أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-8-2020
4462
التاريخ: 24-8-2020
3458
التاريخ: 22-8-2020
6202
التاريخ: 24-8-2020
3953
|
قال تعالى : {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَو نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء : 192 - 212] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
بين سبحانه أمر القرآن بعد أن قص أخبار الأنبياء (عليهم السلام) ليتصل بها حديث نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به} أي نزل الله بالقرآن {الروح الأمين} يعني جبرائيل (عليه السلام) وهو أمين الله لا يغيره ولا يبدله وسماه روحا لأنه يحيي به الدين وقيل لأنه يحيي به الأرواح بما ينزل من البركات وقيل لأنه جسم روحاني {على قلبك} يا محمد وهذا على سبيل التوسع لأن الله تعالى يسمعه جبرائيل (عليه السلام) فيحفظه وينزل به على الرسول ويقرأه عليه فيعيه ويحفظه بقلبه فكأنه نزل به على قلبه وقيل معناه لقنك الله حتى تلقنته وثبته على قلبك وجعل قلبك وعاء له .
{لتكون من المنذرين} أي لتخوف به الناس وتنذرهم ب آيات الله {بلسان عربي مبين} أي بلغة العرب مبين للناس ما بهم إليه الحاجة في دينهم وقيل أراد به لسان قريش ليفهموا ما فيه ولا يقولوا ما نفهم ما قال محمد عن مجاهد وقيل لسان جرهم وإنما جعله عربيا لأن المنزل عليه عربي والمخاطبون به عرب ولأنه تحدى بفصاحته فصحاء العرب وقد تضمنت هذه الآية تشريف هذه اللغة لأنه سماها مبينا ولذلك اختارها لأهل الجنة {وأنه} أي وإن ذكر القرآن وخبره {لفي زبر الأولين} أي في كتب الأولين على وجه البشارة به وبمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا بمعنى أن الله أنزله على غير محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وواحد الزبر زبور وقيل معناه أنه أنزل على سائر الأنبياء من الدعاء إلى التوحيد والعدل والاعتراف بالبعث وأقاصيص الأمم مثل الذي نزل في القرآن .
{أ ولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} معناه أ ولم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل بمجيئه على ما تقدمت البشارة دلالة لهم على صحة نبوته لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم وكانت اليهود تبشر به وتستفتح على العرب به وكان ذلك سبب إسلام الأوس والخزرج على ما مر بيانه وعلماء بني إسرائيل عبد الله بن سلام وأصحابه عن ابن عباس وقيل هم خمسة عبد الله بن سلام وابن يامين وثعلبة وأسد وأسيد عن عطية .
{ولو نزلناه على بعض الأعجمين} : أي ولو نزلنا القرآن على رجل ليس من العرب وعلى من لا يفصح {فقرأه عليهم} أي على العرب {ما كانوا به مؤمنين} أي لم يؤمنوا به وأنفوا من اتباعه لكنا أنزلناه بلسان العرب على أفصح رجل منهم من أشرف بيت ليتدبروا فيه وليكون أدعى إلى اتباعه وتصديقه وقيل معناه لو نزلناه على أعجم من البهائم أو غيرها لما آمنوا به وإن كان فيه زيادة أعجوبة عن عبد الله بن مطيع وروي عن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن هذه الآية وهو على بعير فأشار إليه وقال هذا من الأعجمين {كذلك سلكناه في قلوب المجرمين} أي كما أنزلنا القرآن عربيا مبينا أمررناه وأدخلناه وأوقناه في قلوب الكافرين بأن أمرنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى قرأه عليهم وبينه لهم .
ثم بين أنهم مع ذلك {لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم} فيلجئهم إلى الإيمان به وهذا خبر عن الكفار الذين علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا {فيأتيهم} أي العذاب الذي يتوقعونه ويستعجلونه {بغتة} أي فجاة {وهم لا يشعرون} بمجيئه {فيقولوا هل نحن منظرون} أي مؤخرون لنؤمن ولنصدق قال مقاتل لما أوعدهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالعذاب استعجلوا العذاب تكذيبا له فقال الله {أ فبعذابنا يستعجلون} توبيخا لهم ثم قال {أ فرأيت أن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} أي أ رأيت إن أنظرناهم وأخرناهم سنين ومتعناهم بشيء من الدنيا ثم أتاهم العذاب لم يغن عنهم ما متعوا في تلك السنين من النعيم لازديادهم في الآثام واكتسابهم من الأجرام وهو استفهام في معنى التقرير {وما أهلكنا من قرية} أي وما أهلكنا قرية .
{إلا لها منذرون} أي إلا بعد إقامة الحجج عليهم بتقديم الإنذار وإرسال الرسل {ذكرى} أي تذكيرا وموعظة لهم ليتعظوا ويصلحوا فإذا لم يصلحوا مع التخويف والتحذير واستحقوا عذاب الاستئصال بإصرارهم على الكفر والعناد أهلكناهم {وما كنا ظالمين} أي وما ظلمناهم بالإهلاك لأنا لا نظلم أحدا ، نفى سبحانه عن نفسه الظلم وفي هذا تكذيب لمن زعم أن كل ظلم وكفر في الدنيا هومن خلقه وإرادته وغاية الظلم أن يعاقب عباده على ما خلقه فيهم وأراده منهم تعالى الله عن ذلك وتقدس {وما تنزلت به} أي بالقرآن {الشياطين} كما يزعمه بعض المشركين {وما ينبغي لهم} إنزال ذلك أي الشياطين {وما يستطيعون} ذلك ولا يقدرون عليه لأن الله تعالى يحرس المعجزة عن أن يموه بها المبطل فإنه إذا أراد أن يدل بها على صدق الصادق أخلصها بمثل هذه الحراسة حتى تصح الدلالة بها ومعنى قول العرب ينبغي لك أن تفعل كذا أنه يطلب منك فعله في مقتضى العقل من البغية التي هي الطلب .
{إنهم عن السمع لمعزولون} أي مصروفون عن استماع القرآن أي عن المكان الذي يستمعون ذلك فيه ممنوعون عنه بالشهب الثاقبة وقيل معناه أن الشياطين عن سمع القرآن منحون عن قتادة فإن العزل تنحية الشيء عن موضع إلى خلافه وإزالته عن أمر إلى نقيضه قال مقاتل قالت قريش إنما تجيء بالقرآن الشياطين فتلقيه على لسان محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأكذبهم لله تعالى بأن قال إنهم لا يقدرون بأن يأتوا بالقرآن من السماء قد حيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب .
____________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج7 ، ص353-355 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{وإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} .
ضمير انه للقرآن ، والمراد بالروح الأمين جبريل (عليه السلام) ، والخطاب في قلبك لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) . . بعد أن ذكر سبحانه قصص من تقدم من الأنبياء ذكر محمدا والقرآن ، وان جبريل نزل به على الرسول الأعظم ليجاهد الكافرين والمعاندين بآياته وبيناته . . وسمي جبريل بالروح لأنه نزل بالقرآن ، وهو هدى وشفاء للأرواح : {قُلْ هُو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وشِفاءٌ} [فصلت - 44] ، وسمي أيضا بالأمين لأنه مطيع للَّه ، حريص على تأدية رسالاته كما هي إلى أنبيائه تعالى ، وهو أيضا عليم بها وبمقاصدها {بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . أنظر تفسير الآية 2 من سورة يوسف ج 4 ص 286 . وبينا هناك السبب لنزول القرآن باللغة العربية .
{وإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} أي ان بعض الكتب السابقة على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بشرت به وبالقرآن . . وفيما تقدم أثبتنا بالأدلة العقلية والنقلية ان القرآن وحي من عند اللَّه ، فمن الأدلة العقلية ان القرآن تحدى الجاحدين أن يأتوا بسورة من مثله ، فحاولوا وعجزوا ، وانه أخبر عن المغيبات ، فجاءت كما هي ، وانه يتحمل الكثير من وجوه التفسير ، ولا سر لهذا إلا لأنه ممن أحاط بكل شيء علما . .
أنظر تفسير الآية 23 من سورة البقرة ج 1 ص 65 وما بعدها ، وتفسير الآية 53 من سورة النساء ج 2 ص 350 وما بعدها ، وتفسير الآية 82 من سورة النساء ج 2 ص 389 ، وتفسير الآية 55 من سورة النور ، فقرة (وجه آخر لأعجاز القرآن) .
أما الأدلة النقلية فمنها ان التوراة والإنجيل الأصليين قد بشرا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) كما صرحت الآية 157 من سورة الأعراف ، وأيضا بشرت به بعض الكتب الدينية الموغلة بالقدم - غير التوراة والإنجيل - أنظر تفسير الآية 46 من سورة البقرة ج 1 ص 233 ، وفقرة {هل الأنبياء كلهم شرقيون} ج 2 ص 492 .
{أَولَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ} . كان علماء اليهود قبل البعثة يبشرون بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، ويحدثون العرب عنه ، ويذكرونه بصفاته لقريش وغيرهم من العرب ، ولما بعث أسلم البعض من اليهود الذين كانوا يتحدثون عنه كعبد اللَّه ابن سلام وأصحابه ، وأسلم أيضا جماعة من العرب ، وتنكر له سائر اليهود وعتاة قريش . . وهذه الآية تقول للذين كذبوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعد أن سمعوا حديث اليهود عنه ، تقول لهم : كيف كذبتم به ، وقد سمعتم علماء اليهود من قبل يبشرون به ، ويعترفون بأنه مذكور بصفاته في التوراة ؟ أليس في شهادتهم هذه دليل قاطع على صدق محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ؟ وليس من شك ان هذا دليل كاف واف لمن طلب الحق لوجه الحق ، ولكن العتاة الذين أنكروا نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنكروها خوفا على مصالحهم ، وحرصا على مكانتهم ، ولم ينكروها لضعف الدليل وقصور الحجة : {وما تُغْنِي الآياتُ والنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس - 101] .
{ولَو نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} . انهم لا يؤمنون بالحق وبيناته ، سواء أجاءهم بها عربي أم أعجمي ، لأن الحق والعلم عندهم هو المصلحة ، وما عداها ليس بشيء . . وقد كررنا ذلك فيما تقدم على الرغم من وضوحه وبداهته .
{كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} أي ان المجرمين إذا سمعوا الحق أو القرآن جحدوه وكذبوا به ، وبكلام أوضح ان البذر الصالح إنما يحيا وينمو ويأتي ثمره إذا صادف أرضا طيبة صالحة ، أما إذا صادف أرضا سبخة خبيثة فإن صلاحه لا يجدي نفعا : {والْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} [الأعراف - 58] . وكذلك الحق يأتي بأطيب الثمار والآثار إذا صادف نفسا زكية نقية ، ولا يثمر شيئا إذا كانت النفس خبيثة مجرمة ، وعلى هذا فمعنى {كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} ان القرآن لا أثر له في نفوسهم إلا الجحود والتكذيب .
{لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وهُمْ لا يَشْعُرُونَ} . ضمير لا يؤمنون يعود إلى المجرمين ، وضمير به إلى القرآن ، والمعنى ان المجرمين لا يؤمنون بالحق مهما كانت دلائله إلا إذا رأوا العذاب فجأة ، أما إذا أنذروا به من قبل فيعرضون ويسخرون . . وبداهة ان الخضوع بين يدي العذاب نفاق لا ايمان ، وإكراه لا اختيار {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} ؟ . استعجلوا العذاب قبل أن يروه ، وقالوا لنبيهم ساخرين : فأتنا به ان كنت من الصادقين ، ولما رأوه عيانا ندموا ، وتمنوا لو أمهلهم اللَّه قليلا كي يؤمنوا ويطيعوا . . وهكذا المضيع يتمنى الرجعة أو الامهال بعد فوات الأوان .
{أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ} . هذا من كلامه تعالى يرد به على الذين قالوا لنبيهم : فائتنا بما تعدنا . . فأسقط علينا كسفا من السماء .
ومعناه كيف تستعجلون العذاب ، وإذا نزل لا تستطيعون له صرفا ، ولا منه مفرا {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ} . تمنى المجرمون الامهال حين رأوا العذاب ، فأجاب سبحانه بأن الامهال والإملاء وان طال أمده فإنه لا يجدي نفعا عند نزول العذاب ، بل كلما طال أمد المجرمين في الدنيا ، وازدادوا من نعيمها ازدادوا إثما وجرما ، وتضاعف عقابهم وعذابهم .
{وما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ} هذا بمعنى قوله تعالى : {وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} - 15 الاسراء {ذِكْرى وما كُنَّا ظالِمِينَ} في إهلاك القرى ، حيث أرسلنا إلى أهلها رسلا منذرين بالعذاب ، مذكرين بطاعة اللَّه ، ومزودين بالأدلة والبراهين ، فكذبوا الرسل فحق عقاب اللَّه .
{وما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وما يَنْبَغِي لَهُمْ وما يَسْتَطِيعُونَ} . كان أهل الجاهلية يعتقدون بالكهانة ، وان لكل كاهن شيطانا يأتيه بأخبار الغيب ، ولما نزل القرآن قالوا هذا من وحي الشيطان إلى الكهنة ، وهؤلاء بدورهم يوحون به إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو هو كاهن تنزل عليه الشياطين ، فرد سبحانه هذا الزعم بأن القرآن هدى ونور ، وبينات قاطعة ساطعة ، وأين الشياطين والكهنة من الهدى والبينات ؟ . .
انهم أضعف وأحقر . . هذا ، إلى {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} ممنوعون من سماع القرآن حين يوحي اللَّه به إلى جبريل لينقله إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) . وإذا عجز الشياطين عن إنشاء آية من مثله ، وعن سماع كلمة واحدة منه فكيف ينقلونه إلى الكهنة ، ويخبرونهم به ؟ .
_____________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج5 ، ص 518-520 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
تشير الآيات إلى ما هو كالنتيجة المستخرجة من القصص السبع السابقة ويتضمن التوبيخ والتهديد لكفار الأمة .
وفيها دفاع عن نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاحتجاج عليه بذكره في زبر الأولين وعلم علماء بني إسرائيل به ، ودفاع عن كتابه بالاحتجاج على أنه ليس من إلقاءات الشياطين ولا من أقاويل الشعراء .
قوله تعالى : {وإنه لتنزيل رب العالمين} الضمير للقرآن ، وفيه رجوع إلى ما في صدر السورة من قوله : {تلك آيات الكتاب المبين} وتعقيب لحديث كفرهم به كما في قوله بعد ذلك : {وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين ، فقد كذبوا به} الآية .
والتنزيل والإنزال بمعنى واحد ، غير أن الغالب على باب الإفعال الدفعة وعلى باب التفعيل التدريج ، وأصل النزول في الأجسام انتقال الجسم من مكان عال إلى ما هو دونه وفي غير الأجسام بما يناسبه .
وتنزيله تعالى إخراجه الشيء من عنده إلى موطن الخلق والتقدير وقد سمى نفسه بالعلي العظيم والكبير المتعال ورفيع الدرجات والقاهر فوق عباده فيكون خروج الشيء بإيجاده من عنده إلى عالم الخلق والتقدير - وإن شئت فقل : إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة - تنزيلا منه تعالى له .
وقد استعمل الإنزال والتنزيل في كلامه تعالى في أشياء بهذه العناية كقوله تعالى : {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ } [الأعراف : 26] ، وقوله : {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الزمر : 6] ، وقوله : { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } [الحديد : 25] ، وقوله : {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة : 105] ، وقد أطلق القول في قوله : {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر : 21] .
ومن الآيات الدالة على اعتبار هذا المعنى في خصوص القرآن قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف : 3 ، 4] .
وقد أضيف التنزيل إلى رب العالمين للدلالة على توحيد الرب تعالى لما تكرر مرارا أن المشركين إنما كانوا يعترفون به تعالى بما أنه رب الأرباب ولا يرون أنه رب العالمين .
قوله تعالى : {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} المراد بالروح الأمين هو جبرئيل ملك الوحي بدليل قوله : {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [البقرة : 97] وقد سماه في موضع آخر بروح القدس : {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } [النحل : 102] ، وقد تقدم في تفسير سورتي النحل والإسراء ما يتعلق بمعنى الروح من الكلام .
وقد وصف الروح بالأمين للدلالة على أنه مأمون في رسالته منه تعالى إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يغير شيئا من كلامه تعالى بتبديل أو تحريف بعمد أو سهو أو نسيان كما أن توصيفه في آية أخرى بالقدس يشير إلى ذلك .
وقوله : {نزل به الروح} الباء للتعدية أي نزله الروح الأمين وأما قول من قال : إن الباء للمصاحبة والمعنى نزل معه الروح فلا يلتفت إليه لأن العناية في المقام بنزول القرآن لا بنزول الروح مع القرآن .
والضمير في {نزل به} للقرآن بما أنه كلام مؤلف من ألفاظ لها معانيها الحقة فإن ألفاظ القرآن نازلة من عنده تعالى كما أن معانيها نازلة من عنده على ما هو ظاهر قوله : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } [القيامة : 18] ، وقوله : {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } [آل عمران : 108] ، [الجاثية : 6] ، إلى غير ذلك .
فلا يعبأ بقول من قال : إن الذي نزل به الروح الأمين إنما هو معاني القرآن الكريم ثم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعبر عنها بما يطابقها ويحكيها من الألفاظ بلسان عربي .
وأسخف منه قول من قال : إن القرآن بلفظه ومعناه من منشئات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألقته مرتبة من نفسه الشريفة تسمى الروح الأمين إلى مرتبة منها تسمى القلب .
والمراد بالقلب المنسوب إليه الإدراك والشعور في كلامه تعالى هو النفس الإنسانية التي لها الإدراك وإليها تنتهي أنواع الشعور والإرادة دون اللحم الصنوبري المعلق عن يسار الصدر الذي هو أحد الأعضاء الرئيسة كما يستفاد من مواضع في كلامه تعالى ، كقوله : { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } [الأحزاب : 10] ، أي الأرواح ، وقوله : {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [البقرة : 283] ، أي نفسه إذ لا معنى لنسبة الإثم إلى العضو الخاص .
ولعل الوجه في قوله : {نزل به الروح الأمين على قلبك} دون أن يقول : عليك هو الإشارة إلى كيفية تلقيه (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن النازل عليه ، وأن الذي كان يتلقاه من الروح هو نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواس الظاهرة التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية .
فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى ويسمع حينما كان يوحى إليه من غير أن يستعمل حاستي البصر والسمع كما روي أنه كان يأخذه شبه إغماء يسمى برجاء الوحي .
فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى الشخص ويسمع الصوت مثل ما نرى الشخص ونسمع الصوت غير أنه ما كان يستخدم حاستي بصره وسمعه الماديتين في ذلك كما نستخدمهما .
ولوكان رؤيته وسمعه بالبصر والسمع الماديين لكان ما يجده مشتركا بينه وبين غيره فكان سائر الناس يرون ما يراه ويسمعون ما يسمعه والنقل القطعي يكذب ذلك فكثيرا ما كان يأخذه برجاء الوحي وهوبين الناس فيوحى إليه ومن حوله لا يشعرون بشيء ولا يشاهدون شخصا يكلمه ولا كلاما يلقى إليه .
والقول بأن من الجائز أن يصرف الله تعالى حواس غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) من الناس عن بعض ما كانت تناله حواسه وهي الأمور الغيبية المستورة عنا .
هدم لبنيان التصديق العلمي إذ لو جاز مثل هذا الخطإ العظيم على الحواس وهي مفتاح العلوم الضرورية والتصديقات البديهية وغيرها لم يبق وثوق على شيء من العلوم والتصديقات .
على أن هذا الكلام مبني على أصالة الحس وأن لا وجود إلا لمحسوس وهومن أفحش الخطإ وقد تقدم في تفسير سورة مريم كلام في معنى تمثل الملك نافع في المقام .
وربما قيل في وجه تخصيص القلب بالإنزال إنه لكونه هو المدرك المكلف دون الجسد وإن كان يتلقى الوحي بتوسيط الأدوات البدنية من السمع والبصر ، وقد عرفت ما فيه .
وربما قيل : لما كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جهتان : جهة ملكية يستفيض بها ، وجهة بشرية يفيض بها ، جعل الإنزال على روحه لأنها المتصفة بالصفات الملكية التي يستفيض بها من الروح الأمين ، وللإشارة إلى ذلك قيل .
{على قلبك} ولم يقل : عليك مع كونه أخصر . انتهى .
وهذا أيضا مبني على مشاركة الحواس والقوى البدنية في تلقي الوحي فيرد عليه ما قدمناه .
وذكر جمع من المفسرين أن المراد بالقلب هو العضو الخاص البدني وأن الإدراك كيفما كان من خواصه .
فمنهم من قال : إن جعل القلب متعلق الإنزال مبني على التوسع لأن الله تعالى يسمع القرآن جبرئيل بخلق الصوت فيحفظه وينزل به على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقرؤه عليه فيعيه ويحفظه بقلبه فكأنه نزل به على قلبه .
ومنهم من قال : إن تخصيص القلب بالإنزال لأن المعاني الروحانية تنزل أولا على الروح ثم تنتقل منها إلى القلب لما بينهما من التعلق ثم تنتقل منه إلى الدماغ فينتقش بها لوح المتخيلة .
ومنهم من قال : إن تخصيصه به للإشارة إلى كمال تعقله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يعتبر الوسائط من سمع وبصر وغيرهما .
ومنهم من قال : إن ذلك للإشارة إلى صلاح قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقدسه حيث كان منزلا لكلامه تعالى ليعلم به صلاح سائر أجزائه وأعضائه فإن القلب رئيس سائر الأعضاء وملكها وإذا صلح الملك صلحت رعيته .
ومنهم من قال : إن ذلك لأن الله تعالى جعل لقلب رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) سمعا وبصرا مخصوصين يسمع ويبصر بهما تمييزا لشأنه من غيره كما يشعر به قوله تعالى : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم : 11] .
وهذه الوجوه مضافا على اشتمال أكثرها على المجازفة مبنية على قياس هذه الأمور الغيبية على ما عندنا من الحوادث المادية وإجراء حكمها فيها وقد بلغ من تعسف بعضهم أن قال : إن معنى إنزال الملك القرآن أن الله ألهمه كلامه وهو في السماء وعلمه قراءته ثم الملك أداه في الأرض وهو يهبط في المكان وفي ذلك طريقتان : إحداهما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية فأخذه من الملك ، وثانيتهما أن الملك انخلع إلى صورة البشرية حتى يأخذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأولى أصعب الحالين . انتهى .
وليت شعري ما الذي تصوره من انخلاع الإنسان من صورته إلى صورة الملكية وصيرورته ملكا ثم عوده إنسانا ومن انخلاع الملك إلى صورة الإنسانية وقد فرض لكل منهما هوية مغايرة للآخر لا رابطة بين أحدهما والآخر ذاتا وأثرا وفي كلامه مواضع أخرى للنظر غير خفية على من تأمل فيه .
وللبحث تتمة لعل الله سبحانه يوفقنا لاستيفائها بإيراد كلام جامع في الملك وآخر في الوحي .
وقوله : {لتكون من المنذرين} أي من الداعين إلى الله سبحانه بالتخويف من عذابه وهو المراد بالإنذار في عرف القرآن دون النبي أو الرسول بالخصوص ، قال تعالى في مؤمني الجن : {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين{ : الأحقاف : 29 ، وقال في المتفقهين من المؤمنين : {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ } [التوبة : 122] .
وإنما ذكر إنذاره (صلى الله عليه وآله وسلم) غاية لإنزال القرآن دون نبوته أو رسالته لأن سياق آيات السورة سياق التخويف والتهديد .
وقوله {بلسان عربي مبين} أي ظاهر في عربيته أو مبين للمقاصد تمام البيان والجار والمجرور متعلق بنزل أي أنزله بلسان عربي مبين .
وجوز بعضهم أن يكون متعلقا بقوله : {منذرين} والمعنى أنزله على قلبك لتدخل في زمرة الأنبياء من العرب وقد ذكر منهم في القرآن هود وصالح وإسماعيل وشعيب (عليهما السلام) وأول الوجهين أحسنهما .
قوله تعالى : {وإنه لفي زبر الأولين} الضمير للقرآن أو نزوله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والزبر جمع زبور وهو الكتاب والمعنى وإن خبر القرآن أو خبر نزوله عليك في كتب الماضين من الأنبياء .
وقيل : الضمير لما في القرآن من المعارف الكلية أي إن المعارف القرآنية موجودة مذكورة في كتب الأنبياء الماضين .
وفيه أولا : أن المشركين ما كانوا يؤمنون بالأنبياء وكتبهم حتى يحتج عليهم بما فيها من التوحيد والمعاد وغيرهما ، وهذا بخلاف ذكر خبر القرآن ونزوله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتب الأولين فإنه حينئذ يكون ملحمة تضطر النفوس إلى قبولها .
وثانيا : أنه لا يلائم الآية التالية .
قوله تعالى : {أ ولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} ضمير {أن يعلمه} لخبر القرآن أو خبر نزوله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي أ ولم يكن علم علماء بني إسرائيل بخبر القرآن أو نزوله عليك على سبيل البشارة في كتب الأنبياء الماضين آية للمشركين على صحة نبوتك وكانت اليهود تبشر بذلك وتستفتح على العرب به كما مر في قوله تعالى : {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } [البقرة : 89] .
وقد أسلم عدة من علماء اليهود في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واعترفوا بأنه مبشر به في كتبهم والسورة من أوائل السور المكية النازلة قبل الهجرة ولم تبلغ عداوة اليهود للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبلغها بعد الهجرة وكان من المرجو أن ينطقوا ببعض ما عندهم من الحق ولو بوجه كلي .
قوله تعالى : {ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين} قال في المفردات : ، العجمة خلاف الإبانة والإعجام الإبهام - إلى أن قال - والعجم خلاف العرب والعجمي منسوب إليهم ، والأعجم من في لسانه عجمة عربيا كان أو غير عربي اعتبارا بقلة فهمهم عن العجم ، ومنه قيل للبهيمة عجماء والأعجمي منسوب إليه قوله تعالى : {ولو نزلناه على بعض الأعجمين} على حذف الياءات انتهى .
ومقتضى ما ذكره - كما ترى - أن أصل الأعجمين الأعجميين ثم حذفت ياء النسبة وبه صرح بعض آخر ، وذكر بعضهم أن الوجه أن أعجم مؤنثه عجماء وأفعل فعلاء لا يجمع جمع السلامة لكن الكوفيين من النحاة يجوزون ذلك وظاهر اللفظ يؤيد قولهم فلا موجب للقول بالحذف .
وكيف كان فظاهر السياق اتصال الآيتين بقوله : {بلسان عربي مبين} فتكونان في مقام التعليل له ويكون المعنى : نزلناه عليك بلسان عربي ظاهر العربية واضح الدلالة ليؤمنوا به ولا يتعللوا بعدم فهمهم مقاصده ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلسان أعجمي ما كانوا به مؤمنين وردوه بعدم فهم مقاصده .
فيكون المراد بنزوله على بعض الأعجمين نزوله أعجميا وبلسانه ، والآيتان والتي بعدهما في معنى قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [فصلت : 44] .
وقال بعضهم : إن المعنى ولو نزلناه قرآنا عربيا كما هو بنظمه الرائق المعجز على بعض الأعجمين الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية فقرأه عليهم قراءة صحيحة خارقة للعادات ما كانوا به مؤمنين مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء لفرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة .
قال : وأما قول بعضهم : إن المعنى ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين فليس بذاك فإنه بمعزل من المناسبة لمقام بيان تماديهم في المكابرة والعناد .
انتهى ملخصا .
وفيه أن اتصال الآيتين بقوله : {بلسان عربي مبين} أقرب إليهما من اتصالهما بسياق تمادي الكفار في كفرهم وجحودهم وقد عرفت توضيحه .
ويمكن أن يورد على الوجه السابق أن الضمير في قوله : {ولو نزلناه على بعض الأعجمين} راجع إلى هذا القرآن الذي هو عربي فلوكان المراد تنزيله بلسان أعجمي لكان المعنى ولو نزلنا العربي غير عربي ولا محصل له .
ويرده أنه من قبيل قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف : 3] ، ولا معنى لقولنا : إنا جعلنا العربي عربيا فالمراد بالقرآن على أي حال الكتاب المقروء .
قوله تعالى : {كذلك سلكناه في قلوب المجرمين} الإشارة بقوله : {كذلك} إلى الحال التي عليها القرآن عند المشركين وقد ذكرت في الآيات السابقة وهي أنهم معرضون عنه لا يؤمنون به وإن كان تنزيلا من رب العالمين وكان عربيا مبينا غير أعجمي وكان مذكورا في زبر الأولين يعلمه علماء بني إسرائيل .
والسلوك الإدخال في الطريق والإمرار ، والمراد بالمجرمين هم الكفار والمشركون وذكرهم بوصف الإجرام للإشارة إلى علة الحكم وهو سلوكه في قلوبهم على هذه الحال المبغوضة والمنفورة وأن ذلك مجازاة إلهية جازاهم بها عن إجرامهم وليعم الحكم بعموم العلة .
والمعنى على هذه الحال - وهي أن يكون بحيث يعرض عنه ولا يؤمن به - ندخل القرآن في قلوب هؤلاء المشركين ونمره في نفوسهم جزاء لإجرامهم وكذلك كل مجرم .
وقيل : الإشارة إلى ما ذكر من أوصاف القرآن الكريمة والمعنى : ندخل القرآن ونمره في قلوب المجرمين بمثل ما بينا له الأوصاف فيرون أنه كتاب سماوي ذو نظم معجز خارج عن طوق البشر وأنه مبشر به في زبر الأولين يعلمه علماء بني إسرائيل وتتم الحجة به عليهم وهو بعيد من السياق .
وقيل : الضمير في {سلكناه} للتكذيب بالقرآن والكفر به المدلول عليه بقوله : {ما كانوا به مؤمنين} هذا وهو قريب من الوجه الأول لكن الوجه الأول ألطف وأدق ، وقد ذكره في الكشاف ، .
وقد تبين بما تقدم أن المراد بالمجرمين مشركو مكة غير أن عموم وصف الإجرام يعمم الحكم ، وقال بعضهم : إن المراد بالمجرمين غير مشركي مكة من معاصريهم ومن يأتي بعدهم ، والمعنى : كما سلكناه في قلوب مشركي مكة نسلكه في قلوب غيرهم من المجرمين .
ولعل الذي دعاه إلى اختيار هذا الوجه إشكال اتحاد المشبه والمشبه به على الوجه الأول مع لزوم المغايرة بينهما فاعتبر المشار إليه بقوله : {كذلك} السلوك في قلوب مشركي مكة وهو المشبه به وجعل المشبه غيرهم من المجرمين وفيه أن تشبيه الكلي ببعض أفراده للدلالة على سراية حكمه في جميع الأفراد طريقة شائعة .
ومن هنا يظهر أن هناك وجها آخر وهو أن يكون المراد بالمجرمين ما يعم مشركي مكة وغيرهم بجعل اللام فيه لغير العهد ولعل الوجه الأول أقرب من السياق .
قوله تعالى : {لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم - إلى قوله - منظرون} تفسير وبيان لقوله : {كذلك سلكناه} إلخ هذا على الوجه الأول والثالث من الوجوه المذكورة في الآية السابقة وأما على الوجه الثاني فهو استئناف غير مرتبط بما قبله .
وقوله : {حتى يروا العذاب الأليم} أي حتى يشاهدوا العذاب الأليم فيلجئهم إلى الإيمان الاضطراري الذي لا ينفعهم ، والظاهر أن المراد بالعذاب الأليم ما يشاهدونه عند الموت واحتمل بعضهم أن يكون المراد به ما أصابهم يوم بدر من القتل ، لكن عموم الحكم في الآية السابقة لمشركي مكة وغيرهم لا يلائم ذلك .
وقوله : {فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون} كالتفسير لقوله : {حتى يروا العذاب الأليم} إذ لولم يأتهم بغتة وعلموا به قبل موعده لاستعدوا له وآمنوا باختيار منهم غير ملجئين إليه .
وقوله : {فيقولوا هل نحن منظرون} كلمة تحسر منهم .
قوله تعالى : {أ فبعذابنا يستعجلون} توبيخ وتهديد .
قوله تعالى : {أ فرأيت إن متعناهم سنين - إلى قوله - يمتعون} متصل بقوله : {فيقولوا هل نحن منظرون} ومحصل المعنى أن تمني الإمهال والإنظار تمني أمر لا ينفعهم لو وقع على ما يتمنونه ولم يغن عنهم شيئا لو أجيبوا إلى ما سألوه فإن تمتيعهم أمدا محدودا طال أو قصر لا يرفع العذاب الخالد الذي قضي في حقهم .
وهو قوله : {أ فرأيت إن متعناهم سنين} معدودة ستنقضي : {ثم جاءهم ما كانوا يوعدون} من العذاب بعد انقضاء سني الإنظار والإمهال {ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} أي تمتيعهم أمدا محدودا .
قوله تعالى : {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى} إلخ ، الأقرب أن يكون قوله : {لها منذرون} حالا من {قرية} وقوله : {ذكرى} حالا من ضمير الجمع في {منذرون} أو مفعولا مطلقا عامله {منذرون} لكونه في معنى مذكرون والمعنى ظاهر ، وقيل غير ذلك مما لا جدوى في ذكره وإطالة البحث عنه .
وقوله : {وما كنا ظالمين} ورود النفي على الكون دون أن يقال : وما ظلمناهم ونحو ذلك يفيد نفي الشأنية أي وما كان من شأننا ولا المترقب منا أن نظلمهم .
والجملة في مقام التعليل للحصر السابق والمعنى : ما أهلكنا من قرية إلا في حال لها منذرون مذكرون تتم بهم الحجة عليهم لأنا لو أهلكناهم في غير هذه الحال لكنا ظالمين لهم وليس من شأننا أن نظلم أحدا فالآية في معنى قوله تعالى : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } [الإسراء : 15] .
كلام في معنى نفي الظلم عنه تعالى من لوازم معنى الظلم المتساوية له فعل الفاعل وتصرفه ما لا يملكه من الفعل والتصرف ، ويقابله العدل ولازمه أنه فعل الفاعل وتصرفه ما يملكه .
ومن هنا يظهر أن أفعال الفواعل التكوينية من حيث هي مملوكة لها تكوينا لا يتحقق فيها معنى الظلم لأن فرض صدور الفعل عن فاعله تكوينا مساوق لكونه مملوكا له بمعنى قيام وجوده به قياما لا يستقل دونه .
ولله سبحانه ملك مطلق منبسط على الأشياء من جميع جهات وجودها لقيامها به تعالى من غير غنى عنه واستقلال دونه فأي تصرف تصرف به فيها مما يسرها أو يسوؤها أو ينفعها أو يضرها ليس من الظلم في شيء وإن شئت فقل : عدل بمعنى ما ليس بظلم فله أن يفعل ما يشاء وله أن يحكم ما يريد كل ذلك بحسب التكوين .
فله تعالى ملك مطلق بذاته ، ولغيره من الفواعل التكوينية ملك تكويني بالنسبة إلى فعله حسب الإعطاء والموهبة الإلهية وهو ملك في طول ملكه تعالى وهو المالك لما ملكها والمهيمن على ما عليه سلطها .
ومن جملة هذه الفواعل النوع الإنساني بالنسبة إلى أفعاله وخاصة ما نسميها بالأفعال الاختيارية والاختيار الذي يتعين به هذه الأفعال ، فالواحد منا يجد من نفسه عيانا أنه يملك الاختيار بمعنى إمكان الفعل والترك معا ، فإن شاء فعل وإن لم يشأ ترك فهو يرى نفسه حرا يملك الفعل والترك ، أي فعل وترك كانا ، بمعنى إمكان صدور كل منهما عنه .
ثم إن اضطرار الإنسان إلى الحياة الاجتماعية المدنية اضطر العقل أن يغمض عن بعض ما للإنسان من حرية العمل ويرفع اليد عن بعض الأفعال التي كان يرى أنه يملكها وهي التي يختل بإتيانها أمر المجتمع فيختل نظم حياته نفسه وهذه هي المحرمات والمعاصي التي تنهى عنها القوانين المدنية أو السنن القومية أو الأحكام الملوكية الدائرة في المجتمعات .
ومن الضروري لتحكيم هذه القوانين والسنن أن يجعل نوع من الجزاء السيىء على المتخلف عنها - بشرط العلم وتمام الحجة لأنه شرط تحقق التكليف - من ذم أو عقاب ، ونوع من الأجر الجميل للمطيع الذي يحترمها من مدح أو ثواب .
ومن الضروري أن ينتصب على المجتمع والقوانين الجارية فيها من يجريها على ما هي عليه وهو مسئول عما نصب له وخاصة بالنسبة إلى أحكام الجزاء ، فلولم يكن مسئولا وجاز له أن يجازي وأن لا يجازي ويأخذ المحسن ويترك المسيء لغا وضع القوانين والسنن من رأس .
هذه أصول عقلائية جارية في الجملة في المجتمعات الإنسانية منذ استقر هذا النوع على الأرض منبعثة عن فطرتهم الإنسانية .
وقد دلت البراهين العقلية وأيدها تواتر الأنبياء والرسل من قبله تعالى على أن القوانين الاجتماعية وسنن الحياة يجب أن تكون من عنده تعالى وهي أحكام ووظائف إنسانية تهدي إليها الفطرة الإنسانية وتضمن سعادة حياته وتحفظ مصالح مجتمعه .
وهذه الشريعة السماوية الفطرية واضعها هو الله سبحانه ومجريها من حيث الثواب والعقاب - وموطنهما موطن الرجوع إليه تعالى – هو الله سبحانه .
ومقتضى تشريعه تعالى هذه الشرائع السماوية واعتباره نفسه مجريا لها أنه أوجب على نفسه إيجابا تشريعيا - وليس بالتكويني - أن لا يناقض نفسه ولا يتخلف بإهمال أو إلغاء جزاء يستوجبه خلاف أو إعمال جزاء لا يستحقه عمل كتعذيب الغافل الجاهل بعذاب المتعمد المعاند ، وأخذ المظلوم بإثم الظالم وإلا كان ظلما منه ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
ولعل هذا معنى ما يقال : إن الظلم مقدور له تعالى لكنه ليس بواقع البتة لأنه نقص كمال يتنزه تعالى عنه ففرض الظلم منه تعالى من فرض المحال وليس بفرض محال ، وهو المستفاد من ظاهر قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } [الشعراء : 209] ، وقوله : {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا } [يونس : 44] ، وقوله : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت : 46] ، وقوله : {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء : 165] ، فظاهرها أنها ليست من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع كما يومىء إليه تفسير من فسرها بأن المعنى أن الله لا يفعل فعلا لو فعله غيره لكان ظالما .
فإن قلت : ما ذكر من وجوب إجراء الجزاء ثوابا أو عقابا يخالف ما هو المسلم عندهم أن ترك عقاب العاصي جائز لأنه من حق المعاقب ومن الجائز على صاحب الحق تركه وعدم المطالبة به بخلاف ثواب المطيع لأنه من حق الغير وهو المطيع فلا يجوز تركه وإبطاله .
على أنه قيل : إن الإثابة على الطاعات من الفضل دون الاستحقاق لأن العبد وعمله لمولاه فلا يملك شيئا حتى يعاوضه بشيء .
قلت : ترك عقاب العاصي في الجملة مما لا كلام فيه لأنه من الفضل وأما بالجملة فلا لاستلزامه لغوية التشريع والتقنين وترتيب الجزاء على العمل .
وأما كون ثواب الأعمال من الفضل بالنظر إلى كون عمل العبد كنفسه لله فلا ينافي فضلا آخر منه تعالى على عبده باعتبار عمله ملكا له ، ثم جعل ما يثيبه عليه أجرا لعمله ، والقرآن مليء بحديث الأجر على الأعمال الصالحة ، وقد قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } [التوبة : 111] .
قوله تعالى : {وما تنزلت به الشياطين - إلى قوله - لمعزولون} شروع في الجواب عن قول المشركين : إن لمحمد جنا يأتيه بهذا الكلام ، وقولهم : إنه شاعر ، وقدم الجواب عن الأول وقد وجه الكلام أولا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبين له أن القرآن ليس من تنزيل الشياطين وطيب بذلك نفسه ثم وجه القول إلى القوم فبينه لهم بما في وسعهم أن يفقهوه .
فقوله : {وما تنزلت به الشياطين} أي ما نزلته والآية متصلة بقوله : {وإنه لتنزيل رب العالمين} ووجه الكلام كما سمعت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدليل قوله تلوا : {فلا تدع مع الله إلها آخر} إلى آخر الخطابات المختصة به (صلى الله عليه وآله وسلم) المتفرعة على قوله : {وما تنزلت به} إلخ ، على ما سيجيء بيانه .
وإنما وجه الكلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون القوم لأنه معلل بما لا يقبلونه بكفرهم أعني قوله : {إنهم عن السمع لمعزولون} والشيطان الشرير وجمعه الشياطين والمراد بهم أشرار الجن .
وقوله : {وما ينبغي لهم} أي للشياطين .
قال في مجمع البيان : ، ومعنى قول العرب : ينبغي لك أن تفعل كذا أنه يطلب منك فعله في مقتضى العقل من البغية التي هي الطلب . انتهى .
والوجه في أنه لا ينبغي لهم أن يتنزلوا به أنهم خلق شرير لا هم لهم إلا الشر والفساد والأخذ بالباطل وتصويره في صورة الحق ليضلوا به عن سبيل الله ، والقرآن كلام حق لا سبيل للباطل إليه فلا يناسب جبلتهم الشيطانية أن يلقوه إلى أحد .
وقوله : {وما يستطيعون} أي وما يقدرون على التنزل به لأنه كلام سماوي تتلقاه الملائكة من رب العزة فينزلونه بأمره في حفظ وحراسة منه تعالى كما قال : {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } [الجن : 27 ، 28] ، وإلى ذلك يشير قوله : {إنهم عن السمع} إلخ .
وقوله : {إنهم عن السمع لمعزولون} أي إن الشياطين عن سمع الأخبار السماوية والاطلاع على ما يجري في الملإ الأعلى معزولون حيث يقذفون بالشهب الثاقبة لو تسمعوا كما ذكره الله في مواضع من كلامه .
_____________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج15 ، ص251-262 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
عظمة القرآن في كُتُبِ «السابقين» . (2)
بعد بيان سبع قصص عن الأنبياء السابقين ، والعبر الكامنة في تأريخ حياتهم ، يعود القرآن مرة أخرى إلى البحث الذي شرعت به السورة ، بحث عظمة القرآن وحقانية هذا الكلام الإلهي المبين ، إذ يقول : {وإنّه لتنزيل ربّ العالمين} .
وأساساً فإن بيان جوانب مختلفة عن سير الأنبياء السابقين بهذه الدقة والظرافة ، والخلو من أي نوع من الخرافات والأساطير الكاذبة ، وفي محيط مليء بالأساطير والخرافات ، ومن قِبَلِ إنسان لا يعرف القراءة والكتابة ، أولم يسبق له القرآن ووضوح مفاهيمه ، والآيات التالية تؤية هذا المعنى ، كما جاء في الآية (44) من سورة فصلت {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } [فصلت : 44] .
فالمراد من الأعجمي هنا هو الكلام غير الفصيح ! . . .
والآية التالية تشير إلى دليل آخر من دلائل حقانية القرآن فتقول : {وإنه لفي زُبرِ الأولين} . (3)
وخاصّة أن أوصاف هذا النّبي العظيم وأوصاف هذا الكتاب السماوي الخالد ، جاءت في توراة موسى (عليه السلام) بحيث أن علماء بني إسرائيل كانوا يعرفون كل ذلك ، حتى قيل أن إيمان قبيلتي الأوس والخزرج بالنّبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) كان على أثر ما كان يتوقعه علماء اليهود عن ظهور هذا النّبي العظيم ، ونزول هذا الكتاب السماوي الكريم . .
لذا فإنّ القرآن يضيف هنا قائلا : {أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} .
وواضح أنه مع وجود اُولئك العلماء من بني إسرائيل في ذلك المحيط المليء بالمشركين ، لم يكن من الممكن أن يتحدث القرآن عن نفسه «جزافاً» واعتباطاً . .
لأنّه كان سيردّ عليه من كل حدب وصوب بالإنكار ، وهذا بنفسه دليل على أن هذا الموضوع كان جليّاً في ذلك المحيط ، بحيث لم يبق مجال للإنكار حين نزول الآيات ـ محل البحث ـ
ونقرأ في الآية (89) من سورة البقرة أيضاً : {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة : 89] .
وكل هذا شاهد جليّ على صدق آيات القرآن وحقانية دعوته ! . . .
وقوله تعالى : { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} [الشعراء : 198 - 203] .
لو نُزّل القرآن على الاعاجم . . .
في هذه الآيات يتكلم القرآن على واحدة من الذرائع الإحتمالية من قبل الكفار وموقفه منها ، ويستكمل البحث السابق في نزول القرآن بلسان عربي مبين ، فيقول : {ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين} .
قلنا سابقاً أن كلمة «عربي» قد يراد منها من ينتمي إلى العرب ، وقد تطلق على الكلام الفصيح أيضاً . و«عجمي» في مقابل العربي كذلك له معنيان ، فقد يُراد منه من ينتمي إلى غير العرب ، وقد يراد منه الكلام غير الفصيح ، وكلا المعنيين في الآية الآنفة محتمل ، إلاّ أن الاحتمال الاكثر هو أن المقصود غير العرب ، كما يبدو .
بعض العرب ممن يتمسك بالعرقية ويعبد القومية كانوا متعصبين الى درجة بحيث لو نزل القرآن على غير العرب لما آمن به ورغم أنّ القرآن نزل على عربي شريف من أسرة كريمة ، في بيان رائع رائق بليغ وقد بشرت به الكتب السماوية السابقة . . . وشهد بذلك علماء بني إسرائيل ، ومع ذلك كلّه لم يؤمن به الكثير من العرب ، فكيف إذا كان نبيّهم ليس فيه أية صفة من الصفات المذكورة ! . . .
ثمّ تضيف الآية لمزيد التأكيد : {كذلك سلكناه في قلوب المجرمين} .
في بيان بليغ وبلسان رجل من بينهم ، وهم يعرفونه ويعرفون سيرته وأخلاقه . . . وبمحتوى بشرت به الكتب السماوية السابقة . . . والخلاصة . . . إننا نسلكه بجميع هذه الأوصاف في قلوب المجرمين ليكون مقبولا سهلا مطبوعاً إلاّ أن هذه القلوب المرضى تمتنع عن قبوله . . . فمثله كمثل الطعام الطيب النافع الذي تلفظه المعدة السقيمة .
(التعبير «سلكناه» من مادة (سلوك) ومعناه العبور من الطريق ، فيرد فيه من طرف ويخرج من آخر)
ولذلك تقول الآية : {لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم} أي إن هؤلاء المجرمين المعاندين ، يظلون على حالهم حتى نزول العذاب . . .
واحتمل بعض المفسّرين في تفسير الآية أن المراد من {كذلك سلكناه في قلوب المجرمين} هو أننا أدخلنا العناد واللجاجة والعصبية وعدم التأثير في قلوب المجرمين ، بسبب ذنوبهم وجرمهم .
وطبقاً لهذا المعنى فالآية محل البحث تشبه الآية {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة : 7] .
إلاّ أن التّفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع الآيات السابقة واللاحقة ، لذلك فقد اختاره أغلب المفسّرين . (4)
أجل ، إنّهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب {فيأتيهم بغتةً وهم لا يشعرون} . (5)
لا شك أن المراد من هذا العذاب الذي يأخذهم بغتةً ، هو عذاب الدنيا والبلاء المهلك وعقاب الإستئصال ! . . .
لذا فإنّ القرآن يحكي عن حالهم فيقول : إنّهم في هذه الحال يرجعون إلى أنفسهم ، ويندمون على أفعالهم ، ويتملكهم الخوف من المصير المرعب ، ويودون بأن يعطوا فرصة لجبران ما فات والايمان بالرسالة الالهية : {فيقولوا هل نحن منظرون} . . .
{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَءَيْتُ إِن مَّتَّعْنَهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء : 207 - 212] .
تهمة اُخرى للقرآن :
حيث أن الآيات المتقدمة ختمت بجملة {هل نحن منظرون} التي يقولُها المجرمون عندما يأتيهم العذاب بغتة وهم علا أبواب الهلاك ، طالبين الإِمهال والرجوع للتعويض عما فاتهم من الأعمال . فالآيات محل البحث تردُّ عليهم عن طريقين :
الأوّل قوله تعالى : {أفبعذابنا يستعجلون} .
إشارة إلى أنّه طالما استهزأتم أيّها المجرمون ، وسخرتم من أنبيائكم ، وطلبتم منهم نزول العذاب بسرعة . . . لكن حين أصبحتم في قبضة العذاب تطلبون الإمهال لتعوضوا عمّا فات من الأعمال ، وكنتم ترون الأمر لهواً ولعباً في يوم ، لكن في اليوم الآخر وجدتموه جديّاً ـ
وعلى كل حال فإنّ سنة الله أن لا يعذب قوماً حتى يُتمّ عليهم الحجّة البالغة . . . لكن اذا تمّت الحجة ، وفسح لهم المجال ، ولم يثوبوا الى رشدهم أنزل عذابه فلا ينفع الإبتهال ، والرجوع نحو ساحة ذي الجلال .
والآخر أنّه {أفرأيت إن متّعناهم سنين ثمّ جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كان يمتّعون} .
فعلى فرض أنّهم أُمهلوا ثانية {ولن يُمهلوا بعد إتمام الحجة عليهم} وعلى فرض أن يُعمَّروا سنين طوالا في هذه الدنيا ويغرقوا في بحر الغفلة والغرور ، الا يكون عملهم التمتع والتلذذ بالمواهب الماديّة فحسب . وهل يعوضون عما فاتهم؟! كلاّ أبداً . . فمن المسلّم أنّهم لا يعوضون عمّا فاتهم . وهل تغني المواهب المادية عنهم شيئاً عند نزول العذاب؟ وهل تحلَّ مشكلتهم أو تحدث تغييراً في عاقبتهم ؟!
كما يَرِدُ هذا الإحتمال في تفسير الآيات الآنفة ، وهو أنّهم لا يطلبون الإمهال للرجوع نحو الحق والتعويض عما فات ، بل يطلبون الإمهال لمزيد التمتع من النعم الزائلة في هذه الدنيا ، إلاّ أن هذا التمتع لا يغني عنهم شيئاً ، ولا بد أن يرحلوا ـ إن عاجلا وإن آجلا ـ من هذه الدار الفانية إلى تلك الدار الباقية ، وأن يواجهوا أعمالهم هناك . . .
وهنا يثار سؤالٌ ـ وهو أنّه مع الإلتفات إلى أن الله بمستقبل كل قوم وجماعة ، فما الحاجة إلى الإمهال ؟
ثمّ أن الاُمم السالفة كذبت أنبياءها واحداً بعد الآخر ، وبمقتضى قوله تعالى : {وما كان أكثرهم مؤمنين} الوارد في نهاية تلك القصص إن أكثرهم لم يؤمنوا ، فعلام يأتي الأنبياء منذرين ومبشرين ؟!
فالقرآن يجيب على هذا السؤال بأن ذلك سنة الله {وما أهلكنا من قرية إلاّ لها منذرون} فنرسل الأنبياء لهم لإتمام الحجّة وتقديم النصح والموعظة ليتذكروا ويستيقظوا من غفلتهم (ذكرى) . (6)
ولوكنا نأخذهم بدون إتمام الحجة ، وذلك بإرسال المنذرين والمبشرين ـ من قِبَلِ الله ـ لكان ظلماً منّا {وما كنّا ظالمين} .
فمن الظلم أن نُهلك غير الظالمين ، أو نهلك الظالمين دون إتمام الحجّة عليهم . . .
وما ورد في هذه الآيات هو في الحقيقة بيان للقاعدة العقلية المعروفة بـ «قاعدة قبح العقاب بلا بيان» وشبيه لهذه الآية ما جاء في الآية (15) من سورة الإسراء : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } [الإسراء : 15] .
أجل . . إنّ العقاب بدون البيان الكافي قبيح ، كما أنه ظلم ، والله العادل الحكيم محال أن يفعل ذلك أبداً ، وهذا ما يعبر عنه في علم الأصول بـ (أصل البراءة) ومعناه أن كل حكم لم يقم عليه الدليل ، فإنّه يُنفى بواسطة هذا الأصل «لمزيد التوضيح يراجع تفسير الآية 57 من سورة الإسراء» . .
ثمّ يرد القرآن على إحدى الذرائع أوالتُهم الباطلة من قِبَلِ اعداء القرآن وهي أن النّبي مرتبط ببعض الجن ، وهو يعلمه هذه الآيات ، والحال أن القرآن يؤكّد أن هذه الآيات هي من «تنزيل ربّ العالمين» .
فيضيف هنا قائلا : {وما تنزلت به الشياطين} .
ثمّ يبيّن جواب هذه التهمة الواهية التي اختلقها الأعداء فيقول : (وما ينبغي لهم) .
أي أن محتوى هذا الكتاب العظيم الذي يدعو الى الحق والطهارة والعدل والتقوى ، ونفي كل أنواع الشرك ، يدلّ دلالة واضحة على أنّه لا شباهة له بأفكار الشياطين وما يلقونه . فالشياطين لا يصدر منهم إلاّ الشر والفساد ، وهذا كتاب خير وصلاح ، فالدقّة في محتواه تكشف عن أصالته .
ثمّ إن الشياطين ليست لهم القدرة على ذلك {وما يستطيعون} .
فإذا كانت لهم القدرة فينبغي على سائر من كان في محيط نزول القرآن كالكهنة المرتبطين بالشياطين (أو على الأقل كان المشركون يُدّعون بأنّهم مرتبطون بالشياطين) أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، مع أنّهم عجزوا عن الإتيان بمثله ، وهذا العجز أثبت أن القرآن فوق قدرتهم ومستوى بلاغتهم وأفكارهم ! . . .
ومضافاً إلى كل ذلك ، فإن الكهنة أنفسهم كانوا يعترفون أنّهم بعد ولادة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) انقطعت علاقتهم بالشياطين الذين كانوا يأتونهم بأخبار السماء و (إنهم عن السمع لمعزوُلون) .
ويستفاد من سائر آيات القرآن أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ويسترقون السمع من الملائكة ، فينقلون ما يدور بين الملائكة من مطالب إلى أوليائهم ، إلاّ أنّه بظهور نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وولادته انقطع استراق السمع تماماً ، وزال الإرتباط الخبري بين الشياطين وأوليائهم . . .
وهذا الأمر كان يعلم به المشركون أنفسهم ، وعلى فرض أن المشركين كانوا لا يعلمون ، فإن القرآن أخبرهم بذلك .(7)
ولذا فقد جعله القرآن دليلا في الآيات الأنفة لدحض ما يتقوله الأعداء . . .
وهكذا فقد أجاب القرآن على هذا الإِتهام من ثلاثة طرق :
1 ـ عدم التناسب بين محتوى القرآن وإلقاء الشياطين .
2 ـ عدم قدرة الشياطين على ذلك .
3 ـ منع الشياطين من إستراق السمع .
_______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج9 ، ص367-378 .
2 ـ كلمة «السابقين» نعت ومنعوته محذوف وتقديره الأنبياء (المصحح) .
3 ـ «الزبر» جمع : زبور ومعناه الكتاب ، وهو في الأصل من مادة (زبر) على وزن (أسر) اي كتابة . . .
4 ـ في عدد من الآيات المتقدمة وردت خمسة ضمائر مفردة في الجمل التالية : «نزلناه» ، «قرأه» ، «ما كانوا به» ، «سلكناه» ، «لا يؤمنون به» ، وهي تعود على القرآن طبقاً للتفسير الأوّل ، وطبقاً للتفسير الثّاني فإن بعضها يعود على القرآن ، وبعضها على العناد من قبل المشركين ، وهذا الأمر مع عدم وجود القرينة مشكل !
5 ـ ينبغي الإلتفات إلى أن جملة «فيأتيهم» منصوبة ومعطوفة على «حتى يروا» ، وينبغي بيان معناها بهذه العلاقة .
6 ـ للمفسرين في محل (ذكرى) من الإعراب أربعة إحتمالات . . .
الأوّل : أنه مفعول لأجله والعامل «منذرون» والتّفسير المذكور آنفاً في المتن هو على هذا الأساس .
الثّاني : أنّه مفعول مطلق لكلمة «منذرون» لأنّ معناهما واحد أوهما متقاربان في المعنى .
الثّالث : أنّه حال من الضمير في منذرون .
الرّابع : أنّها خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذه ذكرى) .
7 ـ لمزيد الإيضاح في منع الشياطين عن استراق السمع يراجع الجزء الأوّل من سيرة ابن هشام ، ص 217 فما بعد .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|