أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-8-2020
12424
التاريخ: 22-8-2020
8344
التاريخ: 22-8-2020
4889
التاريخ: 19-8-2020
5641
|
قال تعالى: { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } [الإسراء: 13 - 15]
لما قدم سبحانه ذكر الوعيد أتبع ذلك بذكر كيفيته فقال { كُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} معناه: وألزمنا كل إنسان عمله من خير أوشر في عنقه عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. يريد جعلناه كالطوق في عنقه فلا يفارقه وإنما قيل للعمل طائرا على عادة العرب في قولهم جرى طائره بكذا ومثله قوله سبحانه { قالوا طائركم معكم } وقوله { إنما طائرهم عند الله } وقيل: طائره يمنه وشؤمه عن الحسن وهوما يتطير منه وقيل: طائره حظه من الخير والشر عن أبي عبدة والقتيبي وخص العنق لأنه محل الطوق الذي يزين المحسن والغسل الذي يشين المسيء وقيل: طائره كتابه وقيل: معناه جعلنا لكل إنسان دليلا من نفسه لأن الطائر عندهم يستدل به على الأمور الكائنة فيكون معناه: كل إنسان دليل نفسه وشاهد عليها إن كان محسنا فطائره ميمون وإن ساء فطائره مشئوم.
{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا} وهو ما كتبه الحفظة عليهم من أعمالهم { يلقاه } أي: يرى ذلك الكتاب { منشورا } أي: مفتوحا معروضا عليه ليقرأه ويعلم ما فيه والهاء في له يجوز أن تكون عائدة إلى الإنسان ويجوز أن تكون عائدة إلى العمل { اقرأ كتابك } فهاهنا حذف أي: ويقال له اقرأ كتابك قال قتادة يقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا.
وروى جابر بن خالد بن نجيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال يذكر العبد جميع أعماله وما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا { يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}. { كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي: محاسبا وإنما جعله محاسبا لنفسه لأنه إذا رأى أعماله يوم القيامة كلها مكتوبة ورأى جزاء أعماله مكتوبا بالعدل لم ينقص عن ثوابه شيء ولم يزد على عقابه شيء أذعن عند ذلك وخضع وتضرع واعترف ولم يتهيأ له حجة ولا إنكار وظهر لأهل المحشر أنه لا يظلم قال الحسن : يا ابن آدم لقد أنصفك من جعلك حسيب نفسك { مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي: من اهتدى في الدنيا إلى دين الله وطاعته فمنفعة اهتدائه راجعة إليه { وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي: ومن ضل عن الدين فضرر ضلاله راجع إلى نفسه وعقوبة ضلاله على نفسه { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا تحمل حاملة حمل أخرى أي: ثقل ذنوب غيرها ولا يعاقب أحد بذنوب غيره وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لا تحن يمينك على شمالك وهذا مثل ضربه (عليه السلام) وفي هذا دلالة واضحة على بطلان قول من يقول أن أطفال الكفار يعذبون مع آبائهم في النار.
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} معناه: وما كنا معذبين قوما بعذاب الاستئصال إلا بعد الأعذار إليهم والإنذار لهم بأبلغ الوجوه وهو إرسال الرسل إليهم مظاهرة في العدل وإن كان يجوز مؤاخذتهم على ما يتعلق بالعقل معجلا فعلى هذا التأويل تكون الآية عامة في العقليات والشرعيات وقال الأكثرون من المفسرين وهو الأصح أن المراد بالآية أنه لا يعذب سبحانه في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد البعثة فتكون الآية خاصة فيما يتعلق بالسمع من الشرعيات فأما ما كانت الحجة فيه من جهة العقل وهو الإيمان بالله تعالى فإنه يجوز العقاب بتركه وإن لم يبعث الرسول عند من قال إن التكليف العقلي ينفك من التكليف السمعي.
على أن المحققين منهم يقولون أنه وإن جاز التعذيب عليه قبل بعثة الرسول فإنه سبحانه لا يفعل ذلك مبالغة في الكرم والفضل والإحسان والطول فقد حصل من هذا أنه سبحانه لا يعاقب أحدا حتى ينفذ إليهم الرسل المنبهين إلى الحق الهادين إلى الرشد استظهارا في الحجة لأنه إذا اجتمع داعي العقل وداعي السمع تأكد الأمر وزال الريب فيما يلزم العبد وقد أخبر سبحانه في هذه الآية عن ذلك وهذا لا يدل على أنه لولم يبعث رسولا لم يحسن منه أن يعاقب إذا ارتكب القبائح العقلية إلا أن يفرض في بعثة الرسول لطفا فإن عند ذلك لا يحسن منه سبحانه أن يعاقب أحدا إلا بعد أن يوجه إليه مما هو لطف له فيزاح بذلك علته .
_________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص230-232.
هذه الآيات الثلاث تختلف في اللفظ ، وتتشابه في المعنى ، فقوله تعالى :
{ وكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } كناية عن انه وحده المسؤول عن عمله .
وقوله : { ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً } معناه ان الإنسان غدا لا يملك إخفاء شيء من عمله : « يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوأَنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً » - 30 آل عمران . انظر ج 3 ص 44 .
{ اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } . فلا يحتاج الإنسان غدا إلى شاهد أو حسيب ، لأنه هو يشهد ويحاسب نفسه بنفسه ، قال الطبرسي : « وانما جعله محاسبا لنفسه لأنه إذا رأى أعماله يوم القيامة كلها مكتوبة ، ورأى جزاءها مكتوبا أيضا بالعدل لم ينقص من ثوابه شيء ، ولم يزد على عقابه شيء أذعن عند ذلك وخضع واعترف ، ولم تتهيأ له حجة ولا انكار ، وظهر لأهل المحشر انه لا ظلم ، قال الحسن : يا ابن آدم لقد أنصفك من جعلك حسيب نفسك » .
{ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها } . تقدم نظيره في سورة الأنعام الآية 104 ج 3 ص 238 ، وفي سورة هود الآية 108 ج 4 ص 199 {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} . تقدم في سورة الأنعام الآية 165 ج 3 ص 293 { وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } . أنظر فقرة « قبح العقاب بلا بيان » في ج 1 ص 247 .
_______________
1 التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 28- 29.
قوله تعالى:{ كُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } قال في المجمع،: الطائر هنا عمل الإنسان شبه بالطائر الذي يسنح ويتبرك به والطائر الذي يبرح فيتشأم به، والسانح الذي يجعل ميامنه إلى مياسرك، والبارح الذي يجعل مياسره إلى ميامنك، والأصل في هذا أنه إذا كان سانحا أمكن الرامي وإذا كان بارحا لم يمكنه قال أبو زيد: كل ما يجري من طائر أوظبي أوغيره فهوعندهم طائر. انتهى.
وفي الكشاف،: أنهم كانوا يتفألون بالطير ويسمونه زجرا فإذا سافروا ومر بهم طير زجروه فإن مر بهم سانحا بأن مر من جهة اليسار إلى اليمين تيمنوا وإن مر بارحا بأن مر من جهة اليمين إلى الشمال تشأموا ولذا سمي تطيرا. انتهى.
وقال في المفردات،: تطير فلان وأطير أصله التفاؤل بالطير ثم يستعمل في كل ما يتفاءل به ويتشاءم{قالوا إنا تطيرنا بكم} ولذلك قيل: لا طير إلا طيرك وقال:{إن تصبهم سيئة يطيروا} أي يتشاءموا به{ألا إنما طائرهم عند الله} أي شؤمهم ما قد أعد الله لهم بسوء أعمالهم وعلى ذلك قوله:{ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ }{قال طائركم عند الله}{قالوا طائركم معكم}{ كُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} أي عمله الذي طار عنه من خير وشر ويقال: تطايروا إذا أسرعوا ويقال إذا تفرقوا. انتهى.
وبالجملة سياق ما قبل الآية وما بعدها وخاصة قوله:{ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } إلخ، يعطي أن المراد بالطائر ما يستدل به على الميمنة والمشأمة ويكشف عن حسن العاقبة وسوءها فلكل إنسان شيء يرتبط بعاقبة حاله يعلم به كيفيتها من خير أو شر.
وإلزام الطائر جعله لازما له لا يفارقه، وإنما جعل الإلزام في العنق لأنه العضوالذي لا يمكن أن يفارقه الإنسان أو يفارق هو الإنسان بخلاف الأطراف كاليد والرجل، وهو العضو الذي يوصل الرأس بالصدر فيشاهد ما يعلق عليه من قلادة أو طوق أوغل أول ما يواجه الإنسان.
فالمراد بقوله:{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} أن الذي يستعقب لكل إنسان سعادته أوشقاءه هو معه لا يفارقه بقضاء من الله سبحانه فهو الذي ألزمه إياه، وهذا هو العمل الذي يعمله الإنسان لقوله تعالى:{ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى}: النجم: 41.
فالطائر الذي ألزمه الله الإنسان في عنقه هو عمله، ومعنى إلزامه إياه أن الله قضى أن يقوم كل عمل بعامله ويعود إليه خيره وشره ونفعه وضره من غير أن يفارقه إلى غيره، وقد استفيد من قوله تعالى:{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ... يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} الآيات: الحجر: 45 أن من القضاء المحتوم أن حسن العاقبة للإيمان والتقوى وسوء العاقبة للكفر والمعصية.
ولازم ذلك أن يكون مع كل إنسان من عمله ما يعين له حاله في عاقبة أمره معية لازمة لا يتركه وتعيينا قطعيا لا يخطىء ولا يغلط لما قضي به أن كل عمل فهو لصاحبه ليس له إلا هو وأن مصير الطاعة إلى الجنة ومصير المعصية إلى النار.
وبما تقدم يظهر أن الآية إنما تثبت لزوم السعادة والشقاء للإنسان من جهة أعماله الحسنة والسيئة المكتسبة من طريق الاختيار من دون أن يبطل تأثير العمل في السعادة والشقاء بإثبات قضاء أزلي يحتم للإنسان سعادة أوشقاء سواء عمل أم لم يعمل وسواء أطاع أم عصى كما توهمه بعضهم.
قوله تعالى:{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} يوضح حال هذا الكتاب قوله بعده:{ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} حيث يدل أولا على أن الكتاب الذي يخرج له هو كتابه نفسه لا يتعلق بغيره، وثانيا أن الكتاب متضمن لحقائق أعماله التي عملها في الدنيا من غير أن يفقد منها شيئا كما في قوله:{ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}: الكهف: 49، وثالثا أن الأعمال التي أحصاها بادية فيها بحقائقها من سعادة أوشقاء ظاهرة بنتائجها من خير أوشر ظهورا لا يستتر بستر ولا يقطع بعذر، قال تعالى:{ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}: ق: 22.
ويظهر من قوله تعالى:{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ}: آل عمران: 30 أن الكتاب يتضمن نفس الأعمال بحقائقها دون الرسوم المخطوطة على حد الكتب المعمولة فيما بيننا في الدنيا فهو نفس الأعمال يطلع الله الإنسان عليها عيانا، ولا حجة كالعيان.
وبذلك يظهر أن المراد بالطائر والكتاب في الآية أمر واحد وهو العمل الذي يعمله الإنسان غير أنه سبحانه قال:{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا} ففرق الكتاب عن الطائر ولم يقل:{ونخرجه} لئلا يوهم أن العمل إنما يصير كتابا يوم القيامة وهو قبل ذلك طائر وليس بكتاب أويوهم أن الطائر خفي مستور غير خارج قبل يوم القيامة فلا يلائم كونه ملزما له في عنقه.
وبالجملة في قوله:{ونخرج له} إشارة إلى أن كتاب الأعمال بحقائقها مستور عن إدراك الإنسان محجوب وراء حجاب الغفلة وإنما يخرجه الله سبحانه للإنسان يوم القيامة فيطلعه على تفاصيله، وهو المعنى بقوله:{يلقاه منشورا}.
وفي ذلك دلالة على أن ذلك أمر مهيأ له غير مغفول عنه فيكون تأكيدا لقوله:{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} لأن المحصل أن الإنسان ستناله تبعة عمله لا محالة أما أولا فلأنه لازم له لا يفارقه.
وأما ثانيا فلأنه مكتوب كتابا سيظهر له فيلقاه منشورا.
قوله تعالى:{ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي يقال: له: اقرأ كتابك{إلخ}.
وقوله:{كفى بنفسك} الباء فيه زائدة للتأكيد وأصله كفت نفسك وإنما لم يؤنث الفعل لأن الفاعل مؤنث مجازي يجوز معه التذكير والتأنيث، وربما قيل: إنه اسم فعل بمعنى اكتف والباء غير زائدة، وربما وجه بغير ذلك.
وفي الآية دلالة على أن حجة للكتاب قاطعة بحيث لا يرتاب فيها قارئه ولوكان هوالمجرم نفسه وكيف لا؟ وفيه معاينة نفس العمل وبه الجزاء، قال تعالى:{لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون}: التحريم: 7.
وقد اتضح مما أوردناه في وجه اتصال قوله:{ويدع الإنسان بالشر} الآية بما قبله وجه اتصال هاتين الآيتين أعني قوله:{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ - إلى قوله - حسيبا} فمحصل معنى الآيات والسياق سياق التوبيخ واللوم أن الله سبحانه أنزل القرآن وجعله هاديا إلى ملة هي أقوم جريا على السنة الإلهية في هداية الناس إلى التوحيد والعبودية وإسعاد من اهتدى منهم وإشقاء من ضل لكن الإنسان لا يميز الخير من الشر ولا يفرق بين النافع والضار بل يستعجل كل ما يهواه فيطلب الشر كما يطلب الخير.
والحال أن العمل سواء كان خيرا أوشرا لازم لصاحبه لا يفارقه وهو أيضا محفوظ عليه في كتاب سيخرج له يوم القيامة وينشر بين يديه ويحاسب عليه، وإذا كان كذلك كان من الواجب على الإنسان أن لا يبادر إلى اقتحام كل ما يهواه ويشتهيه ولا يستعجل ارتكابه بل يتوقف في الأمور ويتروى حتى يميز بينها ويفرق خيرها من شرها فيأخذ بالخير ويتحرز الشر.
قوله تعالى:{ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال في المفردات،: الوزر الثقل تشبيها بوزر الجبل، ويعبر بذلك عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى:{ليحملوا أوزارهم كاملة} الآية كقوله:{وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} قال: وقوله:{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل وزره من حيث يتعرى المحمول عنه. انتهى.
والآية في موضع النتيجة لقوله:{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} إلخ والجملة الثالثة{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} تأكيد للجملة الثانية{ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}.
والمعنى إذا كان العمل خيرا كان أوشرا يلزم صاحبه ولا يفارقه وهو محفوظ على صاحبه سيشاهده عند الحساب فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه وينتفع به نفسه من غير أن يتبع غيره.
ومن ضل عن السبيل فإنما يضل على نفسه ويتضرر به نفسه من دون أن يفارقه فيلحق غيره، ولا تتحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى لا كما ربما يخيل لاتباع الضلال أنهم إن ضلوا فوبال ضلالهم على أئمتهم الذين أضلوهم وكما يتوهم المقلدون لآبائهم وأسلافهم أن آثامهم وأوزارهم لآبائهم وأسلافهم لا لهم.
نعم لأئمة الضلال مثل أوزار متبعيهم، ولمن سن سنة سيئة أوزار من عمل بها ولمن قال: اتبعونا لنحمل خطاياكم آثام خطاياهم لكن ذلك كله وزر الإمامة وجعل السنة وتحمل الخطايا لا عين ما للعامل من الوزر بحيث يفارق العمل عامله ويلحق المتبوع بل إن كان عينه فمعناه أن يعذب بعمل واحد اثنان.
قوله تعالى:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ظاهر السياق الجاري في الآية وما يتلوها من الآيات بل هي والآيات السابقة أن يكون المراد بالتعذيب التعذيب الدنيوي بعقوبة الاستئصال، ويؤيده خصوص سياق النفي{وما كنا معذبين} حيث لم يقل: ولسنا معذبين ولا نعذب ولن نعذب بل قال:{وما كنا معذبين} الدال على استمرار النفي في الماضي الظاهر في أنه كانت السنة الإلهية في الأمم الخالية الهالكة جارية على أن لا يعذبهم إلا بعد أن يبعث إليهم رسولا ينذرهم بعذاب الله.
ويؤيده أيضا أنه تعالى عبر عن هذا المبعوث بالرسول دون النبي فلم يقل حتى نبعث نبيا، وقد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب في الفرق بين النبوة والرسالة أن الرسالة منصب خاص إلهي يستعقب الحكم الفصل في الأمة إما بعذاب الاستئصال وإما بالتمتع من الحياة إلى أجل مسمى، قال تعالى:{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: يونس: 47 وقال:{ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}: إبراهيم: 10.
فالتعبير بالرسول لإفادة أن المراد نفي التعذيب الدنيوي دون التعذيب الأخروي أومطلق التعذيب.
فقوله:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } كالدفع لما يمكن أن يتوهم من سابق الآيات المنبئة عن لحوق أثر الأعمال بصاحبها وبشارة الصالحين بالأجر الكبير والطالحين بالعذاب الأليم فيوهم أن تبعات السيئات أعم من العذاب الدنيوي والأخروي سيترتب عليها فيغشى صاحبها من غير قيد وشرط.
فأجيب أن الله سبحانه برحمته الواسعة وعنايته الكاملة لا يعذب الناس بعذاب الاستئصال وهوعذاب الدنيا إلا بعد أن يبعث رسولا ينذرهم به وإن كان له أن يعذبهم به لكنه برحمته ورأفته يبالغ في الموعظة ويتم الحجة بعد الحجة ثم ينزل العقوبة فقوله:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } نفي لوقوع العذاب لا لجوازه.
فالآية - كما ترى - ليست مسوقة لإمضاء حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بل هي تكشف عن اقتضاء العناية الإلهية أن لا يعذب قوما بعذاب الاستئصال إلا بعد أن يبعث إليهم رسولا فيؤكد لهم الحجة ويقرعهم بالبيان بعد البيان.
وأما النبوة التي يبلغ بها التكاليف ونبين بها الشرائع فهي التي تستقر بها المؤاخذة الإلهية والمغفرة، ويثبت بها الثواب والعقاب الأخرويان فيما لا يتبين فيه الحق والباطل إلا من طريق النبوة كالتكاليف الفرعية، وأما الأصول التي يستقل العقل بإدراكها كالتوحيد والنبوة والمعاد فإنما تلحق آثار قبولها وتبعات ردها الإنسان بالثبوت العقلي من غير توقف على نبوة أورسالة.
وبالجملة أصول الدين وهي التي يستقل العقل ببيانها ويتفرع عليها قبول الفروع التي تتضمنها الدعوة النبوية، تستقر المؤاخذة الإلهية على ردها بمجرد قيام الحجة القاطعة العقلية من غير توقف على بيان النبي والرسول لأن صحة بيان النبي والرسول متوقفة عليها فلو توقف هي عليها لدارت.
وتستقر المؤاخذة الأخروية على الفروع بالبيان النبوي ولا تتم الحجة فيها بمجرد حكم العقل، وقد فصلنا القول فيه في مباحث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب، وفي غيرهما.
والمؤاخذة الدنيوية بعذاب الاستئصال يتوقف على بعث الرسول بعناية من الله سبحانه لا لحكم عقلي يحيل هذا النوع من المؤاخذة قبل بعث الرسول كما عرفت.
وللمفسرين في الآية مشاجرات طويلة تركنا التعرض لها لخروج أكثرها عن غرض البحث التفسيري، ولعل الذي أوردناه من البحث لا يوافق ما أوردوه لكن الحق أحق بالاتباع.
_______________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج13،ص44-49.
أربعة أُصول إِسلامية مهمّة:
لقد تحدَّثت الآيات القرآنية السابقة عن القضايا التي تتصل بالمعادِ والحساب، لذلك فإِنَّ الآيات التي نبحثها الآن تتحدَّث عن قضية «حساب الأعمال» التي يتعرض لها البشر، وكيفية ومراحل إِنجاز ذلك في يوم المعاد والقيامة حيثُ يقول تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}.
«الطائر» يعني الطير. ولكن الكلمة هنا تشير إِلى معنى آخر كانَ سائداً ومعروفاً بين العرب; إِذ كانوا يتفألون بواسطة الطير; وكانوا يعتمدون في ذلك على طبيعة الحركة التي يقوم بها الطير. فمثلا إِذا تحرَّك الطير مِن الجهة اليمنى، فَهُم يعتبرون ذلك فألا حسناً وَجميلا. أمّا إِذا تحرَّك الطير مِن اليُسرى فإِنَّ ذلك في عُرفهم وعاداتهم علامة الفأل السيء، أو ما يعرف بلغتهم بالتطّير، من هنا فإنّ هذه الكلمة غالباً ما كانت تعني الفأل السيء في حين أنَّ كلمة التفؤل (عكس التطيُّر) كانت تُشير إِلى الفأل الجميل الحسن.
وفي الآيات القرآنية وَرد مراراً أنَّ «التطيُّر» هو بمعنى الفأل السيء حيثُ يقول تعالى في الآية (131) مِن سورة الأعراف: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} وفي الآية (47) مِن سورة النمل نقرأُ أيضاً: { قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} والآية تحكي خطاب المشركين مِن قوم صالح(عليه السلام) لنبيّهم.
بالطبع عِندما نقرأ الأحاديث والرّوايات الإِسلامية نراها تنهى عن «التطيُّر» وتجعل «التوكل على اللّه» طريقاً وأُسلوباً لمواجهة هذه العادة.
وفي كلِّ الأحوال فإِنَّ كلمة «طائر» في الآية التي نبحثها، تشير إِلى هذا المعنى بالذات، أو أنّها على الأقل تُشير إِلى مسألة «الحظ وحسن الطالع» التي تقترب في أُفق واحد مع قضية التفؤل الحَسَنِ والسيء، إنّ القرآن ـ في الحقيقة ـ يبيّن أنَّ التفؤل الحسن والسيء أو الحظ النحس والجميل، إِنّما هي أعمالكم لا غير، والتي ترجع عهدتها إِليكم وتتحملون على عاتقكم مسؤولياتها.
إِنَّ تعبير الآية الكريمة، بكلمتي «ألزمناه» و«في عنقه» تدُلان بشكل قاطع على أنَّ أعمال الإِنسان والنتائج الحاصلة عن هذه الأعمال لا تنفصل عنه في الدنيا ولا في الآخرة، وهُو بالتالي، وفي كل الأحوال عليه أن يكون مسؤولا عنها، إذ أنّ الملاك هو العمل دون غيره.
بعض المفسّرين ذكروا في إِطلاق معنى كلمة «طائر» على الأعمال الإِنسانية أنّها تعني أنَّ الأعمال الحسنة والأعمال القبيحة للإِنسان كالطير الذي يطير مِن بين جنباته، لذلك شبهوها (أي الأعمال) بالطائر.
وفي كل الأحوال، اختلفَ المفسّرون في معنى كلمة (طائر) في هذه الآية، وقد أوردوا في ذلك مجموعة احتمالات مِنها أنَّ «الطائر» بمعنى «حصيلة ما يجنيه الإِنسان من أعماله الحسنة والسيئة»، أو أنَّ الطائر بمعنى «الدليل والعلامة»، وبعضهم قال: إِن معناه «صحيفة أعمال الإِنسان» بينما ذهب البعض الآخر إِلى أنَّ معنى «الطائر» هو «اليُمن والشؤم».
ولكن الملاحظ في هذه التّفسيرات جميعاً، أنَّ بعضها يرجع إِلى نفس التّفسير الذي ذكرناه في البداية; كما أن بعضها الآخر بعيد عن معنى الآية.
يقول القرآن بعد ذلك: { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا}. ومِن الوضح أنَّ المقصود مِن «الكتاب» في الآية الكريمة هي صحيفة الأعمال لا غير. وهي نفس الصحيفة الموجودة في هذه الدنيا والتي تُثَّبت فيها الأعمال، ولكنّها هنا (في الدنيا) مخفيةٌ عنّا ومكتومة، بينما في الآخرة مكشوفة ومعروفة.
إنَّ التعبير القرآني في كلمتي «نخرج» و«منشوراً» يشير إِلى هذا المعنى، إِذ نخرج وننشر ما كان مخفياً ومكتوماً.
وبالنسبة الصحيفة الأعمال وحقيقتها وما يتعلق بها، فسيأتي البحث عنها في نهاية هذه الآيات.
في هذه اللحظة يُقال للإِنسان: { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} يعني أنَّ المسألة ـ مسألة المصير ـ بدرجة مِن الوضوح والعلنية والإِنكشاف، بحيثُ أن كل من يرى صحيفة الأعمال هذه سيحكم فيها على الفور ـ مهما كانَ مجرماً ـ لماذا؟ لأنَّ صحيفة الأعمال هذه ـ كما سيأتي ـ هي مجموعة مِن آثار الأعمال أو هي نفس الأعمال، وبالتالي فلا مجال لانكارها فإِذا سمعت ـ أنا ـ صوتي مِن شريط مُسجَّل، أو رأيتُ صورتي وهي تضبط قيامي ببعض الأعمال الحسنة أو السيئة; فهل أستطيع أن أنكر ذلك؟ كذلك صحيفة الأعمال في يومِ القيامة; بل هي أكثر حيوتة ودقة مِن الصورة والصوت!
الآية التي بعدها تُّوضح أربعة أحكام أساسية فيما يخص مسألة الحساب والجزاء على الأعمال، وهذه الأحكام هي:
1 ـ أوّلاً تُقرِّر أنَّ { مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } حيث تعود النتيجة عليه.
2 ـ ثمّ تُقَّرِّر أيضاً أنَّ { وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}.
وقرأنا نظير هذين الحكمين في الآية السابعة مِن هذه السورة في قوله تعالى: { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}.
3 ـ ثمّ تنتقل الآية لتقول: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
«الوزر» بمعنى الحمل الثقيل. وأيضاً تأتي بمعنى المسؤولية، لأنَّ المسؤولية ـ أيضاً ـ حمل معنوي ثقيل على عاتق الإِنسان، فإِذا قيل للوزير وزيراً، فإِنّما هو لتحمله المسؤولية الثقيلة على عاتقه مِن قبل الناس أو الأمير و الحاكم.
طبعاً هذا القانون الكُلّي الذي تُقرِّره آية { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لا يتنافى مع ما جاء في الآية (25) مِن سورة النحل التي تقول: { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} لأنَّ هؤلاء بسبب تضليلهم للآخرين يكونون فاعلين للذنب أيضاً، أو يُعتبرون بحكم الفاعلين له، ولذلك فهم في واقع الأمر يتحملونَ أوزارهم وذنوبهم، وبتعبير آخر: فإِنَّ «السبب» هنا هو في حكم «الفاعل» أو «المُباشر».
كذلك مرَّت علينا روايات مُتعدِّدة حول مسألة السُنَّة السيئة والسنَّة الحسنة، والتي كانَ مؤدّاها يعني أنَّ مَن سنَّ سنةً سيئة أو حسنة فإِنَّهُ سيكون لهُ أجرٌ مِن نصيب العاملين بها، وهو شريكهم في جزائها وعواقبها، وهذا الأمر هو الآخر لا يتنافى مع قاعدة { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لأنَّ المؤسس للسُنّة، يعتبر في الحقيقة أحد اجزاء العلة التامّه للعمل، وهو بالتالي شريك في العمل والجزاء.
4 ـ الحكم الرّابع يتمثل في قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } يقوم ببيان التكليف وإِلقاء الحجة.
هناك نقاش بين المفسّرين حول نوع العذاب المقصود هنا، وهل هو نوع من أنواع العذاب الذي يقع في الدنيا أو في الآخرة، أم المقصود بهِ هو عذاب «الإِستيصال» الذي يعني العذاب الشامل المُدمِّر كطوفان نوح مثلا؟
إنَّ ظاهر الآية الكريمة يدل على الإِطلاق، وهو بالتالي يشمل كل أنواع العذاب.
وهناك نقاشٌ آخر ـ أيضاً ـ بين المفسّرين حول قاعدة { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وهل أنَّ الحكم فيها يخص المسائل الشرعية التي يعتمد فهمها على الأدلة النقلية فقط; أو أنَّهُ يشمل جميع المسائل العقلية والنقلية في الأصول والفروع؟
في الواقع، إِذا أردنا العمل بظاهر الآية الذي يُفيد الإِطلاق، فينبغي القول أنّها تشمل جميع الأحكام العقلية والنقلية، سواء ارتبطت بأصول أو فروع الدين. ومفهوم هذا الكلام أنَّهُ حتى في المسائل العقلية البحتة التي يقطع «العقل المستقل» بحسنها وقُبحها مثل حُسن العدل و قُبح الظلم، فإِنَّه ما لم يأت الأنبياء، ويؤيدون حكم العقل بحكم النقل، فإِنَّ اللّه تبارك وتعالى لا يُجازي أحداً بالعذاب. للطفه ورحمته بالعباد.
ولكن هذا الموضوع مستبعد وضعيف الإِحتمال، لأنَّهُ يصطدم مع قاعدة أنَّ المستقلات العقلية لا تحتاج إِلى بيان الشرع، وحكم العقل في إِتمام الحجة في هذه الموارد يُعتبر كافياً ومجزياً، لذلك فلا طريق أمامنا إِلاّ أن نستثني المستقلات العقلية عن مجال عمل القاعدة المذكورة.
وإِذا لم نستثن ذلك فسيكون معنى العذاب في هذه الآية هو «عذاب الإِستيصال» وسيكون المفاد الأخير للمعنى هو أنّ اللّه سبحانهُ وتعالى لرحمته ولطفه بالعباد لا يُهلك الظالمين والمنحرفين إِلاّ بعدَ أن يبعث الأنبياء، وتستبين جميع طرق السعادة والهداية; حتى تُطابق حجّة الشرع حجة العقل المستقل، وتتم الحجة بذلك من طريقي العقل والنقل (فتأمَّل ذلك).
______________
1- تفسير الأمثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج7،ص246-249.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|