أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-08-2015
1775
التاريخ: 1-07-2015
2386
التاريخ: 1-07-2015
1722
التاريخ: 10-1-2019
2169
|
لا يخفى أن إرسال الأنبياء يُعدّ من الضرورات التي تفرضها حاجة الإنسان إلى الهداية والصلاح ، بما ينسجم مع الحكمة الإلهية التي قضاها الله تعالى في خَلْقه ، ولا يمكن إقامة اُسس تلك الهداية ما لم تقترن بقوّة تنفيذية فاعلة تحمل الإنسان على الانصياع لها ، وتُخرج التعاليم الإلهية والأحكام السماوية من حيّز النظرية إلى واقع الممارسة ، فتقود الإنسان إلى ساحل الرشاد ، دون أدنى تجاوزٍ منه أو مخالفة ، وبدون تلك القوّة ستبقى تلك التعاليم والأحكام مجرّد مواعظ ، ليس لها معنى في واقع الحياة ، ولا أدنى تأثير في سلوك الانسان.
وإذا تصوّرنا أن العوامل الخارجية المتمثّلة بقوانين العقوبات الوضعية ـ
وما فيها من السجن والاعدام والابعاد وغيرها ـ قادرة على كبح جماح النفس الانسانية
وسيرورتها باتجاه تطبيق اُسس الصلاح والهداية ، فإن الواقع يشير إلى فشل تلك
العوامل في اجتثاث جذور الشرّ والفساد وضمان السعادة والكمال والأمن ، سواء على
صعيد الفرد أو المجتمع.
ذلك لأنّ تلك القوانين إذا كانت قد نجحت في ردع المجرمين والأشرار من
الرعية ، بإنزال أقصى العقوبات بهم ، فإنّها قد أفلست في الحدّ من انحرافات أصحاب
القرار السياسي ، وأصبحت قاصرة أمام المتسلّطين الذين يتلاعبون بمقدّرات الشعوب ،
ويبتزّون أموالهم ويغتصبون حقوقهم تحت غطاء قانوني مصطنع يوفّر لهم الحماية
والأمان.
ثم إنّ العوامل الخارجية المؤثرة في سلوك الفرد ، بما فيها من قوانين
العقوبات التي تواضعت عليها أنظمة الحكم في أغلب الدول ، ترتبط ارتباطاً وثيقاً
بقوة الدولة وهيبة سلطتها الحاكمة وسلامة أدواتها التنفيذية ، وحينما تفقد الدولة
تلك القوة والهيبة ، ويستشري الفساد في أوصالها ، فلا قيمة لتلك القوانين ، وليس
لها أدنى هيبة أو احترام.
وإذا افترضنا نجاح القوانين الوضعية في ردع المجرمين من الرعية والحاكمين ،
مع وجود القانون الذي يضمن استمرار قوة الدولة وفاعلية مؤسساتها التنفيذية ، فإنّ
في جنبات الإنسان منطقة فراغ لا تطالها مراقبة السلطة ، ولا تصلها سلطة القانون ،
ومن تلك المنطقة تحدث الجرائم والانحرافات الشاذة ، بعيداً عن الأضواء الكاشفة ،
بسبب شهوات النفس الأمّارة وما يعدها الشيطان من الغرور {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ
أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60]، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ
لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا } [الإسراء: 53].
وإذا قيل : بأن الملحد قد يكون فاضلاً قويماً ، فإن فضيلته ظاهرية ، لا
ترتكن على اُصول نفسية ، فضيلة أوجدها الحياء من المعاشرين ، أو التقية من سلطة
القوانين ، ولو غاب الرقيب وخلا له الجو ، فإنه لا يتورّع عن هتك سترٍ أو سلب مالٍ
أو اقتراف محرّم ؛ لأن الشهوة إذا امتلكت ناصية النفس ، قادتها إلى كلّ رذيلة ،
وركبت كلّ دنيئة ، فأنّى تكون الفضيلة لمن يعتقد أنه حيوان فانٍ ؟
وعليه فإنّ القوانين التي تسنّها الدول ، وحتى في أكثر دول العالم مدنيةً
وتقدماً ، قد أثبتت فشلها الذريع في توجيه سلوك الفرد ، وتنظيم حياته ، وبلوغ
أهدافه الإنسانية والروحية ، على اُسس ثابتة وقويمة ، تستوعب حركة الفرد في
المجتمع وتصرفاته وأعماله الظاهرية والباطنية ، وترشده إلى الصلاح والسعادة في
دنياه وآخرته.
وممّا تقدمّ يتبيّن أن العوامل الداخلية الكامنة في أعماق نفس الإنسان ،
والنابعة من صميم وجدانه وضميره ، هي القوة الوحيدة التي تحكم سلوكه وتصرفاته ،
وتلازمه في حلّه وترحاله وسرّه وعلنه ، وذلك لما للروح من قدرة ذاتية على كبح جماح
صاحبها ، لأنها من عالمٍ علوي ، فتنزع بفطرتها إلى الكمال والسمو ، ولكن قلّما يصل
الإنسان إلى أن يجعل لروحه سلطاناً على جسده ، لأن هذا الأمر يحتاج إلى رياضة
روحية قاسية لا تسهل إلاّ لمن يعتقد بخلود النفس ، وهذا الاعتقاد يخلق في أعماق
النفس الإنسانية حافزاً يدعو إلى عمل الفضائل والخيرات ، رجاءً في ثواب الآخرة ،
ووازعاً يحدّ من الأهواء والشهوات ، ويردع عن ارتكاب المعاصي والسيئات ، خوفاً
ورهبةً من عقاب الآخرة.
ذلك لأنّ الضمير الانساني وحده قد يؤنّب صاحبه على سيئةٍ فعلها ، لكنّه لا
يعذّبه ، وقد يعاتبه على منكرٍ اقترفه ، لكنّه لا يعاقبه ، وقد يكون ناصحاً
وواعظاً ، لكنّه قد لا يكون موجّهاً ، لأنه لا يملك نفعاً ولا ضراً إزاء أهواء
النفس وجموحها في عالم الضلال والغواية ، وكثيراً ما تغالبه فيكفّ ويعتزل ، وعندها
يفعل الانسان ما يشاء تحت جنح الظلام بعيداً عن أعين الناس.
فإذا كانت القوانين الرسمية والأعراف الاجتماعية وازعاً يردع الانسان من
الخارج ، والضمير الانساني وازعاً يردعه من الداخل ، فيضبطان سلوكه وتصرفه إلى
قدرٍ معين ، فإنّ الإيمان بالله والاعتقاد باليوم الآخر يجمع بين الاثنين ويفوقهما
، لأنه يغرس في النفوس اُسس التربية الأخلاقية القائمة على الشعور بوجود الرقيب
على القول والعمل ، ولا يستطيع المؤمن التهرّب من ذلك الرقيب في جميع أحواله ،
لأنه محيط بكلّ شيء ، وأقرب إليه من حبل الوريد ، ويعلم السرّ وأخفى ، وإنه
سيحاسبه عن كلّ كبيرة وصغيرة فعلها ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة ، ولهذا يبقى المؤمن
شاعراً بالمسؤولية ، خائفاً من عقاب الله وعذابه ، حتى لو سوّلت له نفسه الاختفاء
عن الأنظار بجريرته ، وأمن من عقوبة القانون وسلطته ، إذ لا مفرّ من حكم الله
وسلطانه.
روي عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام أنه جاءه رجل ، وقال : أنا رجل
عاصٍ ولا أصبر عن المعصية ، فعظني بموعظة. فقال عليه السلام : « افعل خمسة أشياء
واذنب ما شئت ، فأول ذلك : لا تأكل رزق الله ، واذنب ما شئت ، والثاني : اخرج من
ولاية الله ، واذنب ما شئت ، والثالث : اطلب موضعاً لا يراك فيه الله ، واذنب ما
شئت ، والرابع : إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك ، واذنب ما شئت ،
والخامس : إذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل النار ، واذنب ما شئت »(1).
فالمؤمن يعتقد أن كلّ شيء تابع لسلطان الله تعالى وملكه ، وداخل تحت ولايته
، وأنه تعالى يرى كلّ أفعال المرء وحركاته وسكناته ، وما يجيش به صدره ويخطر على
قلبه ، وأن تلك الأفعال هي الوحيدة التي سترافقه بعد الموت إلى يوم الحساب ، وتكون
المقياس للثواب والعقاب، وليس ثمة شيء غيرها ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم : « يتبع المرء ثلاثة : أهله وماله وعمله ، فيرجع اثنان ويبقى واحد ، يرجع
أهله وماله ويبقى عمله »(2).
ومن لوازم الإيمان باليوم الآخر : الاعتقاد بأن الناس مدينون بما قدّموا ، ومُرتَهنون بما
أسلفوا ، يوم يعرضون على ربهم في دار الحساب ، لا تخفى منهم خافية ، فيسألون عن كل
أعمالهم وتصرّفاتهم وعمّا أبدوه وأخفوه من خير وشرّ ، ثم يلقون الجزاء وفاقاً على
ما كانوا يعملون قال تعالى : {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:
164]وقال سبحانه : {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38].
فالأعمال هي مقياس الفضيلة والرذيلة ، وأساس القرب من الرحمة الإلهية
والبعد عنها ، إذ لا ينظر في تلك المحكمة إلى الصور والأشكال ، ولا إلى الأحساب
والأنساب ، ولا إلى التجارة وكثرة الأولاد والأموال ، قال تعالى : {فَإِذَا نُفِخَ
فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ *
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ
مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ
خَالِدُونَ} [المؤمنون: 101 - 103] وقال تعالى : {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [آل عمران: 10] وقال
سبحانه : {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 11]. وقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى أموالكم ،
ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم »(3).
هذا هو بعض ما يلزم المؤمن الاعتقاد به ، ضمن دائرة الاعتقاد باليوم الآخر
، وهو يخلق في أعماق نفسه الزهد في الدنيا ، والورع عن محارم الله ، ويجعله يتردّد
كثيراً قبل ارتكاب المعصية ، ويرتدع عنها بوازع ينبع من صميم نفسه المؤمنة بيوم
الحساب ، ومراقبة ضميره الموقن بوجود الرقيب على الأعمال ، دون حاجة إلى مراقبة
القانون وسلطته.
فالاعتقاد بالمعاد إذن أداة قويمة وفعّالة لتقويم السلوك الفردي ، وتنعكس
آثاره على الصعيد الاجتماعي أيضاً ، ذلك لأنه يلزم المرء المسلم التمسّك بكتاب
الله تعالى وسنّة رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وعدله ، حيث تنتظم اُمور
الناس ، ويحفظ لكلّ ذي حقّ حقّه ، كما أنه يخلق في نفس الإنسان موجة قوية من
الاحساس بالمسؤولية إزاء كلّ عمل من أعماله ، ويذكي في روحه نزاهة تصدّه عن
العدوان على حقوق الآخرين ، وورعاً يجرّده عن الظلم والتجاوز عليهم ، قال أمير
المؤمنين عليه السلام : « بئس الزاد إلى المعاد العدوانُ على العباد »(4).
وقال عليه السلام : « لا يؤمن بالمعاد من لا يتحرّج عن ظلم العباد »(5).
وقال عليه السلام : « والله لأن أبيت على حسك السعدان مُسهّداً ، أو أُجرّ
في الأغلال مُصفّداً ، أحبّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض
العباد ، وغاصباً لشيء من الحُطام ، وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يسرع إلى البلى قفولها
، ويطول في الثرى حلولها ؟! »(6).
والإسلام يؤكّد أن خير ما يحمله المرء إلى آخرته هو التقوى ، وذلك يحول دون
اتساع أمواج الفساد والخيانة ، ويسهم في إرساء اُسس الصلاح والاستقرار الاجتماعي.
وكان أئمة المسلمين يحثّون الناس بهذا الاتجاه ، قال أبو جعفر الباقر عليه
السلام : « كان أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة ، إذا صلى بالناس العشاء الآخرة
ينادي بالناس ثلاث مرّات ، حتى يسمع أهل المسجد : أيها الناس ، تجهّزوا يرحمكم
الله ، فقد نودي فيكم بالرحيل ، فما التعرّج على الدنيا بعد النداء فيها بالرحيل
؟! تجهّزوا رحمكم الله ، وانتقلوا بأفضل ما بحضرتكم من الزاد ، وهو التقوى...
»(7).
والاعتقاد بالآخرة دافع لمراعاة حقوق الناس وإرساء قواعد التعامل الصحيح ،
القائم على الانصاف والصدق والأمانة ، قال تعالى : {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ *
الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ *
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } [المطففين: 1 - 5].
والإسلام يؤكد أن الانسان إذا انقطع عن الدنيا ، فلا يتبعه بعد موته إلاّ
ما يدلّ على العطاء المستمر من صالح الذرية ، والسنّة الحسنة التي يعمل بها بعد
موته ، وأعمال الخير والإحسان.
قال الصادق عليه السلام : « ليس يتبع المؤمن بعد موته من الأجر إلاّ ثلاث
خصال : صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته ، وسنة هو سنّها فهي يُعمَل بها
بعد موته ، أو ولد صالح يدعو له » (8) ، وفي ذلك دعوة صريحة للإنسان المسلم لأن
يفكّر في إقامة اُسس الخير والصلاح في المجتمع ، وتربية النشء الصالح حتى بعد
انقطاعه عن الدنيا.
وعليه فإن الإيمان بالمعاد والحساب يوم القيامة ، يعتبر من الاُصول
الاعتقادية ذات الأهمية البالغة في آثارها ونتائجها الواضحة ، لتنظيم حياة المجتمع
المسلم ، وتوجيه سلوكه لبلوغ أهدافه الإنسانية والروحية على اُسس قويمة ، هي أرقى
من كل التشريعات البشرية الهادفة إلى القضاء على الفوضى والفساد ، وجرائم القتل
والنهب ، التي بلغت أوجها في أكثر بلدان العالم تقدّماً وتطوّراً وثقافةً.
( ومن هنا اضطرّ كثير ممّن لا يؤمن بالدين ولا بالآخرة كواقع ديني ، إلى أن
يصرّحوا بأنه لا شيء غير عقيدة الآخرة يصلح لمراقبة الإنسان وإخضاعه لسلوك طريق
الحق والعدل والانصاف في جميع الظروف ، مثل « كانت » و« فولتير » وغيرهما ) (9).
____________
(1) جامع الأخبار / السبزواري
: 359/1001 ـ مؤسسة آل البيت عليهم السلام / قم ، بحار الأنوار / المجلسي 78 :
126/7 عن الإمام الحسين عليه السلام .
(2) كنز العمال / المتقي
الهندي 15 : 690/42761 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت.
(3) تفسير
الرازي 22 : 135 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
(4) نهج
البلاغة / صبحي الصالح : 507 ـ الحكمة 221.
(5) غرر الحكم / الآمدي 2 :
364/409.
(6) نهج البلاغة / صبحي الصالح
: 346 ـ الخطبة 224.
(7) أمالي
المفيد : 198/32 ـ مؤتمر الشيخ المفيد ـ قم.
(8) التهذيب / الطوسي 9 :
232/3 ـ دار الكتب الإسلامية ـ طهران.
(9) الأدلة الجلية في شرح
الفصول النصيرية / عبدالله نعمة : 193 ـ دار الفكر اللبناني.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|