المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
علي مع الحق والحق مع علي
2024-04-23
صفات المتقين / لا يشمت بالمصائب
2024-04-23
الخلاص من الأخلاق السيئة
2024-04-23
معنى التمحيص
2024-04-23
معنى المداولة
2024-04-23
الطلاق / الطلاق الضروري
2024-04-23

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


العمل الأدبي والنقد الأدبي  
  
13190   11:41 صباحاً   التاريخ: 14-08-2015
المؤلف : سيّد قُطب
الكتاب أو المصدر : النقد الأدبي أصوله ومناهجه
الجزء والصفحة : ص11-23
القسم : الأدب الــعربــي / النقد / النقد الحديث /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-7-2017 5621
التاريخ: 25-03-2015 6022
التاريخ: 29-09-2015 1421
التاريخ: 29-09-2015 5590

 العمل الأدبي هو موضوع النقد الأدبي. فالحديث عنه هو المقدمة الطبيعية للحديث عن النقد. وسنجد بعد قليل أن هذه المقدمة ليست خارجة عن الموضوع، بل ربما كانت هي ذات الموضوع. فتحديد معنى العمل الأدبي، وغايته، وقيمه الشعورية، والتعبيرية، والكلام عن أدواته، وطرائق أدائه، وفنونه، هي نفسها (النقد الأدبي) في أخص ميادينه.

فما العمل الأدبي؟ إنه (التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية).

ومع ان التعريفات – وبخاصة في الأدب – لا تفي بالدلالة على جميع خصائص المعرف، ولا تصل الى ان تكون ما يسمى (التعريف الجامع المانع) فإننا نرجو ان يكون هذا التعريف للعمل الأدبي، أوفى ما يكون بالدلالة على جميع خصائصه المشتركة في فنون الأدب جميعا.

فكلمة (تعبير) تصور لنا طبيعة العمل ونوعه، و(تجربة شعورية) تبين لنا مادته وموضوعه، و(صورة موحية) تحدد لنا شرطه وغايته.

(فالتجربة الشعورية) هي العنصر الذي يدفع الى التعبير، ولكنها بذاتها ليست هي العمل الادبي، لأنها مادامت مضمرة في النفس، لم تظهر في صورة لفظية معينة، فهي احساس انفعال، لا يتحقق به وجود العمل الأدبي.

(والتعبير) – في اللغة-يشمل كل صورة لفظية ذات دلالة. ولكنه لا يصبح عملاً أدبياً إلا حين يتناول (تجربة شعورية) معينة. وبعضهم يميل الى اعتبار كل تعبير جميل-ولو عن حقائق العلوم البحتة-داخلا في باب الأدب (1).

ولكننا نحن لا نميل الى هذا التوسع في مدلول (العمل الأدبي)، ونحتم ان يكون تعبيرا عن (تجربة شعورية).

على ان الموضوع لا يحدد طبيعة العمل، ولكن طريقة الانفعال بالموضوع هي التي تحدده، فمجرد وصف حقيقة طبيعية مثلا وصفا علميا بحتا، ليس عملا أدبيا مهمة تكن صيغة التعبير فصيحة مستكملة لشروط التعبير؛ أما التعبير عن الانفعال الوجداني بهذه الحقيقة فهو عمل أدبي، لأنه تصوير لتجربة شعورية.

ولكن التعبير عن التجربة الشعورية لا يقصد به مجرد التعبير. بل رسم صورة لفظية موحية للانفعال الوجداني في نفوس الاخرين. وهذا شرط العمل الأدبي وغايته، وبه يتم وجوده ويستحق صفته.

ليست غاية العمل الأدبي إذن ان يعطينا حقائق عقلية، ولا قضايا فلسفية، ولا شيئا من هذا القبيل؛ كما انه ليس من غايته ان يحقق لنا أغراضا اخرى تجعله محصورا في نطاقها مصبوبا في قوالبها. ليس الادب مكلفا ان يتحدث مثلا عن صراع الطبقات، ولا عن النهضات الصناعية، كما أنه ليس مكلفا ان يتحول الى خطب وعظية عن الفضيلة والرذيلة، ولاع ن الكفاح السياسي والاجتماعي في صورة معينة من الصور الوقتية الزائلة. ذلك إلا ان يصبح أحد هذه الموضوعات (تجربة شعورية) خاصة للأديب، تنفعل بها نفسه من داخلها، فيعبر عنها تعبيرا موحيا مؤثراً.

وليس معنى ان العمل الأدبي لا غاية له. فالواقع انه هو غاية في ذاته، لأنه بمجرد وجوده يحقق لونا من ألوان الحركة الشعورية. وهذه في ذاتها غاية انسانية وحيوية، تدفع عن طريق غير مباشر الى تحقق آثار اخرى أكبر وأبقى.

وقد يتبادر الى الذهن ان الأدب محظور عليه ان يقصد الى اي غرض من أغراض الحياة العملية، أو ان يلم بأية حقيقة عقلية في طريقه ... وهذا وهم، فإنما قصدنا فقط الى بيان بواعث العمل الأدبي، ومناط الحكم عليه. فالباعث هو الانفعال بمؤثر ما (أي التجربة الشعورية) ومناط الحكم هو كمال تصويره لهذه التجربة، ونقلها إلينا نقلا موحيا يثير في نفوسنا انفعالا مستمدا من الانفعال الذي صاحبها في نفس قائلها. اما الأغراض الاجتماعية والسياسية والخلقية وما إليها، واما الحقائق العقلية التي يتضمنها، فهي شيء اخر لا يحدد مكانه العمل الأدبي، والعبرة هي بمدى الانفعال الوجداني بها، وامتزاجها بالشعور، بحيث تدخل في صميم التجربة الشعورية وتنطوي فيها.

وليس هنالك فواصل حاسمة بين المناطق الشعورية. فعليه تحطيم الذرة مثلا حقيقة علمية، يصفها عالم المعمل وصفا علميا دقيقا، فتظل العملية كما يظل وصفها بعيدا عن عالم الأدب. ولكن قد يأتي شاعر ذو حس مرهف فينفعل بهذه الحقيقة العلمية انفعالا خاصا، لأنه يرى فيها مثلا مولد عصر جديد، او لأنه يلمح من ورائها وحدة الكون والكائنات، فاذا هو تأثر تأثرا شعوريا بهذه الحقيقة، وعبر عن تأثره هذا تعبيراً موحيا (مثيرا للانفعال في نفوس الاخرين) فذلك عمل أدبي بلا جدال.

وصراع الطبقات في المجتمع الحديث حقيقة اجتماعية، يحللها الرجل الاجتماعي ويذكر اسبابها ويتتبع أطوارها .. فلا يكون هذا عملا أدبيا. ولكن قد يأتي اديب موهوب تنفعل نفسه بهذا الصراع، ويعيش بإحساسه في غماره، فيصوره تصويرا إنسانيا، او ينئ حوله قصة او تمثيلية يصور فيها هذا الصراع تصويرا حيا، ينفعل له من يقرؤه، ويعيش بشعوره مع اشخاصه وحوادثه. فهنا يصبح هذا التصوير عملا أدبيا.

فالموضوع اذن بذاته ليس هو مناط الحكم، وأهدافه العقلية او الاجتماعية او السياسية او الخلقية المباشرة ليست هي الغاية. انما التصوير المعبر الموحى، والانفعال الناشئ عن هذا التصوير، هما اللذان يحددان موضع التعبير: ان كان في فصل الأدب، او فصل العلوم، او فصل الفلسفات.

ولا يفهم من هذا ان الادب عدو للحقائق من أي لون كانت، انما المهم ان تصبح هذه الحقائق شعورية، وان تتجاوز المنطقة العقلية الباردة الى المنطقة الشعورية الحارة. ثم يبقى بعد ذلك مجال للتفاضل بين القيم الشعورية – يعد تحقيق صفة العمل الأدبي فيها الانفعال الشعوري والتعبير الموحى – حسب تفاوتها كبرا وصغرا كما سيأتي.

على ان للأدب حقائقه الاصلية العميقة. بل ان الادب الصحيح لا يتجاوز منطقة الحقائق ولو شط به الخيال، وكل ما هنالك هو تحديد معنى الحقائق!

وقد يكون الأدب المثالي والأدب الاسطوري هما أبعد ألوان الأدب عن عالم الحقائق، كما يفهم الكثيرون، لانهما يبعدان عن (الواقع) حسبما يظهر للنظرة العجلى.

ولكن ما الواقع؟

ان كان المقصود واقع جبل في فترة محدودة من الزمان والمكان، فهذان اللونان من الأدب بعيدان عن الحقيقة بلا جدال.

اما ان كان المقصود هو واقع الانسانية كلها في غير حدود ولا قيود، فهما مغرقان في الحقيقة، مغرقان في الواقع، بل هما واقعيان أكثر من (الادب الواقعي) الذي يصور حقائق فرد أو جيل من الزمان!

خذ مقالا لذلك: البطل المثالي او الأسطوري .. إنه حلم من أحلام الانسانية يعيش في ضميرها، وتتمناه بخيالها، وتحسه في عالمها، لأنها تريده وتتمناه. فاذا لم يستطع جيل او اجيال ان يحقق للإنسانية حلمها في هذا البطل، الذي تتخطى به القيود والضرورات الأرضية، وترتفع به عن القصور الانساني والضعف البشري، فأنها تظل تتصوره، وتحلم بوجوده في الاساطير، وتصوره في الآداب. فهو اذن حقيقة في ضمير الانسانية لا تستطيع ان تغفله من حسابها. تصوره في هرقل وإخيل (2) وزهران ورستم (3) وعنترة وأبي زيد (4)، كما تصوره في روميو وجولييت (5) وفي المجنون وليلى (6) وفي (راما) (7) و(أيوب)(8) .. إلخ.

ونحن نهش لصورة البطل المثالي او الاسطوري لأنه يحقق لنا رغبات إنسانية تعوقنا عنها الضرورات والقيود الارضية، ولأننا نحس في كياننا بذور هذا البطل لم تبلغ تمامها من النمو، بسبب هذه القيود والضرورات.

فالبطل هو المثال الحقيقي للإنسان كما يرتسم في ضمير الانسانية. اما الافراد العائشون الواقعيون فهم نسخ لم تكمل لسبب خارج عن ارادتها:

وحين يقع ان تكمل صفة انسانية مثالية في انسان فرد، فاننا نحب هذا الفرد جدا. لماذا؟ لأنه طابق بين حقيقته وحقيقة المثال الذي يعيش في خيالنا، والذي يرسمه الأدب المثالي لنا. فالوفاء المطلق في الحب مثل أدبي خيالي لا يقدر عليه مخلوق حي ولكن مجنون ليلى (على فرض وجود شخص معين بهذه الصفة) أو عبد الرحمن القس، قد حقق لنا في حياته هذا المثل. ومن هنا كان انسانا حبيبا إلينا، لأنه حقق المثال الحقيقي في نفوسنا للمحب. ومثله (السموءل) فهو مثال واقعي للوفاء المثالي، هذا المثال الذي يصوره الأدب في بعض الاحيان.

وهنا تسعفنا نظرية (المثل) لأفلاطون حين يرى ان الاشياء الخارجية لا حقيقة لها. إنما هي صورة لأفكار مكنونة هي (المثل) وهذه المثل المكنونة هي الموجودة حقيقة، وكلمان قربت الصورة من المثال كانت أقرب الى الحقيقة!

وليس من الضروري ان نؤمن بهذه النظرية الفلسفية، ولا ان نطبقها في الأدب بحرفيتها، ولكنها تصور أدبي جميل، يساعدنا على فهم (الحقائق الشعورية) التي هي مادة الأدب. حيث تلتقي ألوان شتى من الحقائق التي تثير الانفعال.

وحقائق الحس والشعور الناشئة من ملاحظة العالم الخارجي.. لقد تبدو في ظاهرها بعيدة عن الحقيقة، ولكنها على بعد معين تلتقي مع حقيقة أكبر وأعمق من هذه الحقيقة الظاهرية القريبة.

فابن الرومي مثلا حين يقول عن الأرض في الربيع:

تبرجت بعد حياء وفخر      تبرج الانثى تصدعت للذكر

يبدو هذا القول خيالا شاعريا يخالف الحقيقة العلمية. فالأرض مادة جامدة والأنثى حية متحركة.

ولكن الحقيقة الاعمق، ان الارض في الربيع بكل ما فيها من الحياء والاحياء تستعد للإخصاب في جميع عوالمها: عوالم النبات والحيوان والانسان. وتتهيأ بكل ما فيها من رصيد لهذا الاخصاب وتتبرج روحها لتلقيه، وتتفتح من الاعماق.

والبحتري حين يقول:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا     من الحسن حتى كاد ان يتكلما

قد يخيل للكثيرين انه إنما اراد تشبيه الربيع بإنسان يضحك، على سبيل التشبيه لا على سبيل (الواقع). هكذا يقول البلاغيون، لان الواقع الظاهر يمنع ان يختال الربيع ضاحكا.

ولكن الحقيقة الأكبر من الواقع الظاهري، ان الربيع يختال ضاحكا في حقيقته. فما الضحك؟ اليس هو إطلاق طاقة فائضة بطريقة حسية؟ وماذا يصنع الربيع إلا أن يطلق طاقة حيوية فائضة في الارض وأبنائها الأحياء!

إنها حقيقة. ولكنها هنالك في الأعماق!

التجارب الشعورية إذن هي مادة التعبير الأدبي .. وقد يبدو هذا واضحا في الشعر – والغنائي منه بصفة خاصة – ولكنه في الحقيقة متوافر في سائر فنون الأدب.

ونضرب مثالا بالقصة والتمثيلية، فالأدب لا يملك ان يعبر عنهما تعبيرا موحيا يثير انفعالنا ما لم يستحضر هو نفسه التجارب الشعورية لأبطالهما وحوادثهما وجوهما، وينفعل بهما انفعالا معينا.

ويميل بعض النقاد المعنيين بالتحليل النفسي الى البحث عن حقيقة كل بطل من ابطال القصص والتمثيليات في نفس الأديب الذي تصورهم وصورهم. وقد يكون في هذا شيء من الغلو، فليس من الضروري ان يكون لعواطف هؤلاء الأبطال جميعا شبيه في نفس المؤلف. ولكن من الضروري ان يكون المؤلف قادرا على تصور العواطف التي اودعها نفوس أبطاله. وان يكون في استحضرها في نفسه وهو يؤلف، وانفعل بها على نحو معين.

وحتى في كتابة (التراجم) بل في كتابة (التاريخ العالم) لابد من هذا الانفعال، فترجمة الشخصيات ليست عملا موضوعيا كوصف تجربة علمية، فلابد للمؤلف من إحياء هذه الشخصية لتصبح الترجمة عملا أدبيا، وإحياء الشخصية معناه الانفعال بوجودها ويتصورها.

وكذلك التاريخ لا يدخل دائرة الأدب إذا كان وصفا مجردا لحوادث ميتة، ولكنه يصبح عملا أدبيا اذا انفعل المؤرخ بالحوادث، وصورها حية ممتزجة بالأحياء الذين اشتركوا فيها، كما لو كان يكتب قصة كائن حتى لا قصة حادثة.

والمقالة هي كذلك عمل أدبي، لأنها تصور انفعال كاتبها تجاه مؤثر ما كالقصيدة، وكذلك البحوث الأدبية – او ما يسمى الأدب الوصفي – يتوافر فيها عنصر التجربة الشعورية، على نحو من الانحاء قبل ان تحسب في سجل الآداب.

كل ما هنالك ان درجة الانفعال تختلف في فنون الأدب المختلفة، فهي في الشعر أعلى منها في سائر الفنون الأدبية. وفي القصة والترجمة والمقالة تتفاوت، وقد تصل الى درجة الشعر في بعض المواقف. ونكتفي بهذا القدر هنا فالحديث المفصل عن كل فن من فنون الأدب سياتي في حينه.

ولكن إذا كانت غاية العمل الأدبي هي مجرد التعبير عن تجربة شعورية تعبيرا موحيا مثيرا للانفعال في نفوس الآخرين، فهل تراه يستحق من الانسانية ان تشغل به نفسها فترات من هذه الحياء المعدودة الأيام؟

والجواب: ان نعم! فليس بالقليل ان يضيف الفرد الفاني المحدود والآفاق الى حياته صورا من الكون والحياة، كما تبدو في نفس إنسان ملهم ممتاز هو الأديب.

وكل تجربة شعورية يصورها أديب تصبح ملكا لكل قارئ مستعد للانفعال بها، فإذا انفعل بها فقد أصبحت ملكه، وأضاف بها الى رصيده من المشاعر صورة جديدة ممتازة.

ولحسن حظ الإنسانية التي لا تملك من العلم المادي المحسوس الا حيزا ضئيلا محدودا ان في استطاعتها ان تملك من العوالم الشعورية آمادا وأنماط لا عداد لها. وكلما ولد أديب عظيم ولد معه كون عظيم، لأنه سيترك للإنسانية في أدبه نموذجا من الكون لم يسبق ان رآه إنسان!

وكل لحظة يمضيها القارئ المتذوق مع أديب عظيم، هي رحلة في عالم، تطول او تقصر، ولكنها رحلة في كوكب متفرد الخصائص، متميز السمات.

تعال نصاحب (طاغور) فترة من الوقت في عالمه الراضي السمح، فان عنده دائما ما يعطيه، ولن نعود صفر اليدين بعد رحلة مع هذا الروح المانح الوهاب:

اليوم لم يختم بعد. والسوق التي على شاطئ النهر لا تزال.

 لقد خفت ان يكون يومي قد تبدد، وآخر دراهمي قد ضاع.

ولكن. لا. لا يا أخي. إني ما زلت أملك شيئا لان حظي لم يسلبني كل شيء.

***

الآن انتهى البيع والشراء

لقد جمعت حصيلتي من الطرفين

والآن حان وقت عودتي الى البيت

ولكن، ايها الحارس، افتطلب ضريبتك؟

 لا تخف يا أخي. لآني ما زلت أملك شيئا. لان حظي لم يسلبني كل شيء.

***

ان سكون الريح ينذر بالعاصفة

وان السحب المتجهمة في الغرب لا تبشر بخير

والماء الساكن ينتظر الريح

(اما انا فأهرول لأعبر النهر قبل أن يدركني الليل

ولكن، يا صاحب المعبر، أفتريد ان تطلب أجرك؟

أجل، يا أخي، إني ما زلت أملك شيئا. لأن حظي لم يسلبني كل شيء.

****

وفي ظلال الشجرة على جانب الطريق، تربع الشحاذ

وا أسفاه! انه يحدق في وجهي، وفي عينيه رجاء وحياء!

إنني، في ظنه، غنى بما ربحت في يومي

أجل، يا أخي، إني ما زلت أملك شيئا، لأن حظي لم يسلبني كل شيء.

***

لقد اشتد ظلام الليل، وأقفر الطريق، وتألق الحباحب بين أوراق الشجر

من عساك تكون يا من تتبعني في خطوات متلصصة صامتة؟

آه، لقد عرفت، أنك تريد ان تسرق مني كل أرباحي

لن أخيب ظنك!

لأني ما زلت أملك شيئا، لان حظي لم يسلبني كل شيء!

****

وصلت المنزل عند منتصف الليل بيدين فارغتين

 وأنت لدى الباب تنتظرين في يقظة وصمت، وفي عينيك الرغبة

وكعصفورة وجلة طرت الى صدري، يدفعك حب تواق

آه يا إلهي. ان شيئا كثيرا ما يزال باقيا معي، لان حظي لم يخدعني، ويسلبني كل شيء) (9).

****

أترى انها رحلة الى السوق، أم انها رحلة في حياة؟ وأي رضاء وأي اطمئنان وأية ثقة تلك التي تستشعرها في هذه الرحلة مع (طاغور)؟.. الحياة تعطى والحياة تأخذ. ولكن هناك في النهاية ثروة لا تنفد. ثروة القلب والشعور. وتلك السماحة الراضية حتى مع السارق المتلصص الذي يريد ان يسرق أرباح اليوم كله. (لن أخيب ظنك)! وذلك الحب العميق الشفيف الرفاق: (وأنت لدى الباب تنتظرين في يقظة وصمت وفي عينيك الرغبة. وكعصفورة وجلة طرت الى صدري يدفعك حب تواق) وقد سرقت حصيلة اليوم كل لئلا يخيب ظن السارق! ولكن (إن شيئا كثيرا ما يزال باقيا معي) إنه هنا في ذلك القلب الكبير.

إن لحظات مع هذا (الإنسان) في هذا العالم الراضي كالفردوس، الناعم كالأحلام، لهى عمر جديد، وكون جديد.

من هذا الرضا السمح الواهب المستبشر الوديع، تعال نخط الى عالم آخر، عالم حائر يائس، يحس انه معجل عن الحياة والوجود، الى الموت والفناء، ولا تتراءى له شعاعه من نور يكشف بها ظلمات الغيب والقضاء، فينغمس في غيبوبة التراب يستجيب لها لينسى حيرته في الظلام، بعد ما أعياه دق أبواب الغيب، وتلمس بصيص من ضياء. إنه عالم الخيام:

سمعت صوتا هاتفا في السحر      نادى من الحان: غفاه البشر

هبوا املئوا كأس الطلى قبل أن      تفعهم كأس العمر كف القدر

أحسُّ في نفسي دبيب الفناء       ولم أصَب في العيشِ إلاّ الشقاء

يا حسرتا إن حانَ حيني ولم        يُتحْ لفكري حلّ لُغز القضاء

***

أفق وهات الكأس أنعمُ بها        واكشف خفايا النفس مِن حُجبها

وروّ أوصالي بها قَبلَما         يُصاغ دنّ الخمَر مِن تُربها

 

***

تروحُ أيامي ولا تغتد          كما تهبُّ الريح في الفدفدِ

وما طويتَ النفس هماً عَلى     يومين: أمسْ المنقضي والغدِ

***

غدٌ بِظَهْرِ الغيب واليوم لي      وكم يخيبُ الظنُّ في المقبلِ

ولَستُ بالغافلِ حتى أرى        جمالَ دنيايَ ولا أجتلي

***

سمعتُ في حلمي صوتاً أهابَ      ما فتَّق النّوم كمام الشبابَ

أفق فإنَّ النّوم صنو الردى       واشرب فمثواكَ فراش الترابَ

    سأنتحي الموتَ حثيث الورود       ويَنمحي اسمي مِن سجِل الوجود

    هات أسقنيها يا مُنى خاطري         فغايةُ الأيام طولْ الهجود(10)

***

هذه رحلة اخرى في عالم آخر: رحلة مضنية ولا شك، ولكنها لذيذة، لذة الألم، ذلك الزاد الإلهي الذي تقتانه الأرواح. وكم خالجنا فيها من مشاعر: مشاعر الأسى والكآبة والعطف على ذلك الروح المعذب الحائر الذي يفنى نفسه في طلب النور.

والآن فإلى عالم ثالث، عالم يائس من الخير في الدنيا، ساحر بخداع العواطف والمشاعر، يتصور النظم الكونية تطارد بعنف أبناء الغناء الضعاف، ولكنه ساكن لا يبدى الجزع ولا يثور .. إنه توماس هاردي:

- آه أخالك تحفر عند قبري يا حبيبي، نغرس على حوافيه أشجار السذاب.

- كلا! حبيبك ذهب البارحة ليخطب كريمة من أجمل كرائم الثراء! وهو يقول في نفسه: ماذا عليها من ضمير ان انقض لها عهدي في الحيا؟ !

- اذن من ذلك الذي يحفر في ناحية القبر؟ أقاربي الاعزاء؟

- لا بنية! انهم يجلسون هنالك ويقولون: ماذا يجدي؟ اي نفع لهذه الاشجار والازهار، ان روحها لن يفلت من براثن القضاء خلال ذلك التراب المركوم!

- ولكني اسمع حافرا يحفر هناك فمن ذا عسى ان يكون! أهو عدوتي اللئيمة الرعناء؟

- لا. إنها حين علمت أنك عبرت الباب الذي لا مفر عنه، ضنت عليك بالعداوة، ولم تجدك أهلا للكره والبغضاء، فما تبالي اليوم في اي مرقد ترقدين!

- اذن من يكون ذلك الحافر على قبري؟ فقد أعياني الظن، وأقررت بالإعياء!

- أوه. إنه أنا سيدتي الودود! أنا كلبك الصغير. أعيش بقربك وأرجو الا يزعجك ذهابي ومآبي في هذا الجوار!

- آه نعم! أنت الذي تحفر على قبري. عجبا كيف غفلت عنك، ونسيت ان قلبا واحدا وفيا قد تركته بين تلك القلوب الخواء! وأي عاطفة لعمرك في قلوب الناس تعدل عاطفة الولاء في فؤاد الكلب الأمين؟

- سيدتي إنني احفر عند قبرك لأدفن عظمة أعود إليها ساعة الجوع في هذه الطريق، فلا تعتبي على إزعاجك، فقد نسيت إنك في ذلك المكان تنامين نومك الأخير !!!) (11).

إنه عالم قانط يائس. لا بصيص فيه من أمل او عزاء. حتى العواطف والمشاعر التي قد تعزى عن كثير من قسوة الحياة، لا يراها الا عبثا وسخرية. لا حقيقة لها ولا وجود. ولكنه عالم. عالم كبير فريد.

***

وقد اضطررت ان اجعل امثلتي هنا من الشعر. لأن الاقتباس من الشعر ممكن، لا لأنه وحده الدليل على أن الأدب يفتح للإنسانية عوالم جديدة من الشعور. ففي القصة والتمثيلية والأقصوصة وتراجم الشخصيات.. إلخ تجد هذه العوالم. ولكنها تفقد قيمتها بالتلخيص والاختصار.

وما دمنا قادرين على ان نعيش تجارب هؤلاء الادباء – مرة اخرى-وننفعل بها كما انفعل اصحابها، فإن هذا رصيد يضاف الى أعمارنا، وزاد يضاف الى ازوادنا في الرحلة القصيرة المحدودة على هذا الكوكب الارضي الصغير!

_________________

(1)            لاسل ابو كرومبي في كتاب (قواعد النقد) ترجمة عوض. والشايب في كتاب (أصول النقد الأدبي) و(لانسون) في فصل (منهج البحث في الأدب) ترجمة مندور.

(2)            بطلان اغريقيان من أبطال الأساطير.

(3)            بطلان فراسيان لهما وقائع اسطورية وقد يكونان هما حقيقة.

(4)            بطلان من أبطال الأدب العربي، لأولهما حقيقة تاريخية وروايات قصصية، ولثانيهما روايات خيالية وقد تكون له حقيقة.

(5)            بطلان روائيان من أبطال الحب في الأدب الغربي.

(6)            بطلان من أبطال الحب العذري من الأدب العربي وقد يكونان حقيقة.

(7)            بطل (الرامايانا الهندية) ويمثل التسامح والوفاء المطلقين.

(8)            بطل الصبر والمأساة في الكتاب المقدس (العهد القديم).

(9)            ترجمة لطفي شلشل في مجموعة سماها (رعاة الحب) واسمها الذي وضعه طاغور البستاني).

(10)      ترجمة رامي.

(11)      ترجمة العقاد.

 

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.


العتبة العباسية تختتم فعاليات حفل سنّ التكليف الشرعي المركزي لطالبات المدارس في كربلاء
العتبة العباسية تكرم المساهمين بنجاح حفل التكليف الشرعي للطالبات
ضمن فعاليات حفل التكليف الشرعي.. السيد الصافي يلتقط صورة جماعية مع الفتيات المكلفات
حفل الورود الفاطمية يشهد عرضًا مسرحيًّا حول أهمية التكليف