أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-09-01
368
التاريخ: 3-12-2015
2033
التاريخ: 29-09-2015
2253
التاريخ: 2023-06-10
1176
|
يقول الطباطبائي : «إن القرآن الكريم بألفاظه وبيانه ، يوضح الأغراض الدينية ، ويُعطي الأحكام اللازمة للناس في الإعتقادات والعمل بها ، ولكن لا تنحصر أغراض القرآن بهذه المرحلة ، فإن في كنه هذه الألفاظ وهذه الأغراض ، تستقر مرحلة معنوية ، وأغراضٌ أكثر عمقاً» . . فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في القرآن : ظاهره أنيق وباطنه عميق (1) ، ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إن القرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطن ، إلى سبعة أبطن» (2) ، فالأصل في هذه الروايات هو التشبيه الذي قد ذكره الله تعالى في سورة الرعد (3) ، والذي يشبه فيه الإفاضات السماوية بالمطر الذي يهطل من السماء . . .» (4) .
لا شك في أن ما يعرض له الطباطبائي في موضوع الظاهر والباطن ليس جديداً عنده ، وإنما هو حقيقة إسلامية أشار إليها القرآن ، كما في قوله تعالى : ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾ [الحديد : 3] ، وقد اختلفت التأويلات بشأن هذه الآية ، فمن الفرق من ذهب إلى القول بالباطنية متجاوزاً للظاهر نهائياً ، ومن الفرق من ذهب إلى القول بالباطن والظاهر معاً ، وأنه ما من ظاهر إلاّ وله باطن . والمدرسة الإمامية التي ينتمي إليها المفسّر تقول بالباطن والظاهر معاً ، وتعمد إلى تأويل الآيات والأحاديث وفاقاً لما يتناسب مع ظاهر الشريعة ، ولا ترى أن للباطن طريقته للتعبير عنه ، كما فعلت الصوفية وأصحاب القطب وغيرهم ، ممن اعتبرهم الطباطبائي قد جانبوا الصواب ، وهذا ما أشار إليه في مقدمة كتابه الميزان (5) ، ثم عقب على كلامه موضحاً في تفسيره للآيات في المجلد الخامس من تفسيره (6) ، إذ هو يرى أن المتصوفة انشغلوا بالسير في باطن الخلقة دون عالم الظاهر ، خلافاً لقوله تعالى : ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ . . . ﴾ [فصلت : 53] ، فهم ـ أي الصوفية ـ اهتموا بالتأويل ورفضوا التنزيل . . . حتى آل الأمر بهم إلى تفسير الآيات بحساب الجمل ، ورد الكلمات إلى الزبر والبينّات والحروف النورانية والظلمانية ، إلى غير ذلك (7) .
وإذا كان الطباطبائي لم يفرد بحوثاً خاصة في تفسيره للظاهر والباطن على طريقة أهل السير والأسرار ، فذلك لم يمنعه من وضوح الرأي والموقف فيما يتعلق بهذا الموضوع ، لكونه يشكل جانباً مهماً من الأحاديث النبوية ، كما في الحديث الذي عرض له الطباطبائي في مقدمة تفسيره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن للقرآن ظهراً وبطناً ، وكما في الحديث عن علي (عليه السلام) : «ما من آية إلاّ ولها أربعة معان : ظاهر وباطن وحد ومطلع ، فالظاهر التلاوة ، والباطن الفهم ، والحد هو أحكام الحلال والحرام ، والمطلع هو مراد الله من العبد بها» (8) . فهناك أحاديث وروايات كثيرة يرويها الشيعة الإمامية ، ويفسّرها الطباطبائي ، ولكنه يُبقي عليها في الرؤية المعنوية التي تستقر عندها ، على اعتبار أن القرآن بألفاظه وبيانه يُعطي الأحكام اللازمة للناس في الاعتقاد والعمل بها ، ثم يتم العبور إلى الباطن من خلال الشريعة ، وهذا ما فهمه عنه المستشرق هنري كوربان (9) ، وكثير من الباحثين والمفسرين (10) . وكما نلاحظ في تفسير الميزان ، أن منهج الطباطبائي في تفسير القرآن بالقرآن عكس الظاهر على الباطن ، والباطن على الظاهر ، وميز بين من يعرف القرآن ويتحد معه ، وبين مَن عرف القرآن بالمشاهدة ، وبين فئة ثالثة تستدل بآيات الأنفس والآفاق ، ولكل فئة من هذه الفئات حركتها ومعناها في الباطن والظاهر ، وهذا ما لم يلتفت إليه بعض الباحثين في منهج الطباطبائي ، ولعل إشاراته إلى قوله تعالى : ﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا . . . ﴾ التماس لهذا المعنى في الظاهر والباطن ، ذلك أن الناس يختلفون فيما هم عليه من قدرات ، ويتفاوتون بما لديهم من استيعاب للمعارف السماوية ، فمن تجلى له الباطن لم يخرجه عن الظاهر ، ومن تجلى له الظاهر أدخله إلى الباطن . فهما ، كما يرى الطباطبائي ، كالروح والجسد ، فإذا ما تلى حكم وجوب الصلاة ، فإن الظاهر والباطن هما اللذان يؤديان هذا الواجب ، فيكون ظاهر الحكم هو إقامة هذه العبادة الخاصة ، لكن بحسب الباطن يدركون أن هذه الصلاة يجب أن تتحقق بقلوبهم وبكل وجودهم ، فيحدث لهم الفناء في عبادة الله وحده ، بعد أن يكون قد تحقق الإنتهاء عن الفحشاء والمنكر ، كما قال تعالى : ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت : 45] .
إن المفسّر الطباطبائي ، لا يرى في الباطن طريقة إلى تجاوز الحياة ، كما فعل الصوفية ، أو أهل الباطنية ممن احتكروا الأسرار ، وغابوا عن الظواهر ، ظناً منهم أن الشريعة سرُ ، وسرها سر ، وظاهرها باطن ، وباطنها باطن ، كما وصّفها كوربان ، وإنما هو ، برأي الطباطبائي ، باطن يتكامل مع الظاهر ، لكون الإسلام دين كامل وشامل ، ولا بد أن يكون لظاهره معنى الحياة والإصلاح وغير ذلك مما لا تستقيم العبادة إلاّ به ، يقول الطباطبائي : «إن باطن القرآن لا يُلغي ولا يبطل ظاهره ، بل إنه بمنزلة الروح التي تمنح الجسم الحياة ، وبما أن الإسلام دين عام شامل وأبدي ، فهو يهتم أولاً وقبل كل شيء بإصلاح المجتمع البشري ، ولا يتخلى عن الأحكام الظاهرية التي مؤداها إصلاح المجتمع ، وكذا لا يتخلى عن الاعتقادات البسيطة التي تعتبر حارسة للأحكام المشار إليها» (11) .
والحق يقال : إنه لا يفهم من فلسفة الطباطبائي ، ولا من منهجه في التفسير والتأويل ، الذي تقدم الكلام فيه ، أنه يستغرق في الباطن والظاهر لدرجة أن يكونا سراً من الأسرار ، أو طريقة تتجافى بأهلها عن المجتمع والناس ، سواء أكان المخاطب بهذه الشريعة المتحد معها كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) ، أم المشاهد لجمال الله وجلاله والمنجذب إليه فيما خصّه الله به ، أم كان ممن اقتصرت مرتبته على طريقة الإستدلال بالآثار وفيما رآه بالأنفس والآفاق . فالمفسّر يرى أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله ومقاماتهم (12) ، والكل له ظاهره وباطنه ، بحيث لا يستقل أحدهما عن الآخر فيما يكون في الحياة من سلوك ، وهذا ما جاء عن أبي جعفر (عليه السلام) حينما سأله عمران بن أعين عن ظهر القرآن وبطنه ، فقال : «ظهره الذين نزل فيهم القرآن ، وبطنه الذين عملوا بأعمالهم ، يجري فيهم ما نزل في أولئك» (13) . وطالما أن المفسّر لا يُعطي للباطن معنىً مستقلاً عن الظاهر ، ولا يرى مدخلية له إلاّ من خلال الأحكام النازلة للناس في الاعتقاد والعمل معاً ، وأن الباطن لا يُلغي الظاهر ولا يبطله ، فهذا يدلل على أن الطباطبائي قد فهم مدلول الآيات القرآنية جيداً لجهة ما تعطيه من أبعاد كما في قوله تعالى : ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾ ، على نحو يفهم منه أن الله تعالى هو الظاهر المطلق ، وهو الباطن المطلق الذي يتوجه إليه العباد في ظاهرهم وباطنهم ، بحيث يكون لهم من ذلك الظاهر النسبي والباطن النسبي ، هذا ما بينه الطباطبائي بوضوح لجهة قوله : «إن الظهر والبطن أمران نسبيان ، فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره ، وبالعكس كما جاء في رواية جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) بقوله له : يا جابر إن للقرآن بطناً وللبطن بطن ، وظهراً وللظهر ظهر ، يا جابر وليس شيء أبعد عن عقول الرجال من تفسير القرآن . إن الآية تكون أولها في شيء ، وأوسطها في شيء وآخرها في شيء» (14) . وهذا كلام متصل ، كما يرى المفسّر ، ينصرف إلى وجوه (15) . وكما جاء في معاني الأخبار عن الصدوق ، أنه لا ينحصر الظهر والباطن بما في الخبر ، فإن هناك أخباراً جمة تدل على أن للقرآن معاني طولية حسب اختلاف الأفهام ودرجات الإيمان والمعرفة ، وفي بعضها أن لبطنه بطناً إلى سبعة أبطن ، والظاهر أن المراد بالبطن في هذا الخبر التأويل ، كما أن المراد بالظاهر التنزيل . . . (16) .
إن مرتكز البحث والتفسير للباطن والظاهر عند الطباطبائي ، هو قوله تعالى : ﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا . . . ﴾ ، وطالما عرفنا أن للقرآن معاني طولية بحسب اختلاف الأفهام ودرجات ومراتب المعرفة ، فإن هذا يكشف عما يريد أن يذهب إليه الطباطبائي في تأويل معنى الظهر والبطن إذ هو يرى ، كما سبقه إلى ذلك صدر المتألهين ، أن الأودية هنا هي تشبيه لما هم عليه الناس من اختلاف في درجات اكتساب المعرفة ، ولعل المفسّر هنا تأثر بتفسير صدر الدين (الشيرازي) لهذه الآية ، فرأى أن العلم كبحر أُجري منه أودية ، ثم أخرجت الأودية الأنهار ، ثم أُجريت من الأنهار جداول ، ثم أُجريت من الجداول سواقي ، فالوادي لا يحتمل البحر والنهر لا يحتمل الوادي ، والجدول لا يحتمل النهر ، فبحور العلم عند الله ، فأعطى الرسل ومن يجري مجراهم منها أودية ، ثم أعطى الرسل من أوديتهم أنهاراً إلى العلماء ، ثم أعطى العلماء جداول صغار إلى عامة المتعلمين على قدر طاقتهم ، ثم أجرى هؤلاء إلى من يليهم بحسب طاقتهم (17) . والنتيجة ، كما يرى الطباطبائي ، هي أن العلم في دورته هو من الله تعالى إلى الله تعالى ، تماماً كما هي دورة الماء من البحر إلى البحر . وهكذا ، تختلف مراتب الناس ودرجاتهم في الباطن والظاهر ، وهذا ليس من التأويل في شيء ، وإنما هو من التفسير الذي يطاله الإنسان فيما لو تدبّر القرآن واستوى على شيء من الفهم منه . وبحق نقول أين هذا مما ذهبت إليه الباطنية ، أو أهل الصوفية ممن الهتهم التراكيب واستغرقتهم الإشارات إلى حد تعطيل الظاهر والباطن معاً!؟ وكما جاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال : «أبى الله أن يجري الأشياء إلا بالأسباب ، فجعل لكل شيء سبباً ، وجعل لكل سبباً شرحاً ، وجعل لكل شرح علماً ، وجعل لكل علم باباً ناطقاً عرفه من عرفه ، وجهله مَن جهله ، ذاك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله ونحن» (18) .
لقد تطرق بعض الباحثين عن الطباطبائي إلى موضوع الظاهر والباطن ، فكان رأيهم جمعاً لرأيه دونما توقف عند حقيقة الموقف ، الذي يتخذه الطباطبائي في حقيقة الظاهر والباطن ، وقد زعم هؤلاء أن المفسّر أحال الكثير من الروايات إلى الجري الذي لا يعتبره تفسيراً ، وإن كان يستبطن أحياناً ما عرف بالباطن الذي يقابل الظاهر ، وهذا ما أشار إليه الطباطبائي بقوله : «وقد يعتبر بطن القرآن مثل الجري أحياناً» (19) ، ولكن هؤلاء الباحثين سهوا عن أن الطباطبائي في منهجه وفيما يتخذه من مواقف ، سواء في التأويل ، أم في التفسير ، في الظاهر ، أم في الباطن ، هو لا يغادر القرآن ، وإنما يجوب في فضائه لفهم الآيات والروايات ، معولاً على جاذبية السياق ، وهذا ما يحتم على الباحثين ملاحظته جيداً كيما يتمكنوا من فهم الموقف الحقيقي للطباطبائي (20) ، فهذا الأخير لم يكن شيعياً في تفسيره ، وإنما كان قرآنياً بامتياز ، وقد قبل ظاهر الشريعة كسبيل إلى باطنها ، لأن الإنسان مكلف بالأعمال الظاهرية ، فإذا ما أحسن القيام بها ، فإنها تؤدي به إلى الاستقرار في المعنوية ، لقوله : «فإن في كنه هذه الأعمال والأغراض الدينية تستقر مرحلة معنوية ، وأغراض أكثر عمقاً» (21) . وعليه ، فإنه لا معنى لأن نفهم الظاهر والباطن عنده من خلال انتماء الرواية إلى هذه المدرسة أو تلك ، أو إلى هذه الفرقة أو تلك ، بل ينبغي فهم الطباطبائي في سياق ما اختاره من منهج ، الذي نرى أنه لم يتمكن من خلال السياق ، ولا من خلال تمييزه بين التأويل والتفسير ، أن يحسم الجدل والموقف في كثير من الآيات قبل الروايات ، كما في سكوت المفسّر على قوله تعالى : ﴿ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ . . . ﴾ ، إلى غيرها من الآيات ، التي أحالها إلى البطن دون أن يعرف ظاهراً لها . وهذا أمرٌ جد طبيعي فيما لو عرفنا أن الطباطبائي لم يكن طامحاً لأن يكون تفسيره مطلقاً ، ومحيطاً بكل ما هو متشابه ، سواء في الآية ، أم في الحديث . ولهذا ، قال : «إنه لا يوجد في كلامه تعالى ما يصلح لتفسير هذه الآية» (22) .
وكيف كان ، فإن أفهام المسلمين تعددت في الباطن وتباينت المسالك منذ عصر الرسالة إلى وقتنا الحاضر ، فمنهم من اعتبر أن باطن القرآن هو المقصود دون ظاهره ، ومنهم من رأى عكس ذلك ، ومنهم مَن اكتفى بالاشارة إلى لحن القول في غربة الأنانية . وبما أن القرآن أرشدنا إلى التدبر في آياته ، فإنه لا بد من النظر بعيداً عن الهوى والرأي ، بحيث يكون الاستنطاق للقرآن من أهله هو الحكم ، وهذا ما فعله الطباطبائي وغيره من المفسرين ، الذين أخلصوا لله في دينهم ، في ظاهرهم وباطنهم ، فاعتبروا الباطن والظاهر معاً ، وحافظوا على أصول الإيمان والمعارف الحقة ، التي جعلها الله تعالى مسلكاً حقيقياً إليه ، ولهذا يقول الطباطبائي : «ولا نجد دليلاً على أنه يقصد من كلمات القرآن غير المعاني التي تدركها من ألفاظه وجمله ، وللكشف عن باطن القرآن اعتبر المفسّر أمرين هما : الأول : ظواهر الآيات نفسها ، والثاني : ظواهر الشريعة ، وبالتالي ، لا يكون الباطن مناقضاً لمعطيات ظواهر القرآن وحقائق الشريعة» (23) .
إن هذا ما قضت به الشريعة ، وما كلف به العباد ، فيما أمر به ونهى عنه ، وقد فسرت السنة النبوية القطعية هذا الأمر بما دعت إليه من اعتبار لظواهر القرآن والسنة . وكما بين المفسر أن هذا لا ينافي أنه تحت ظواهر الشريعة حقائق هي باطنها ، والطريق إليها حق ، ولكن الطريق إنما يكون باستعمال الظواهر الدينية على ما ينبغي من الاستعمال لا غير ، وهو في هذه العبارة يؤكد على المنهج ، الذي اعتمده بأن يكون التدبّر وفاقاً لقواعد الكتاب والسنة ، وقد عبر عن ذلك بقوله : «وحاشا أن يكون هناك باطن لا يهدي إليه ظاهر ، والظاهر عنوان الباطن وطريقه ، وحاشا أن يكون هناك شيء آخر أقرب مما دل عليه شارع الدين غفل عنه ، أو تساهل في أمره ، أو أضرب عنه لوجه من الوجوه بالمرة ، وهو القائل : ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ . . . فإن إرادة الظاهر لا تنفي إرادة الباطن ، وإرادة الباطن لا تزاحم إرادة الظاهر . . .» (24) . وإذا كان بعض المتصوفة ، قديماً وحديثاً ، أو من تسموا بأهل الباطن وليسوا به ، قد ادعوا أُموراً وكرامات نورانية ، وخرجوا عن ظواهر القرآن والسنة ، وعما يرشد إليه العقل القطعي ، الذي هو حجة كالوحي تماماً ، فإن هؤلاء قد جمدوا عند الحروف والرسوم ، وساعدهم على ذلك مَن التمسوا الحق من دون تأويل ولا تفسير ، خوفاً من أن يقولوا على الله غير الحق ، كما زعموا أن مَن فسّر فقد أوّل ، هذا فضلاً عما سلكوه من سبل في نفي التجسيم دون أن يُثبتوا ، فقالوا : الاستواء معروف بلا كيف . . . إلى غير ذلك مما عرض له الطباطبائي في تفسيره ، فهؤلاء جميعاً تاهوا عن الباطن والظاهر معاً ، فأدى بهم ذلك إلى التلهي بأسرار زعموا أنها من فيوضات الرحمة ، وبركات النور ، وكما يقول الطباطبائي : «ولو كان الأمر على ما يدّعون وكان ما يزعمونه هو لب الحقيقة ، وكانت الظواهر قشوراً لأسرارهم ، لكان مشرّع الشرع أحق برعاية حالها وإعلان أمرها ، كما يعلنون ، وإن لم تكن هي الحق ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾ (25) .
يظهر مما تقدم ، أن المفسّر يقدم الظاهر المتبادر من ألفاظ الآية بالنظرة الأولية ، وما يقف عليه من باطن لا يسميه تفسيراً ، لأن التفسير يكشف عن ظاهر اللفظ . وبناء عليه ، فالمراد لديه هو الظاهر وليس الباطن ، ولعله بذلك يؤسس لرؤية جديدة في التفسير ، قد تكون مخالفة لما ذهب إليه أكثر مفسري الشيعة الإمامية ، حيث إن الرؤية الشيعية اضطربت فيما نسميه بالتأويل والتفسير ، فكان لا بد أن تأخذ بالآيات والروايات على أساس التأويل للمتشابه ، والتفسير بالمأثور : وأكثر ما نجد هذا عند العياشي في تفسيره (26) ، وفي تفسير القمي (27) ، من قبيل ما روي عن الفضيل بن يسار ، قال سألت أبا جعفر عن هذه الرؤية : «ما في القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن ؟ قال : ظهره تنزيله وبطنه تأويله» (28) ، ولعل الطباطبائي التفت إلى ما تتضمنه الرواية من تأويل وتفسير ، فحملها على الجري والانطباق انسجاماً مع موقفه بأن ما يأتي من خارج السياق والتفسير يكون جرياً وانطباقاً ، أما حقيقة التأويل فلا يعلمها إلاّ الله تعالى ، ولا بد من سلوك طريق الظواهر القرآنية ، وكشف الإبهام عن الآية من خلال التعرف إلى سبب النزول أولاً . ولهذا ، تجد المفسّر يعقّب على جري القرآن في حياة البشر ، في كونه ينطبق في التنزيل على الجري وعد المصاديق ، والجري عنده هو عين القاعدة الأصولية المعروفة ، بأن «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» ، وبهذا يجري القرآن على الماضي والحاضر والمستقبل ، ولا يقف عند المناسبات الأولى لنزول آياته . . .
إن ما تميز به الطباطبائي ، هو أنه فصل بين ما هو متشابه وما هو تأويل من جهة ، وأعطى الأولوية للظاهر من جهة ثانية ، حيث قدم المتبادر من ألفاظ الآية بالنظرة البدائية ، على اعتبار أن التفسير وحده هو الذي يكشف عن ظاهر اللفظ ، وعليه فإن المراد لديه هو الظاهر وليس الباطن (29) . . .
وهنا يمكن أن نشير إلى خلاصة نؤكد فيها على أن منهج الطباطبائي في تفسير القرآن بالقرآن ، حتّم عليه الاستغراق فيه لجهة أن يكون القرآن هو المبين والكاشف عما يمكن أن يلتبس على الباحث والمتدبر والمفسّر ، باعتباره تبياناً لنفسه ، كما هو تبيان لكل شيء . ومقتضى هذا المنهج أن لا يخرج إلى التفسير بالرواية على نحو ما جاء في المأثور عن الشيعة الإمامية من تفسير بالمأثور ، أو بالعقل والنقل معاً ، كما ظهر الأمر في تفسير كل من الطبرسي والطوسي ، ولهذا نجد الطباطبائي يقر قسماً مما روي في تفسيره ، على أنها ليست من التفسير ، وإنما من المصاديق الباطنية للألفاظ القرآنية ، وأحياناً نراه يسكت عن قسم آخر منها لسكوت القرآن عنها ، وأحياناً يكتفي بالبحث الروائي دون أن يكون له رأي أو موقف . وهذا كله يعود ، كما سبق القول ، إلى أن مقتضى التفسير أن يلحظ السياق تأكيداً على الظاهر من الألفاظ . أما ما عدا ذلك ، فإنه يدخله في دائرة الجري ، والإنطباق ، أو يكتفي بالقول : إنه من الباطن ، كما فعل في تفسير قوله تعالى : ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ ﴾ ، فعلق على ذلك بقوله : «وهو من البطن» (30) .
__________________________________
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|