فهم "ابن سينا" للمحاكاة على انها تشبيه، وليس من شأن التشبيه طبعاً ايقاع اعتقاد، وانما ينحصر اثره ــ أو يكاد ينحصر ــ في ايقاع انفعال ليس له صلة بالتأثير في الفعل الانساني سلباً، او ايجابا كما لعله يتضح من تعريف "ابن سينا" للمحاكاة: (المقدمات الشعرية هي المقدمات التي من شأنها اذا قبلت ان توقع للنفس تخييلاً لا تصديقاً، والتخييل هو انفعال من تعجب، او تعظم ، أو تهوين أو تصغير، او غم او نشاط ، من غير ان يكون الغرض بالقول ايقاع اعتقاد البتة)(29). وهذه المقدمات فيحاكى الشجاع بالأسد، والجميل بالقمر، والجواد بالبحر، وليس كلها بمحاكيات، بل كثير منها مقدمات خالية عن الحكاية اصلاً إلا ان نحو قولها يوجه نحو التخييل فقط) (30).

اذن، لم ينفك "ابن سينا" عن مفهومه للشعر محاكاة للأشياء تتجلى في فن التشبيه الذي غايته التخييل لا التصديق، على الرغم مما اشار إليه من ان المحاكاة قد تؤلف بين التصديق والتخييل كما رأينا والحق انه ليس ثمة تفسير لانصرافه إلى فهم المحاكاة. مرآة لظاهر الاشياء سوى انه فهمها مرادفة للتشبيه ولا ريب ان التشبيه من حيث اعتماده على الحواس، وعلى عنصر الوضوح، انما يقتضي تقييد حركة الشاعر في مجال الابداع، ولا سيما ان التحجر النقدي أفضى إلى وضع بعض نماذج من التشبيهات مثلاً علماً ينبغي تردادها في رتابة مملة، بحيث يكون الشجاع دائماً اسداً، والجواد بحراً، والجميل قمراً، وعلى هذا النحو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

صفحة 88

ضاعت فرصة نادرة كان يمكن ان تسمو بالشعر من عالم الحس إلى عالم الفعل، فتخلصه من النزعة الشكلية إلى النزعة الانسانية ولقد كانت جريرة "ابن سينا" في هذا الباب كبيرة حقاً لأنه اتيح له النفاذ إلى جوهر الشعر العربي واليوناني دون أن يستنبط من ذلك شيئاً جديداً كما يرى الدكتور عبد الرحمن بدوي فقط اهمل "ابن سينا" الافادة من كتاب الشعر بما كان من شأنه ان يفضي إلى تطور الشعر العربي تطوراً روحياً انسانياً على الرغم من دقة ملاحظاته، وعلى الرغم من كونه شاعراً: (فكان عليه اذا ان يقدر الشعر ومكانته، وان ينبه الشعراء إلى هذه الابواب الجديدة التي لم تعرف في الشعر العربي، بل ان يعالج بعضها أو يحاول معالجته، ولكنه لم يفعل شيئاً من هذا كله، فجنى بهذا على الأدب العربي وكله، لأنه لم يكن ينتظر من ابي بشر متى ــ وكان شبه اعجمي في العربية ــ أو احزابه من المترجمين ان يقوموا بهذا الواجب، وانما كان على "ابن سينا" بوصفه الممثل الاكبر للثقافة اليونانية في عصره اولاً وبوصفه شاعراً ثانياً، ان يتولى هذا العمل)(31) ولننظر كيف خلص "ابن سينا" من قراءة كتاب الشعر إلى تقرير هذه القواعد الجامدة للمحاكاة حيث يرمز الاصرار على حرف التشبيه فيها إلى ما يبتغيه النفاد العرب غالباً من المماثلة الظاهرية الحرفية بين الاشياء: (والمحاكاة على ثلاثة أقسام : محاكاة تشبيه، ومحاكاة استعارة، والمحاكاة التي نسيمها من باب "الذوائع" ومحاكاة التشبيه نوعان: نوع يحاكي به شيء بشيء ويدل على المحاكاة انها محاكاة وذلك بتقرير حرف من حروف التشبيه كــ :"مثل" وكـ "ك" وكأنما" و ما هوا لا ونوع لا يدل به على المحاكاة بل يوضع محاكي الشيء، مكان الشيء. واما الاستعارة فهي قريبة من التشبيه، والفرقان بينهما بشيء، وهو ان الاستعارة لا تكون لا في حال او ذات مضافة، ولا يكون فيها دلالة على المحاكاة بحرف للمحاكاة وهي كقول القائل:

لسان الحال أفصح من لساني         وعين الطبع طامحة إليك

واما المحاكيات التي نسميها من باب الذوائع، فهي التي تقوم لكثرة الاستعمال مقام ذات المحاكاة، ولا يكاد يوقف في ارباب الصناعة على انه محاكاة، كقولهم: غزال للحبيب، وبحر للمدوح وغصن للقد، وما جرى مجراه، ومهما بسطت الذوائع وعمدت بأدنى شرح خرجت إلى التشبيه أو الاستعارة، وذلك إذا قيل غصن على نقا عليه رمان، وما جرى مجراه) (32)

فإذا كانت المحاكاة تشبيهاً ــ سواء اقترن بالأداة ام لم يقترن ــ فذلك يعني "ابن سينا" ينظر إلى الشعر على نحو ما نظر إليه "افلاطون" وهو انه "أيسر سبيل لي تقديم صورة سطحية للعالم) (33). وذلك يؤكد تميز المحاكاة عند العرب بالطابع الحسي الظاهري، بل ان "ابن سينا" يتكلم عن التخييل ايضاً وكأنه أسلوب مجازي محض قد يخيل بذاته، وقد يخيل بصنوف البديع، (ان القول الشعري يتألف من مقدمات مخيلة، وتارة لذواتها بلا حيلة من الجيل وهي ان تكون، اما في لفظها مقولة باللفظ البليغ الفصيح بحسب اللغة، او ان تكون في معناها ذات معنى بديع في نفسه لا بحيلة قارنته مثال ذلك قول القائل:

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي                بسهميك في اعشار قلب مقتل

واما في المعنى كقوله:

كأن قلوب الطير رطباً ويابساً                 لدى وكرها العناب والحشف البالي) (34)

واضح اذن ان التخييل ما هو إلا التشبيه، وان التجديد في المصطلح وليس في المضمون، وان ما يوحي به كلام "ابن سينا" من جدة انما يتلاشى أمام تعريفه للمحاكاة وأقسامها، وكلامه في الترصيع، والمشاكلة، والتناسب على نحو كلام النقاد(35).

على ان ثمة امراً آخر لحظة "ابن سينا" ولم يستنبط منه شيئاً، وهو وحدة الموضوع، تلك المسألة التي طالما قيل ان الشعر العربي كان يفتقر إليها ذلك ان فكرة وحدة الموضوع على نحو عضوي انما تفهم حق الفهم اذا كان الامر يتعلق بالشعر الذي يحاكي الفعل الانساني، فالفعل بطبيعته يخضع لتطور منطقي معلل، سواء اكان التعليل واضحاً ايضاً عبر تطور يخضع لقانون الضرورة والاحتمال، وطبعاً فلا يمكن ان يظهر شيء من هذا القبيل في الشعر الذي يحاكى ظاهر الأشياء وينصرف إلى ملاحظة الشبه الدقيق بين عناصرها، وكيف تتضح وحدة الموضوع في محاكاة يقول ابن سينا نفسه: انها تنقسم إلى تشبيه واستعارة، وكيف يمكننا ان نلمح الترتيب، الذي اذا نزع جزء واحد منه فسد الموضوع وانتقض؟

مرة أخرى يلوح ان امرأ ما كان يحو لدون استلهام "ابن سينا" من النقد الارسطي ما يغني به النقد العربي وربما كان الامر يرجع إلى اختلاف مفهوم المحاكاة إذا سلمنا بأن "ابن سينا" لم يذل جهداً يذكر في التقريب بين المفهوم

اليوناني والمفهوم العربي كما يرى الدكتور عبد الرحمن بدوي(36)، وآية فائدة كان يمكن ان يظفر بها النقد العربي أو الشعر العربي لو ان "ابن سينا" قد اضاف شرحاً أو تعليقاً على هذه الكلمات التي اوردها من كتاب ارسطو؟ : (فيجب ان يكون تقويم الشعر على هذه الصفة: ان يكون مرتباً فيه اول ووسط وآخر، وان يكون الجزء الأفضل في الوسط، وان تكون المقادير معتدلة، وان يكون المقصود محدوداً لا يتعدى ولا يخلط بغير مما لا يليق بذلك الوزن، ويكون بحيث لو نزع منه جزء واحد فسد وانتقض، فإن الشيء الذي حقيقته الترتيب اذا زال عنه الترتيب لم يفعل فعله، وذلك لأن انما يفعل لأن كل، ويكون الكل شيئاً محفوظاً بالأجزاء، ولا يكون كلا عندما لا يكون الجزء الذي للكل)(37) وواضح انه لو قدر للنقاد ان ينتبهوا إلى مثل قوله (بحيث لو نزع منه جزء واحد فد وانتقض) لأسهموا في تخليص القصيدة العربية من الحيرة بين شتى الاغراض.

ومهما يكن من امر، فقد كان ابن سينا حقاً من أدق النقاد فهما لما جاء في كتاب ارسطو، فقد أدرك نظرية المحاكاة التي هي جوهر الكتاب كما يقول الدكتور طه حسين: (ولكن "ابن سينا" قد فهم حق الفهم نظرية المحاكاة وجاء بصورة صحيحة للصناعة الشعرية، وللوسائل التي يتوسل بها في التغلب على الصعاب التي تعترض الشاعر)(38)، وإذا كان لم يتح له ان يضع قواعد جديدة للشعر العربي على الرغم من قوله للشعر كما هو معهود في قصيدته العينية الشهيرة، فإن هذا لا يؤثر في القول انه استطاع ببصيرة نافذة ادراك طائفة من المبادئ النقدية الجوهرية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فن الشعر: ص161.

(2) المصدر نفسه/ ص161-162.

(3) وقد فهم ابن سينا تماماً ــ خلافاً للفارابي ــ كلام ارسطو في التذاذ الناس بالمحاكاة حتى ولو تعلقت بما تنفر النفوس من حقيقته. انظر: فن الشعر ص 171 ــ تاريخ النقد الأدبي: ص226 ــ كتاب الشعر ص36.

(4) انظر ايضاً: الفارابي، فن الشجر ص150.

(5) فن الشعر: ص161-162.

(6) المصدر نفسه: ص162-163.

(7) المصدر نفسه ص161-162.

(8) المصدر نفسه: ص162.

(9) انظر: كتاب الشعر ــ ص28-30.

(10) فن الشعر: ص167-169.

(11) المصدر نسفه: ص183

(12) انظر المصدر نفسه ص161.

(13) المصدر نفسه ص167.

(14) كذا ولعل الصحيح: بحسبه.

(15) المصدر نفسه ص189.

(16) المصدر نفسه: ص196.

(17) انظر: تأب الشعر، ص144.

(18) المصدر نفسه: ص64

(19) انظر من الشعر: ص183.

(20) يشير إلى امثال قصص كليلة ودمنة.

(21) المصدر نفسه: ص184

(22) المصدر نفسه: ص164.

(23) انظر: كتاب الشعر: ص213

(24) المصدر نفسه: ص32.

(25) فن الشعر: ص169-170

(26) المصدر نفسه: ص178.

(27) انظر: ابن سينا كتاب المجموع او الحكمة العروضية في كتاب معاني الشعر تحقيق الدكتور محمد سليم سالم، مطبعة دار الكتب 1969 ص17.

(28) تاريخ النقد الأدبي: 413.

(29) كتاب المجموع لابن سينا ص5-16.

(30) المصدر نفسه: ص16-17.

(31) مقالة الدكتور عبد الرحمن بدوي "ابن سينا" وفن الشعر ارسطو في الكتاب الذهبي للمهرجان الالفي لابن سينا ــ القاهرة 1952 ص110 وانظر المقالة كاملة ص106-116.

(32) كتاب المجموع: ص18-20.

(33) دراسة الجمهورية افلاطون: ص159.

(34) كتاب المجموع: ص21-23.

(35) انظر: المصدر نفسه: ص23-29.

(36) انظر: للكتاب الذهبي: ص106-110

(37) فن الشعر: ص183

(38) الدكتور طه حسين: مقدمة: في البيات العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر على كتاب نقد النثر لقدامة دار الكتب القاهرة 1933 ص26.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.