المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16337 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
لا عبادة كل تفكر
2024-04-27
معنى التدليس
2024-04-27
معنى زحزحه
2024-04-27
شر البخل
2024-04-27
الاختيار الإلهي في اقتران فاطمة بعلي (عليهما السلام)
2024-04-27
دروس من مدير ناجح
2024-04-27

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


قصة سليمان  
  
1950   06:38 مساءاً   التاريخ: 2-06-2015
المؤلف : د. محمود البُستانِي
الكتاب أو المصدر : دراسات فنية في قصص القران
الجزء والصفحة : ص515-538
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / قصص الأنبياء / قصة النبي سليمان وقومه /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-10-2014 1379
التاريخ: 31-3-2016 1721
التاريخ: 10-10-2014 1321
التاريخ: 10-10-2014 1646

تتضمن اقصوصة سليمان ـ عليه السلام ـ [في سورة سبأ] رسما لظواهر اعجازية على نحو ما لحظناه في أقصوصة داود عليه السلام.

انها تعد امتدادا للأقصوصة السابقة من حيث [الهدف الفكري] لأقاصيص السورة بأكملها ، ومن حيث رسمها لتفصيلات تحوم على الهدف المذكور ، لكنها في نطاق متميز يختلف من أقصوصة لأخرى.

ففي أقصوصة (سبأ) ـ وهي ثالثة الاقاصيص من حيث التسلسل ـ لحظنا ان (الهدف) كان حائما على (نعم) السماء على السبأيين ، ومطالبتهم بالشكر : لكنهم تمردوا على العطاءات المذكورة.

وفي أقصوصة داود ، لحظنا ان الهدف كان حائما على (الفضل) أيضا ، ومطالبة (الآخرين) بان يعملوا صالحا ، شكرا على نعم السماء.

وفي أقصوصة سليمان ـ عليه السلام ـ فيما نحن الآن في صددها ، يظل الرسم بدوره حائما على (النعم) والمطالبة (بالشكر) عليها.

إذن : الأقاصيص بأكملها تحوم على هدف واحد ، ومطالبة واحدة. لكنها تتمايز فيما بينها بالتفصيل في رسم النعم ، وبالاستجابة التي يختلف فيها قوم عن آخرين حيال النعم.

ولكن ، لنقرأ أولا نصوص الأقصوصة ، لنصل بعدها بينها وبين الأقصوصتين سبأ وداود :

{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } [سبأ : 12 - 14]

تبدأ الأقصوصة ـ كما لحظنا ـ برسم (الفضل) الذي اغدقته السماء على سليمان ، بعد داود.

لقد كانت (الجبال) و(الطير) ظاهرتين إعجازيتين سخرتهما السماء لداود.

وكانت الظاهرة الثالثة هي : إلانة الحديد لداود ـ عليه السلام ـ بصفته ـ أي الحديد ـ مادة لعمل صناعي.

وحين نتجه لسليمان ـ عليه السلام ـ نجد أيضا ، تسخير السماء ظاهرتين اعجازيتين هما : الريح ، والجن. ونجد أيضا ظاهرة ثالثة تشكل مظهرا لعمل صناعي بدوره هو : عمل المحاريب والتماثيل الجفان والقدور.

إذن : في الأقصوصتين داود وسليمان نلحظ مبنى هندسيا بالغ الجمال والإثارة من حيث وحدة الظاهرة الاعجازية ومفرداتها : من حيث : توازن هذه المفردات وتماثلها عددا وشكلا :

ففي كل أقصوصة ظاهرتان تنتسبان إلى المعجز أولا.

في أقصوصة داود ـ عليه السلام ـ : جبال وطير. وفي أقصوصة سليمان ـ عليه السلام ـ ريح ، وجن.ثانيا :

في أقصوصة داود ـ عليه السلام ـ : تسخير للظاهرتين المذكورتين. وفي أقصوصة سليمان ـ عليه السلام ـ تسخير لهما أيضا. 

ثالثا :

في أقصوصة داود نمطان من القوى المسخرة : جماد وحيوان.

في أقصوصة سليمان نمطان أيضا من القوى المسخرة : جماد أيضا ، وقوة أخرى هي : الجن ، فيما كانت القوة الأخرى هي (الطير) في أقصوصة داود. 

رابعا :

القوتان المسخرتان في الأقصوصتين ، تمتلك احداهما (وعيا) ـ حسب الإدراك المألوف للوعي من حيث الاستجابة البشرية العادية ـ هما : (الطير) في أقصوصة داود ، و(الجن)

في أقصوصة سليمان ـ عليه السلام ـ وتفتقد الأخرى (الوعي) ، وهما : (الجبال) في قصة داود عليه السلام ، و(الريح) في قصة سليمان عليه السلام. 

خامسا :

الأقصوصتان ، تنطويان على ظاهرة ثالثة هي : ممارسة عمل صناعي : صناعة الدروع في أقصوصة داود وصناعة المحاريب والتماثيل والجفان والقدور في أقصوصة سليمان. سادسا :

الأقصوصتان ترسمان شخصيات تنتسب إلى النبوة : داود وسليمان.

هذه الخصائص الجمالية الست ، تضاف إليها خصائص جمالية أخرى عندما نتابع تفصيلات القصة.

لكن ، حسبنا ان نشير إلى هذه السمات الفنية ، بالغة الدهشة والاثارة والجمال من حيث البناء الهندسي المتقن الذي يقابل ويوازن ويوازي ويماثل بين خطوط الرسم على النسق الهندسي المذكور ، فيما ينبغي أن نقف عنده مليا : بغية ان نتذوق جمالية البناء المحكم للأقصوصتين ، وصلة احداهما بالأخرى : فكريا وفنيا على النحو الذي لحظناه.

والآن حين ندع الإمتاع الفني الكبير الذي لحظناه في الأقصوصتين ، ونتجه إلى الأقصوصة سليمان بمفردها بغض النظر بأقصوصة داود [ولنا عودة إلى التواشج الفني بينهما لاحقا] ، أقول : حين نتجه إلى أقصوصة سليمان ، ونتابع الأجزاء اللاحقة منها ، حينئذ نلحظ أن الأقصوصة تنتهي حياة سليمان بعد أن ترسم نهاية خاصة لحياته التي سبقتها تلك التفصيلات المدهشة عن الريح وأسفارها ، وعن الجن وأعمالهم.

هذه الحياة الدهشة ، ترسمها الأقصوصة عبر خاتمة مدهشة أيضا تتفاوت النصوص المفسرة في تفصيلاتها كما سنرى. كما انها تصل بين هذه الخاتمة وبين استجابة إحدى القوى المسخرة لسليمان عليه السلام ، ونعني بها : (الجن) ، حيال الخاتمة المذكورة.

ولا يغب عن بالنا أيضا ، أن الأقصوصة تطرح خلال رسمها للفضل أو النعم التي اغدقتها السماء على سليمان عليه السلام ،… ترسم لنا هذه الفقرة :

{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ : 13]

فيما ينبغي ان نقف أيضا عند هذه الفقرة لنصل ـ من جديد ـ بينها وبين أقصوصة داود ـ عليه السلام ـ من جانب. وبينها بين أقصوصة سبأ من جانب ثان. وبين الأقاصيص الثلاث من جانب ثالث.

كل ذلك ينبغي ان نقف عنده : من حيث الخصائص الفنية والفكرية لأقصوصة سليمان ـ عليه السلام ـ وحدها ، ثم صلتها بالاقاصيص الأخرى.

لكننا قبل ذلك ينبغي ان نشير إلى ان [الهدف الفكري] العام ، يظل في الاقاصيص هو رسم (الفضل) أو النعم.

ثم تجيء المطالبة بـ(الشكر) رسما آخر في هذه الاقاصيص.

وأخيرا : يجيء رسم الاستجابة لهذا الشكر متنوعا فيما يجعلها في ثالثة الاقاصيص [أي قصة سبأ] استجابة سلبية هي كفران السبأيين بـ(النعم) ، بينما يطالب بها فحسب في قصة سليمان … ، مع ملاحظة ان النص اكتفى بفقرة (اعملوا صالحا) في أقصوصة داود ـ عليه السلام ـ : كل ذلك يظل متصلا بالبناء الهندسي للاقاصيص كما سنرى ، بعد ان لحظنا جانبا من البناء الهندسي لها فيما يتصل بقصتي داود وسليمان.

تبدأ قصة سليمان ـ كما أشرنا ـ برسم ظاهرتين معجزتين ، سخرتهما السماء لسليمان :

{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [سبأ : 12]

وتقول النصوص المفسرة ان هذا التسخير يتمثل في قطع سليمان ـ عليه السلام ـ مسافة شهر بنصف نهار غدوا ، ومسيرة شهر بالنصف الآخر من النهار رواحا : من (دمشق) (لأصفهان) ، ومنها إلى (كابل).

وينبغي ألا نمر عابرا على عملية (التسخير) هذه : جماليا وفكريا. فالقضية تتصل (برحلة) و(بزمان) و(مكان) تشيع لدى المتأمل إمتاعا نفسيا كبيرا من حيث تصوره لحركة (الريح) وطريقة حملها لسليمان وجنوده ، وطبيعة ركوبه في (الجو) ، وما يواكب هذه الطبيعة من (تكيف) خاص لا يمكننا ان نتخيله بادواتنا الفكرية الحديثة بما تملكه من معلومات عن عملية (التكيف)… كل ذلك يشيع إمتاعا كبيرا حينما ينسج كل منا لتصوراته شكلا أو آخر بحسب خبراتنا المختلفة من متلق لملتق سواه ،… وهكذا.

ومع أننا سنتحدث عن طبيعة ركوب الريح في حقل آخر من هذه الدراسة عندما يفرض السياق ذلك ، إلا أننا هنا حسبنا ان نشير ـ وفقا لمنطق النص القصصي نفسه ـ حينما يكتفي بعملية (التسخير) للريح ، دون أن يفصل في ذلك ،… ان نشير إلى التصور (المجمل) لهذه العملية : ما دام النص القصصي قد أجمل ذلك أيضا… متمثلا في مجرد التخيل للركوب في الجو من خلال واسطة نقلية هي : (الريح) ، عبر مسافة زمنية تساوي نسبة واحد إلى ستين ، أي : تختصر الشهرين بيوم واحد فحسب. وهذا يعني أن تخيلاتنا الجمالية ينبغي أن نحصرها في رسم الذهن لنمط (السرعة) الزمنية التي تقطعها الريح ، وهو رسم يفجر لدى الذهن إمتاعا ودهشة في آن واحد حينما ينحسر الذهن عن تصور محدد تجريبا… وهذا بمفرده كاف في إثراء الذهن وإمتاعه.

التسخير الثاني ، فيما هيأته السماء لسليمان ـ عليه السلام ـ هو :

{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ : 12]

وهذا يعني ان السماء أسالت له عين [النحاس ـ الصفر] ، لأغراض نسج النص صمتا حيالها.

غير أن تهيئتها بهذا النحو [وتقول النصوص المفسرة أن (الصفر) سال ثلاثة أيام مثل المياه] يعني انها تماثل ما لحظناه في قصة داود ـ عليه السلام ـ من إلانة الحديد : مع ملاحظة أن الصمت حيال النحاس قبال الحديد الذي أشار النص إلى معطياته الصناعية المحددة في عمل الدروع ، يظل مماثلا للصمت الذي نسجه النص حول (الريح) مكتفيا بمعطاها العام دون الدخول في التفاصيل.

وفي الحالين يبدو ان الهدف فنيا هو : التشدد في التفصيلات على جانب دون آخر حسب ما يستدعيه السياق في أقاصيص سليمان ـ عليه السلام ـ حيث صيغت في أكثر من سورة وأكثر من سياق : وقفنا على بعضها ، وسنقف على البعض الآخر منها في سورة لاحقة.

من هنا ، بمقدورنا أن نقصر عملية التصور للنحاس واسالته على ارتباطها بالإنة الحديد لداود ـ عليه السلام ـ من حيث ان كلتيهما : الإلانة للحديد ، والإسالة للنحاس ، تتصلان بالبيئة الصناعية التي رسم النص معطاها العبادي في أقصوصة داود ـ عليه السلام ـ : طالما يظل (العمل) جزء من الممارسة العبادية التي وظف الإنسان من أجلها ، وسخرت له هذه (المعاد) ليفيد منها في رحلته (الخلافية) على الأرض.

ان من خصائص الصياغة الجمالية للأقصوصة ، أنها (تجانس) بين مفردات وردت في قصة داود ـ عليه السلام ـ ومفردات وردت في قصة سليمان ـ عليه السلام ـ : بعضها محدد المعالم ، والآخر : موشى بالتخيل الذي يستدعي بعض الاعمال في الذهن بحيث يتداعى ذهن المتلقي من [اسالة النحاس] وهو معدن تحول (مياها) ، إلى [الإنة الحديد] في أقصوصة أخرى ، وهو معدن أيضا ، تحول بدوره [مادة لينة].

والمعطى الفني لهذه العملية ، يتمثل أولا في التركيز أو الاقتصاد في (السرد) ، وثانيا في العملية النفسية المعروفة [ونعني بها : التداعي الذهني] وثالثا في التماثل بين المعادن من جانب ، وبين تحولاتها إلى سائل ولين من جانب آخر.

كل أولئك يشكل مادة للإمتاع الفني والفكري ، ينبغي ألا يغيب عن بالنا عبر عملية التذوق لهذه الأقصوصة.

التسخير الثالث الذي هيأته السماء لسليمان عليه السلام ، يتمثل في ظاهرة (الجن).

وإذا كان النص القصصي قد نسج صمتا حول (الريح) و(القطر) من حيث التفاصيل ، فانه على العكس من ذلك ، رسم بعض التفصيلات فيما يتصل بشخوص (الجن) وممارساتهم.

وفي نصوص قصصية أخرى عن سليمان وتسخير الجن ، تتناول تفصيلات [وقفنا على بعضها] حيث استدعاها سياق خاص.

أما هنا ـ في سورة سبأ ـ فإن سياقا آخر ، يستدعي الدخول في تفصيلات لم تسرد في القصص الأخرى ، وهو ما نبدأ الآن بدراسته.

لقد بدأ رسم شخوص (الجن) وتوظيفهم لإنارة شخصية سليمان ، على النحو التالي :

{ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } [سبأ : 12]

وأول ما يلفت انتباهنا في هذه الشريحة من القصة ، أنها تحدثت بلغة (متوعدة) في عملية (التسخير). إنها هددت شخوص الجن بانزال العذاب عليهم في حالة تمردهم أو تلكؤهم في إطاعة سليمان عليه السلام ، في حين ان النص في أقصوصة داود رسم شخوص (الطير) مثلا ، دون أن يرافق ذلك أي توعد.

طبيعي ، ثمة فارق بين شخوص (الطير) وشخوص (الجن) ، بصفة ان (الطير) لم تمارس من الوظائف العبادية ما تمارسه شخوص (الجن) : ليس من حيث نمط (الوعي) الذي يغلف شخوص الطير وافتراقه [من حيث الفاعلية] عن (الوعي) الذي يغلف شخوص الجن فحسب ،… بل من حيث ضخامة المهمات التي يضطلع بها (الجن) بحكم فاعلياتهم المتعددة وادراكهم للوظيفة العبادية على النحو الذي تتحدث عنه نصوص قرآنية كريمة ونصوص الحديث… ، وهو أمر خارج عن نطاق هذا الحقل الذي نخصصه لدراسة أقصوصة سليمان فحسب…

المهم ، أن التساؤل يظل حائما على استخلاص الدلالة (الفنية) لهذا الرسم القصصي الذي بدأ أولا بالإشارة إلى ان السماء سخرت :

{ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [سبأ : 12]

ثم التوعد :

{وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ : 12]

ان أي تذوق فني للأقصوصة ، يتطلب طرح مثل هذا التساؤل ، ثم استخلاص الدلالة الفنية له.

ترى : ما هي الدلالة الفنية لهذه (البداية) الآمرة بان تعمل شخوص (الجن) بين يدي سليمان ، وإلا فانها معرضة للعقاب؟؟

حين نحاول استخلاص السر الفني وراء تسخير (الجن) لسليمان ـ عليه السلام ـ وتوعدهم بالعقاب : خلافا لأشكال التسخير الأخرى ، يمكننا ان نصله أولا بما يلقيه من إنارة على الأجزاء اللاحقة من القصة : فيما يتصل بطبيعة ممارساتهم ، وبنمط استجابتهم حيال موت سليمان ، وثانيا بما يتصل بطبيعة تركيبتهم أساسا.

فمن الواضح ، أن نمطا يتحرك في نطاق رئيسهم : ابليس. وحينئذ فان (التوعد) يبقى مسوغا بينا لقطع أية محاولة للتمرد.

النصوص المفسرة تتفاوت في تحديد العقاب المتوعد عليه ، إذ أن بعضها يحدده في العقاب الاخروي ، والبعض الآخر يحدده في العقاب الدنيوي : متمثلا في توكيل من يلوح حيالهم بسوط من نار.

وأيا كان الأمر ، فان التوعد يأخذ فاعليته الشديدة دون أدنى شك ، مما يعكس تأثيره على أحداث القصة. وهي أحداث لم تنحصر [كما هو الأمر في قصة داود] في ممارسة عمل واحد ، أو عمل عبادي لا يتطلب الجهد الجسمي مثلا ، بل تجاوزت ذلك إلى جملة أعمال هي : المحاريب ، والتماثيل ، والجفان ، والقدور.

يضاف إلى ذلك ان نمط استجابتهم حيال موت سليمان ـ عليه السلام ـ (تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين).

هذه الاستجابة ، تعزز مدى الحجم الكبير أو مدى الجهد الذي كانوا يتحسسونه في ممارسة الأعمال ، بحيث اكتسب سمة (العذاب المهين) ، أي : التكليف الشاق.

المهم ، أن طبيعة تركيبتهم التي يمكن من خلالها أن يطيعوا أو ان يتمردوا ،… يفسر لنا ـ فنيا ـ مسوغات اللغة المتوعدة التي صاغتها السماء حيالهم.

يجيء القسم الجديد من قصة سليمان ـ عليه السلام ـ متصلا بالأعمال التي عهد شخوص (الجن) ، القيام بها ، وهي :

المحاريب ، والتماثيل والجفان والقدور.

ويلاحظ : ان هذه البيئة الصناعية التي تتحرك الأقصوصة فيها قد صيغت ، بعد أن تقدم في القصة جزء منها حدثنا عن المظهر الصناعي العام المتصل بإسالة [القطر ـ الصفر النحاس]. أي : ان البيئة الصناعية للأقصوصة تقدمت أولا برسم (المواد) متمثلا في أحد اشكالها (القطر) ، ثم : تقدمت برسم (الأعمال) متمثلة في المحاريب والتماثيل…الخ.

والسؤال هو : أن أقصوصة داود ـ عليه السلام ـ رسمت إلانة الحديد ، ثم صناعته دروعا. في حين ان أقصوصة سليمان رسمت إسالة النحاس ، ثم : صناعة المحاريب والتماثيل والجفان والقدور : مع ملاحظة أن قسما من هذه الصناعات لم يتوقف على الإسالة المذكورة للقطر ، في حين كانت صناعة الدرع متوقفة على الحديد كما هو واضح.

ان الإجابة على هذا السؤال ، تتضح تماما حين نضع في الاعتبار ان التناسق الهندسي بين تسخير نمطين من المعادن [الحديد والقطر] [الإنة وإسالة] لشخصين نبيين [داود وسليمان] يتأصران نسبيا [أبا وإبنا] : هذا التوازي أو التناسق يظل في اطاره المتقدم ، مشكلا ـ من حيث التسخير والمادة ـ أحد أوجه البناء الجمالي الذي لحظنا خطوطا ستة أو أكثر من خلاله : وكلها قد رسمت متوازية متناسقة متوازية تتناسب جماليا حتى مع رسم (الأبطال) الذين تقابلوا نسبيا : أبا وإبنا.

أما بيئة العمل الصناعي ، فإن الأقصوصة تستهدف من رسمها ـ مضافا إلى صلة بعض المواد ببعض مظاهر عملها ـ تستهدف صلة ذلك ، بالشخوص المسخرة من جانب ، والشخوص المسخر لها من جانب ثان ، مضافا إلى رسم بعض أنماط العمل الصناعي الجديد. وهو أمر نلحظه بوضوح في رسم شخوص مسخرة هي (الجن) ، ومسخر له هو (سليمان) وأعمال صناعية هي : المحاريب والتماثيل والجفان والقدور ، مما يعني أن عالم الأقصوصة قد أخضع (لتنوع) و(وحدة) في أبنيتها الجمالية : كانت من الغنى بنحو ما فصلنا الحديث عنه.

المهم : أننا حيال أعمال صناعية ، يحسن ان نقف عندها من حيث صلتها بحاجات الإنسان أو إشباع دوافعه الرئيسة والثانوية وصلة ذلك بالمهمة العبادية ، وبالشكر ، وبالمصير الدنيوي للشخوص.

ان الأعمال الصناعية الأربعة قد رسمت في سياق المهمة العبادية المتصلة بالعمل. ففي أقصوصة داود ـ عليه السلام ـ مثلا ، لحظنا صلة العمل اليدوي [صناعة الدرع] بالأرزاق وأهميتها حينما تنبع من جهود الفرد نفسه وليس من جهود غيره أو من انتفاء الجهد المتمثل في الأخذ من بيت المال مثلا.

هنا في أقصوصة سليمان ـ عليه السلام ـ لم ترسم المهارات المذكورة في سياق الرزق ، بقدر ما رسمت في سياق آخر من العمل : فالمحاريب ـ على سبيل المثال ـ واضحة الصلة بالمناخ العبادي الخاص [الصلاة ونحوها].

وتقول النصوص المفسرة ، أن بناء بيت المقدس كان واحدا من الأعمال التي توفر عليها في هذا الصدد : فيما بدأه داود ـ عليه السلام ـ أولا وأتمه سليمان ـ عليه السلام ـ بعد ذلك وفق تفصيلات تذكرها النصوص المفسرة ، لا حاجة إلى عرضها الآن : إنما يعنينا منها أن [البعد الجمالي] المتمثل في عمارية المسجد ، يظل عنصرا بينا في العمل المذكور.

ومما لا شك فيه ، ان [الحاجات الجمالية] تظل في تركيبة الآدميين جزء من حاجاتها أو دوافعها الحيوية والنفسية من نحو : المشاهد الطبيعية ، وأنساق الأبنية المختلفة ونحوها.

والملاحظ أن النص القصصي قد شدد على إبراز هذا الجانب من الحاجات أو الدوافع البشرية ـ كما لحظنا في رسمه للمزرعتين اللتين احتلتا موقعا جماليا في مدينة سبأ. ومثلما نلحظ النصوص المفسرة التي تفصل معالم البناء الهندسي للمسجد. ومثلما سنلحظ رسم الأقصوصة للتماثيل ـ فيما تشكل هذه الأخيرة ـ أي التماثيل [فن النحت] ـ وفق التصور الإسلامي لهذا الفن الذي يحصره في نحت أو تصوير غير ذوات الروح [إنسانا أو حيوانا] بل النحت المتصل بالنبات أو الجماد ،… هذه جميعا ـ كما هو واضح ـ تشكل عناية بإشباع [الحاسة الجمالية] عند الآدميين.

انه من الممكن ان يثار السؤال عن الدوافع (الجمالية) في تركيبة الآدميين ، ومدى خطورة اشباعها أو عدم ذلك. فالنحت ، أو المزرعة [وهما نمطان من الأشكال الجميلة] مصطنع وطبيعي ، من الممكن إلا يحتل نفس الإلحاح الذي يسم الدوافع الحيوية الأخرى : كالطعام أو الجنس ونحوهما. بيد ان هذا لا يعني ان اشباع الحاجات الجمالية لا يحتل موقعا له خطورته ، وبخاصة ان هذا الإشباع يرد في سياق سرد (النعم) التي تغدقها السماء على الآدميين : على نحو تشبع من خلاله حتى الحاجات غير المتسمة بما هو ملح وضروري.

أكثر من ذلك : فإن (المحاريب) أيضا ، بل و(الجفان) أي : الصحون ، و(القدور) على نحو ما سنلحظه ، يظل رسمها في سياق الحاجات الجمالية ، متسما بالطابع ذاته ، مما يعني ـ مضافا إلى عنصرها الجمالي الصرف ـ انها ذات تأثير في تعميق الاستجابة الخيرة لدى الآدميين حيال (موضوعات) فكرية أو حيوية مثل : العبادة والطعام ، فيما يرتبط ـ مثلا ـ نمط الطعام بنمط الطريقة التي يوضع فيها ، أو يصنع فيها [الجفان والقدور] ، وفيما يرتبط نمط العبادة بنمط المحاريب التي تتم فيها.

أما التماثيل فانها تظل مستقلة من حيث بعدها الجمالي ، كما سنوضح ذلك.

قلنا ، ان إشباع [الحاسة الجمالية] تظل واحدا من القيم التي نلحظها في أقصوصة سليمان عليه السلام.

فالنحت فن جميل يشبع الحاسة المذكورة عند الشخصية ، بما يحمله من دلالات متنوعة تفرزها أشكاله وخطوطه وتجسيماته بعامة.

بيد ان الملاحظ أن (النحت) الذي يشبع الحاسة الجمالية ، ليس هو النحت المتصل برسم الكائن الآدمي أو الحيواني اللذين يحملان روحا ووعيا بل النحت المتصل بمحاكاة الظواهر الطبيعية.

ومن هنا ، فان الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ أوضح بان (التماثيل) التي ورد ذكرها في أقصوصة سليمان ـ عليه السلام ـ انما هي تماثيل (الشجر) ونحوه ، وليست تماثيل الآدميين.

والحق أننا لسنا في صدد توضيح المسوغات الفنية والنفسية التي تنطوي عليه عملية (النحت) لذوي (الأرواح) من العضوية الإنسانية والحيوانية : فقد أوضحناها مفصلا في دراساتنا عن الأدب والفن الإسلاميين على نحو يدرك الفنان أو المتذوق سر الحظر الذي جعله المشرع الإسلامي على (النحت) للكائنات الآدمية والحيوانية… إنما يعنينا الآن أن نتبين موقع (التماثيل) في هذه الأقصوصة ، من إشباع الحاسة الجمالية ، وموقعها من البناء الفني للأقاصيص التي تضمنتها سورة سبأ : حيث أوضحنا ان رسم المزرعتين في مدينة سبأ (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية ، جنتان عن يمين وشمال) ، رسم هاتين المزرعتين إنما تم بنحو تبرز من خلاله ملامح البعد الجمالي للمزرعتين من حيث كونهما تقعان على يمين المدينة وشمالها.

والأمر ذاته فيما يتصل (بالتماثيل).

فالملاحظ [ونحن في صدد توضيح البناء الهندسي للأقاصيص] أن إشباع الحس الجمالي في أقصوصة سبأ قد تم من خلال مرائي الطبيعة الجميلة (المزارع).

أما هنا في أقصوصة سليمان عليه السلام ، فان إشباع الحس الجمالي ، قد تم من خلال (محاكاة) المشاهد الطبيعية ، وليس : المشاهد نفسها. فيما لحظنا ان الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ أوضح ان هذه التماثيل التي عملها شخوص (الجن) إنما هي تماثيل (الشجر) وليست تماثيل الآدميين.

ويهمنا من هذا ، أن نحدد التوازن الهندسي المتمثل في :

المشاهد الطبيعية أولا تقابلها المشاهد المصطنعة ثانيا ، ان كلتيهما المشاهد ـ (الطبيعية) و(المصطنعة) ـ ، تشبع نمطا خاصا من الإشباع الجمالي.

فمن الواضح [في حقل التذوق للجميل] أن علماء الجمال ونقاد الفن ، يفرزون بين نمطين من التذوق لما هو جميل من الظواهر أو المرائي.

الأول منهما : يتمثل في تذوق الطبيعة الحية التي ينطوي عليها (الجميل) من : شجر أو نهر أو…الخ.

الثاني منها : يتمثل في عملية (المحاكاة) أو تقليد الطبيعة ، ومنه (النحت) وسائر الفنون تجسيمية كانت أم لفظية مثل : الشعر والقصة ونحوهما ، فيما تحاكي وتقلد ما هو طبيعي من المشاهد.

أما النمط الأول ، فان مهماته الجمالية ، تتمثل في الإشباع الحسي المباشر ، لما تنطوي عليه المشاهد من (ملامح) و(أبعاد) جميلة.

أما النمط الثاني [وهي : الفنون] ، فانها تشبع نمطا آخر من الحاسة الجمالية ، متمثلا في : نقلها إلى تجربة تذوقية جديدة يخلع الفنان عليها إضاءات وإضافات جديدة : ليست منسوخة عن (الطبيعة) نسخا مباشرا بل غير مباشر : بحيث يبرز (دلالات) وأفكارا) ثانوية عليها تتسق مع ثقافة الفنان وخبراته في الحياة ، مثلما تتسق مع ثقافة المتلقي أيضا وخبراته في هذا الصدد.

وبكلمة جديدة : ان الفنان يقدم (كشفا) للواقع ، وليس نسخا للواقع. وحتى مع افتراض (النسخ) الصرف أو التقليد المباشر ، فان (التقليد) نفسه ينطوي على إمتاع جمالي : بصفته (نقلا) لواقع قد شوهد سابقا : ثم (نقل) إلى شكل) يشابه الواقع السابق.

وواضح [في ميدان العمليات النفسية] ان (نقل) الواقع وإكسابه حركة جديدة ، يستشير (المتلقي) ، وينقله إلى استجابة حيوية ، وتجربة جديدة تزيده (غنى) وثراء : على نحو ما نشاهده مثلا [في جهاز التلفزة] من صور (الطبيعة) التي يعرضها الجهاز المذكور : حيث تستثيرنا الصور المعروضة ، وتشيع في أعماقنا إمتاعا جديدا يزيد من خبراتنا التي تذوقناها سابقا.

يهمنا مما تقدم ان نشير إلى ان أقصوصة سليمان ـ عليه السلام ـ قد رسمت نمطا آخر من الحاجات الجمالية : مقابلا للنمط الأول الذي رسمته أقصوصة سبأ : فيما تمثل الحاجتان أنماط التذوق للجميل :

1 ـ التذوق للمشهد الطبيعي وهو : المزرعتان الواقعتان عن يمين البلد وشماله.

2 ـ التذوق للمشهد المصطنع وهو : (تماثيل) الشجر ونحوه.

وبمثل هذه المستويات من الرسم ، ندرك تماما قيمة الفن القصصي ، بما يحققه من موازنة هندسية في بناء هذه الأقصوصة و تلك ، وصلة أقصوصة سليمان ـ عليه السلام ـ بأقصوصة سبأ : مضافا إلى الخطوط الهندسية المتنوعة التي سبق التلميح إليها.

وإذا نتجاوز ظاهرة (التماثيل) : ومن قبلها ظاهرة (المحاريب)… حينئذ نواجه الظاهرتين [الجفان ، والقدور] ، فيما تشكل الظواهر الأربع : مفردات العمل الصناعي الذي رسمته أقصوصة سليمان ـ عليه السلام ـ عبر تسخير شخوص (الجن).

والتساؤل هو : ان (المحاريب) رسمت في سياق عبادي خاص. و(التماثيل) رسمت في سياق (جمالي) أوضحناه مفصلا ،… ترى : ما هو (السياق) الذي رسمت (الجفان) و[القدور الراسيات] من خلاله؟؟

مما لا شك فيه ، أن رسم أية ظاهرة [مهما كان نمطها] إنما يتم في سياق [الخلافة على الأرض] أو ما أسميناه بـ[المهمة العبادية] [سواء أكانت المهمة في دلالتها الخاصة : ممارسات الصلاة والذكر ونحوهما ، أو دلالتها العامة التي تعني كل سلوك متصل بالمهمة المذكورة : سواء أكان مرتبطا بظاهرة حيوية مثل : الطعام ، والجنس ، أو بظاهرة جمالية مثل : مشاهد الطبيعة ، أو بظاهرة نفسية مثل : التعامل الاجتماعي مع الآخرين].

ويلاحظ هنا ، ان [الجفان والقدور] فيما توضحه النصوص المفسرة ، إنما صنعت بنحو يتسق مع تحركات سليمان ـ عليه السلام ـ وجنوده. فالجفان صنعت لتتناسب مع مقادير الطعام الضخمة التي تتسع لمجموعات من الجنود لا تسعها الصحون العادية. كما ان [القدور الراسيات] صممت بالضخامة ذاتها في عملية الطبخ. وهذا يعني أن الصناعات المذكورة قد رسمت في القصة مرتبطة بأكثر من دلالة فنية : فهي من جانب [بما تحمله من ضخامة] تشيع [ما هو مدهش من الاستجابة] ، وما هو متسق مع الحاسة الجمالية التي يبهرها نمط الصناعة. كما انها ـ من جانب ثان ـ تشير إلى انها (وظفت) كأداة ، كوسيلة ، لإشباع الحاجة الحيوية (الطعام) لجنود يتحركون عبر مهمة عبادية رسمها سليمان عليه السلام.

لحظنا كيف ان الأعمال الصناعية الأربعة [المحاريب والتماثيل والجفان والقدور] قد ارتبطت بمفاهيم عبادية : وظفت لها. إنها ـ كما رأينا ـ قد اتصلت بإشباع حاجات حيوية ونفسية ، تتطلب ـ دون أدنى شك ـ شكرا للسماء على معطياتها التي اغدقتها على الآدميين.

وقد لحظنا كيف ان السماء عبر تعقيبها على المعطيات التي منحتها لداود ـ عليه السلام ـ قد طالبت الآدميين بان [يعلموا صالحا] :

{ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [سبأ : 11]

وفي قصة سليمان ـ عليه السلام ـ تبدأ المطالبة بالعمل الصالح بتشدد بين حينما تعقب على المعطيات التي منحتها لسليمان بقولها :

{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ : 13]

ان هذه الفقرة التي عقبت بها السماء على (النعم) ، تحتل موقعا فنيا له أهميته الكبيرة في بناء القصص الثلاث التي تضمنتها سورة سبأ. ونعني بها : أقاصيص داود وسليمان وسبأ.

فالأقاصيص بأكملها وظفت لإنارة الموضوعات التي تضمنتها السورة. ويجيء التلميح بنعم السماء ، وضرورة (الشكر) على هذه النعم واحدا من الموضوعات أو الهدف الفكري للأقاصيص.

وفعلا : عقبت السماء على قصة داود بالفقرة : (أعملوا صالحا). وها هي الآن تربط بين قصة داود ـ عليه السلام ـ وقصة سليمان عليه السلام ، بالفقرة {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا }

لقد أجملت قصة داود ـ عليه السلام ـ مفردات العمل الصالح ، واكتفت من ذلك بأن تخاطبنا بقولها (أعملوا صالحا).

أما في قصة سليمان عليه السلام ، فقد أوضحت ذلك الإجمال ، وأشارت إلى أحد مفرداته ، ألا وهو : (الشكر) على النعم المذكورة ، بقولها :

(أعملوا آل داود شكرا).

فإذن : العمل الذي اجملته قصة داود عليه السلام ، قد أوضحته قصة سليمان ـ عليه السلام ـ وهذا واحد من أبعاد التواشج الفني بين الأقصوصتين ، حيث نما العمل المجمل وتطور : إلى عمل واضح هو (الشكر).

أما البعد الثاني من أبعاد التشابك الفني بين الأقاصيص ، فهو : نمو العمل وتطوره بالنسبة إلى أقصوصة لاحقة. وليس إلى الأقصوصة السابقة فحسب. ونعني بذلك أقصوصة (سبأ) حيث تجيء من حيث التسلسل ثالثة الأقاصيص.

إن العمل الفني ـ كما هو بين تتميز خطورته بأن تكون أجزاؤه مرتبطة واحدا بالآخر : السابق يؤثر في اللاحق ، واللاحق يؤثر في الآخر الذي يتبعه : بحيث يكون الجزء من الأقصوصة ، أو الأقصوصة بالنسبة إلى مجموعة الأقاصيص (مسببا) عن الجزء السابق ، و(سببا) لجزء لاحق.

وهذا ما نلحظه بالقياس إلى القصص الثلاث في سورة سبأ. فقصة سليمان ـ عليه السلام ـ جاء رسم [الهدف الفكري] فيها وهو [(الشكر) على النعم] (مسببا) عن قصة سابقة هي قصة داود عليه السلام ، وستكون (سببا) لقصة لاحقة هي قصة سبأ.

وبكلمة جديدة : ان ظاهرة [الشكر على النعم] شكلت هدفا فكريا للاقاصيص الثلاث. وهذا الهدف أخضه النص القرآني العظيم لعمليات النمو والتطور الفني : بحيث جاء رسم (الشكر) في قصة داود منميا ومطورا لـ(الشكر) في قصة سليمان : حينما أوضح ان العمل الصالح هو (الشكر) على النعم ، بعد ان اكتفى بإجمال [العمل الصالح] في قصة داود عليه السلام.

وهذا (الشكر) نفسه بعد ان أصبح [تطويرا ونموا] للقصة السابقة ، يصبح الآن هو المطور والمنمي لقصة لاحقة هي قصة سبأ.

فالشكر الذي طالبت السماء به ، قد انعكس في قصة سبأ عملا مضادا : أصبح كفرانا بدلا من الشكر.

في أقصوصة سبأ رسم النص معطيات السماء ، متمثلة في الجنتين عن يمين البلد وشماله… ، في الرزق الذي اغدقته … ، في البلدة الطيبة التي سخرتها لهم… ، في المغفرة التي لوحت بها لهم : ثم طالبت السماء بهذه الفقرة أيضا (واشكروا له).

لكن السبأيين بدلا من الشكر قد تمردوا : وكانت النتيجة هي : زوال النعم ، حيث عقبت السماء على ذلك بقولها : {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ : 17]

إذن : (الشكر) الذي طالبت السماء به في القصص الثلاث : ثم عقبت في قصة سليمان ـ عليه السلام ـ على ذلك بقولها : (وقليل من عبادي الشكور).

هذه الفقرة (وقليل من عبادي الشكور) شكلت تطويرا وتنمية لحدث لاحق هو [عدم الشكر] لدى السبأيين. بعد ان كان (الشكر) نفسه نتيجة تطوير ذلك الإجمال الذي ورد في قصة داود عليه السلام.

للمرة الجديدة ، ينبغي ان نلفت انتباه المتلقي ، إلى ان قصة سليمان ـ عليه السلام ـ حينما طالبت بالشكر ، وحينما قالت أن القليل من العباد هم الذين يمارسون (الشكر) ، إنما ارهصت فنيا ، أو لنقل : إنما مهدت بهذه العبارة الفنية ، بأحداث لاحقة في قصة أخرى. هي التي يتحدد فيها بوضوح : أن القليل من الآدميين هم (الشكور).

وفعلا كان السبأيون مثالا واضحا للعباد الذين جنحوا إلى التمرد بدلا من الشكر.

والآن : ينبغي أن نعود لمتابعة قصة سليمان عليه السلام ، بعد أن أوضحنا الصلات الفنية والفكرية بينها وبين قصتي داود وسبأ.

إن ظاهرة (الشكر) التي شكلت قاعدة فكرية للأقاصيص الثلاث ، إنما صاغها النص في سياق سرد النعم التي عقب عليها بظاهرة الشكر ، دون ان تكون القصة قد انتهت فعلا ،… بل إنها انتهت من خلال رسم المعطيات ،… دون ان يكون رسم الشخوص قد انتهي منه بعد.

ومن الواضح ، ان الشخصية الرئيسية التي رسمها النص في قصة سليمان هي سليمان نفسه. أما شخوص (الجن) فقد جاء رسمهم شخوصا ثانويين ، وظفهم النص لخدمة سليمان.

رسم النص سليمان ـ عليه السلام ـ شخصية نبوية متميزة قد اصطفتها السماء في حينه لممارسة المهمة الخلافية ، وهيأت لها من الأسباب [تسخير الرياح ، إسالة القطر ، تسخير الجن] ما يثير الدهشة والانبهار بنحو المعجز الذي لحظناه.

وواضح أيضا ان سليمان وداود ـ عليهما السلام ـ وسائر الشخصيات المنتقاة يمثلون القمة من الآدميين الذين مارسوا مهمة الخلافة على الأرض.

ومن هنا ، فان رسم (الشكر) في أقصوصتي داود وسليمان ، صيغ بنحو يحسس المتلقي بانهما مارسا مهمة الخلافة بمستوياتها التي من أجلها منحتهما السماء هذه المعطيات المعجزة من تسبيح الجبال والطير ، ومن الانة الجديد وإسالة النحاس ، ومن تسخير الجن…الخ.

وعلى العكس من ذلك ، جاء رسم [عدم الشكر] تعقيبا على (المتمردين) على النعم ، متمثلا بخاصة في السبأيين.

بيد ان الملاحظ ان أقصوصة سليمان ـ عليه السلام ـ قبل أن تختم ، لتتجه إلى أقصوصة سبأ : قد رسمت موت سليمان عليه السلام ، ونمط الاستجابة التي صدرت عن الآدميين ونظرتهم عن شخوص الجن حيال موته.

والسؤال هو : ما هي الأسرار الفنية لرسم شخصية سليمان ـ عليه السلام ـ وهي تودع الحياة. ثم : ما هي الأسرار الفنية وراء الطريقة التي رسمت عبر مفارقة سليمان الحياة. وأخيرا : ما هي الأسرار الفنية لاستجابة الآدميين عن شخوص (الجن) بخاصة حيال موت سليمان عليه السلام؟؟

لقد ختمت أقصوصة سليمان ـ عليه السلام ـ على النحو التالي :

{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } [سبأ : 14]

ونحن قبل ان نعرض للنصوص المفسرة ، يعنينا ان نتقدم إلى التفسير الفني الصرف ، مشفوعا بالنصوص الموثوق بها. وهي نصوص تتلاءم مع التذوق الجمالي الصرف الذي تستهدفه السماء حينما تخضع الأقصوصة لعمليات (الكشف) الفني لدى المتلقي.

إننا بعيدا ـ في البدء ـ عن النصوص المفسرة ، يمكننا ان نستخلص جملة من الدلالات الفنية لهذه الخاتمة من الأقصوصة.

ان أول ما يثيره المتلقي من الأسئلة هو : الصلة الفنية بين الحديث عن تسخير الريح ، والجن ، و… لسليمان عليه السلام ، وبين صياغة النهاية من عمره الكريم بالنحو المتقدم.

ترى : هل يعني ذلك ان السماء تريد ان تقول لنا : أن الحياة حتى في مستوياتها غير المألوفة [من تسخير للجن والرياح والإنس الخ] تظل مجرد مسافة محددة من الزمان والمكان بحيث تنتهي [مع خطورة الأحداث المعجزة التي رافقت سليمان] إلى تلك النهاية التي رافقت موته : من حيث لم تدل الآخرين على موته إلا (الأرضة) التي أكلت عصا سليمان عليه السلام ، وإلى ان الجن لو كانوا يعلمون بذلك ما لبثوا في العذاب المهين؟!

ان مثل هذا الاستخلاص من الممكن ان يطمأن إليه لو أن النهاية قد صيغت بنحو يتحدد من خلاله أن (الأرضة) بمقدورها أن تحسم حياة شخصية سخرت لها كل القوى.

بيد أن ربط ذلك بشخوص (الجن) وعدم علمهم بموته ، قد لا يسعف المتلقي بالاطمئنان إلى التفسير المذكور إلا في نطاق محدد بحيث يشكل جزء من دلالات مختلفة ، وليس التفسير النهائي له. إذن : لنتجه إلى استخلاص آخر.

تقول بعض النصوص المفسرة ان سليمان ـ عليه السلام ـ قال لأصحابه يوما : ان الله قد وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ، وإلى انه ذات يوم صعد إلى مقصورته متكئا على عصاه ،… وإذا بملك الموت يخبره بنهاية حياته.

وطبيعي ان يستجيب سليمان لهذه النهاية استجابة المسرور بلقاء الله سبحانه وتعالى ، حيث خاطب ملك الموت بقوله :

[امض لما أمرت به ، فهذا يوم سروري ، وابى الله عز وجل ان يكون لي سرور دون لقائه].

وواضح ، من خلال هذه الإجابة ان سليمان ـ عليه السلام ـ قد غمره السرور الخالد الذي من أجله قد انتقته السماء ، ووهبت له ملكا لا ينبغي لاحد مثله.

وهذا يعني ان سليمان نفسه قد لفت الانتباه إلى ان [لقاء الله] هو [السرور الخالد] وليس السرور الدنيوي الذي يمثل فحسب مسافة محددة من الزم. وحتى هذا السرور [أي : السرور الدنيوي] إنما هو من أجل السماء.

وتبعا لذلك : استسلم سليمان ـ عليه السلام ـ للموت وهو متكئ على عصاه.

وتقول النصوص المفسرة ان سليمان ـ عليه السلام ـ بقي متكئا على عصاه وهو ميت دون ان يعلم أحد انه ميت فعلا ، لمدة طويلة من الزمن.

وواضح ، ان بقاءه ميتا [وهو متكئ على عصاه] دون ان يسقط على الأرض ، يظل حدثا معجزا آخر ، يضاف إلى سليمان في غمرة الأحداث المعجزة التي اكسبته السماء اياه : مما يعني ان السماء حتى في حالة موته قد امدته بعناية خاصة.

وإلى هنا تكون النهاية لحياة سليمان ـ عليه السلام ـ امتدادا لعناية السماء بشخصيته حتى بعد الموت.

وفي ضوء هذا ، يطرح التساؤل عن صلة (الأرضة) التي أكلت عصاه بعد مدة من الزمن ، حتى سقط على الأرض بعد ذلك.

طبيعي من الممكن ان نستخلص من حادثة (الأرضة) ، أن السماء كانت في صدد تبيين (المعجز) في حياة سليمان وموته ، وإلى ان الاعجاز المتصل بموته قد تحقق في معرفة الآخرين بان سليمان ـ عليه السلام ـ بقي مدة طويلة ميتا لم يسقط على الأرض ، بل بقي متكئا على عصاه التي تشكل بدورها ملمحا اعجازيا.

ومع تحقق مثل هذا المعجز ، فإن ما بعده من الأحداث لم يكن ضروريا إلا بمقدار ما يتداخل أحد الأسباب [وهو الأرضة : ليعيد كل شيء إلى وضعه المألوف].

ولو انسقنا مع مثل هذا التفسير الذي استخلصناه من صلة (الأرضة) بالعصا ، حينئذ من الممكن ان يستخلص المتلقي أن أبسط مخلوق بمقدوره ـ من خلال قدرة السماء ـ أن يعيد الشيء إلى وضعه الطبيعي بأن ينخر في (العصا) حتى يسقطها مع سليمان : مع ملاحظة ان سليمان في بقاءه متكئا على عصاه وهو ميت إنما تم من خلال ما هو (معجز) من السماء.

ولكن السماء نفسها ، تجعل من قدراتها غير المتناهية سببا لإبطال فاعلية المعجز المذكور من خلال فاعلية جديدة أودعتها لدى (الأرضة) لتمارس ما هو مألوف في أذهان الآخرين.

ومع هذه الدلالة لصلة الأرضة بالعصا ، حينئذ فإن الدلالة الأولى التي سبق ان قلنا ان الاطمئنان إليها لم يكن قويا إلا إذا ارتبطت بدلالة أخرى هي : ما أوضحناه الآن من الصلة بين الأرضة والعصا ، وإلى ان تسخير (المعجز) من الممكن ان ينطوي بحيث تستطيع الأرضة [وهي في خبرة الآدميين أمر مألوف] أن تتدخل سببا من السماء لمحو ما هو غير مألوف في خبرة الآدميين.

ومن الطبيعي أيضا ، في ضوء ما تقدم ان يتداعي ذهن المتلقي إلى حقيقة الحياة العابرة التي تظل ـ في الحالات كلها ـ مشفوعة بخاتمة ، بنهاية : مهما شمخت ، فإنها مقترنة بالزوال ، بل بأسباب [تبدو وكأنها لا قيمة لها مثل : الأرضة].

ثمة نص تفسيري آخر يحدد الصلة بين الأرضة والعصا ،… يقول هذا النص : ان سليمان ـ عليه السلام ـ قد أوحي إليه بان موته سيكون على (الأرضة) المذكورة ، وإلى انه ما أن تم التعرف على ذلك حتى جرت الأحداث على نحو ما أوضحناه سابقا.

والمهم : سواء أتعرف سليمان منذ البداية على الطريقة التي توفي من خلالها ، أو لم يتعرف عليها ، فانه في الحالتين ، تظل صلة (الأرضة) بـ(المنشأة) وصلتهما بالظواهر المعجزة ، وبالظواهر المألوفة ،… وصلة أولئك جميعا بقدرات السماء ومعطياتها : ثم بحقيقة الحياة العابرة ، ومقارنة السرور المقترن بها مع السرور بقاء الله… كل ذلك من الممكن ان يستخلصه المتلقي في ضوء النصوص المفسرة ، وفي ضوء التذوق الفني الخالص.

بيد ان الأمر لا يقف عند استخلاص الدلالة الحائمة على صلة الأرضة بالعصا ، بل بالصلة القائمة أيضا بين استجابة الآدميين أو استجابة شخوص الجن للموت المذكور من حيث عدم [العلم بذلك] :

ترى : ما هي الأسرار الفنية وراء الموت الذي لم يتعرف الآخرون عليه؟؟

من الممكنان نستخلص جملة من الدلالات الحائمة على موت سليمان ـ عليه السلام ـ وصلة ذلك بعدم معرفة الإنس أو الجن بموته.

ثمة نص مفسر يذهب إلى ان الجن والإنس ، قد استمروا في خدمة سليمان ـ عليه السلام ـ [وهو ميت دون أن يعرفوا ذلك : ما دام متكئا على عصاه] حتى دبت (الأرضة) وظهر كل شيء.

وتقول بعض النصوص المفسرة ، ان الآدميين قد عرفوا وقوفه بنحوه المعجز حينما وجدوه واقفا على عصاه مدة من الزمن : لم يتعب ، ولم ينم ولم يأكل ولم يشرب ، فاختلفوا في تأويل ذلك : حتى نسبه بعضهم إلى الآلهة ، وبعضهم إلى السحر ، وبعضهم إلى اعجاز الله … حتى دبت الأرضة ، فبان كل شيء.

وفي ضوء هذا التفسير ، يمكننا ان نحدد صلة الأرضة بالعصا ، ما دام الأمر يحسم الموقف الذي غلف الناس ، وهو موقف يتطلب ـ دون أدنى شك ـ تدخلا من السماء لإبانة الحقيقة ما دام الآخرون قد وقعوا في متاهات لم ترتضها السماء.

بيد انه صلة ذلك باستجابة البشر أو الجن حيال الموت نفسه لم تتضح بعد ، إلا إذا أخذنا بنظر الاعتبار ان انكشاف الموقف مرتبط بالنظرة الذاهبة إلى ان الجن لم يحيطوا علما بكل شيء كما هو مرتكز في أذهان عامتهم ، أو أذهان عامة الآدميين ، وإلا لأخبروا بموته ، ووضعوا حدا لتلك التساؤلات التي نسبت الموقف حينا إلى الالوهية ، وحينا إلى السحر ، وحينا إلى حقيقة الأمر المعجز.

ان المفسرين يترددون أولا بين الذهاب إلى ان الجن هم الذين تبين لهم أنهم لو كانوا يعلموا الغيب [أي : بموت سليمان] لما ظلوا يخدمونه طيلة هذه المدة ويتحملون العذاب من أجل ذلك. أو ان عامتهم ، هم الذين كان يخيل إليهم أن رؤساءهم كانوا يوحون إليهم بعلمهم الغيب ، حتى ينكشف لهم زيف الايحاء المذكور.

وهناك من يذهب إلى ان الإنس هم الذين تبين لهم ان الجن لا يعلمون الغيب بعد ان كانوا يوهمونهم بالعلم.

وأيا كان الأمر ، فان التساؤل هو : هل ان الأقصوصة في صدد توضيح ان العلم بالغيب لم يتوفر عليه حتى شخوص (الجن) الذين عرفوا في أذهان الآدميين بانهم ينقلون أخبار الغيب.

ان هذا الاحتمال يقترب من اليقين ، إن لم يكن هو اليقين حقا : ما دامت الأقصوصة نفسها تصرح بوضوح ان (الجن) لم يعرفوا حقيقة الموقف إلا بعد ان دبت (الأرضة).

غير ان السؤال يظل حائما على الطريقة الفنية التي أبانت عن الموقف المذكور.

ان الأقصوصة لم تقل مباشرة : ان الجن لا يعلمون الغيب كله. بل (أوحت) بذلك من خلال طريقة فنية غير مباشرة ، حينما أوضحت إحدى الحقائق ، تاركة للمتلقي ان يفيد من هذه الحقيقة ، حقيقة ثانية هي : ان الجن لا يعلمون الغيب كله.

أما الحقيقة الأولى فهي : انهم لبثوا مدة طويلة يخدمون سليمان ـ عليه السلام ـ دون ان يعرفوا انه ميت ، مما يستثيرهم دون أدنى شك. فهم مكلفون بخدمته حيا وليس بخدمته ميتا : ومع مثل هذه الاستجابة التي يبدون وكأنهم محقون فيها أو غير محقين ، يتعرف المتلقي على الحقيقة الثانية ، وهي : عدم علمهم بالغيب كما أوهموا بذلك.

نخلص مما تقدم ، أن النهاية التي ختمت بها أقصوصة سليمان عليه السلام ، تحمل جملة من الدلالات المتنوعة التي ينبغي أن يقف المتلقي عندها :

1 ـ ثمة حقيقة متصلة بصياغة [النهاية الحتمية] للكائن الآدمي : مهما اقترنت شخصيته بظواهر التسخير المعجز.

2 ـ ان الظواهر المعجزة [غير المألوفة] من الممكن أن تحسم بظواهر [غير مألوفة] عند الآدميين وغيرهم ، ما دام الأمر في الحالتين موكولا إلى السماء.

3 ـ ان الشخصيات التي تخلص في مهمتها العبادية ، تظل في رعاية السماء التي لا حد لمعطياتها ، بنحو يصل حتى إلى (الاعجاز) المتصل بطريقة (الموت).

4 ـ ان لقاء الله تعالى وما يقترن به من مشاعر السرور ، يظل أشد فاعلية من [السرور الدنيوي الذي تتيحه السماء لعبادها المخلصين].

5 ـ ان العلم بالغيب لم يتح لاية شخصية : بما فيها شخوص الجن.

6 ـ ان إبراز الدلالات المذكورة قد صيغ بنحو فني غير مباشر : مما يتسع لدلالات أخرى من الممكن ان يستخلصها المتلقي على نحو ما لحظناه من نصوص التفسير المتفاوتة ، فضلا عن الاستخلاص الفني الصرف الذي يمكن لكل متلق أن يكشفه : تبعا لخبراته المتنوعة في عملية التذوق.

وبعامة ، فإن أقصوصة سليمان عليه السلام ، تنتهي بحادثة (الموت) التي انتهينا من الوقوف عندها.

وكانت هذه الأقصوصة من حيث التسلسل ، عقيب أقصوصة داود عليه السلام.

كما ان أقصوصة سبأ تجيء عقيب أقصوصة سليمان ـ عليه السلام ـ التي مهدت لها كما سباق التوضيح.

وبما ان الأقاصيص الثلاثة جاءت متعاقبة متسلسلة ، فإن ذلك يعني انها تحوم على هدف محدد يشدد النص القرآني الكريم عليه : ولكن من خلال أقاصيص متنوعة يحمل كل منها خصائص الهدف الفكري المشترك فيما بينها ، كما يستقل برسم أهداف ثانوية تضطلع كل أقصوصة بتوضيحها.

فأقصوصة داود ـ عليه السلام ـ حامت على ظاهرة [العمل الصالح] الذي طالبت به : في حين أوضحت سليمان ملامح (العمل) المذكور ، متمثلة في المطالبة (بالشكر) على معطيات السماء.

ما أقصوصة سبأ فقد جسدت النماذج السلبية التي لم تمارس عملية (الشكر) مما انتهى المطاف بها إلى تمزيقهم وإزالة النعم عنهم.

وكانت الأقاصيص الثلاثة مقترنة برسم ما هو (معجز) أو مدهش على الأقل ـ من معطيات السماء : بدء من الجبال والطير ، مرورا بالإنة الحديد وإسالة النحاس ، وانتهاء بعمل المحاريب والتماثيل…الخ واقترنت أيضا برسم [معطيات العمل الصناعي] فيما شددت عليه في قصتي داود وسليمان عليه السلام ، وبرسم معطيات البيئة الزراعية ، فيما شددت عليه في قصة سبأ.

كما شددت الأقاصيص الثلاثة على تنوع الممارسات العبادية التي وظفت البيئات المذكورة من أجلها حتى اقترنت بإشباع ما هو (مترف) من الحاجات لكائنات اعتيادية لم تنتسب إلى (النبوة) من نحو : أهالي سبأ الذين هيأت لهم حتى طرق المواصلات بين داخل المدينة وخارجها بحيث تفردوا) في الخصائص (الجمالية) التي تشيع مزيدا من الحاسة المتصلة بها. ومثلها ـ من حيث الإشباع ـ الجمالي ـ آل داود الذين صنعت لهم (التماثيل) و(المحاريب) المصنوعة وفق جمالية فائقة كما تشرح ذلك نصوص التفسير.

وهذا كله ، يتم وفق بناء هندسي ـ عبر الأقاصيص الثلاثة ـ تحدثنا عنها مفصلا فيما لا حاجة إلى إعادة الكلام فيها.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .



قسم الشؤون الفكرية يقيم برنامج (صنّاع المحتوى الهادف) لوفدٍ من محافظة ذي قار
الهيأة العليا لإحياء التراث تنظّم ورشة عن تحقيق المخطوطات الناقصة
قسم شؤون المعارف يقيم ندوة علمية حول دور الجنوب في حركة الجهاد ضد الإنكليز
وفد جامعة الكفيل يزور دار المسنين في النجف الأشرف