أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-5-2016
3575
التاريخ: 2024-08-06
564
التاريخ: 25-5-2016
4869
التاريخ: 25-8-2019
1999
|
يتضح لمن اطلع على نصوص العقد وظروفه أن العربون إنما اشترط إما جزاء للعدول عن البيع . أو كوسيلة لضمان تنفيذ ذلك العقد .
المطلب الأول
العربون كجزاء للعدول
إذا توصلنا إلى أن دفع العربون عند التعاقد إنما اشترط كجزاء للعدول عن العقد فإننا نكون إزاء حالتين إما إتمام تنفيذ عقد البيع . وإما أن يستعمل أحد المتعاقدين حقه في العدول عن البيع .
فإذا تم البيع فإن العربون يحتسب من أصل الثمن الذي على المشتري أن يدفعه . وإما إذا عدل أحد المتعاقدين عن البيع ممارسا هذا الحق الذي له اختياره . فإن ما يقابله هو خسارة العربون أو ما يعادله فإذا كان من عدل هو دافعه فقده وإذا كان قابضه رده مضاعفا كجزاء للعدول (1) . ولا يقتصر العربون على عقد البيع وإنما يكون أيضا في عدة عقود أخرى وعلى الأخص بعقد المقايضة والوعد بها وعقد الإجارة . وهو على العموم لا يكون إلا في العقود الملزمة للجانبين إن كان كوسيلة نقض للعقد أو العدول عنه أما إذا كان العقد ملزما لطرف واحد واتصل به العربون فإن يكون والحالة هذه دليلا على تمام العقد وصيرورته باتا لا يحق العدول عنه من قبل المدين وهو أمر نادر الوقوع كهذا .
إن العقد الذي يقترن به العربون والذي يكون فيه دليلا على جواز العدول عنه يتفق فيه الفقهاء على أنه عقد موصوف بشرط إلا أنهم يختلفون متسائلين عن تكييف طبيعة هذا الشرط هل هو واقف أم فاسخ (2) .
إن خسارة العربون أو دفع قيمته في حالة العدول عن البيع إنما هي بمثابة جزاء حتمي يتم دفعه من قبل العادل عن البيع سواء حصل ضرر أم لا للطرف الآخر .
وهذه هي السمة التي تميز العربون عن الشرط الجزائي فإن دفع العربون إلى العاقد الآخر لا يعد تعويضا عن إخلاله بالتزام ما ناشئ عن عقد البيع .
وإنما هو مقابل لاستعمال حق العدول عن البيع . يدفعه من عدل حتى ولو لم يترتب أي ضرر من جراء عدول الطرف الآخر . كما تفيده المادة (92) من القانون المدني العراقي .
أما الشرط الجزائي بخلاف العربون فإنه مبلغا تعويضيا عن الضرر الذي ينشأ عن إخلال المدين بالتزامه الأصلي الناشئ عن عقد البيع .
ولا يستحقه الدائن إلا بشرط حصول ضرر يصيبه نتيجة الإخلال ولهذا كان للقاضي تخفيض المبلغ المتفق عليه كشرط جزائي إن كان التقدير فادحا لا يتناسب وجسامة الضرر الذي أصيب به الدائن وللقاضي أيضا أن لا يحكم به أصلا في حالة عدم حصول الضرر بخلاف بيع العربون ( م 170 ف2 مدني عراقي ) فلا يجوز فيه كل ذلك (3) .
ويجوز أن يشترط إعادة العربون وحده ، دون الضعف عند رده من قبل المتعهد المتخلف في حالة عدم تنفيذه تعهده والشرط معتبر .
والحكم باسترداد العربون يكون بعد التأكد من تخلف المتعهد عن الوفاء لا قبل ذلك .
ولكن التعويض يكون دفعه واجبا اعتبارا من التاريخ المشروط في أصل التعهد (4) و في القانون المدني العراقي الأصل في دفع العربون الدلالة على أن العقد أصبح باتا لا يجوز العدول عنه ولكن يجوز الاتفاق على ما يخالف ذلك فللمتبايعين أن يجعلا لكل منها الحق في إمضاء البيع أو نقضه أي حق العدول عنه مقابل خسارة ما يعادل قيمة العربون وهو اتفاق صحيح يحب العمل به وفق القانون الفقرة 2 من المادة (92) من القانون المدني العراقي (5) .
المطلب الثاني
العربون كوسيلة لضمان التنفيذ
تقضي المادة (92) من القانون المدني العراقي بأنه (( 1- يعتبر دفع العربون دليلا على أن العقد أصبح باتا لا يجوز العدول عنه إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك . 2- فإذا اتفق المتعاقدان على أن العربون جزاء للعدول عن العقد كان لكل منهما حق العدول فإن عدل من دفع العربون وجب عليه تركه وإن عدل من قبضة رده مضاعفا )) وتقابل المادة 103 مصري حديث ، 104 سوري و159 فرنسي .
إذن العربون هو مبلغ من النقود ( أو أي منقول آخر ) يدفعه أحد المتعاقدين للآخر وقت إبرام العقد .
ذهبت التقنيات العالمية عدة مذاهب في تفسير دلالة العربون فالتقنين الفرنسي يقضي بأن العربون دلالة على ثبوت الخيار . أما مذهب التقنيات الجرمانية فتخالف اللاتينية فإن العربون فيها دليل على صيرورة العقد باتا لا يجوز العدول عنه . وهو الذي أخذ به القانون المدني العراقي كما أخذ به من قبل القانون التجاري ( م112)
وكان المشرع المصري الأصلي يأخذ بما أخذ به المشرع العراقي إلا أن لجنة القانون المدني رأت أن استقرار العرف في مصر على خلاف ذلك يستدعي العدول عن ذلك الحكم إلى ما ثبت عرفا فصار التقنين المصري الجديد على ما عليه التقنين الفرنسي . أي أن العربون دلالة على جواز العدول لكل من المتعاقدين (6) .
والقانون المدني العراقي الأصل فيه أن العربون دليل على بتات العقد فعند ما يقدم حين التعاقد كوسيلة لضمان التنفيذ . فحينئذ لا يجوز لأحد من المتعاقدين الرجوع فيه اكتفاء بتركه لذلك العربون . وإنما يثبت إلزام كل من المتبايعين الطرف الآخر بتنفيذ هذا العقد المبرم بينهما والعربون إنما هو هنا تنفيذا جزئيا للبيع يجب استكماله ليس إلا .
ثم تسري القواعد العامة على هذا العقد كما سرت على العقود الأخرى من تجويز طلب التنفيذ العيني إذا كان ممكنا . أو المطالبة بالتعويض أو المطالبة بالفسخ وتعويض الضرر التي ينشأ عن هذا الفسخ ومن ثم يحسب العربون من مبلغ هذا التعويض إن حصل الضرر .
ولا يشترط أن يكون التعويض بمقدار قيمة العربون بل قد يزيد عنه أو ينقص عن قيمته حسب جسامة الضرر الناشئ كما يجوز للمحكمة أن لا تحكم بأي تعويض في حالة عدم حصول أي ضرر يترتب على إخلال المدين بالتزامه . بل قد تكتفي بإعادة العربون إلى من قد دفعه (7) .
المطلب الثالث
العدول والتعاقد بالعربون
يجوز لأحد المتعاقدين أولهما – عند التعاقد اشتراط الحق في الرجوع عن رضا خلال فترة معينة . واشتراط هذا الحق ينبغي أن يقترن بالتراضي على العقد في واقعه تتخذ عادة وسيلة لاشتراط حق العدول . والواقعة هي دفع عربون عند التراضي ودلالة دفع العربون في الغالب تكون لاشتراط حق العدول عن العقد مقابل فقد هذا العربون أو دفع قيمته . والاشتراط الصحيح وحق العدول في الحقيقة لا يحتاج في تحديد حكمه إلى بذل جهد لبيانه ....
التعاقد بالعربون :
قد يؤدي أحد الطرفين إلى آخر مالا في عقد من العقود مقترنا بالتراضي . يكون ذلك المال علامة على انعقاد العقد . وذلك كثيرا ما يكون في العقود التي تلزم أحد طرفيها بدفع مبلغ من النقود . مقابل أن يلتزم الطرف الآخر بنقل حق أو التمكين من منفعة مقصودة كالبيع أو الإيجار فيقوم المشتري بدفع مبلغ من النقود عند تمام الاتفاق بينهما إلى البائع أو المستأجر إلى المؤجر . وأحيانا يكون المراد من هذا المبلغ هو الوفاء بجزء من الثمن في البيع أو الأجرة في الإيجار .
ودفع المبلغ هذا يستخدم أيضا كوسيلة لتحديد ثمن الرجوع عن العقد من قبل المتعاقدين عما اتفق عليه بمعنى هو ثمن عدوله عن العقد (8) أي يجوز للمتبايعين أن يجعلا لكل منهما الحق في إمضاء البيع كما له الحق أيضا في نقضه وذلك مقابل أن يخسر مبلغ العربون من كان قد دفعه أو يرده وقيمته أي مثله من كان قد قبضه . والذي يحدد هذا هو نية المتعاقدين إذ هي المعول عليها في تحديد الغرض الذي قصده المتبايعان من دفع العربون والنية هذه تستخلصها محكمة الموضوع من نصوص وظروف العقد . ولا رقابة عليها من قبل محكمة التمييز في هذا الاستخلاص . فإذا تبين من ظروف التعاقد أن المتعاقدين كانت نيتهما وقصدهما من دفع العربون هو الدلالة على الرجوع عن العقد والخيار في ذلك وجب الوقوف عند ما قصدا إليه (9) .
فيستطيع المشتري أو المستأجر أن يتحلل عن ذلك الارتباط الذي ارتضاه لنفسه في العقد نظير خسارة ما دفعه من العربون . وكذلك يستطيع الطرف الآخر البائع أو المؤجر أن يتحلل من ذلك أيضا مقابل تحمل ورد ما يساوي قيمة العربون الذي قبضه فيرد البائع أو المستأجر إلى المشتري أو المؤجر مثل ما قبض أن يرد له عربونه مضاعفا ثمنا لعدوله عن العقد .
أما تحديد دلالة دفع العربون عند التعاقد فهي مسألة تعود إلى اتفاق الطرفين أنفسهما سواء كان تأكيدا للعقد وبدءا في تنفيذ التزاماتهما . أو كان تحديدا لثمن عدول كل منهما عن التزاماته . وسواء كان ذلك الاتفاق صريحا في العقد أو ضمنيا يؤخذ من ظروف ذلك العقد الذي أبرم بينهما (10) أما إذا غم قصد المتعاقدين ولم يتسن لقاضي الموضوع استخلاص تلك النية من نصوص العقد ولا من ظروف التعاقد واستجلاء حقيقة ذلك القصد . فإن المشرع والحالة هذه يقيم في الفقرة الأولى من المادة (92) قرينة على أن قصد المتعاقدين في اشتراط العربون عند إنشاء العقد هي دليل على لزوم العقد وثباتها . وهي قرينة قانونية بسيطة قابلة لإثبات العكس (11) وقد اختار القانون المصري هذه الدلالة الثانية للعربون في حالة عدم استخلاص واستبانة نية المتعاقدين وقصدهما من دفعه .
ننص في المادة 103 مدني على أن
((1- دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك .
2- فإذا عدل من دفع العربون فقده . وإذا عدل من قبضه رد ضعفه . هذا ولو لم يترتب على العدول أي ضرر ))
ويتبين لنا من هذا النص أن دلالة العربون كثمن للعدول غير مأخوذ بها في حالة ثبوت اتجاه المتعاقدين على أنه بدء في التنفيذ . ومن ثم هو تأكيد لإبرام العقد والالتزام بآثاره .
ونتبين منه ثانية أن من يخسر العربون عند عدوله كثمن للعدول هو ليس من قبيل التعويض عن ضرر يلحق الطرف الآخر من جراء هذا العدول . فالنص يفضي بخسارة من يعدل قيمة العربون لمصلحة الطرف الآخر ( ولو لم يترتب على العدول أي ضرر ) . وفي حالة عدم وجود ضرر لا يمكن تسمية المدفوع تعويضا . فخسارة العربون هي في نظير العدول ليس إلا ولا يستدعي استحقاقه إثبات أي حالة وجود ضرر من أثر هذا العدول وليس للطرف الآخر مطالبة دافع العربون بزيادة في حالة إثباته أن العدول قد ألحق به ضررا يفوق قيمة العربون (12) .
وإذا انفسخ العقد لسبب يستحيل فيه التنفيذ لقوة قاهرة أو لحادث فجائي . أو كوارث طبيعية فلا يستلزم هنا التعويض لأنها ظروف لا دخل للملتزم المدين فيها ، فيجب والحالة هذه رد العربون إلى من دفعه .
وتنص الفقرة (2) من المادة (113) القضاء التجاري العراقي على أنه (( يجب على الطرف المتخلف تعويض الطرف الآخر الأضرار التي تزيد على مقدار العربون)) (13)
نرى أن القضاء التجاري هنا يوافق القانون المدني العراقي في حالة تعويض الطرف المتضرر من قبل من عدل عن العقد بأكثر من قيمة العربون . فصار تعويضا لأنه مقابل ضرر . وقد تحدد مدة معينة لمباشرة حق العدول مقابل خسارة العربون .
وإن لم تحدد تلك المدة كان العدول جائزا إلى البدء في تنفيذ العقد فإذا عرض أحدهما الوفاء وقيل للآخر هذا الوفاء كان ذلك تأكيدا لإبرام العقد وزال حق كل منهما في العدول عنه حتى في حالة أن يخسر العربون .
ثم يكون دفع العربون جزءا من إيفاء التزامات من وفاه أي بعد تأكيد قيام العقد نهائيا فتحسب قيمة العربون من هذا الالتزام في تقدير وقوع وفاء كامل من جانبه .
أما إذا اتضح أن قصد المتعاقدين من دفع العربون أنه لبدء التنفيذ . فيكون العقد نهائيا منذ التراضي . ويكون واجب التنفيذ ملزم لجانبيه وفقا للقواعد العامة لأنه تم بإرادتهما المنفردة ورضائهما وقصدهما بدء التنفيذ من دفع العربون (14) .
مقارنة وترجيح الآراء :
يمكن تلخيص آراء فقهاء الشريعة الإسلامية في بيع العربون فيما يأتي :
أولا : فريق يقول ببطلان البيع بالعربون وهم جماعة من فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين لأن فيه قمار وغرر ومخاطرة . وأكل المال بالباطل بغير عوض ولا هبة وذلك باطل بإجماع .
فأبطله مالك والشافعي وأصحاب الرأي أيضا . وهو بيع مفسوخ إذا وقع على وجه أنه إذا ترك ابتياع الساعة أو كراء الدابة فما أعطاه للبائع فهو له بلا شيء سواء كان قبل القبض أو بعده وترد السلعة إن كانت قائمة . فإن فاتت يرد قيمتها يوم القبض (15) .
ثانيا : جواز البيع بالعربون وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل مستندا إلى الخبر المروى عن عمر رضي الله تعالى عنه مضعف الحديث المروي في النهي عنه ومستندا على القياس على ما متفق عليه . وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا . وقال أحمد هذا في معناه . وهو بيع لا بأس به عند الحنابلة لأن النبي أحله واختاره ابن تيمية (16) . وقال به ابن حزم مستندا إلى فعل عمر في قصة ابتياع دار للسجن وغيرها وإلى ما ورد عن التابعين مما سبق ذكره واعتبر كل ذلك إجماعا من الصحابة والتابعين وقد خالفه المانعون إن كان إجماعا وإلا فلا حجة للمانعين في قول لم يأت به نص ولا إجماع (17) .
ثالثا : استند كل من الفريقين على أحاديث ضعيفة السند فما جاء في موطأ مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله (ص) نهى عن بيع العربان . قال فيه أبو عمر : قد تكلم الناس في الثقة عنده في هذا الموضع وما قيل فيه أنه أخذه من ابن لهيعة ومنهم من يضعف حديثه كله بعد احتراق كتبه (18) .
وروي في سنن أبي داود منقطعا لا يحتج به . ورواه ابن ماجه عن رواة فيهم اثنان ضعيفان باتفاق المحدثين . ورواه البيهقي ثم قال وعاصم هذا فيه نظر وحبيب بن أبي ثابت هذا ضعيف وعبد الله بن عامر وابن لهيعة لا يحتج بهما . والأصل في هذا الحديث أنه مرسل مالك . وقال البيهقي كل من أخذ مالك منهم هذا الحديث فيهم ضعف . فالحاصل أن هذا الحديث ضعيف (19) .
وإسناد النهي عن العربون غير متصل لذا صار الخلاف في إبطاله ولم يثبت في النهي عنه شيء (20) .
وكذلك حديث زيد بن أسلم أجازه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال فيه أبو عمرو هذا لا يعرف عن النبي صلى الله عليه واله وسلم من وجه يصح إنما ذكر مرسلا . فهو ليس بحجة .
الرأي الراجح :
بعد هذا العرض السريع لآراء فقهاءنا الأجلاء في البيع بالعربون أرى والله تعالى أعلم ما يلي :
1- إن دفع المشتري مبلغا من النقود إلى البائع قائلا له هذا مقدمة من ثمن هذه السلعة لا تبعها لغيري وسنعقد على بيعها بموعد يحدد . ثم يكون هذا المبلغ المدفوع جزءا من ثمن السلعة ثم يعدل المشتري عن إتمام البيع وشرائها . فالحكم هنا يجب على البائع إعادة المبلغ الذي تسلمه إلى صاحبه المشتري ولا يجوز له أخذه لأنه ليس في مقابل شيء . ويفضل أن يختم عليه قبل تسليمه إلى البائع إن كان مما لا يعرف بعينه للتعرف عليه عند إعادته .
2- في حالة عقد البيع ودفع المشتري إلى البائع جزءا من الثمن على أنه إن رضي السلعة أخذها وأتى له بباقي الثمن مضافا إلى ما قبضه عربونا محتسبا له من الثمن جاز .
وإن عدل المشتري بعد ذلك ووافق البائع على الفسخ مع بقاء العربون له لا يرده أرى والله تعالى أعلم جواز الفسخ أيضا آخذا بنظر الاعتبار أن العربون هو شرط بعوض والعوض هو كما ذكرنا الانتظار مدة معلومة وتوقيف السلعة وتفويت فرصة البيع إلى الغير – مقابل أخذ العربون – وأرى حله وصحته وجواز كل ما ينقطع به السعر أن يدخله شرط فيه منفعة ليس في كتاب الله ولا سنة نبيه ولا إجماع من الأمة أو قول صحابي أو قياس ينص على حرمته وبيع العربون كذلك .
3- بما أن الأدلة متقابلة وكلها ضعيفة من الجانبين للمانعين والمجوزين فإذا هي تتساقط ونرجع إلى عمل الناس به وهم عاكفون عليه على اختلاف أزمانهم وأوطانهم . كما فيه استئناس لضمير المشتري بل حتى ما نعيه هم على عمل به ولم يستغنوا عنه .
ونرى جوازه أن يقيد زمن انتظار البائع بفترة محددة ويحتسب العربون جزءا من ثمن المبيع إذا تم البيع والشراء .
ويكون للبائع أن يأخذه إذا عدل أو نكل المشتري عن الشراء وكذلك في الإجارة لأنها بيع المنافع فتأخذ حكم البيع . والله تعالى أعلم بالصواب .
مناقشة أدلة المانعين :
1- إن من قال ببطلان بيع العربون تصح عنده صورتان متشابهتان له دونه . وهما التقايل بعد تبتات البيع إذ يدفع المشتري في مقابله شيئا . والصورة الثانية يدفع المشتري في عقد من عقود البيع إلى البائع قبل أن يتم درهما ويقول له لا تبع هذه السلعة لغيري . وإن لم أشترها الدرهم يكون لك . أو يشتريها بعقد مبتدأ ويكون بما بقي من ثمنها ويكون الدرهم جزءا من الثمن . أي بأقل من ثمنها الذي اشتراها منه به وقبل المشتري بذلك . فهو بيع جديد بصيغة الوضعية صحيح هنا . فلم صحة هناتين الصورتين وعدم صحة البيع بالعربون عند هؤلاء دونهما ... ؟ فمن حق الإمام أحمد في تصحيحه لبيع العربون قياسا على هاتين الصورتين .
2- عندما يكون للبائع الخيار في أن يعدل عن البيع فيرد العربون ومعه مثله . لأ أظن هناك فرقا بين هذه المسألة . والأخرى التي يدفع فيها المشتري عربونه ثم يتركه إذا كره البيع . وهذا هو الذي قال الإمام أحمد بجوازه . ثم قاس بيع العربون الذي فيه الخيار يكون للمشتري على بتات البيع الذي يتم التقايل بعده الذي يدفع المشتري مقابله شيئا . وأيضا يمكن أن تقاس مسألة بيع العربون الذي فيه الخيار على مسألة من يندم بعد تمام البيع فيدفع للمبتاع شيئا ويتقايل معه . وهي التي جاءت في الموطأ أوردها الإمام مالك .
3- كما نستطيع الرد على حجج من قال ببطلان بيع العربون . أن العربون لم يشترط بغير عوض للبائع . بل العوض هو الانتظار بالبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وفيه تفويت فرصة من البيع للغير لمدة معلومة . كما أن بيع العربون ليس بمنزلة الخيار المجهول فالمشتري يشترط خيار الرجوع في البيع ويذكر فيه مدة معلومة يرجع فيها وإلا انقطع الخيار (21) .
أدلة الترجيح :
بما أنه أثبتنا تقابل الأدلة في ضعفها جميعها من الأحاديث الواردة من قبل المانعين والمجوزين لبيع العربون ومن ثم تساقطها . بقي أن نرجع إلى الدليل العقلي وعمل الناس به .
فقد أثبتنا عقلا أن البيع بشرط العربون فيه فائدة للمشترط خلاف من قال بغير ذلك والفائدة هي . تأكيد العقد ودفع الضرر المتوقع عند عدم التنفيذ ، ومن ثم هو شرط بعوض لا يمكن اعتباره بلا عوض . والعوض هو الانتظار بالبيع وتوقيف السلعة لمدة معلومة على حساب دافع العربون إلى أن يختار ذلك المشترط .
وبالأخص في زماننا المعاصر المقترن بهذه الظروف الاقتصادية المترددة فيها الأسعار بين الارتفاع الفاحش والانخفاض السريع . وكما أن في الانتظار تفويت فرصة البيع إلى الغير . فهو عوض والمدة التي ينتظر فيها معلومة ومبلغ العربون معلوم فهو عوض عن ذلك وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول . إذا المشتري يشترط خيار الرجوع في البيع مع ذكر مدة معلومة يتم الرجوع فيها وإلا انقطع الخيار (22) .
فبما أن الأدلة قد تبين لنا ضعفها وأن البيع بشرط العربون فيه فائدة للمشترط . وهو شرط بعوض وليس هو بمنزلة الخيار المجهول بل هو مقيد بمدة معلومة فقد رجحنا الجواز بفضل ما أوردناه من هذه الأدلة العقلية .
ويصح بيع العربون وإجارته إن قيد بزمن . وإلا فإلى متى ينتظر البائع ؟ وليس للبائع أو المؤجر إلزام المشتري أو المستأجر ببقية الثمن أو الأجرة .
قال مؤلف غاية المنتهى حرم تعاطي عقود فاسدة والناس واقعون في ذلك (23) وقال منصور بن يونس ابن إدريس . وإن دفع المشتري الدرهم قبل البيع أو الإجارة وقال لا تبع هذه السلعة لغيري أو لا تؤجرها . وإن لم اشترها أو أستأجرها فالدرهم لك . ثم اشتراها أو استأجرها منه صح وحسب الدرهم من الثمن أو الأجرة (24) .
ولا يصح كل بيع علق على شرط مستقبل الأقول إنشاء الله وغير بيع العربون وهو أن يدفع بعد العقد شيئا من الثمن ويقول إن أخذت السلعة أتممت ثمنها وإلا فما دفعته لك .... . والمدفوع للبائع إن لم يتم البيع أو الإجارة كذلك (25) .
والصواب المقطوع به هو عمل الناس في كل عصر ومصر تسهيلا في المعاملات وضمان الحصول على السلعة وجواز البيع حيث ينقطع السعر به . وهو منصوص الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه واختاره ابن تيمية . قال هو أطيب لقلب المشتري من المساومة . يقول لي أسوة بالناس آخذ لما يأخذ به غيري . قال والذين يمنعون ذلك وينهون عنه لا يمكنهم تركه والاستغناء عنه بل هم واقعون فيه . وليس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه واله وسلم ولا إجماع الأمة الإسلامية ولا قول لصحابي ولا قياس صحيح ما يحرمه (26) .
وأما عند المحقق الحلي فيجوز أن يشترط كل ما هو سائر وداخل تحت قدرته سواء كان المشترط أو المشترط عليه كقصارة الثوب وخياطته . وكل ما لم يكن مؤديا إلى جهالة المبيع أو جهالة ثمنه أو لم يكن مخالف لكتاب الله أو سنة نبيه ولو شرط عند البيع أن يضمن بعض الثمن أو كله صح ذلك البيع والشرط (27) .
__________
1- الوجيز في العقود المسماة : الأستاذ عني حسون طه ، منشأة المعارف – الإسكندرية ، ط1/1968م ، 1/157 ، ينظر : الوسيط في شرح القانون المدني : الأستاذ عبد الرزاق السنهوري ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت – لبنان ، 1973م ، 4/86-87 .
2- شرح القانون المدني العراقي العقود المسماة ، مصدر سابق ، ص 353 وما بعدها .
3- الوجيز في العقود المسماة ، عقد البيع ، مصدر سابق ، 1/157 .
4- القضاء التجاري العراقي : الأستاذ سلمان بيات ، شركة النشر للطباعة العراقية المحدودة ، 1953م ، 1/116 .
5- الوجيز ، العقود المسماة ، مصدر سابق ، 1/152 ، ينظر : مبادئ القانون : الأستاذ شمس الدين الوكيل ، منشأة المعارف – الإسكندرية ، ط1/1968م ، ص 458 .
6- شرح القانون المدني العراقي : الأستاذ حسن ذنون ، مطبعة الرابطة – بغداد ، العقود المسماة عقد البيع ، ص352 ، ينظر : مصادر الحق في الفقه الإسلامي : الأستاذ عبد الرزاق السنهوري مطابع دار المعارف – مصر ، 1967م ، 2/88 .
7- الوجيز ، العقود المسماة مصدر سابق ، عقد البيع ، 1/158-159 .
8- جميل شرقاوي : النظرية العامة للالتزام ، القاهرة ، دار النهضة العربية ، 1974 ، الكتاب الأول مصادر الالتزام ص302 وما بعدها .
9- الوجيز في العقود المسماة مصدر سابق ، عقد البيع ، 1/152 .
10- النظرية العامة للالتزام مصدر سابق ، مصادر الالتزام ، الكتاب الأول ، ص302-303.
11- الوجيز في العقود المسماة ، 1/152-153 ، ينظر : ص 20 من بحثنا هذا .
12- النظرية العامة للالتزام ، مصدر سابق ، مصادر الالتزام ، الكتاب الأول ، ص304-305 ، ينظر : مصادر الحق في الفقه الإسلامية 2/89 .
13 - القضاء التجاري العراقي ، مصدر سابق ، 1/113-116 .
14 - النظرية العامة للالتزام ، مصدر سابق ، مصادر الالتزام ، 1/305 ، ينظر : السنهوري : مصادر الحق في الفقه الإسلامي ، مصدر سابق ، 2/90 .
15- الجامع لأحكام القرآن : أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( ت 671هـ ) ، مصورة عن طبعة دار الكتاب العربي – القاهرة مصر ، 1967م ، 5/150 ، ينظر : المجموع شرح المهذب : محي الدين بن شرف النووي ( ت 676هـ ) ، مطبعة التضامن الأخوي – مصر ، 9/335 ، ابن هبيرة الحنبلي : كتاب الإفصاح عن معاني الصحاح ، 1/361 .
-16 المقنع في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني : ابن قدامة موفق الدين عبد الله بن أحمد المقدسي ( ت 625هـ ) ، المطبعة السلفية ومكتبتها – قطر ، 2/31 . ينظر : المؤلف نفسه : المغني : ابن قدامة أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد ( ت 625هـ ) ، مطابع سجل العرب – القاهرة ، 1969م ، 4/175 ، أعلام الموقعين : ابن القيم الجوزية شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ( ت 751هـ ) ، دار الجيل – بيروت لبنان ، 3/6 .
17- المحلى : ابن حزم علي بن أحمد بن سعيد ( ت 456هـ ) ، طبعة مصححة مقابلة على نسخة حفظها الشيخ أحمد محمد شاكر ، المكتب التجاري للطباعة - بيروت ، 8/375 .
18 - القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، مصدر سابق ، 5/150 .
19- النووي : المجموع ، شرح المهذب ، مصدر سابق ، 9/334 .
20 - الشرواني والعبادي : حواش الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج ، حياة مؤلفه 958هـ ، 4/322 .
21 - السنهوري : مصادر الحق في الفقه الإسلامي ، مصدر سابق ، 2/95-96 .
22 - ينظر : السنهوري ، الدكتور عبد الرزاق : مصادر الحق في الفقه الإسلامي ، مصدر سابق ، 2/95 .
23- غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى : الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي ( ت 1033هـ ) ، مطبعة مؤسسة دار السلام للطباعة والنشر – دمشق ، 1378هـ ، 2/26 .
24 - كشاف القناع عن متن الإقناع : منصور بن يونس بن إدريس البهوتي ( ت 1501هـ ) ، مكتبة النصر الحديثة – الرياض ، 3/195 ، ينظر : الزحيلي : وهبة الفقه الإسلامي وأدلته ، دار الفكر ، دمشق سوريا معدلة ، 1979م ، ط2 ، 5/3501 ، الشيخ السيد سابق : فقه السنة ، دار الفكر للطباعة ، بيروت لبنان ، 1406هـ-1986م ، ط4 ، المجلد الثالث ص 156 .
25 - الروض المربع بشرح زاد المستنقع مختصر المقنع : منصور بن يونس بن إدريس البهوتي ( ت 1501هـ ) ، مطبعة ولاية سورية – دمشق ، 1305هـ ، ص 179 ، ينظر : تاج العروس من جواهر القاموس : محمد مرتضى الحسيني الزيدي ( ت 1094هـ-1791م ) ، تحقيق :عبد الكريم العزباوي ، المطبعة الخيرية ، 1988م ، 3/351 .
26 - أعلام الموقعين : ابن القيم الجوزية شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ( ت 751هـ ) ، دار الجيل – بيروت لبنان ، 3/6 .
27- المحقق الحلي : شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام : أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي ( ت 676هـ ) ، مطبعة الآداب – النجف الأشرف ، 1398هـ-1969م، ص 33-34 .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|