أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-8-2020
2790
التاريخ: 21-8-2020
5320
التاريخ: 20-8-2020
3240
التاريخ: 21-8-2020
4846
|
قال تعالى : {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُو الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [الروم : 1 - 7]
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
{الم} مر تفسيره {غلبت الروم} قال المفسرون غلبت فارس الروم وظهروا عليهم على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وفرح بذلك كفار قريش من حيث إن أهل فارس لم يكونوا أهل كتاب وساء ذلك المسلمين وكان بيت المقدس لأهل الروم كالكعبة للمسلمين فدفعتهم فارس عنه وقوله {في أدنى الأرض} أي في أدنى الأرض من أرض العرب عن الزجاج وقيل في أدنى الأرض من أرض الشام إلى أرض فارس يريد الجزيرة وهي أقرب أرض الروم إلى فارس عن مجاهد وقيل يريد أذرعات وكسكر عن عكرمة .
{وهم} يعني الروم {من بعد غلبهم سيغلبون} أي من بعد غلبة فارس إياهم سيغلبون فارس {في بضع سنين} وهذه من الآيات الدالة على أن القرآن من عند الله عز وجل لأن فيه أنباء ما سيكون وما يعلم ذلك إلا الله عز وجل {لله الأمر من قبل ومن بعد} أي من قبل أن غلبت الروم ومن بعد أن غلبت فإن شاء جعل الغلبة لأحد الفريقين على الآخر وإن شاء جعل الغلبة للفريق الآخر عليهم وإن شاء أهلكهما جميعا {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله} أي ويوم يغلب الروم فارسا يفرح المؤمنون بدفع الروم فارسا عن بيت المقدس لا بغلبة الروم على بيت المقدس فإنهم كفار ويفرحون أيضا لوجوه أخر وهو اغتمام المشركين بذلك ولتصديق خبر الله عز وجل وخبر رسوله ولأنه مقدمة لنصرهم على المشركين {ينصر من يشاء} من عباده {وهو العزيز} في الانتقام من أعدائه {الرحيم} بمن أناب إليه من خلقه .
{وعد الله} أي وعد الله ذلك {لا يخلف الله وعده} بظهور الروم على فارس {ولكن أكثر الناس} يعني كفار مكة {لا يعلمون} صحة ما أخبرناه لجهلهم بالله تعالى {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} أي يعلمون منافع الدنيا ومضارها ومتى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يجمعون وكيف يبنون وهم جهال بالآخرة فعمروا دنياهم وخربوا آخرتهم عن ابن عباس وقال الحسن بلغ والله من علم أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم على ظهره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي وسئل أبوعبد الله (عليه السلام) عن قوله {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا} فقال منه الزجر (2) والنجوم .
_______________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص43-45 .
2- الزجر : التيمن والتشاؤم بالطير ، والتفاؤل بطيرانها ، وهو نوع من الكهانة والعيافة ، وقيل : انما سمي الكاهن زاجرا لانه اذا رأى ما يظن انه يتشاءم به زجر بالنهي عن المضي في تلك الحاجة برفع صوت وشدة .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
(ألم) تقدم الكلام عنه في أول سورة البقرة {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} . فيما تقدم ذكرنا وجوها لاعجاز القرآن الكريم ، منها تحدي المنكرين بأن يأتوا بسورة من مثله ، ومنها عقيدته الإلهية ، وهدايته إلى بواعث التقدم وأسبابه ، وشريعته الإنسانية التي تفي بحاجات الناس في كل زمان ومكان ، وتقر من الشرائع الوضعية كل ما فيه صلاح للناس بجهة من الجهات ، مع العلم بأن الذي بلَّغ القرآن لم يختلف إلى معلم ، ومنها ان كلام القرآن يحمل وجوها كثيرة دون كلام الناس ، وقد اهتدينا ، ونحن نفسر آياته ، إلى أن السر في ذلك يكمن في عظمة المتكلم وعلمه الذي لا يحد بشيء .
انظر ما قلناه عند تفسير الآية 55 من سورة النور ، فقرة : وجه آخر لاعجاز القرآن .
ومن مظاهر إعجاز القرآن إخباره عما لا يطلع عليه إلا علَّام الغيوب ، كالإخبار عما كان يضمره المنافقون في قلوبهم ، وعن انتصار النبي على أعدائه ، وظهور الإسلام على الدين كله ، وعن رجوع النبي إلى مكة منتصرا بعد إخراجه منها ، وعما يحدثه أصحابه من بعده ، وعن اليهود وطبيعتهم ، وعن انتصار الروم على الفرس بعد بضع سنين من انتصار الفرس على الروم ، والآيات التي نحن بصددها تشير إلى هذه الحادثة التي أجمع عليها الرواة والمفسرون .
وملخصها ان فارس كانت على دين المجوسية ، لا كتاب لها كالمشركين ، وكانت الروم على دين النصارى ، والنصارى أهل كتاب كالمسلمين ، وفي عهد رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقعت الحرب بين فارس والروم بأذرعات وبصرى من أرض الشام ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم في الشرك سواء ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأن الطائفتين من أهل الكتاب ، وجاءت الأخبار بانتصار الفرس على الروم ، فشق ذلك على المسلمين ، وفرح المشركون ، وقالوا للمسلمين : ان الفرس الذين لا كتاب لهم غلبوا الروم أصحاب الكتاب ، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي انزل على نبيكم ، فنحن لا كتاب لنا ، وسنغلبكم كما غلب الفرس الروم ، فنزلت هذه الآيات ، وما مضت تسع سنين حتى أظهر اللَّه الروم على الفرس ، ففرح المسلمون ، وحزن المشركون .
وهنا يكمن سر الاعجاز حيث أخبر القرآن الكريم بشكل قاطع جازم عن استئناف الحرب بين الروم وفارس ، وحدد وقتها في بضع سنين ، وانها تنتهي بانتصار الروم على فارس ، فكان كما قال . وهذا الغيب المحجوب لا يعلمه إلا اللَّه وحده .
{لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ} قبل النصر وبعده ، واليه وحده ترجع الأمور {ويَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} . يفرح المسلمون يوم تظهر الروم على فارس {يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ} . إذا تقاتل اثنان ينتصر من يملك أسباب النصر على الذي لا يملكها محقا كان أو مبطلا ، وأسند سبحانه النصر إليه لأن جميع الأسباب الكونية تنتهي إليه تعالى بالنظر إلى أنه خالق الكون وما فيه {وهُو الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ينتقم من الظالم ، ويرحم المظلوم .
{وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} بعد أن أخبر سبحانه عن الغيب المحجوب ، وهوانتصار الروم على فارس أكد بأن ذلك واقع لا محالة ، ولكن من لا يؤمن باللَّه كيف يؤمن بوعده ؟ وهذا التأكيد القاطع أصدق شاهد على أن القرآن وحي من الذي يتساوى لديه عالم الغيب والشهادة ، ولو حصل الخلف بالوعد لاتخذ منه أعداء الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم) ذريعة للطعن بصدقه ورسالته {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} .
الدنيا وأحوالها من عالم الشهادة ، والآخرة وأهوالها من عالم الغيب ، وبداهة ان عالم الشهادة يدرك بالحواس ، أما عالم الغيب فلا يدرك إلا بطريق الوحي ، وهم لا يؤمنون به ، فمن أين يأتيهم العلم بالآخرة ؟
_______________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص 129-130 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
تفتتح السورة بوعد من الله وهو أن الروم ستغلب الفرس في بضع سنين بعد انهزامهم أيام نزول السورة عن الفرس ثم تنتقل منه إلى ذكر ميعاد أكبر وهو الوعد بيوم يرجع الكل فيه إلى الله وتقيم الحجة على المعاد ثم تنعطف إلى ذكر آيات الربوبية وتصف صفاته تعالى الخاصة به ثم تختتم السورة بوعد النصر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتؤكد القول فيه إذ تقول : {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون} وقد قيل قبيل ذلك : {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} .
فغرض السورة هو الوعد القطعي منه تعالى بنصرة دينه وقد قدم عليه نصر الروم على الفرس في بضع سنين من حين النزول ليستدل بإنجاز هذا الوعد على إنجاز ذلك الوعد ، وكذا يحتج به ومن طريق العقل على أنه سينجز وعده بيوم القيامة لا ريب فيه .
قوله تعالى : {غلبت الروم في أدنى الأرض} الروم جيل من الناس على ساحل البحر الأبيض بالمغرب كانت لهم إمبراطورية وسيعة منبسطة إلى الشامات وقعت بينهم وبين الفرس حرب عوان في بعض نواحي الشام قريبا من الحجاز فغلبت الفرس وانهزمت الروم ، والظاهر أن المراد بالأرض أرض الحجاز واللام للعهد .
قوله تعالى : {وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} ضمير الجمع الأول للروم وكذا الثالث وأما الثاني فقد قيل إنه للفرس والمعنى : والروم من بعد غلبة الفرس سيغلبون ، ويمكن أن يكون الغلب من المصدر المبني للمفعول والضمير للروم كالضميرين قبلها وبعدها فلا تختلف الضمائر والمعنى : والروم من بعد مغلوبيتهم سيغلبون .
والبضع من العدد من ثلاثة إلى تسعة .
قوله تعالى : {لله الأمر من قبل ومن بعد} قبل وبعد مبنيان على الضم فهناك مضاف إليه مقدر والتقدير لله الأمر من قبل أن غلبت الروم ومن بعد أن غلبت يأمر بما يشاء فينصر من يشاء ويخذل من يشاء .
وقيل : المعنى لله الأمر من قبل كونهم غالبين وهووقت كونهم مغلوبين ومن بعد كونهم مغلوبين وهووقت كونهم غالبين أي وقت كونهم مغلوبين ووقت كونهم غالبين والمعنى الأول أرجح إن لم يكن راجحا متعينا .
قوله تعالى : {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم} الظرف متعلق بيفرح وكذا قوله {ينصر} والمعنى : ويوم إذ يغلب الروم يفرح المؤمنون بنصر الله الروم ، ثم استأنف وقال : {ينصر من يشاء} تقريرا لقوله : {لله الأمر من قبل ومن بعد} .
وقوله : {وهو العزيز الرحيم} أي عزيز يعز بنصره من يشاء رحيم يخص برحمته من يشاء .
وفي الآية وجوه أخر ضعيفة ذكروها : منها : أن قوله {ويومئذ} عطف على قوله : {من قبل} والمراد به شمول سلطنته تعالى لجميع الأزمنة الثلاثة : الماضي والمستقبل والحال كأنه قيل : لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ ثم ابتداء وقيل : يفرح المؤمنون بنصر الله .
وفيه أنه يبطل انسجام الآية وينقطع به آخرها عن أولها .
ومنها : أن قوله : {بنصر} متعلق بقوله : {المؤمنون} دون {يفرح} ويدل بالملازمة المقامية أن غلبة الروم بنصر من الله .
وفيه أن لازمه أن يفرح المؤمنون يوم غلبة الفرس ويوم غلبة الروم جميعا فإن في الغلبة نصرا وكل نصر من الله قال تعالى : {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران : 126] فقصر فرح المؤمنين بالنصر بيوم غلبة الروم ترجيح بلا مرجح فافهمه .
ومنها : أن المراد بنصر الله نصر المؤمنين على المشركين يوم بدر دون نصر الروم على الفرس وإن توافق النصران زمانا فكأنه قيل : إن الروم سيغلبون في بضع سنين ويوم يغلبون يغلب المؤمنون المشركين فيفرحون بنصر الله إياهم .
وفيه أن هذا المعنى لا يلائم قوله بعد : {ينصر من يشاء} .
ومنها : أن المراد بالنصر نصر المؤمنين بصدق إخبارهم بغلبة الروم ، وقيل : النصر هو استيلاء بعض الكفار على بعض وتفرق كلمتهم وانكسار شوكتهم .
وهذان وما يشبههما وجوه لا يعبأ بها .
قوله تعالى : {وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون} {وعد الله} مفعول مطلق محذوف العامل والتقدير وعد الله وعدا وإخلاف الوعد خلاف إنجازه وقوله : {وعد الله} تأكيد وتقرير للوعد السابق في قوله : {سيغلبون} و{يفرح المؤمنون} كما أن قوله : {لا يخلف الله وعده} تأكيد وتقرير لقوله : {وعد الله} .
وقوله : {لا يخلف الله وعده} كقوله : {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [الرعد : 31] وخلف الوعد وإن لم يكن قبيحا بالذات لأنه ربما يحسن عند الاضطرار لكنه سبحانه لا يضطره ضرورة فلا يحسن منه خلف الوعد في حال .
على أن خلف الوعد يلازم النقص دائما ويستحيل النقص عليه تعالى .
على أنه تعالى أخبر في كلامه بأنه لا يخلف الميعاد وهو أصدق الصادقين وهو القائل عز من قائل : {وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص : 84] .
وقوله : {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي هم جهلاء بشئونه تعالى لا يثقون بوعده ويقيسونه إلى أمثالهم ممن يصدق ويكذب وينجز ويخلف .
قوله تعالى : {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} جملة {يعلمون} على ما ذكره في الكشاف ، بدل من قوله : {لا يعلمون} وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا انتهى .
وقيل : الجملة استثنائية لبيان موجب جهلهم بأن وعد الله حق وأن لله الأمر من قبل ومن بعد وأنه ينصر المؤمنين على الكافرين .
انتهى وهذا أظهر .
وتنكير {ظاهرا} للتحقير وظاهر الحياة الدنيا ما يقابل باطنها وهو الذي يناله حواسهم الظاهرة من زينة الحياة فيرشدهم إلى اقتنائها والعكوف عليها والإخلاد إليها ونسيان ما وراءها من الحياة الآخرة والمعارف المتعلقة بها والغفلة عما فيه خيرهم ونفعهم بحقيقة معنى الكلمة .
وقيل : الظهور في الآية بمعنى الزوال واستشهد بقوله : وعيرها الواشون أني أحبها .
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها .
والمعنى : يعلمون أمرا زائلا لا بقاء له لكنه معنى شاذ الاستعمال .
_______________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص125-128 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
تنبؤ عجيب !
هذه السورة ضمن مجموع تسع وعشرين سورة تبدأ بالحروف المقطعة (ألم) .
وقد بحثنا مراراً في تفسير هذه الحروف المقطعة «وخاصةً في بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف» .
والفارق الوحيد الذي نلاحظه هنا عن بقية السور ، ويلفت النظر ، هو أنّه خلافاً لكثير من السور التي تبدأ بالحروف المقطعة ، التي يأتي الحديث بعدها على عظمة القرآن الكريم ، بل بحثاً عن اندحار الروم وانتصارهم في المستقبل ، ولكن مع التدقيق يتّضح أن هذا البحث يتحدث عن عظمة القرآن الكريم أيضاً . . . لأنّ هذا الخبر الغيبي المرتبط بالمستقبل هومن دلائل إعجاز القرآن ، وعظمة هذا الكتاب السماوي ! .
يقول القرآن بعد الحروف المقطعة {غلبت الروم في أدنى الأرض} وهم قريب منكم يا أهل مكّة ، إذ أنّهم في شمال جزيرة العرب ، في أراضي الشام في منطقة بين «بصرى» و«أذرعات» .
ومن هنا يعلم بأنّ المراد من الروم هنا هم الروم الشرقيون ، لا الروم الغربيون .
ويرى بعض المفسّرين كالشيخ الطوسي في تفسير «التبيان» ـ أن من المحتمل أن يكون المراد بأدنى الأرض المكان القريب من بلاد فارس ، أي إن المعركة وقعت في أقرب نقطة بين الفرس والروم . (2)
وصحيحٌ أن التّفسير الأوّل معه الألف واللام للعهد ـ في «الأرض» مناسبٌ أكثر ، ولكن ومن جهات متعددة ـ كما سنذكرها ـ يبدوا أن التّفسير الثّاني أصحّ من الأول !
ويوجد هنا تفسير ثالث ، ولعلّه لا يختلف من حيث النتيجة مع التّفسير الثاني ، هو أنّ المراد من هذه الأرض ـ هي أرض الروم ، أي إنّهم غلبوا في أقرب حدودهم مع بلاد فارس ، وهذا يشير إلى أهمية هذا الإندحار وعمقه ، لأنّ الإندحار في المناطق البعيدة والحدود المترامية البعد ليس له أهمية بالغة ، بل المهم أن تندحر دولة في أقرب نقاطها من حدودها مع العدو ، إذ هي فيها أقوى وأشدّ من غيرها .
فعلى هذا سيكون ذكر جملة {في أدنى الأرض} إشارة إلى أهمية هذا الإندحار .
وبالطبع فإن التنبؤ عن انتصار البلد المغلوب خلال بضع سنين في المستقبل ، له أهمية أكبر ، إذ لا يمكن التوقع له إلاّ عن طريق الإعجاز .
ثمّ يضيف القرآن : {وهم من بعد غلبهم سيلغبون} وهم أيّ الروم . ومع أن جملة «سيغلبون» كافية لبيان المقصود ، ولكن جاء التعبير {من بعد غلبهم} بشكل خاص لتتّضح أهمية هذا الإنتصار أكثر ، لأنّه لا ينتظر أن تغلب جماعة مغلوبة وفي أقرب حدودها وأقواها في ظرف قصير ، لكن القرآن يخبر بصراحة عن هذه الحادثة غير المتوقعة .
ثمّ يبيّن الفترة القصيرة من هذه السنين بهذا التعبير {في بضع سنين} (3) والمعلوم أن «بضع» ما يكون أقله الثلاث وأكثره التسع .
وإذا أخبر الله عن المستقبل ، فلأنّه (لله الأمر من قبل ومن بعد) .
وبديهيّ أن كون الأشياء جميعها بيد الله ـ وبأمره وإرادته ـ لا يمنع من اختيارنا في الإرادة وحريتنا وسعينا وجهادنا في مسير الأهداف المنظورة .
وبتعبير آخر : إن هذه العبارة لا تريد سلب الإختيار من الآخرين ، بل تريد أن توضح هذه اللطيفة ، وهي أن القادر بالذات والمالك على الإطلاق هو الله ، وكل من لديه شيء فهو منه ! .
ثمّ يضيف القرآن ، أنّه إذا فرح المشركون اليوم بانتصار الفرس على الروم فإنه ستغلب الروم {ويومئذ يفرح المؤمنون} .
أجل ، يفرحون {بنصر الله . . . ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم} .
ولكن ما المراد من فرح المؤمنون ؟!
قال جماعة : المراد منه فرحهم بانتصار الروم ، وإن كانوا في صفوف الكفار أيضاً ، إلاّ أنّهم لكونهم لديهم كتاب سماوي فانتصارهم على المجوس يعدّ مرحلة من انتصار «التوحيد» على «الشرك» .
وأضاف آخرون : إن المؤمنين إنّما فرحوا لأنّهم تفألوا من هذه الحادثة فألا حسناً ، وجعلوها دليلا على انتصارهم على المشركين .
أوأن فرحهم كان لأنّ عظمة القرآن وصدق كلامه المسبق القاطع ـ بنفسه ـ انتصار معنوي للمسلمين وظهر في ذلك اليوم .
ولا يبعد هذا الإحتمال وهو أن انتصار الروم كان مقارناً مع بعض انتصارات المسلمين على المشركين ، وخاصة أن بعض المفسّرين أشار إلى أن هذا الإنتصار كان مقارناً لإنتصار بدر أو مقارناً لصلح الحديبية . وهو بنفسه يعدّ انتصاراً كبيراً ، وخاصة إن التعبير بنصر الله أيضاً يناسب هذا المعنى .
والخلاصة : إنّ المسلمين «المؤمنين» فرحوا في ذلك اليوم لجهات متعددة :
1 ـ من انتصار أهل الكتاب على المجوس ، لأنّه ساحة لإنتصار الموحدين على المشركين .
2 ـ من الإنتصار المعنوي لظهور إعجاز القرآن .
3 ـ ومن الإنتصار المقارن لذلك الإنتصار ، ويحتمل أن يكون صلح الحديبية ، أوبعض فتوحات المسلمين الأُخر ! .
ولزيادة التأكيد يضيف أيضاً {وعد الله (4) لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون} والسبب في عدم علم الناس ، هو عدم معرفتهم بالله وقدرته ، فهم لم يعرفوا الله حق معرفته ، فهم لا يعلمون هذه الحقيقة ، وهي أن الله محال عليه أن يتخلف عن وعده ، لأنّ التخلف عن الوعد إمّا للجهل ، أو لأنّ الأمر كان مكتوماً ثمّ اتضح وصار سبباً لتغيير العقيدة ، أو للضعف وعدم القدرة ، إذ لم يرجع الذي وعد عن عقيدته لكنّه غير قادر ، لكن الله لا يتخلف عن الوعد ، لأنّه يعرف عواقب الأمور ، وقدرته فوق كل شيء .
ثمّ يضيف القرآن معقباً : {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} .
إنّهم لا يعلمون إلاّ الحياة الدنيا فحسب ، بل يعلمون الظاهر منها ويقنعون به! فكلّ ما تمثله نظراتهم ونصيبهم من هذه الحياة هو اللهو واللذة العابرة والنوم والخيال . . . وما ينطوي في هذا الادران السطحي للحياة من الغفلة والغرور ، غير خاف على أحد .
ولو كانوا يعلمون باطن الحياة وواقعها في هذه الدنيا ، لكان ذلك كافياً لمعرفة الآخرة ! لأنّ التدقيق في هذه الحياة العابرة ، يكشف أنّها حلقة من سلسلة طويلة ومرحلة من مسير مديد كبير ، كما أن التدقيق في مرحلة تكوين الجنين يكشف عن أن الهدف النهائي ليس هو هذه المرحلة من حياة الجنين فحسب ! بل هي مقدمة لحياة أوسع ! .
أجل ، هم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا فحسب ، ولكنّهم غافلون عن مكنونها ومحتواها ومفاهيمها ! .
ومن الطريف هنا أن تكرار الضمير «هم» يشير إلى هذه الحقيقة ، وهي أن علة هذه الغفلة وسرّها تعود إليهم «فهم الغفلة وهم الجهلة» وهذا يشبه تماماً قول القائل لك مثلا : لقد أغفلتني عن هذا الأمر ، فتجيبه : أنت كنت غافلا عن هذا الأمر ، أي إن سبب الغفلة يعود إلى نفسك أنت ! .
______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج10 ، ص118-121 .
2 ـ تفسير التبيان ، ج 8 ، ص 206 .
3 ـ توجد احتمالات كثيرة في معنى «بضع» فقيل : إنّها تتراوح بين ثلاث وعشر ، أو أنّها تتراوح بين واحدة وتسع ، وقيل : أقلّها ست وأكثرها تسع . إلاّ أن ما ذكرناه في المتن هو المشهور .
4 ـ نصب «وعد الله» على أنّه مفعول مطلق وعامله محذوف ، ويعلم من الجملة التي قبله أي «سيغلبون» التي هي مصداق الوعد الإلهي ، ويكون تقديره : وعد الله ذلك وعداً ! .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|