المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية
آخر المواضيع المضافة
الثايادايازول Thiadiazole الفعالية البايولوجية والتطبيقات الاخرى لمركبات 4،3،1-اوكسادايازول الاوكسادايازول Oxadiazole هل اللعن الوارد في زيارة الإمام الحسين عليه‌ السلام لبني أُمية قاطبة تشمل جيلهم إلى يومنا هذا ؟ وربما أنّ فيهم من تشيّع وليس له يد فيما حصل من هم الصحابة والخلفاء اللذين يستحقون فعلا اللعن ؟ الجهاز التناسلي الذكري في الدجاج الجهاز التنفسي للدجاج محاسبة المسؤولية في المصرف (الإدارة اللامركزية والعلاقات الإنسانية ـــ الإدارة اللامركزية في المصرف) أثر نظرية الظروف الاستثنائية على تحصيل أموال الدولة وتطبيقاتها في القانون المدني أثر نظرية الظروف الاستثنائية على تحصيل أموال الدولة وتطبيقاتها في القانون الإداري دور التشريعات والسلطات الرقابية في تسعير المنتجات والخدمات المصرفية موضوع الملاحظة في الاستنباط القضائي ملكة الاستنباط القضائي الجهاز الهضمي للدجاج إستراتيجيات تسعير المنتجات والخدمات المصرفية في الاطار الرقابي (انواع المنتجات والخدمات المصرفية)


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


النهضة القومية والأدب الحديث  
  
2993   02:21 صباحاً   التاريخ: 2-10-2019
المؤلف : عمر الدسوقي
الكتاب أو المصدر : في الأدب الحديث
الجزء والصفحة : ص:87-182ج2
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الحديث /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-03-2015 950
التاريخ: 2-10-2019 2994
التاريخ: 24-03-2015 936
التاريخ: 24-03-2015 1745

 

والنهضة القومية من أهم العوامل التي أثرت في أدبنا الحديث شعرًا ونثرًا حتى صار أدبًا قويًّا عملاقًا، استعادت به اللغة العربية سابق رونقها وبهائها أيام عصرها الذهبي في عهد العباسيين، بل أربت على ما كان لها من مجد بسبب اتصالنا القوي بالثقافة الغربية، وتغذيتها تغذية متواصلة بثمرات الأدب الأوربي فعرفت ألوانًا من الأدب لم تتذوقها.

وللنهضة القومية مظاهر شتى، أثرت كلها في الأدب تأثيرًا بليغًا وسنذكر هذه المظاهر بشيء من التوسع، ونتكلم على آثار كل منها في الأدب على قدر ما تسمح لنا به هذه الصفحات المحدودة.

المظهر السياسي:

انتهت الثورة العرابية -كما عرفنا في الجزء الأول- بالاحتلال الإنجليزي لمصر في سنة 1882، وقد كان لإخفاق الثورة العرابية أثران جوهريان: أولهما: الاحتلال البريطاني، وقد أكد الإنجليز منذ أن وطئت أقدامهم أرض مصر، أنهم لا يريدون اغتصابها أو احتلالها ولكنهم جاءوا لحماية الخديو من الثورة وتثبيت عرشه، وأنهم جاءوا وهم ينوون الجلاء العاجل، حين تستقر الأمور ويهدأ الشعب(1)، ولكن الإنجليز كانوا يخادعون الأمة المصرية، ويتربصون بها الدوائر من زمن بعيد منذ حملة نابليون على مصر، ومنذ غزوتهم لها بقيادة الجنرال "فريز" سنة 1807 وهزيمتهم في موقعة رشيد(2).

(2/87)

وثانيهما: سريان روح الخضوع واليأس في نفوس المصريين بعد الاحتلال ومن مظاهر هذا اليأس تنصل زعماء الثورة العرابية من تبعاتها، والتجائهم إلى الإنجليز يستمدون منهم الصفح والمعونة. وقد ظلت مصر في هذه الحالة الشنيعة من الخضوع، والاستسلام، والاستعمار يمكن لأقدامه، ويوطد من دعائمه إلى أن قيض الله لمصر في أخريات القرن التاسع عشر بضع نفر من المواطنين عملوا جهدهم إلى أن يعيدوا لها ما عزب من آمالها.

ولقد مر بك في الفقرة الأولى من هذا الفصل كيف أن اللورد كرومر قد طغى وبغى وتجاوز حده، وحكم مصر بيد حديدية إنجليزية، حتى صار فيها الحاكم المطلق، تحت إمرته جيش قوي، وشئون المال والأشغال والعدل في يد مستشاريه الإنجليز، ووزراؤنا لا يعنيهم إلا أن يرضوا العميد البريطاني، ولا سيما مصطفى فهمي الذي تولى الوزراء ثلاثة عشر عامًا متوالية من سنة 1895 إلى سنة 1908، وكان أطوع للإنجليز من بنان أحدهم، وكان إنجليزيًّا أكثر منهم، وكان يجاهر بأنه لا يستمد سلطانه من الخديو، وإنما يستمده من العميد البريطاني، ومثله نوبار ومحمد سعيد، ومن على شاكلتهم.

ولما توفي الخديو توفيق وتولى عباس العرش في 8 يناير سنة 1892 استبشرت الأمة خيرًا بعهده. وأملت أن يجلو الإنجليز عنها، ولكن إنجلترا تذرعت بصغر سنة ونادت صحفها(3) بأن "إرتقاء الخديو الشاب عرش مصر يجعل بقاء الاحتلال أكثر ضرورة من أي وقت فلا يجوز منذ الآن الكلام عن الجلاء" وقالت: "إن وفاة توفيق هدمت آخر حجة للجلاء".

وابتدأ عباس يشعر بمرارة الاحتلال، والحد من سلطانه، وأخذ يناوئ الإنجليز، ويقف منهم موقفًا معاديًا في كثير من الأمور، وإن غلب على أمره في أكثر الأحيان، وكانت الأمة تشجعه، وتلتف حوله بادئ ذي بدء كما حدث حين أقال وزارة مصطفى فهمي الأولى "يناير 1883" من غير أن يستأذن الإنجليز في ذلك،

(2/88)

إذا توافد عليه رجال الأمة وأمراؤها وعلماؤها وأعضاء مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية والقضاة يهنئونه ويشدون أزره(4)، وكما حدث في أزمة الحدود سنة 1894، وقد أدى موقف عباس هذا إلى أن دب في نفوس بعض المصريين شيء من الحماس، وقد ظهرت أول الأمر عن طريق الصحافة.

وذكرنا في الجزء الأول أن الصحافة المصرية في أخريات القرن التاسع عشر تأثرت بعاملين أولهما: تركيا، وكانت على الرغم من ضعفها، وإعانها للأمر الواقع تحاول إثارة النفوس ضد الاحتلال، وكان كثير من المصريين يدين لتركيا بالولاء، وهو ولاء ديني لا سياسي، مبعثه وجود الخلافة العثمانية، والمسلمون مكلفون شرعًا بطاعة الخليفة.

وثانيهما: الاحتلال الذي حاول أن يجتث نفوذ تركيا من الأساس، ويقتلع من النفوس هذا الولاء، وقد استطاع أن يجد لسياسته هذه أنصارًا ومريدين، وأن يجتذب إليه قلوبًا عزيزة المنال تدافع عنه أو تسكت عن مخازيه، ووجد أن كثيرًا من السوريين المسيحيين ينقمون على تركيا استبدادها وغلظتها وسوء تصرفها معهم في ديارهم، وتفريقها بين عناصر الأمة، فاستمال هؤلاء الناقمين إليه، وحباهم عطفه ووده، وأنشئوا جريدة المقطم لسان حال لهم في 14 من فبراير سنة 1889.

وهكذا انقسمت الصحافة فريقين: فريق تركيا، وفي الغالب يدعو للخديو، ويندد بالاستعار، إما مدفوعًا بالولاء الديني، أو الكراهية للإنجليز، أو بتحريض دولة أجنبية تنفس على أبناء التاميز مركزهم في مصر والشرق العربي، وفريق يدافع عن الإنجليز، ويتغنى بمحامدهم، ويشيد بنعمة الاحتلال، ويذيع مساوئ العهد التركي، وما ارتكب فيه من ظلم وكانت "المؤيد" ثم "اللواء" تمثل الفريق الأول، "والمقطم" تمثل الفريق الثاني على نحو ما ذكرناه في غير هذا المكان(5).

(2/89)

طلع المؤيد على الناس في ديسمبر سنة 1889، والاحتلال الإنجليزي في عنفوانه، والثورة العرابية قد أخفقت، وشرد زعماؤها، وكممت الأفواه، ولكن النفوس كانت تضطرم بنار الوطنية والقلوب تنطوي على حقد دفين لهؤلاء الذين اغتصبوا حرية مصر، واستباحوا حرماتها، مع أنها كانت بالأمس القريب في عهد إسماعيل تتطلع إلى مستقبل باسم. وكانت تعاليم جمال الدين الأفغاني، وما بثه في مصر من حب للحرية، وثورة على الاستبداد والبغي ورغبة ملحة في إصلاح المفاسد الاجتماعية، وتحقيق العدالة بين الناس، ومن نظام الشورى الصحيح لا تزال تطن في الآذان، وتتردد في الأذهان وكانت ثورة عرابي والمبادئ العظيمة التي نادت بها من رفع السخرة وإنصاف المصريين ضباطًا وشعبًا والعدالة الاجتماعية بين الطبقات، وإنشاء المجلس النيابي لتمثل فيه الأمة، وما راح ضحية هذه الثورة من ضحايا لا يزال كله ماثلًا في قلوب المصريين. بيد أن الإنجليز كبتوا هذا الشعور الجياش وحاربوا في عنف وقسوة دعاة الحرية، وإن تظاهروا بأنهم أطلقوا للصحافة العنان، وتركوها حرة تقول ما تشاء.

وسارت المؤيد في محاربة الإنجليز من غير هوادة ومهادنة، وأفسحت صفحاتها لذوي الأقلام الملتهبة المستنيرة من أمثال سعد زغلول، وإبراهيم اللقاني، إبراهيم المويلحي، وعبد الكريم سلمان، ومحمد عبده، وتوفيق البكري، وفتحي زغلول وغيرهم وكانت المسرح الأول لمقالات مصطفى كامل المشتعلة ضد الاستعمار. وظل هذا ديدنها أمدًا طويلًا حتى بعد أن استمال الإنجليز صاحبها قليلًا، وفترت حدته نوعًا ما بتأثير الشيخ محمد عبده صديق "كرومر" من جهة، ولمهادنة عباس للاحتلال من جهة ثانية(6). وقد يكون الشيخ على يوسف قد هادن الإنجليز، وسكت عن مخازيهم؛ ولكنه لم يثن عليهم أو يدعو لهم في يوم من الأيام، ولقد لاقى من رجال الحزب الوطني أشد العنف والإرهاق حين خفف لهجة المؤيد ضد الإنجليز، ولم تعد ترحب بمقالات مصفى كامل.

وكان الشيخ علي يوسف موزع الولاء بين حبه للخديو وإخلاصه لمحمد عبده، فلما عقد الاتفاق الودي بين الإنجليز وفرنسا في سنة 1904، وظهر إنحياز

(2/90)

الخديو بشكل واضح إلى الاحتلال، وقطع مصطفى كامل صلته بالخديو؛ لأنه لم يعد في نظره أهلًا لأن يتزعم الحركة الوطنية فانصرف عنه، وفي ذلك يقول: "لما رأيت، رغبة سموه في توطيد الحملات الحسنة بينه وبين ملك الإنجليز وحكومته، وجدت من واجبي أن أكون بعيدًا عنه" -لم يجد الشيخ على يوسف بدًّا من أن يتبع الخديو في سياسته، والشيخ محمد عبده في ميوله، ولكنه كما ذكرنا ظل حتى آخر لحظة من حياته عدوًا للإنجليز، وأن أسس حزب الإصلاح ليدافع عن الخديو وتركيا(7).

ظهرت في مصر إبان هذه الفترة ثلاثة أحزاب: أولها الحزب الإنجليزي ولسان حاله جريدة المقطم، ومن رجاله مصطفى فهمي، ونوبار، ومحمد سعيد وكثير من اللبنانيين الذين لجئوا إلى مصر، وكانت صدورهم حانقة على تركيا، وحزب الخديو وتمثله المؤيد وصاحبها، ويدين بالولاء لتركيا عن عقيدة دينية، وقد عبر المؤيد عن خدماته لها في موضع العتاب، حين اتهم بخروجه عن ولائه عقب وفاة السلطان عبد الحميد بقوله(8): "كان المؤيد -وما زال- خادم الدولة الأمين ورسولها الصادق إلى الأقطار الإسلامية، وصوتها المسموع في أنحاء العالم، وقد تأسس على دعامة التفاني في الإخلاص لعرش الخلافة العظمى.

ولقد يعلم القراء أن المؤيد سعى سعيًا مجيدًا في مساعدة الدولة في حربيها الأخيرتين(9) بل هذه اللجنة العليا لحربي طرابلس والبلقان، وتلك الخطب الرنانة التي كان يلقيها مؤسس المؤيد في وسط جماهير المكتتبين للحربين للحث على البذل بجود وسخاء، وما كان يتبعها من الفصول التي تكتب في المؤيد بقلمه، وقلم إدارة التحرير كلها أدلة مجسمة على أن المؤيد قام للدولة العلية بالواجب في كل أدوار حياته".

(2/91)

وثالث هذه الأحزاب: الوطني، وقد كان مصطفى كامل يدعو أول الأمر لتركيا ويقول: "حقًّا إن سياسة التقرب من الدولة العلية لأحكم السياسات وأرشدها، ولا غرو أن كنا نتألم لآلام الدولة العلية، فما نحن إلا أبناؤها المستظلون بظلها الوريف المجتمعون حول رايتها. وقصارى القول إن الراية العثمانية هي الراية الوحيدة التي يجب أن نجتمع حولها، ولا تتحقق وحدتنا بغير الاتحاد، والائتلاف قلبًا ولسانًا(10).

ويظهر أن موقف مصطفى كامل هذا كان موضع نقد كثير؛ إذ كيف يطلب لمصر الاستقلال التام، وطرد الإنجليز منها في الوقت الذي يريدها أن تكون خاضعة لتركيا، وقد دافع مصطفى كامل عن وجهة نظره في أكثر من خطبة، وبين بوضوح وجلاء، أنه إنما يدافع عن حق مصر الدولي، فتركيا بمقتضى معاهدة لندن سنة 1840 الدولة صاحبة السيادة على مصر، وقد اعترفت الدولة جميعًا بهذه المعاهدة، بينما لا توجد لدى الإنجليز أن وثيقة تؤيد بقاءهم فيها، فكان مصطفى كامل يدعو الإنجليز وسائر دول أوربا إلى احترام هذه المعاهدة، أضف إلى هذا أن تركيا على الرغم من ضعفها، وسوء حالها كانت تناوئ الإنجليز في مصر، وتود أن يخرجوا منها، وهذا يزيد المصريين في مطالبتهم بالاستقلال قوة، ثم أن سيادة تركيا على مصر كانت سيادة اسمية، لا تتدخل في شئونها الداخلية أو الخارجية، منذ معاهدة لندن 1840 بل قبل ذلك حين ثار عليها محمد علي وكاد يفتح القسطنطينية.

ولقد أشار مصطفى كامل في غير ما خطبه ومقالة إلى هذه المعاني، فمن ذلك ما كتبه إلى مدام جولييت أدم: "إنك تعلمين خطتي نحو تركيا، وما أراه واجبًا نحوها، فقد أفصحت عن ذلك في خطبتي، واعترف كثيرًا من أصدقائنا اليونانيين بأن من السياسة القومية لمصر أن تكون حسنة العلاقة مع تركيا ما دام الإنجليز محتلين وطننا العزيز"(11).

(2/92)

ورد على منتقديه في اللواء بقوله: "أما دعواكم أن المواطنين المصريين يريدون الانتقال من استبداد إلى استعباد، وأنهم إنما يطالبون خروج الإنجليز من مصر ليدخلوا تحت حكم جديد، فهي دعوى لا يقبلها ذو لب، ولا يسلم بها أحد من العقلاء، فإننا نطلب استقلال وطننا، وحرية ديارنا، ونتمسك بهذا المطلب إلى آخر لحظة من حياتنا"(12).

وقال في إحدى خطبه: "إن مظاهرة الأمة المصرية نحو الدولة العلية هي مظاهرة ضد الاحتلال الإنجليزي، واشترك أفراد الأمة على اختلافهم في الاكتتاب للجيش العثماني هو اقتراح عام ضد الإنجليز في مصر"(13).

وقال في موضوع آخر: "ماذا يكون مصير البلاد المصرية لو تنازلت تركيا عن حقوقها لإنجلترا، أو تعاهدت معها على ذلك بمعاهدة شبيهة بالمعاهدة الفرنسية الإنجليزية "1904" ألا تصير ولاية إنجليزية؟ إذن فلماذا يدهش الكاتب من كوننا نجعل علائقنا مع تركيا حسنة، ونسعى لنيل الوسائل التي قد تفيدنا وتنفعنا؟ "(14).

وقد جارى مصطفى كامل في ذلك رجال الحزب الوطني من بعده، فقد جاء في تقرير الحزب الوطني الذي أرسله إلى مؤتمر الصلح بعد الحرب العالمية الأولى، والذي نشر في إبريل سنة 1919 ما يأتي: "كان الحزب الوطني يطلب احترام معاهدة سنة 1840، ولم يكن ذلك عن رغبة منه عن الاستقلال المطلق، أو كما يقول أنصار الاستعمار الإنجليزي سعيًا في تغيير النير الإنجليزي بسيادة تركيا -كلا- فإن الحزب الوطني يتوخى الوسائل السلمية دون غيرها، لذلك كانت سياسته الاحتفاظ بعضد الدولة العثمانية وتذكير الدولة بمعاهدتها الضامنة لمصر الاستقلال الداخلي، على -أننا والحق- يقال لم نشعر قط بسيادة تركيا الاسمية بجانب السلطة الإنجليزية، ولم نرَ منها منذ سنة 1840 افتئاتًا على

(2/93)

استقلالنا الداخلي -لهذا كان من أسباب سكوتنا عن تركيا عدم شعورنا بثقل سيادتها، أما الآن وقد وصلت الإنسانية إلى هذه الدرجة من الرقى وجئنا أمام محكمة عادلة تريد أن ترد الحقوق إلى أربابها، فإن لنا أن نطلب كامل الحق -نطلب جلاء الإنجليز حالًا، واستقلال التام"(15).

ولقد حاول الإنجليز أن ينتزعوا اعترافًا بمركزهم في مصر، وقد مكنهم انتصارهم في الحرب العالمية الأولى من أخذ هذا الاعتراف دوليًّا فاعترفت تركيا بحماية إنجلترا على مصر في معاهدة سيفر "أغسطس سنة 1920" وحذا حذوها كثير من الدول(16).

ولقد أفضت في الحديث عن تركيا وموقف مصر منها؛ لأن أدبنا في هذه الحقبة، ولا سميا الشعر متأثر كل التأثر بهذه العلاقة سواء كانت سياسية، أو دينية لوجود خليفة المسلمين بتركيا، فأنت ترى شوقي، وهو شاعر الخديو، وفيه دم تركي يتغنى في مناسبات شتى بأمجاد الترك، ويرجى الثناء العاطر، والمديح المستطاب لعبد الحميد الطاغية، ويفرح المصريون، والعرب عامة حين يعلن الدستور في تركيا سنة 1908 ويسجل الشعراء ذلك في أشعارهم، وما من شاعر في الجيل الماضي إلا ومدح عبد الحميد وغير عبد الحميد من سلاطين آل عثمان، وفرح بانتصار الأتراك في معاركهم، وحن لأحزانهم.

وإذا تصفحت شعر شوقي تجد أنه أسرف في مدح عبد الحميد(17) الطاغية، وفي إظهار ولائه للأتراك فلا تكاد تمر مناسبة سارة أو محزنة لهم من غير أن يقول فيها قصيدة وهذا ديوانه بين أيدينا تجد فيه ما يقرب من خمس عشرة قصيدة في الأتراك وسلطانهم، وقوادهم والمناظر الجميلة ببلادهم، وتراه يبالغ في مدح عبد الحميد مبالغة غير مقبولة من مثل قوله:

(2/94)

فأحييت ميتًا دارس الرسم غابرًا ... كأنك فيما جئت عيسى المقرب

سهرت ونام المسلمون بغبطة ... وما يزعج النوام والساهر الأب

ويجعله عمر بن الخطاب في عدله، وحدبه على اليتامى بقوله:

عمر أنت بيد أنك ظل ... للبرايا وعصمة وسلام

ما تتوجت بالخلافة حتى ... توج البائسون والأيتام

وسرى الخصب والنماء ووافى ... البشر والظل والجنى والغمام

وبدا الملك ملك عثمان من علـ ... ـيك في الذروة التي لا ترام

ويفصح عن محبته للأتراك بقوله:

وزينب إن تاهت وإن هي فاخرت ... فما قومها إلا العشير المحبب

وعن تبعية مصر لعبد الحميد بقوله:

وإني لطير النيل لا طير غيره ... وما النيل إلا من رياضك يحسب

ويبشر شوقي في بعض القصائد العثمانية إلى هذا المعنى السياسي الذي وضحناه آنفًا، وهو أن حسن العلاقة بين مصر وتركيا يحول دون تنازل الثانية عن حقها المعترف به دوليًّا ويجعل مركز الإنجليز في البلاد غير شرعي بقوله في قصيدة يهنئ فيها الخليفة بالعيد:

أبا القمرين عرشك في قلوب ... تجاوز في الولاء المستطاعا

ترى فيه الصبان لحق مصر ... فلولا العرش يعصمه لضاعا

يود سواك أن تهدي إليه ... ولو تشري القلوب ولن تباعا

ويقول له من قصيدة أخرى يستنجد به ويستصرخه:

نستميح الإمام نصرًا لمصر ... مثلما ينصر الحسام الحسام

فلمصر وأنت بالحب أدرى ... بك يا حامي الحمى استعصام

وإلى السيد الخليفة نشكو ... جور دهر أحراره ظلَّام

وعدوها لنا وعودًا كبارًا ... هل رأيت القرى علاها الجهام

(2/95)

فارفع الصوت إنها هي مصر ... وارفع الصوت إنها الأهرام

وارع مصرًا ولم تزل خير راع ... فلها بالذي أرتك زمام

وقد حزن شوقي أشد الحزن حين هوت الخلافة عن سلاطين آل عثمان، وندبها وبكاها في أكثر من قصيدة، ونصح لمن قاموا بهذا الانقلاب أن يبقوا على وشائج القربى بيننا وبينهم، وقد كان مدفوعًا ولا شك فعاطفته الدينية، والجنسية، فيقول للكماليين:

يا فتية الترك حيًّا الله طلعتكم ... وصانكم وهداكم صادق الخدم

أنتم غد الملك والإسلام لا براحًا ... منكم بخير غد في المجد مبتسم

تحلم مصر منها في ضمائرها ... وتعلن الحب جمعًا غير متَّهم

فنحن إن بعدت دارٌ وإن قربت ... جاران في الضاد أو في البيت والْحَرَم

وترى شوقي يحزن لحزن الأتراك، ويفرح لأفراحهم فيقول عند سقوط أدرنه قصيدته التي مطلعها:

يا أخت أندلس عليك سلام ... هوت الخلافة عنك والإسلام

ويرثي طيارين تركيين سقطت بهما الطيارة في مصر بقصيدته التي مطلعها:

انظر إلى الأقمار كيف تزول ... وإلى وجوه السعد كيف تحول

ويرثي أدهم باشا التركي(18) وعثمان باشا الغازي الذي اشتهر في حربه مع الروس(19) وإذا عذر شوقي في كثرة ما قال في تركيا، وفي شدة تعلقه بها؛ لعاطفته الدينية، ثم لوجود دم تركي فيه، ولأنه شاعر الأمير، والأمير من أصل تركي، فإنَّ كثيرًا من شعراء الجيل الماضي قد أظهروا هذه العاطفة نحو تركيا؛ فهذا السيد توفيق البكري يمدح السلطان عبد الحميد في قصيدة طويلة(20) يقول في أولها:

(2/96)

أما ويمين الله حلفة مقسم ... لقد قمت بالإسلام عن كل مسلم

فلولاك بعد الله أمست دياره ... بأيدي الأعادي مثل نهب مقسم

إمام في آل عثمان لحمة ... تبحبح منها في الذرى والمقدم

وهذا حافظ يمدح عبد الحميد بأكثر من قصيدة فيهنئه بعيد جلوسه في سنة 1901 بقصيدة مطلعها(21):

وفيها يقول:

وهل قر في برج السعود متوج ... كما قر في "يلديز" ذلك المعصَّب

تجلى على عرش الجلال وتاجُه ... يهش وأعواد السرير ترحب

سما فوقه والشرق حذلانُ شَيِّقُ ... لطلعته والغرب خذلان يرقب

ويقول في قصيدة أخرى مطلعها(22):

أثنى الحجيج عليك والحرمان ... وأجلَّ عيد جلوسك الثقلان

وهذا محمد عبد المطلب يمدح عبد الحميد ويهنئه بالدستور في سنة 1908 بقصدة يقول في أولها:

يا عيد حي وأنت خير نهار ... عبد الحميد بدولة الأحرار

ملك أقام على الخلافة منهم ... حرسًا وقاها صولة الأشرار

ويفرح لانتصار الأتراك على اليونان في حرب "سقاريا"(23) إلى غير ذلك من المناسبات التركية.

(2/97)

وترى مصطفى صادق الرافعي يجاري شعراء زمانه فيمدح عبد الحميد بثلاث قصائد(24)، وقلما أحجم شاعر مصري مسلم عن إظهار عاطفته لخليفة المسلمين وللأتراك، بل إن إعلان الدستور في تركيا كان عيدًا عامًّا لدى المسلمين في كافة أنحاء الأرض، وسجل شعراء العربية أينما حلوا سرورهم بزوال الطغيان وحكم الفرد، وبدء عهد جديد من الحرية سيان في ذلك المسلمون والمسيحيون(25).

ومهما يكن تأويل رجال الحزب الوطني، وحزب الإصلاح لولائهم لتركيا وعرش الخلافة، فالحق الذي لا مرية فيه أن فكرة القومية المصرية لم تكن حتى نهاية القرن التاسع عشر قد نضجت النضج الكافي، ولم يكن المصريون يفكرون جديًّا في الاستقلال التام عن تركيا، وإن طمع في ذلك إسماعيل، بيد أن تركيا والدول قد كادوا له؛ وإن ظهر ذلك على لسان أحمد عرابي كما بينا ذلك في الجزء الأول وعلى لسان عبد الله نديم في الأستاذ، ونادى كلاهما بأن مصر للمصريين، ولكنها لم تكن دعوة مؤسسة على عقيدة ثابتة(26).

وكيف تظهر فكرة الانفصال عن تركيا وخديو مصر يستمد سلطانه الشرعي من الخليفة ويدين له بالولاء ولو اسميًّا؟

أجل! ظهر في مصر حزب لم يكن راضيًا عن هذه السياسة(27) وشجعهم الإنجليز على ذلك، وأخذوا ينددون بمساوئ الحكم التركي بعامة، وبعهد عبد الحميد الطاغية بخاصة، استمع لخليل مطران يعزي الآستانة حين أشعلت فيها النار بعد صدور الدستور، واتهم بذلك أنصار عبد الحميد؛ إذ لم يطق صبرًا على حكم الشورى، وخلع في سنة 1909، وتولى بعده السلطان محمد الخامس.

فروق لا تستيئسي وذوى ... بالحق عن دستورك المجيد

مكايد الطاغية المريد ... وفتك أهل البغي والجحود

بالأبرياء الآمنين القود ... والشيب والأطفال في المهود(28)

شر العدى لعهدك الجديد ... أصلوك نارهم بلا وعيد

(2/98)

واستمع كذلك لولي الدين يكن، وقد أوذي ونفي لأنه حمل حملة شعواء على عبد الحميد وطغيانه، ومساوئ العهد التركي:

يا وطنًا قد جرى الفساد به ... متى يرينا إصلاحك الزمن

دفنت حيًّا وما دنا أجل ... ما ضر لو دافنوك قد دفنوا

ويعارض شوقي في قصيدته التي قالها غب خلع عبد الحميد والتي يقول في أولها:

سل يلدزا ذات القصور ... هل جاءها نبأ البدور

لو تستطيع إجابة ... لبكتك بالدمع الغزير

ويقول ولي الدين في عبد الحميد:

وخترت يا عبد الحميد ... وما استحيت من الختور

إن الثلاثين التي ... مرت بنا مر العصور

وهبتك تجربة الأمور ... فعشت في جهل الأمور

ورددت عادية الخلا ... فة بعد ذلك للصغير

من كان يدعوك الخبيـ ... ـر فلست عند بالخبير

ولكن أمثال مطران، وولي الدين يكن كانوا يريدون إصلاح حال تركيا، ولم تظهر الفكرة الوطنية المصرية بعيدة عن الجامعة الإسلامية بوضوح وجلاء إلا على يد رجال حزب الأمة كما مر بك(29) ولكن هذا الحزب في مبدأ نشأته كان مواليًا للاحتلال، وظل مترسمًا خطى الشيخ محمد عبده في ذلك السبيل حتى رحل كرومر عن مصر، فغمرته موجة الوطنية(30).

ومهما يكن من اختلاف نظرة الشعراء في مصر إلى تركيا، فقد كانت هناك حقيقة واقعة كان يجب ألا يختلفوا فيها وهي ذلك الاحتلال الجاثم على صدر

(2/99)

مصر يسلبها أعز ما تصبو إليه الأمم وهو نعمة الاستقلال، وحرية التصرف، والسير في سبيل الرقي، ويسلبها في الوقت نفسه ثروتها، ويدفعها إلى ظلمات الجهل، أو إلى علم ضحل أحسن منه الجهل.

وقد ظن الإنجليز منذ وطئت أقدامهم أرض مصر في سنة 1882 أن الشعور الوطني قد خمدت جذوته، وزالت حدته، وضعفت شِرَّته، وأن المصريين قد استناموا لعدلهم المكذوب، أو لحكمهم المرهوب، ولكن راعهم صوت مصطفى كامل المدوي، الممتلئ قوة وفتوة وعزيمة، ونزاهة قلب وضمير ويد ولسان كأنه الشعلة المتقدة ترفعها يد الحق عالية تبدد ظلمات الجور والعسف والذلة والانحلال، فاستجابت القلوب لضوئها، وسارت في هديها، ولبى نداءه كل وطني غيور كان يكبت شعوره، وسارت أغلبية الأمة من خلفه ففزعت إنجلترا، وارتاعت لهذه الوطنية، وخشيت أن تجتاحها من مصر وأن تغرق الأرض تحت قدميها أو تفوض دعائم الاحتلال الذي شيدته في ما يقرب من عشرين عامًا، ويصير رمادًا لا أثر له.

وكان الخديو عباس الثاني يشجع مصطفى كامل أول الأمر ويؤيده في جميع مجهوده، ويمده بالمال، لينفق على دعايته ضد الإنجليز(31)، ويتمكن من السفر إلى فرنسا؛ لأنها كانت تناصره، ووجد فيها أصدقاء من رجال الصحافة والسياسة يشدون أزره، وينشرون كلماته الملتهبة، ويبصرون الرأي العام الأوربي بمساوئ الاحتلال في مصر. بيد أن عباسًا قد رأى أنه لا يستطيع مسايرة الحركة الوطنية ولا سيما بعد أن اتفقت فرنسا وإنجلترا سنة 1904 فأخذ يهادن الاحتلال، وعلم أن لا سبيل لمعاداته، وأن مصالحه الكثيرة تتعطل بسبب هذه العداوة، وحينئذ رأى مصطفى كامل أن يستقل بحركته، وأن يقطع صلته بالخديو وفي هذا يقول: "ولما رأيت رغبة سموه في توطيد الصلات الحسنة بينه وبين ملك الإنجليز وحكومته، وجدت من واجباتي أن أكون بعيدًا عن سموه"(32)، وقال في مناسبة أخرى: "قد قلنا مرارًا إن سمو الأمير بعيد عن الحركة الوطنية، وأن

(2/100)

المجاهدين ضد الاحتلال مستقلون عن سموه كل الاستقلال، فهو إن قال كلمة في صالح الحركة الوطنية خدم نفسه وعرشه واستمال أمته إليه، وإن عمل ضدها أضر نفسه وعرشه ونفر أمته منه"(33).

أيقظ مصطفى كامل ورجال الحزب الوطني، ورجال الخديو عباس وعلى رأسهم الشيخ علي يوسف في المؤيد الشعور الوطني، وكان طبيعيًّا أن يظهر هذا الشعور في الأدب ولا سيما في الشعر؛ ولو نظرنا إلى شعرائنا الذين اشتهروا في ذلك الوقت وجدناهم يقفون من الاحتلال وشئونه مواقف متباينة، مع أن الواجب كان يقضي عليهم بأن تكون نظراتهم إليه واحدة؛ نظرة الساخط الغاضب الحانق على الحرية المسلوبة والحق المضاع، والظلم البين، والوطن المستباح. ولكنهم تأثروا بعده عوامل بعضها شخصية وبعضها سياسية.

أما شوقي فكان شاعر القصر، وكان القصر متحفظًا في مجاهرته بالعداء للإنجليز، يساعد الوطنيين سرًّا، ولكن لا يريد أن يظهر حتى لا يتمسك عليه المحتل الغشوم بشيء فيسقطه عن عرشه، وهو صاحب الحول والطول والجيش المحتل، المدجج بالسلاح، وكثيرًا ما اصطدم بكرومر، ولكن الكلمة الغالبة والرأي النافذ كان في آخر الأمر لممثل الاحتلال(34)وظلت علاقته بكرومر سيئة حتى بعد أن انفصل عن الحركة الوطنية إلى أن ترك كرومر مصر؛ وذلك لأن كرومر كان عاتيًا جبارًا، وقد حدث بينهما ما لا يدع مجالًا للوفاق على الرغم من تساهل عباس وإظهاره الرضا عن الاحتلال، فقد كان من عادة الجيش البريطاني أن يقوم بعرض عسكري في يوم عيد ميلاد ملكهم وكان كرومر يرأس هذا العرض. ثم رأس خلفه "الدون جورست" ومنذ سنة 1904 ابتدأ عباس يحضر هذا العرض ويقف تحت العلم البريطاني في ميدان عابدين إلى جانب كرومر، وقد اشتدت عليه حملة الوطنيين لذلك مما اضطره إلى التنصل، وإصداره بلاغًا يعزو فيه وجوده في أثناء العرض إلى محض الصدقة، ولكنه فعل ذلك في العام التالي، فهاج الطلبة، وثارت الصحافة وحدثت بعد ذلك حوادث اضطرته إلى العدول عن حضور العرض(35). ومن أمارات تساهل عباس مع كرومر كذلك أنه رضي بأن يعين له

(2/101)

"ياور" إنجليزي في سنة 1905 هو وطسن باشا(36) ولكن كرومر لم يثق بعباس مطلقًا فلما رحل عن مصر وعين "الدون جورست" بدلًا منه، ظهر عباس بخضوعه التام للإنجليز، واستسلامه لهم، وأخذ ينفي عن نفسه تهمة العمل ضد الاحتلال، ويذكر اللورد كرومر بالخير، ويصرح بأن المعتمد البريطاني لا يستطيع أن يحكم مصر وحده، وأنه مستعد للتعاون معه، وأنه لا فائدة للمصريين من استبدال احتلال باحتلال، وأن الاحتلال البريطاني أفضل من سواه(37).

كان شوقي حبيسًا في قفص من ذهب، صنعه له القصر، وكان بهذا وبحكم نشأته البعيدة عن الشعب وآماله وآلامه، وبحكم صلته بالقصر، وما تفرصه عليه هذه الصلة من أتباع سياسة الأمير، وأن يفكر ويتدبر، ويقدر قبل أن ينطق، ويقيس صلته بالناس، وعداوته، وقربه، وبعده نرضى الأمير وسخطه، كان بحكم كل هذه المور بعيدًا عن طبقات الشعب، لا يعرف من السياسة القومية الصحيحة إلا بمقدار ما يشعر به عباس، وتارة يسمح له بالقول، وتارة يأبى عليه أن يجهر برأيه، وإن كان شوقي -والحق يقال يحب مصر من أعماق قلبه، وقد عبر عن هذا الحب بشتى السبل ولكن الذي لِيمَ عليه أنه لم يكن يجاري التيار الوطني المتدفق أيام أن كان مع عباس.

لما رحل كرومر عن مصر، وعلاقته بعباس ما عرفت، وأساء في خطبة وداعه لإسماعيل كل الإساءة على الرغم من حضور الأمير حسين كامل قال قصيدته المشهورة(38).

أيامكم أم عهد إسماعيلا ... أم أنت فرعون يسوى النيلا

أم حاكم في أرض مصر بأمره ... لا سائلًا أبدًا ولا مسئولا

يا مالكًا رق الرقاب ببأسه ... هلا اتخذت إلى القلوب سبيلا

لما رحلت عن البلاد تشهدت ... فكأنك الداء العياء وبيلا

(2/102)

ولقد مرت بمصر حادثة فظيعة لم يقل فيها شوقي أول الأمر شيئًا، تلك هي حادثة دنشواي(39)، ولم ينطق إلا بعد مرور عام، وبعد أن ذهب كرومر من مصر. ولقد أظهرت هذه الحادثة رجال الاحتلال على حقيقتهم، وعرفت المصريين مقدار كذبهم ونفاقهم، لم يكن القصد الجنائي في هذه الحادثة متوافرًا في قليل أو كثير، فهي من أولها إلى آخرها قضاء وقدرًا، فلو أن صيادي الحمام ابتعدوا قليلًا عن جرن الغلال لما حدث شيء، بل لو هدأ هذا الجندي المصاب، ولم يجر فزعًا مسافة طويلة في الشمس المحرقة لما خر صريعًا بضربة شمس لا بضربة العصا، كما اعترف بذلك تقرير الطبيب البريطاني نفسه.

ولكن رجال الاحتلال فقدوا أزمة أعصابهم، وطغت عليهم سورة الانتقام، على نحو ضاعت معه كل مظاهر العدالة التي هي أول واجب عليهم، كما أنها من أوائل حقوق المتهمين، ولكن كيف تذكر العدالة، وقد تصرف الإنجليز بنزق وطيش، حتى إنهم أرسلوا المشانق من القاهرة إلى دنشواي قبل أن تعقد المحكمة لنظر القضية، ولقد كانت محكمة عسكرية ممسوخة التكوين جل أعضائها من الإنجليز، فهي الخصم والحكم وتحاكم قومًا مدنيين، لا جنودًا محاربين. وفي إبان السلم لا في زمن الحرب، وفي وقت يسود فيه النظام والهدوء فلا أحكام عرفية، ولا إجراءات استثنائية؛ وهي محكمة لا تتقيد بقانون وحكمها غير قابل للطعن فيه أو النقض له، أو حتى لمجرد التعديل أو المراجعة او التصديق، بل حكمها مبرم كأنه القضاء النازل لا راد له، ولا حِوَل عنه. ومتهمون يساقون في عجلة متناهية إلى محكمة، ودفاع متخاذل لم يكترث بخطورة الاتهام، ولم يتناسب مع شدته

(2/103)

وقسوته. وحكم قاسٍ غريب يصدر في سرعة فائقة بإعدام أربعة من المتهمين شنقًا أولهم شيخ في الخامسة والسبعين. ونفذ الحكم في اليوم التالي لصدوره بطريقة وحشية تشمئز منها النفوس وتقشعر لهولها الأبدان، فقد شنق جهارًا في رائعة النهار وفي نفس المكان الذي وقعت فيه الحادثة، وعلى مرأى ومسمع من أهليهم وذويهم، وهذا -ولا ريب- منافٍ لكل قواعد الذوق والشعور الإنساني. وعلى العموم فإن الألفاظ لتتحاذل عن وصف هذه البشاعة، والفجر، والقسوة الغاشمة، ومتابعة تنفيذ الحكم من جلد، وتعليق للمشنوقين ... إلخ.

ولقد استغل الوطنيون هذه الحادثة الفظيعة أروع استغلال، وشنها مصطفى كامل وصحبه حربًا شعواء على رجال الاحتلال، سمع صوتهم الإنجليز في بلادهم، وأثير بسببها الجدل في مجلس العموم البريطاني، وعدل رجال الاحتلال بعدها من سياستهم المتعسفة نحو مصر، وأجبر اللورد كرومر على الاستقالة عقب هذه الحادثة. وهي نهاية عهد كان الاحتلال يتمتع فيه بالاستقرار والطمأنينة، وبداية مرحلة جديدة من مراحل الجهاد القومي، عم فيها الشعور الوطني بعد أن كان الظن أن سواد الأمة راضٍ عن الاحتلال(40).

ومما يذكر في صدر حادثة دنشواي أن الكاتب العالمي "جورج برناردشو" كتب عن هذه الحادثة فصلًا من ست عشرة صفحة في مقدمة كتابه "جزيرة جون بول الأخرى" ولم يكتب أحد عن قضية دنشواي من الأجانب ما يضارعه في صدق العاطفة والدفاع ومضاء الحجة، وشدة الغيرة على المظلومين في هذا الحادث المشئوم، حتى لقد قرن "شو" في إنجلترا باسم دنشواي، ومما قاله في تلك المقدمة: "إن الفلاحين لم يتصرفوا في هذا الحادث غير التصرف الذي كان منتظرًا من جمهرة الفلاحين الإنجليز؛ لو أنهم أصيبوا بمثل مصابهم في المال والحرمان، وإن الضباط لم يكونوا في الخدمة يوم وقوع الحادث بل كانوا لاعبين عابثين، وأساءوا اللعب، وأساءوا المعاملة، وإن الفلاح الإنجليزي ربما احتمل عبثًا كهذا لأنه على ثقة من التعويض، ولكن القرويين لم تكن لهم هذه الثقة

(2/104)

بالتعويض، ولا بالإنصاف وإن أحد المشنوقين كان شيخًا في الستين، يبدو من الضعف كابن السبعين، فلو لم يشنق لجاز أن يموت في السجن قبل انقضاء خمس سنوات.

ثم أجمل القول في الحادثة، ووقائع المحاكمة، وأقوال الشهود، وما جوزي به بعضهم على الصراحة في أداء الشهادة، وأشبع اللورد كرومر ووكيله "مستر فندلي" تقريعًا وسخرية على ما كتباه عن القضية إلى وزير الخارجية، ومنه قول "فندلي" في تسويغ عقوبة الجلد بمصر: "إن المصريين قدريون لا يهمهم الموت، كما تهمهم العقوبة البدنية"، فكان تعقيب "شو" على هذا التعليل العجيب، أن العجب إذا في أمر الأربعة المشنوقين، أليسوا من المصريين؟

وقد شملت حملته الوزارة البريطانية، والبرلمان الإنجليزي؛ لأنهم لم يمنعوا تنفيذ الحكم بعد تبليغه، وقال: "إن الإفراج عن المسجونين من أهل القرية أقل تفكير منتظر عن هذه الكارثة البربرية" وظل "شو" يتابع القضية بعد إقامة كرومر، وأعلن اغتباطه بعد سنة حين أثمرت حملته ثمرتها المشكورة، وأبلغوه أن العفو عن السجناء قريب(41).

قلنا: إن شوقي صمت عامًا كاملًا لم يقل كلمة؟ وكان المنتظر بعد أن عم الأسى من أقصاها إلى أقصاها، وتألم لمصابها حتى الإنجليز أنفسهم، وصار الناس كأنهم في مأتم على حد قول قاسم أمين: "رأيت عند كل شخص تقابلت معه قلبًا مجروحًا، وزورًا مخنوقًا، ودهشة عصبية بادية في الأيدي والأصوات. وكان الحزن على جميع الوجوه، حزن ساكن مستسلم للقوة، مختلط بشيء من الدهشة والذهول، وترى الناس يتكلمون بصوت خافت، وعبارات متقطعة، وهيئة بائسة، منظرهم يشبه منظر قوم مجتمعين في دار ميت"(42).

نقول كان من المنتظر من شوقي وأمثال شوقي أن يعبروا عن عواطف المصريين جميعًا إزاء هذه الكارثة، وأن يشعلوها نارًا مضطرمة الأوار، متأججة

(2/105)

السعير، تحرق تلك القلوب الغليظة التي انتقمت من غير شفقة ولا رحمة من قوم عزل ضاعف مظلومين، ولكن شوقي اتبع سياسة القصر في ذلك، سياسة الحياد والمهادنة والخوف من كرومر الطاغية ولم ينطق إلا بعد مرور عام، فقال قصيدة من أربعة عشر بيتًا، وفيها ترديد لما قاله حافظ، وفيها يقول(43).

يا دنشواي على رباك سلام ... ذهبت بأنس ربوعك الأيام

شهداء حكمك في البلاد تفرقوا ... هيهات للشمل الشيت نظام

وفيها يقول:

"نيرون" لو أدركت عهد "كومر ... لعرفت كيف تنفذ الأحكام

نوحي حمائم دنشواي وروعي ... شعبًا بوادي النيل ليس ينام

متوجع يتمثل اليوم الذي ... ضجت لشدة هوله الأقدام

السوط يعمل والمشانق أربع ... متواحدات والجنود قيام

وحدث بعد ذلك أن مات مصطفى كامل في 10 من فبراير 1908، بعد أن قدم شبابه وذكاءه، وعزمه ومضاءه، وقودًا لشعلة الوطنية كي تظل مضيئة تعشى منها أبصار المستعمرين ويهتدي بسناها طلاب الحق والنصفة والاستقلال، ولكن سرعان ما نضب معين القوة من جسده وتهدم ذلك الجسم الفتي، والشباب الجريء؛ لأنه كان أضيق من أن يحتمل تلك النفس القوية التي كانت تكن فيه وتلك الروح الوثابة التي كانت تحترق بين جوانحه.

فكان موته -وأمته أحوج ما تكون إلى قيادته وزعامته، ووطنيته وجرأته، وصوته المدوي بالحق، نكبة وطنية أصطكت لهولها الأسماع، وزلزلت القلوب، واهتزت المشاعر، وقرحت الجفون، وسحت العيون.

وكان شوقي صديقًا لمصطفى كامل، يرسل إليه القبلات في رسائله إلى محمد فريد من أوربا(44).

وكان من المنتظر حين يرثيه شوقي وقد زاره وهو على فراش الموت أن يبدع في رثائه ويشيد بمواقفه، وإحيائه للأمة بعد أن استكانت، وتنغيصه على

(2/106)

المحتل مقامه بوادي النيل، ولكن شوقي رثاه عقب وفاته بقصيدة صور فيها في دق تامة إحساسه المتفجع في فقد صديق الصبا والشباب، وصور آخر لقاء كان بينهما تصوير الأخ المفجوع في أخ عزيز، وبعد عن السياسة كل البعد، ولم يتطرق إليها إلا بحذر بالغ، نائيًا عن الحديث في الجانب القوي من حياة مصطفى كامل، وأثره في النهضة الوطنية: رثى شوقي في هذه القصيدة صديقًا حميمًا، ولم يرث زعيمًا عظيمًا، ووطنيًّا، وإمامًا من أئمة الجهاد.

ولا شك أن شوقي قد تأثر في رثائه هذا بسياسة القصر حينذاك، وهي سياسة الحيدة والتحفظ أمام كل ما يؤذي الإنجليز أو يغضبهم، أضف إلى هذا أن علاقة مصطفى كامل بعباس قد انقطعت أو كادت في أخريات حياته، بل كان مصطفى كامل قاسيًّا في انتقاده لتصرفات عباس، وميوله نحو الإنجليز، وتساهله معهم. وكان شوقي كلما اقترب في هذه القصيدة من الناحية السياسية كقوله:

هل قام قبلك في المدائن فاتح ... غاز بغير مهند وسنان

وتظن أنه سينتقل إلى جهاد مصطفى كامل، وكيف أثار الحمية والعزيمة في النفوس إذ بك تراه يفاجئك بشيء آخر بعيد عن هذا بقوله:

يدعو إلى العلم الشريف وعنده ... أن العلوم دعائم العمران

وبذلك يتخلص من السياسة قبل أن يتورط فيها، وإذا قاربها مرة أخرى في قوله:

أخلع على مصر شبابك غاليًا ... والبس شباب الحور والولدان

فلعل مصرًا من شبابك ترتدي ... مجد تتيه به على البلدان

فلو أن بالهرمين من عزماته ... بعض المضاء تحرك الهرمان

علمت شبان المدائن والقرى ... كيف الحياة تكون في الشبان

نراه يبتعد سريعًا عن السياسة، عما عساه أن يتورط فيه من ذكر صلابة مصطفى، وعدم مهادنته الغاصبين، فيختم القصيدة على عجل وكأنه ينجو من أمر خطير، وشر مستطير بقوله:

(2/107)

مصر الأسيفة ريفها وصعيدها ... قبرٌ أبر على عظامك حاني

أقسمت أنك في التراب طهارة ... ملك يهاب سؤاله الملكان

على أن شوقي قد تدارك ما فاته في هذه القصيدة من وصف وطنية مصطفى كامل وأثره في مصر وفي جيله، وفي القضية الوطنية عامة، بعد أن زالت الأسباب التي كانت تلجم لسانه وتشل بيانه، ووفى هذا الصديق حقه، وهذا الزعيم ما يليق به من رثاء؛ إذ انتهز شوقي فرصة مرور سبعة عشر عامًا على وفاة مصطفى كامل، حين أقيمت له حفلة ذكرى، فقال قصيدة، ربما كانت أحسن ما قيل حتى اليوم في مصطفى كامل وفي جهاده، وهي من أروع الشعر العربي الحديث، قيلت في سنة 1924، بعد أن عاد شوقي من منفاه، ورأى أن الدنيا قد تغيرت، وسدت دونه أبواب القصر، والثورة المصرية قد تأجج سعيرها، واشتد لظاها، وهبت مصر عن بكرة أبيها تدعو إلى الاستقلال التام أو الموت الزؤام، ومطلعها:

شهيد الحق قم تره يتيمًا ... بأرض ضيعت فيها اليتامى

ورثاه شوقي بعد ذلك في سنة 1926 بقصيدة أخرى بعد أت التأم شمل الأحزاب المصرية المتنافرة، وفيها يقول:

أيها القوم عظموا ... واضع الأس والحجر

اذكروا الخطبة التي ... هي من آية الكبر

لم ير الناس قبلها ... منبر تحت محتضرة

لست أنسى لواءه ... وهو يمشي إلى الظفر

حشرا لناس تحته ... زمرًا أثرها زمر

وليس أدل على أن شوقي كان يصدر فيما يمر بمصر من أحداث، وفي نظراته إلى الأشخاص، وعلاقته بهم عن سياسة القصر، حذرًا تارة، جريئًا تارة

(2/108)

أخرى، من قصيدته التي قالها في رياض باشا، غب خطبته التي ألقاها في افتتاح مدرسة محمد علي الصناعية التي أنشأتها بالإسكندرية جمعية العروة الوثقى سنة 1904 وكان اللورد كرومر ممن حضر هذا الافتتاح، فتملقه رياض باشا بكلام كفر به بنعمة وأصحاب عرشها، فأوسعه شوقي تأنيبًا وتعنيفًا، حيث يقول:

غمرت القوم إطراء وحمدًا ... وهم غمروك بالنعم الجسام

رأوا بالأمس أنفك في الثريا ... فكيف اليوم وأصبح في الرغام

أما والله ما علموك ألا ... صغيرًا في ولائك والخصام

إذا ما لم تكن للقول أهلًا ... فمالك في المواقف والكلام؟

خطبت فكنت خطبًا لا خطيبًا ... أضيف إلى مصائبنا العظام

لهجت الاحتلال وما أتاه ... وجرحك منه لو أحسست دامي

وما أغناه عمن قال فيه ... وما أغناك عن هذا الترامي

ويختمها بقوله:

أفي السبعين والدنيا تولت ... ولا يرجى سوى حسن الختام

تكون وأنت أنت رياض مصر ... عرابي اليوم في نظر الأنام

ولا ريب أن شوقي كان في هذه القصيدة يفصح عن شعور القصر، ومبلغ تأثره من خطبة رياض باشا، وفي وقت لم يكن عباس قد هادن فيه الإنجليز بعد، وكان العداء على أشده بينه وبين كرومر. ثم إن شوقي نظر إلى عرابي نظر الثائر على ولي نعمته توفيق، وكان السبب في نكبة الاحتلال، وموقف رياض من الإنجليز والتمكين لهم في مصر حري بأن يشبه موقف عرابي في نتائجه. وهذه لعمري وجهه نظر القصر في عرابي وثورته، مع أنه لم يكن يريد إلا الخير بمصر، وإن أخطأ التقدير والتدبير، وقد قال شوقي حين عاد عرابي من منفاه قصيدته التي مطلعها:

صغار في الذهاب وفي الإياب ... أهذا كل شأنك يا عرابي

(2/109)

ولما قامت الحرب العالمية الأولى، وأعلنت الحماية، وكان عباس غائبًا عن مصر، فخلعه الإنجليز عن العرش في اليوم التالي لإعلان الحماية(45). نرى شوقي يفرق من أن يصب عليه الإنجليز جام غضبهم، وأن يطوحوا به كما طوحوا بولي نعمته، فيسارع بنشر قصيدة يهنئ فيها السلطان حسين كامل بالعرش، ويعزي نفسه بأن صاحب العرش في مصر من ولد إسماعيل، وحسبه هذا سببًا يجعله من خدام العرش والمخلصين له:

أأخون إسماعيل في أولاده ... ولقد ولدت بباب إسماعيلا!؟

ونراه يلتفت سريعة إلى الإنجليز يمدحهم فيها، ولكنه لا يطيل، بيد أنه يدعو إلى التعاون معهم، وكأنه يقرر "سياسة الأمر الواقع" ولم ير بدًّا من أن يقول ما قال، وقد أعلنت الحماية على مصر، ويوجه بعد ذلك الكلام إلى مصر البائسة، ويطلب منها أن تستسلم للقضاء، ويخبرها أن الرواية لم تتم فصولها بعد. وهذا ولا شك تغير في موقف شوقي إزاء الإنجليز اقتضته الظروف التي جرت على غير ما يهوى. استمع إليه يقول في هذه القصيدة:

الملك فيكم آل إسماعيلا ... لا زال بيتكم يظل النيلا

لطف القضاء فلم يمل لوليك ... ركنًا ولم يشف الحسود غيلا

ويقول في مدح الإنجليز:

الله أدركه بكم وبأمة ... كالمسلمين الأولين عقولًا

حلفاؤنا الأحرار إلا أنهم ... أرقى الشعوب عواطفًا وميولا

أعلى من الرومان ذكرًا في الورى ... وأعز سلطانًا وأمنع غيلًا

لما خلا وجه البلاد لسيفهم ... ساروا سماحًا في البلاد عدولًا

وأتوا بكبارها وشيخ ملوكها ... ملكًا عليها صاحًا مأمولًا

(2/110)

ويقول مخاطبًا أهل مصر:

يا أهل مصر كلوا الأمور لربكم ... فالله خير موئلًا ووكيلًا

جرت الأمور مع القضاء لغاية ... وأقرها من يملك التحويلا

هل كان ذاك العهد إلا موافقًا ... للسلطتين وللبلاد وبيلا

يعتز كل ذليل أقوام به ... وعزيزكم يلقي القياد ذليلًا

دفعت بنافيه الحوادث وانقضت ... إلا نتائج بعدها وذيولًا

وانقضَّ ملعبه وشاهده ... على أن الرواية لم تتم فصولا

فشوقي كما ترى لم يكن صريحًا في هذه القصيدة، فبينا هو يحمد الله على أن الإنجليز لم يأتوا بملك جديد في غير البيت العلوي، كما كان منتظرًا، وأنهم اختاروا شيخ الملوك وأكبرهم سنًّا لهذا المنصب، تراه يطلب من المصريين أن ينتظروا في صبر حتى تتم فصول الرواية، وتراه ينعي على الموقف الغريب الذي كانت فيه مصر زمن عباس، إذ تتنازع فيه السلطتان: الشرعية، والفعلية التي أغتصبها عميد إنجلترا في مصر، وأنه موقف يعتز به كل ذليل، ويذل كل عزيز.

ولكن موقف شوقي هذا لم يجده شيئًا ونفي شوقي في مصر؛ لأنه شاعر عباس، ولأنه قال: إن الرواية لم تتم فصولًا، فخشى الإنجليز من هذه الصيحة(46). فأقام بالأندلس، واتخذ برشلونة له سكنًا، ثم عاد إلى مصر في أواخر سنة 1919، ووجد أن كل شيء قد تغير في مصر، فسكان "عابدين" غير من كان يعهدهم، فنأى عنه وفي النفس لوعة، وانصرف إلى النتاج الخالد، وكان له مواقف محمودة في السياسة الوطنية، سنتعرض لها فيما بعد إن شاء الله:

هذا ما كان من أمر شوقي إبان الاحتلال، أما حافظ، فهو لا شك ممن كان يحب مصر ويعشقها:

(2/111)

لعمرك ما أرقت لغير مصر ... وما لي دونها أمل يرام

ذكرت جلالها أيام كانت ... تصول بها الفراعنة العظام

يقول فيها:

أني لأحمل في هواك صبابة ... يا مصر قد خرجت على الأطواق

لهفي عليك متى أراك طليقة ... يحمي كريم حمام شعب راق

ولم يك حافظ في شعوره نحو الأتراك مثل شوقي، بل كان يمثل شعور عامة المصريين، المتعلمين وغير المتعلمين، فمصر بلد إسلامي، ويدين للخليفة في الآستانة بالولاء، ونرجو له ولجيوشه الظفر والنصر، وتأسي إذا نكبت هذه الجيوش، أو ضعفت دولة الخلافة وكان عبد الحميد رمزًا لهذه الخلافة، وإن كان طاغية مستبدًا، وإن ضعفت على يديه ضعفًا لا نهاية بعده، واقتطع من جسم الدولة على عهده أكثر من ولاية، ولكنه على كل حال خليفة المسلمين، فلا يدع إذا توجه إليه شعراء المسلمين بالمديح والتهاني في الأعياد. ولم يك حافظ يصدر في قصائده العثمانية هذه عن شعور تبعية قومية لتركيا، ولكن عن شعور ديني ليس غير. استمع إليه يقول مهنئًا عبد الحميد بعيد جلوسه في سنة 1901:

لمحت جلال العيد والقوم هيب ... فعلمني أي العلا كيف تكتب

ومثل لي عرش الخلافة خاطري ... فأرهب قلبي والجلالة ترهب

ولكنك لا تجد في ديوانه أكثر من قصيدتين يمدح بهما عبد الحميد ويهنئه، فهذه قصيدة والأخرى قالها في سنة 1908 بعد عودة عبد الحميد من الحج، وكان الدستور قد أعلن، وأطلق سراج المسجونين السياسيين وهي التي مطلعها:

أثنى الحجيج عليك والحرمان ... وأجل عيد جلوسك الثقلان

ولكن يقول في غير مدح عبد الحميد قصائد أخرى في مناسبات تنم عن هذه العاطفة الدينية من مثل قصيدته في تأسيس الدولة العلية 1906 والتي مطلعها:

(2/112)

أيحصى معانيك القريض المهذب ... على أن صدر الشعر للمدح أرحب

لقد مكن الرحمن في الأرض دولة ... لعثمان لا تعفو ولا تتشعب(47)

وقال عند الانقلاب العثماني الذي خلع فيه عبد الحميد سنة 1909 قصيدته التي يقول فيها

كنت أبكي الأمس منك فمالي ... بت أبيك عليك عبد الحميد

ويشير إلى أن عبد الحميد كان حتى أمس خليفة يدعي له في مساجد المسلمين بقوله:

كلما قامت الصلاة دعا الدا ... عي لعبد الحميد وبالتأييد

إلى غير ذلك من المناسبات التي لا يحركه إليها إلا الشعور الديني، من مثل عيد الدستور التركي سنة 1908، وعودة الطائرين العثمانيين، وحرب طرابلس، ولكنه بمجرد أن أعلنت الحماية على مصر، وزال آخر ما يصل بينها وبين تركيا من صلات بزوال الخلافة نفسها، لا نسمع له شيئًا عن تركيا، على العكس من شوقي؛ وذلك لأنه لم يكن يشعر إلا بهذا الشعور الديني وحده.

ولكنه تأثر في السياسة المصرية بعدة عوامل. من ذلك طول صحبته للشيخ محمد عبده، وكثرة ملازمته له، وقد قال في ذلك: "فلقد كنت ألصق الناس بالإمام، أغشى داره، وأرد أنهاره، وألتقط ثماره(48)، وقد عرفت أن الشيخ محمد عبده يدعو إلى الإصلاح البطيء، ويكره الطفرة، ويريد أن يهيئ الأمة ويعدها لأنها تحكم نفسها حكمًا صحيحًا، بالتعليم وارتقاء الشعب(49) حتى ينشأ جيل قوي يستطيع أن ينال الاستقلال وأن يحافظ عليه، وعرفت كذلك موقفه من عباس وموقف عباس منه(50) ، وأنه كان صديقًا للورد كرومر(51)؛ لأنه كان يدفع عنه بطش عباس، ويمكنه من أن يسير في إصلاحاته بالأزهر، والأوقاف، والقضاء.

(2/113)

ولقد تأثر حافظ بمنهج أستاذه الإمام منذ أن اتصل به(52)، في السياسة والإصلاح، فكتابه "ليالي سطيح" ليس إلا من وحي تعليم الإمام، وقصائده الاجتماعية، ونقده للمجتمع المصري في شتى أحواله، ومختلف رجاله، ليس إلا تأثرًا بمنهج الإمام، أضف إلى هذا ما لاقاه حافظ من بؤس وفاقة في مقتبل حياته، وتعرفه على أحوال الشعب ومفاسد البيئة المصرية. والمعوقات الكثيرة التي تقف في سبيل النهضة؛ ولذلك تراه يكثر من شعره الاجتماعي، وينتقد كل فاسد؛ ينتقد العلماء الدجالين.

كم عالم مد العلوم حبائلًا ... لوقيعة وقطيعة وطلاق

والأطباء الجشعين غير المخلصين:

وطبيب قوم قد أحل لطبه ... ما لا تحل شريعة الخلاق

والموظفين المرتشين:

ومهندس للنيل بات بكفه ... مفتاح رزق العامل المطراق

والأدباء المنافقين الكاذبين:

وأديب قوم تستحق يمينه ... قطع الأنامل أو لظى الإحراق

وينعى على المصريين تواكلهم، وتخاذلهم عن النهوض والاهتمام بالإصلاح:

وشعب يفر من الصالحات ... فرار السليم من الأجراب

وغير ذلك من القصائد الاجتماعية العديدة التي سنعود إليها بالتفصيل فيما بعد إن شاء الله، وقد تأثر في موقفه مع الإنجليز برأي أستاذه فيهم، فتراه يردد تلك النغمة التي كان يرددها محمد عبده -على الرغم من وطنيته- نغمة الإعجاب بهم، والإطراء لمزاياهم:

(2/114)

يا دولة فوق الأعلام لها أسد ... تخشى بوادره الدنيا إذ زأرا

يئول عرشك من شمس إلى قمر ... إن غابت الشمس أولت تاجها القمرا

من ذا يناديك، والأقدار جارية ... بما تشائين الدنيا لمن قهرا

إذا ابتسمت لنا فالدهر مبتسم ... وإن كشرت لنا عن نابه كشرا

ويعلل قوة الإنجليز بالشورى والعدل، والتعاون:

لا تعجبن لك عز جانبه ... لولا التعاون لم تنظر له أثرًا

خبرتهم فرأيت القوم قد سهروا ... على مرافقهم والملك قد سهرا

ولا يكتفي بمجرد إعجابه بهم، ودعوته المصريين إلى تقليدهم، والتطلع إلى ما يحتلونه من مكانة بين أمم الأرض، ولو فعل ذلك لكان ولا شك غير ملوم على ثنائه عليهم، ولكنه يشيد بما عملوا من إصلاح في مصر، ويردد ما قاله كرومر في خطبة وداعة من المن على مصر بإصلاحاته. استمع إليه يودع كرومر الداهية وكيف يثني عليه، وإذا تذكرنا أن كرومر كان مكروهًا من عباس، وأنه صديق محمد عبده لا تعجب لموقف حافظ:

سنطري أياديك التي قد أفضتها ... علينا فلسنا أمة تجحدا اليدا

أمنًا فلم يسلك بنا الخوف مسلكًا ... ونمنا فلم يطرق لنا الذعر مرقدًا

وكنت رحيم القلب تحمي ضعيفنا ... وتدفع عنا حادث الدهر إن عدا

ولولا أسى في دنشواي ولوعة ... وفاجعة أدمت قلوبًا وأكبدا

ورميك شعبًا بالتعصب غافلا ... وتصويرك الشرقي غرًا مجردًا

لذبنا أسى يوم الوداع لأننا ... نرى فيك ذاك المصلح المتوددًا

ولكنه والحق يقال قد أوضح له بعد ذلك مساوئه في مصر، وأنه ولى الحكم آلات صماء تنصاع لأمره، ولا تبدي رأيًّا أو مشورة إلا حسب هواه، وأنه أفسد التعليم ومكَّن للغريب.

(2/115)

يناديك وليت الوزارة هيئة ... من الصم لم تسمع لأصواتنا صدى

فليس بها عند التشاور من فتى ... أبي إذا ما أصدر الأمر أوردا

وحاولت إعطاء الغريب مكانة ... تجر علينا الويل والذل سرمدا

تأثر حافظ في رأيه في الإنجليز، ومخاطبتهم خطابًا لينًا بأستاذه الشيخ محمد عبده كما ذكرنا؛ لأن لمحمد عبده أيادي لا تنسى على حافظ، فقد كان فقيرًا فأعانه، وجاهلًا فعلمه، ومغمورًا فرفع ذكره، وعرفه بكثير من عظماء مصر وعلمائها، فلا بدع إذا انتهج منهجه في موادعتهم، ومعرفة منزلتهم، والاعتراف بما يسدونه إلى مصر من جميل.

ولكن حافظًا -كان في طبعه- وطنيًّا مخلصًا، ولم يكن ولا شك ممن يؤيدون حكم الإنجليز بمصر عن عقيدة، لذلك نراه بعد موت أستاذه الشيخ محمد عبده سنة 1905 يتغلب عليه عاملان آخران: هذه الوطنية الكامنة في نفسه، ثم ظهور رجال الوطنية المصرية يهزون مصر هزًّا عنيفًا، وتتنبه للخطر الجاثم فوق صدرها، ولا يرون الاحتلال ورجال نعمة، ولا يستسلمون للحوادث استسلام الشاة لذابحها. بل كانوا ثائرين لهم جرائد فيها أقلام مرهبة كالسيوف مضاء وحدة، يسلقون بها كل من يناصر الاحتلال ويؤيده.

ونرى حافظ يستجيب لنداء وطنيته الكاملة في نفسه أولًا، ولنداء هؤلاء الثائرين ثانيًا بعد وفاة أستاذه، ويصدر في شعره عن عاطفة متقدة فيها مهادنة لرجال الاحتلال أو مد يد الصداقة إليهم فما أن وقعت حادثة دنشواي سنة 1906، حتى أذاع قصيدته بعد صدور الحكم بخمسة أيام فنشرها في 2 من يولية 1906.

وكان حافظ في هذه القصيدة، وقد ابتدأ يجهر بمعاداته الإنجليز؛ كمن يتحسس طريقًا لم يألفه، تراه حذرًا تارة، قويًّا تارة أخرى، معاتبًا في لطف أحيانًا، متهكمًا أحيانًا، كان من المنتظر منه والعاطفة على أشدها، ودماء القتلى تملأ الجو برائحتها وصرخات المجلودين تصم الآذان أن تكون قصيدته ثورة على الظلم والاستعباد والقسوة، ولكنه كما ذكرنا كان لا يزال قريب عهد بموالاتهم، اسمعه يقول في مطلعها:

(2/116)

أيها القائمون بالأمر فينا ... هل نسيتم ولاءنا والوداد

فأي تخاذل تراه في هذا البيت، وأي ضعف؟؟ وهل هذا موقف عتاب، ومذاكرة الود، ولم يبق هؤلاء ودًّا يتذكر؟؟. وقد يشفع له ما أتى في قصيدته بعد ذلك من سخرية لاذعة في مثل قوله:

خفضوا جيشكم وناموا هنيئًا ... وابتغوا صيدكم وجوبوا البلادا

وإذا أعورتكم ذات طوق بين ... تلك الربى فصيدوا العبادا

ومن شدة وعنف في قوله:

ليت شعري أتلك "محكمة التفـ ... ـتيش" عادت أم عهد "نيرون" عادا

كيف يحلو من القوى التشفي ... من ضعيف ألقى إليه القيادا

ومن قسوة وسخرية لاذعة بمصر وأهلها، وأنها أمة ضعيفة مستخذية، ولا تجيد إلا الكلام والتحسر البكاء:

أمة النيل أكبرت أن تعادي ... من رماها، وأشفقت أن تعادي

ليس فيها إلا كلام وإلا ... حسرة بعد حسرة تتهادى

ويشتد على المدعي العمومي إبراهيم "بك" الهلباوي الذي أيد الاتهام، وكان حريصًا على مصر في قوله:

إيه يا مدره القضاء ويا من ... ساد في غفلة الزمان وشادا

أنت جلادنا فلا تنس أنا ... قد لبسنا على يديك الحدادا

وصور حافظ بعد ذلك هول الحادثة ووصفها وصفًا دقيقًا رائعًا في قصيدته التي استقبل بها اللورد كرومر حين عودته من مصيفه، ولم يكن بمصر حين الحادثة، ويشير فيها إلى تقرير كرومر عن الحادثة الذي أرسله لوزارة الخارجية البريطانية، وكذب فيه، وعزاها إلى التعصب الديني.

(2/117)

نقلت لنا الأسلام عنك رسالة ... باتت لها أحشاؤنا تلتهب

ماذا أقول وأنت أصدق ناقل ... عنا ولكن السياسة تكذب

وينفي عن المصريين التعصب الديني المزعوم بقوله:

إن أرهقوا صيادكم فلعلهم ... للقوات لا للمسلمين تعصبوا

ولربما ضن الفقير لقوته ... وسخا بمهجته على من يغضب

ثم يصف شعر قوي أخاذ صادق التصوير تلك الفظائع التي انتقم بها الإنجليز من الفلاحين المظلومين:

جلدوا ولو منيتهم لتعلقوا ... بحبال من شنقوا أو لم يتهيبوا

شنقوا ولو منحوا الخيار لأهَّلوا ... بلظى سياط الجالدين ورحبوا

يتحاسدون على الممات، وكأسه ... بين الشفاه وطعمه لا يعذب

ونلاحظ أن حافظ لم يقتصر على التنديد بسياسة الإنجليز في مصر كما فعل بعض الزعماء السياسيين حينئذاك، ولكنه حاول أن يصل إلى تفسير الحادث، والرجوع بها إلى أسبابها وعللها، وقد أشار إلى هذه الأسباب لا بوحي من العاطفة، ولكن بوحي من النظرة الصادقة إلى واقع الحال، فعزاها إلى غرور مستشار الداخلية، واستسلامه للغضب، ولجوئه إلى العنف والشدة، وأشار بعد ذلك إلى الدرس الذي يجب أن يحذقه ذوو الشأن من مثل هذه الحادثة حيث يقول:

أو كلما باح الحزين بأنه ... أمست إلى معنى التعصب تنسب

كن كيف شئت ولا تكل أرواحنا ... للمستشار فإن عدلك أخصب

قد كان حولك من رجالك نخبة ... ساسوا الأمور فدربوا وتدربوا

أقصيتهم عنا وجئت فتية ... طاش الشباب بهم وطاش المنصب

ويختمها بلوم مصر والسخرية من أهلها:

وإذا سئلت عن الكنانة قل لهم ... هي أمة تلهو وشعب يلعب

واستبق غفلتها ونم عنها تنم ... فالناس أمثال الحوادث قُلّب

(2/118)

وتراه بعد ذلك يستقبل "إلدون جورست" الذي عين عميدًا لإنجلترا بعد كرومر في سنة 1907 بقصيدة قوية يدافع بها عن مصر، ويبين له سوءات كرومر عله يتعظ فلا يقع في مثلها(53).

ولكني وقفت أنوح نوحًا ... على قومي وأهتف بالنشيد

وأدفع عنهم بشبا يراع ... يصول بكل قافية شرود

ويقول مشيرًا إلى كرومر وتقاريره:

رمانا صاحب التقرير ظلمًا ... بكفران العوارف والكنود

وأقسم لا يجيب لنا نداء ... ولوجئنا بقرآن مجيد

وبشر أهل مصر باحتلال ... يدوم عليهم أبدًا لأبيد

وأنبت في النفوس لكم جفاء ... تعهده بمنهل الصدور

فأثمر وحشة بلغت مداها ... وذكاها بأربعة شهود(54)

ثم يشير إلى الأثر الذي تركته هذه الحادثة في نفسو المصريين، وكيف أنها هزتهم هزًّا عنيفًا، وأيقظتهم من سباتهم العميق، فهبوا يذودون عن أنفسهم الظلم والبغى، وينددون بالاحتلال وقسوته، والاستعمار وشدته، هبوا ثائرين ينشدون الحرية، ويغضبون للعزة والكرامة الوطنية.

قتيل الشمس أورثنا حياة ... وأيقظ هاجع القوم الرقود

فليت كرومر قد دام فينا ... يطوق بالسلال كل جيد

ويتحف مصرانا بعد آنٍ ... بمجلود ومقتول وشهيد

لننزع هذه الأكفان عنا ... ونبعث في العوالم من جديد

وشتان بين موقف شوقي وحافظ إزاء هذه الحادثة.

أما رثاء حافظ لمصطفى كامل فقد قال فيه ثلاثة قصائد. أولاها ألقيت على قبر الفقيد ساعة دفنه، والثانية في ذكرى الأربعين والثالثة بعد مرور عام على

(2/119)

وفاته وإذا أمعنا النظر في القصيدة الأولى وجدناها -بطبيعتها وسرعتها وإنشائها لوعة صادقة، تصور هول الفجيعة، ودمعة حارة، وزفرة عميقة، جاءت من وحي العقل الباطن، لا نتيجة تفكير وتروٍ، ومست جوانب العظمة في مصطفى كامل، وبينت ما عمله لمصر، وما يرجوه الشاعر من مصر بعد وفاته، وكانت خير معبر عن شعور المصريين إزاء هذا الخطب الفادح تلك القصيدة التي مطلعها(55):

أبا قبر هذا الضيف آمال أمة ... فكبر وهلل وألق ضيفك جاثيًا

عزيز علينا أن نرى فيك مصطفى ... شهيدًا العلا في زهرة العمر ذاويا

وبعد أن يشير بأعماله يشعر أنه أكثر من البكاء والعويل، وأن الأمة حزينة، ولعل مصطفى كامل لا يرضى بهذا الضعف فيقول له:

عهدناك لا تبكي وتنكر أن يرى ... أخو البأس في بعض المواطن باكيا

فرخص لنا اليوم البكاء وفي غد ... ترانا كما تهوى جبالًا رواسيا

ويستحث المصريين على الوفاء لهذا الراحل الكريم بالمحافظة على مبدئه، وسياسته، والتمسك بشعاره فيقول:

أيا نيل إن لم تجر بعد وفاته ... دمًا أحمر لا كنت يا نيل جاريًا

ويا مصر إن لم تحفظي ذكر عهده ... إلى الحشر لا زال انحلالك باقيا

ويا أهل مصر إن جهلتم مصابكم ... ثقوا أن نجم السعد قد غار هاويًا

أما القصيدة الثانية التي قالها في حفل الأربعين فقد خفت فيه حدة العاطفة، وحرارة اللوعة، وصور فيها حافظ بشعوره الواعي الحوادث الخارجية، ووصف الجنازة، ومواقف مصطفى كامل التاريخية المجيدة، ومطلع تلك القصيدة:

نثروا عليك نوادي الأزهار ... وأتيت أنثر بينهم أشعاري

ويصور فيها جهاد مصطفى كامل بقوله:

(2/120)

قد ضاق جسمك عن مداك فلم يطق ... صبرًا عليك وأنت شعلة نار

أودى به ذاك الجهاد وهده ... عزم يهد جلائل الأخطار

وظهر حافظ في هذه القصيدة بأنه شاعر الوطنية الحقة، وبأنه لا يعرف مداجاة الإنجليز ولا موادعتهم، وعبر كما فعل في قصيدته الأولى عن عاطفة كل مصري وشعوره. أما قصيدته الثالثة التي قالها بعد مرور عام على وفاة الزعيم، فقد كانت أروع هذه القصائد، ولا من حيث تصويرها للوعة والأسى، وحرقة الفراق، وعظم المصاب، ولا من حيث تصويرها لجهاد الفقيد ودفاعه الحار عن مصر وقضيتها، وإيقاظه قومًا ظن أعداؤهم بهم الظنون ورموهم بكل نقيصة، ولكن من حيث وصفه آلام مصر وآمالها، وشعورها إزاء الاحتلال ومصائبه. وقد أسفر حافظ عن ذات نفسه في هذه القصيدة، فجهر بعدائه الصارخ للإنجليز ولم يعد بعد ذلك الذي يلين القول، ويدعو إلى المهادنة وهي خير ما يمثل شعر حافظ السياسي، الذي اكتسب به لقب "شاعر النيل"، استمع إليه كيف يصور الثورة التي كانت متأججة فهمدت، والفراغ الذي تركه مصطفى في ميدان السياسة:

ياأيها النائم الهاني بمضجعه ... ليهنك النوم لا هم ولا سقم

باتت تسئلنا في كل نازلة ... عنك المنابر والقرطاس والقلم

تركت فينا فراغًا ليس يشغله ... إلا أبي ذكيٌ القلب مضطرم

منفر النوم سباق لغايته ... آثاره عمم آماله أمم

ثم يقول له، وقد انطلق على سجيته معبرًا عما يجيش في نفس كل مصري:

لبيك نحن الأولى حركت أنفسهم لما ... سكت ولما غالك العدم

قيل اسكتوا فسكتنا، ثم انطقنا ... عسف الجفاة وأعلى صوتنا الألم

إذا سكتنا تناجوا. تلك عادتهم ... وإن نطقنا تنادوا فتنة عمم

(2/121)

ويصور رجال السياسة الإنجليزية بقوله:

تصغى لأصواتنا طورًا لتخدعنا ... واثارة يزدهيها الكبر والصمم

فمن ملاينة أستارها خدع ... إلى مطالبة أستارها وهم

ماذا تريدون لا قرت عيونهم ... إن الكنانة لا يطوي لها علم

وقد تنبه الإنجليز إلى أن حافظ قد تجاوز حده، وإلى أنه انضم صراحة إلى الجبهة الوطنية، وصار شاعرهم الفذ، الذي يهيج النفوس بعشره الذي يعبر فيه عن عواطفهم بسهولة ويسر ورشاقة، فعملوا على وضعه في قفص الوظيفة حتى يسكت عنهم؛ أو يرجع إلى سياسته القديمة من مهادنتهم، فعين على يد حشمت باشا ناظر المعارف في ذلك الوقت رئيسًا للقسم الأدبي في دار الكتب المصرية سنة 1911، وظل بهذه الوظيفة إلى سنة 1932 حين أحيل إلى المعاش، وأنعم عليه برتبة "البكوية" في سنة 1911، ثم أنعم عليه بـ "نيشان النيل" من الدرجة الرابعة، وبذلك كبل حافظ بقيود الوظيفة والألقاب، وضن بمنصبه كل الضن، وخشي عليه كل الخشية وصار لا يقول شعرًا يغضب به أحدًا من ذوي السلطان خشية أن يزحزحوه عنه. أو ينالوه بأذى فيه، وإن قال شعرًا سياسيًّا أخفاه ولم ينسبه إلى نفسه. وليته سكت بعد أن دخل قفص الوظيفة، ولكنه أخذ يدعو إلى التعاون مع الإنجليز من مثل قوله عقب إعلان الحماية، وتوليه السلطان حسين كامل عرش مصر مهنئًا له وناصحًا بأن يتبع آراءهم وينصاع لأوامرهم:

ووال القوم إنهم كرام ... ميامين النقيبة أين حلُّو

لهم ملك على التاميز أضحت ... ذراه على المعالي تستهل

وليس كقومهم في الغرب قوم ... من الأخلاق قد نهلوا وعلو

فإن ناديتهم لباكٍ منهم ... وليس لهم إذا فتشت مثل

وإن شاورتهم والأمر جد ... ظفرت لهم برأي لا يزل

وإن ناديتهم لباك منهم ... أساطيل وأسياف تسل

فماددهم حبال الود وانهض ... بنا فقيادنا للخير سهل

(2/122)

وهي قصيدة لعمري تدل على أن صاحب ذلك الشعر ليس هو الحافظ الملتهب الجبار الذي كان يصب شآبيب سخطه على الإنجليز، ويريد أن يطردهم من مصر، وإلا فما باله ينصح السلطان بأن يماددهم حبال الود. وماله ينصحه بمشاورتهم ويشيد بقوتهم؟ وثمة قصيده أخرى تنم عن ذلك التغيير في شعر حافظ السياسي، وخضوعه التام لأسر الوظيفة وإقراره بالأمر الواقع من سلطان الإنجليز بمصر وبطشهم، تلك هي تلك هي التي قالها عند تعيين "السر مكماهون" عميدًا لإنجلترا بمصر سنة 1915 ومنها يقول له معترفًا بأنه صاحب الأمر المطلق، ومن بيده الحل والعقد في البلاد:

ودع الوعود فإنها ... فيما مضى كانت روايه

أضحت ربوع النيل سلـ ... ـطنة وقد كانت ولايه

فتعهدوها بالصلا ... ح وأحسنوا فيها الوصايه

أنتم أطباء الشعو ... ب وأنبل الأقوام غايه

أنى حللتم في البلا ... د لكم من الإصلاح غايه

فهذه النغمة التي يمجد فيها الإنجليز، ويشيد بعدلهم، ومقدرتهم على الإصلاح، ويطلب منهم أن يهتموا بشئون التعليم في مصر، ويتعهدوا البلاد بالرعاية، ويقول لهم: إنهم أنبل الشعوب وأعدلهم تشعرنا بأن حافظًا نسي أن مصر محتلة، وأنها كانت تطالب بالاستقلال وكأن لم تكن ثمة صرخات مدوية، رددها مصطفى كامل في الخافقين ورددها صحبه الأمجاد، ورددها حافظ نفسه، والكل يطلبون منهم أن يبرحوا مصر غير مأسوف عليهم، واستمع إليه يقول في آخرها:

هذا حسين فوق عرش ... النيل تحرسه العناية

هو خير من يبني لنا ... فدعوه ينهض بالبناية

فالأمر كما يقول بيد الإنجليز، إن شاءوا تركوه ينهض بالبناية، وإن شاءوا أبوا عليه ذلك، فهو لا يملك في الواقع من أمر مصر شيئًا.

(2/123)

وليس معنى ذلك أن عوامل الوطنية قد ماتت في نفس حافظ، ولكن كان -كما ذكرنا- يخشى أن يفقد مورد رزقه إن هو جاهر برأيه، ولذلك تراه يقول بعض القصائد السياسية ويكتمها، أو ينشرها بغير اسمه من مثل قصيدته في وصف مظاهرة السيدات في سنة 1919، ولم تنشر باسمه إلا في سنة 1929 حين أمن عاقبة نشرها وهي التي يقول في أولها:

خرج الغواني يحتججـ ... ـن ورحت أرقب جمعنه

ومن مثل قصيدته التي قالها في عهد إسماعيل صدقي 1930، وقد ألغى الدستور وثارت مصر بأسرها ضده، ولم يشر إليها أو ينشدها ضده، ولم ينشدها أحدًا من أصدقائه إلا بعد أن خرج إلى المعاش، ويقول الأستاذ أحمد أمين: "ولقد أنشدني قصيدته هذه التي مطلعها":

قد مر عام يا سعاد وعام ... وابن الكنانة في حماه يضام

وهي التي يقول فيها مخاطبًا صدقي "باشا":

ودعا عليك الله في محرابه ... الشيخ القسيس والحاخام

لا هم أحيى ضميره ليذوقها ... غصصًا وتنسف نفسه الألم

صدقي، فأشرت عليه أن ينشر بعضها، أو يكتبها، أو يمليها، أو يحتفظ بها بأي شكل من الأشكال فقال: "إني أخاف السجن ولست أحتمله"(56).

لقد أطال حافظ الصمت، ومرت بمصر أحداث جسام، فالثورة المصرية العارمة، وتغير نظام الحكم، واستقلال البلاد نسبيًّا، ومجيء الدستور وحكم الشعب، لم تحرك من حافظ سكانًا، وإذا تكلم فبحذر ورفق من مثل قوله في تصريح 28 من فبراير 1922 الذي منحت مصر به الدستور:

أصبحت لا أدري خبرة ... أجدت الأيام أم تمزح

ألمح لاستقلالنا لمعة ... في حالك الشك فاستروح

(2/124)

وتطمس الظلماء آثارها ... فأنثني أنكر ما ألمح
قد حارت الأفهام في أمرهم ... إن لمحوا بالقصد أو صرحوا
ومن مثل قوله في عيد الاستقلال متشائمًا:
كم خدرت أعصاب مصر نوافح ... لوعودهم كنوافح التفاح
فتعلل المصري مغتبطًا بها ... أرأيت طفلًا عللوه بداح
وتأنقوا في الخلف حتى أصبحت ... أقوالهم تدري بغير رياح
وقد نشرت لحافظ عدة مقطوعات شعرية في 1932 بعد أن أحيل إلى المعاش ينعى فيها على الإنجليز حيادهم الكاذب، ويعيب عليهم تغير أخلاقهم من أنهم اشتهروا بمتانة الأخلاق.
لا تذكروا الأخلاق بعد حيادكم ... فمصابكم ومصابنا سيان
حاربتم أخلاقكم لتحاربوا ... أخلاقنا فتألم الشعبان
ويقول عن حيادهم:
قصر الدبارة قد نقضت ... العهد نقص الغاضب
أخفيت ما أضمرته ... وأنبت ود الصاحب
الحرب أروح للنفو ... س من الحياد الكاذب
ويقول في إجدى هذه المقطوعات مخاطبًا الإنجليز:
فعدلتم هينهة وبغيتم ... تركتم في النيل عهدًا ذميمًا
فشهدنا ظلمًا يقال له العد ... ل وودًا يسقي الحميم الحميما
ويبدو أن هذه المقطوعات قيلت في مناسبات مختلفة، وفي سنوات عديدة، كلما هاجمت الحوادث فؤاد الشاعر وأثارت حزنه وشجنه، وكان ينظمها لينفس بها عن آلامه المكبوتة ولكنه كان يخشى من نشرها حتى لا يضايقه الإنجليز في رزقه، أو يغروا به أحد المستوزرين فيصب عليه شآبيب غضبه ولم تكن نفس حافظ تحتمل الأذى، أن ترغب في العودة إلى ضيق العيش، وقد ذاقت منه ألوانًا،

(2/125)

فطوى هذه المقطوعات. إلى أن أحيل إلى المعاش فلم يجد بأسًا -وقد صار حرًّا من قيود الوظيفة- من نشرها، وأغلب الظن أن شاعر النيل لو مد له في أجله بعد خروجه إلى المعاش لعاد سيرته الأولى، وملأ الدنيا شعرًا متحمسًا وطنيًّا رائعًا كما كان في عهده الأولى، ولكن عاجلته المنية بعد أن تحلل من الوظيفة بأربعة شهور.
أما موقف شوقي إزاء هذه الحوادث القومية الوطنية بعد ثورة 1919. فقد اختلف جد الاختلاف عن موقفه من قبل، كما اختلف عن موقف حافظ. ترك شوقي مصر منفيًّا بعد أن خلع عباس في سنة 1914، ورأى الناس قد تنكروا لهجتي أعز أصدقائه قد تحاموا لقياه أو تحيته حين يرونه خوفًا من أن يتهموا بمصادقته(57). ولذلك رحب بالمنفي ليريحه من تلك الوجوه المنافقة، وقد قال يخاطب ولديه وهو يعبر القناة في طريقه إلى المنفي مشيرًا إلى سطوة الغاصب المحتل، وعسفه وتبجحه، ويفصح عن كامن غضبه وسخطه. "تلكما يا ابني القناه، لقومكما فيها حياه، ذكرى إسماعيل ورياه" إلى أن يقول: تفارق برًّا مغتصبه مضري الغضبة، قد أخذ الأهبة واستجمع كالأسد للوثبة، ديك على غير جداره خلال له الجو فصاح، وكلب في غير داره انفرد وراء الدار بالنباح"، وقد أشار إلى هؤلاء الذين تنكروا له بعد أن تغيرت الحال السياسية، وذهب عنه جاهه وسلطانه بمصر، وفي إحدى أندلسياته بقوله:
وداعًا أرض أندلس وهذا ... ثنائي إن رضيت به ثوابًا
شكرت الفلك يوم حويت رحلي ... فيا المفارق شكر الغرابا
فأنت أرحتني من كل أنف ... كأنف الميت في النزاع انتصابا
ومنظر كل خوان يراني ... بوجه كالبغي رمى النقابا
وقضى في المنفى خمسة أعوام ألهب فيها النفي ولوعة الفراق إحساسه بالغربة وشوقه إلى مصر الحبيبة، فنفثها نفثات حارة من قلب مفعم بالحب والحنين إلى الأرض التي شهدت ملاعب صباه، ونشاط شبابه، ونمو مجده وفيها الأهل والأحباب والخلان والأصحاب.
(2/126)

على جوانبها رفت تمائمنا ... وحول حافاتها قامت رواقينا
ملاعب مرحت فيها مآربًا ... وأربع أنست فيها أمانينا
ومطلع لسعود من أواخرنا ... ومضرب لجدود من أوالينا
وأتى به شعرًا علويًّا في أندلسياته المشهورة بفيض وطنية صادقة بعيدة عن مهاترات الأحزاب، ونغمًا خالدًا لم تسمع مصر مثله في ماضيها الطويل منذ أن دوت في أرجائها لغة الضاد، أربي على البارودي وتميز عنه باستطراداته البديعة في وصف مصر وطبيعتها وتاريخها، فقال في سينيته المشهورة.
وسلا مصر هل سلا القلب عنها ... أو أسا جرحه الزمان المؤسي
كلما مرت الليالي عليه ... رق والعهد بالليالي تقسي
مستطار إذا البواخر رنت ... أول الليل أو عوت بعد جرس
راهب في الضلوع للسفن فطن ... كلما ثرن شاعهن بنقس
يا ابنة اليم ما أبوك بخيل ... ماله مولعًا بمنع وحبس
نفسي مرجل وقلبي شراع ... بهما في الدموع سيري وأرسي
واجعلي وجهك الفنار ومجراك ... يد الثغر بين رمل ومكس
وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
شهد الله لم يغب عن جفوني ... شخصه ساعة ولم يخل حسي
وعاد والثورة المصرية على أشدها، بسعي من رشدي باشا لدى السلطة المحتلة، وبإيحاء من السلطان حسين كامل قبل وفاته بعد أن رجاه في ذلك كثيرون من أصدقاء شوقي(58). عاد شوقي والثورة المصرية في عنفوانها، وقد لمعت في سماء الوطنية أسماء لم يكن من قبل ذكر، وهبت الأمة جميعها غاضبة لحقها المغصوب، ودم بينها المسكوب، واستقلالها المسلوب، وشعر الإنجليز أنهم أمام أمة جادة في طلب حرياتها، تستهين بالدماء وبالأموال، متحدة الصفوف
(2/127)

لا يجد فيها العدو ثغرة ينفذ منها إلى التفرقة بينهم، وأخذوا يتراجعون رويدًا رويدًا، أو يحيكون الشباك للتفرقة، فألفوا لجنة "ملنر" ثم قدم ملنر مشروعه، فرفضه الوفد أول الأمر، وعدله بعد ذلك ملنر تعديلًا يسيرًا، فلم يشأ سعد أن يبت هو والوفد الذي سافر للمفاوضة في الأمر وحده، وأرسل المشروع مع أربعة(59) من أعضاء الوفد ليعرضوه على الأمة لتقول فيه كلمتها، وقد وجه سعد إلى الأمة كلمة قال فيها عن المشروع: "غير أنه نظرًا لاشتماله على مزايا لا يستهان بها، وتغير الظروف التي حصل التوكيل فيها، وعدم العلم بما يكون من الأمة بعد معرفتها بمشتملاته، وقياس المسافة التي بينه وبين أمانيها، ورأى إخواننا معنا خروجًا من كل عهدة، وحرصًا على كل فائدة، واستبقاء لكل فرصة، ألا يبتوا فيه رسميًّا بما يقتضيه توكيلهم، قبل عرضه عليكم أنتم نواب الأمة المسئولون، وأصحاب الرأي فيها"(60).
وإن كان سعد قد بين لأصحابه بمصر أنه حماية، وأنه يرفضه، وقد قال في كتابه لهم(61): "أظنكم تستشفون أني لست من رأى المشروع الذي ستعرضونه على الأمة، أنتم والقادمون إليكم من إخوانكم، وهذا موافق للحقيقة؛ لأنه -وأريد أن يكون الأمر بيني وبينكم- مشروع ظاهره الاستقلال والاعتراف به، وباطنه الحماية وتقريرها"(62).
فلم يكن سعد صريحًا في الخطاب الذي وجهه للأمة، وظن بعض الناس أنه يوافق عليه، ووجد فيه بعضهم خطوة إلى الأمام، ومن هؤلاء شوقي. وقد نزل إلى معترك السياسة غب وصوله من منفاه، بعد أن أوصدت في وجهه أبواب القصر وتغير سكانه، ولم يعد مقيدًا بقيوده، فقال في مشروع ملنر:
ما بال قومي اختلفوا بينهم ... في مدحة المشروع أو ثلبه
كأنهم أسرى أحاديثهم ... في لين القيد وفي صلبه
يا قوم هذا زمن قد رمى ... بالقيد واستكبر عن سجنه
لو أن قدًّا جاءه من عل ... خشيت أن يأبى على ربه
وهذه الضجة من ناسه ... جنازة الرق إلى تربه
(2/128)

وهذا كلام ظاهره أن شوقي يرفض المشروع، فلا يصح أن يوجد خلاف بين المصريين حول الرق والاستقلال، فالاستقلال واضح، والرق واضح، ولكنه يقول بعد ذلك مؤيدًا المشروع على أنه خطوة إلى الأمام، والطفرة محال، ولا سيما ونحن عزل من السلاح.
لا تستقلوه فما دهركم ... بحاتم الجود ولا كعبه
نسمع بالحق ولا نطلع ... على قنا الحق ولا قضبه
ينال باللين الفتى بعض ما ... يعجز بالشدة عن غصبه
قد أسقط الطفرة في ملكه ... من ليس بالعاجز عن قلبه
وقد لامه كثيرون على قصيدته تلك، مع أنه معذور، إذ إن ساسة الأمة كانوا غامضين وقد وجد فيها شوقي بارقة أمل، ونرى شوقي بعد ذلك يقول في تصريح 28 من فبراير سنة 1922، والذي اعترفت فيه إنجلترا باستقلال مصر مقيدًا بقيود أربعة، ومنحتها الدستور، معتقدًا كذلك أنه خطوة إلى الأمام، وأن مصر لم تنل كل أمانيها، وأن الجهاد لم يزل أمامها طويل، ولكن الغاية قد قربت.
لا ريب أن خطى الآمال واسعة ... وأن ليل سراها صبحه اقتربا
وأن في راحتي مصر وصاحبها ... عهدًا وعقدًا بحق كان مغتصبًا
تمهدت عقبات غير هينة ... تلقى ركاب السرى من مثلها نصبا
أقبلت عقبات لا يذللنا ... في مواقف الفصل إلا الشعب منتخبًا
وفيها يقول:
قالوا: الحماية زالت قلت لا عجب ... بل كان باطلها فيكم هو العجبا
رأس الحماية مقطوع فلا عدمت ... كنانة الله حزمًا يقطع الدنيا
كان شوقي ينظر في ميدان السياسية المصرية نظرات عامة، ويستقرئ العظات والعبر ولم يدع حادثة تمر من غير أن يدلي فيها برأيه، بعيدًا عن الحزبية التي صدعت وحدة الأمة، ومزقت شملها، ومكنت للعدو أن يستعيد بعض سيطرته، ولذلك وجه إلى الزعماء في ذكرى مصطفى كامل سنة 1925 هذه

(2/129)

القصيدة العظيمة في معانيها وغاياتها الوطنية، ملتمسًا من مليك البلاد، أن يجمع الصفوف بحكمته، وسديد رأيه، أبقاء على نهضة الأمة، وحفاظًا على قوتها أن تتبدد:
إلام الخلف بينكم إلام ... وهذه الضجة الكبرى علام؟
وفيم يكيد بعضكم لبعض ... وتبدون العداوة والخصاما؟
وأين الفوز لا مصر استقرت ... على حال ولا السودان داما؟
وأين ذهبتم بالحق لما ... ركبتم في ضيته الظلاما؟
أبعد العروة الوثقى وصف ... كأنياب الغضنفر لن يراما
تباغيتم كأنكم خلايا ... من السرطان لا تجد الضماما؟
يقول شوقي في عيد الاستقلال، وعيد الدستور، وفي نجاة سعد زغلول حين اعتدى عليه، وقد قال في إحدى قصائده يصف ثورة مصر وانتفاضتها القوية في سنة 1919، وإصرارها في عزم وحمية على رجوع سعد من منفاه وهي عزلاء من السلاح، وتتحدى إنجلترا المنتصرة التي يربض جيشها على ضفاف الوادي بحرابه ومدافعه وطائراته، وكيف خضعت إنجلترا لهذه الثورة العاتية، وأرجعت سعدًا إلى عرينه.
أتذكر إذ غضبت للباة ... ولمت من الغيل أشبالها
وألقت بهم في غمار الخطوب ... فخاضوا الخطوب وأهوالها
وثاروا فجن جنون الرياح ... وزلزلت الأرض زلزالها
وبات تلمسهم شيخهم ... حديث الشعوب وأشغالها
ومن ذا رأي غابة كافحت ... فردت من الأسر رئبالها
وأهيب ما كان بأس الشعوب ... إذا سلح الحق عزالها
وكان يتأثر بالحوادث السياسية كل التأثر، وتنفعل لها نفسه وتهتز لها أعصابه، وتحفز خياله(63). ولم يقيد شوقي في شعره بالوطنيات المصرية، بل
(2/130)

تعدي مصر إلى شقيقاتها من البلاد العربية، وإلى البلاد الإسلامية، ويشجعها على طلب الاستقلال، ويأسى لما تصاب به من نكبات، ويرثي كبار زعمائها وقادتها. وبحث شباب مصر في أكثر من موطن على أن يعتصموا بالقوة فإن الحق الذي لا تدعمه القوة لا يلقى آذانًا مصغية، ويذكر المصريين بأن الغرب رفض الاستماع إلى وفد مصر في مؤتمر لوزان حينما كان يوزع الغنائم والأسلاب:
أتعلم أنهم صلفوا وتاهوا ... وصدوا الباب عنا موصدينا
ولو كنا هناك نجر سيفًا ... وجدنا منهم عطفًا ولينا
ويذكرهم بأن الأماني والأحلام لا تحقق الرغاب فيقول:
وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا
فبينما كان شوقي يملأ الدنيا بشعره، كان حافظ راضيًا بما قسم الله له من رزق، حريصًا على ألا يضيع منه: يكبت شعوره، وخشى أن تطوح به السياسة في أودية لا يعرف لها قرارًا.
هذا وقد ظهر بجانب شوقي وحافظ عشراء آخرون تباينوا شعورًا، وسياسة، إزاء كل هذه الحوادث، وتأثروا بمؤثرات شخصية: فإسماعيل صبري كان وطنيًّا صادقًا، ولكنه كان مقيدًا بقيود الوظيفة، ولم يكن شاعرًا محترفًا، إنما كان الشعر عنده ترفًا، ولم يخض غمار السياسة كما خاضها حافظ وشوقي، وإن لم يقل عنهما وطنية، ينم عنها ما قاله في بعض الحوادث التي هزت مشاعره هزًّا عنيفًا فلم يجد من القول بدًّا.
ليس في ديوان صبري أي قصيدة يمدح بها السلطان عبد الحميد، أو سواه من الأتراك الذين مدحهم شوقي أو مدحهم حافظ، ولست أدري أيعود هذا إلى أنه كان يخشى الإنجليز وهو الموظف في الحكومة المصرية التي تسيطر إنجلترا على شئونها، والذين كانوا يسعون سعيًا حثيثًا لقطع الصلة بينها وبين مصر، حتى يخلوا لهم الجو، ويثبتوا أقدامهم بوادي النيل؟ أو يعود هذا إلى أنه كان ينظر إلى

(2/131)

مصر وأملها في الاستقلال نظرة قومية، فلا يمدح إلا أمراءها الذين تولوا الملك في عهده كإسماعيل، وتوفيق، وعباس، وحسين كامل، شأن الرجل المستنير الذي يرغب في نهضة بلاده مستقلة عن كل نير أجنبي، ولا يدعو إلا للنهضة التعليمية، والشورى، ورقى مصر في جميع نواحي الحياة؟ نرى إسماعيل صبري حتى في شعره الذي قاله في حرب طرابلس بين تركيا وإيطاليا لا يصدر عن عاطفة دينية حادة كما كان يصدر شوقي مثلًا، وكما كان يشعر كثير من شعراء هذا الجيل، وإنما كان صبري ينظر إلى هذه الحادثة نظرة إنسانية، فيها اعتداء قوي مدجج بالسلاح، على ضعيف أعزل، وفيها تنكر لمعاني الإنسانية الجميلة.
لا يثق بعضنا ببعض وهذا ... ما أعد الإنسان للإنسان
وإن تسلم على الغريب فسلّم ... في ظلال السيوف والمران
ربما أصبح العناق صراعًا ... في زمان الأداب والعرفان
ولا نراه يكبر ويهلل حينما تعلن تركيا الدستور في سنة 1908: فما الذي يعود على مصر من ذلك إذا لم تنل هي الدستور، وحكم الشورى، فليست مصر في نظرة مقاطعة عثمانية، حتى ينالها ما نال تركيا، ولكنها محكومة حكمًا غريبًا تتنازعه سلطتان، وأهلها يعاونون الاستبداد والبغي:
يا مصر سيرى على آثارهم وقفي ... تلك المواقف في أسنى مجاليها
لا يؤيسنك ما قالوا وما كتبوا ... بين البرية تضليلًا وتمويها
إن يمنعوا الناس من قول فما منعوا ... أن ينطق الحق بالشكوى ويبديها
الحق أكبر من أن تستبد به ... يد وإن طال في بطل تماديها
يا آية الفخر هلا تنزلين -كما ... نزلت ثم- على مصر وأهليها
كيما نجر ذيولًا منك جررها ... من قبلنا الترك في أوطانهم تيها
يا "عابدين لأنت اليوم مصدرها ... وفي ذراك -بإذن الله- موحيها
وتراه عند الانقلاب العثماني، وخلع السلطان عبد الحميد، ويرى في ذلك عظة بالغة لكل حاكم مستبد فيقول لعبد الحميد:

(2/132)

عبد الحميد سيحصى ما صنعت غدا ... بين الأنام ويلقى في الموازين
إن يرجح الخير نعم الخير من عمل ... دخلت في زمرة الفر الميامين
أو يغلب الشر لا كانت عصابته ... عددت في صرحه أقوى الأساطين
لا يرهقنك حكم الناس فهو غدًا ... مستأنف عند سلطان السلاطين
ونراه يستحث عباسًا في أكثر من مناسبة ليمنح مصر الدستور، وليحكم بالشورى:
سدد سهام الرأي بالشورى يحط ... بك منه في ظلم الحوادث فيلق
عوذت مجدك أن تمام وفي الحمى ... أمل عقيم أو رجاء مخفق
كل الممالك نوِّلت ما ترتجي ... من أنعم الشورى وملكك مطلق
مر بالذي صرحت قبل به وقل ... وأصدق، فمثلك من يقول ويصدق
أما في علاقة مصر بالإنجليز، فلا شك أن صبري كان غير راضٍ عنها، ولكنه لم يكن يفصح عن مكنون نفسه، وإن يحول دلت مواقفه العديدة، على الوطنية المضطربة بين جوانحه فقد اشتهر صبري بصداقته لمصطفى كامل، وقد حدث حينما كان محافظًا للإسكندرية من سنة 1896 إلى 1899 -أن أراد مصطفى كامل إلقاء خطبة وطنية بها، فأوعزت الحكومة إليه أن يحول بينه وبين ما يريد، محتجة بالخوف على الأمن أن يختل نظامه، والقانون تنتهك أحكامه، فأبى على الحكومة كل الآباء، وخلى بين مصطفى وبين شعبه يخطبه كما يشاء، وقال للحكومة: أنا مسئول عن الأمن والنظام، ومحتمل ما تعقبه هذه الخطبة من تبعات(64).
ذكر الأستاد أحمد الزين أنه عاش ما عاش لم يزر إنجليزيًّا قط "وقد سألته عن ذلك فقال نعم، وطالما استمالني لورد كرومر إلى زيارته فلم أفعل، فقلت مازحًا: لعلك لو فعلت كنت اليوم رئيسًا للوزارة. فقال: وماذا تفيدني رئاسة الوزارة غير إغضاب ضميري وإرضاء ذوي المطامع وأصدقاء الجاه"(65).
(2/133)

وكان بعد أن عين وكيلًا لوزارة "الحقانية" في سنة 1899 حريصًا على صداقة مصطفى كامل، لا يبالي أغضب الإنجليز أما أرضاهم في هذا، وكان يخرج من الوزارة في غالب الأيام ويعرج على صاحب "اللواء"، ويقضي معه وقتًا طويلًا، مع أن سواه من الموظفين كانوا لا يجرءون على مثل هذا، وقد أشار شوقي في رثاء إسماعيل صبري إلى ذلك حيث يقول:
ويح الشباب وقد تخطر بينهم ... هلي متعو ابتمس طواف
لو عاش قدوتهم ورب "لوائهم" ... نكس اللواء لثابت وقاف
فلكم سقاه الود حين وداده ... جرب لأهل الحكم والأشراف
ولقد تأثر إسماعيل صبري بتلك الغضبة الصاخبة التي غضبها مصطفى كامل حين وقعت حادثة دنشواي، ولكنه لم يقل حين وقوعها شيئًا وأثر الصمت، وأغلب الظن أن صمته كان تقية منه وحرصًا على وظيفته؛ ولأن يد الإنجليز حينذاك كانت بطاشة قاسية، وإذا تجرأ مصطفى كامل، ورجال السياسة على ضرب تلك اليد حتى تكف عن الأذى، فقد كانوا في حرية نسبية، غير مقيدين بقيود الوظيفة، فلما نجحوا في حملتهم على المعتمد البريطاني اللورد كرومر، وأجبروه على الاستقالة، وصدر العفو عن المسجونين، انطلقت الألسنة التي أحجمت عن الكلام في أبان المحنة، ومن هؤلاء شوقي كما عرفت ذلك آنفًا، ومنهم كذلك إسماعيل صبري، فقال من قصيدة يهنئ فيها "عباسًا": بعيد الأضحى بعد مرور عامين على دنشواي: ويذكر هذه الحادثة ويشكره على أن عفا عن المسجونين.
وأقلت عثرة قرية حكم الهوى ... في أهلها وقضى قضاء أخرق
وإن أنَّ فيها بائس مما به ... وأرنَّ جاوبه هناك مطوق
وارحمتا لجناتهم ماذا جنوا ... وقضاتهم ما عاقهم أن يتقوا؟
ما زال يقذى كل عين ما رأوا ... فيها ويؤذي كل سمع ما لقوا
حتى حكمت فجاءت حكمك آية ... للناس طي صحيفة تتألق

(2/134)

وتراه لا يكتفي بهذا، ولكنه يشير بعد ذلك إلى أن هذا القانون الظالم الذي طبق في هذه الحادثة، سيظل يبعث الفزع والرعب في القلوب، وأن ما ارتكبه من مأثم، وما طعن به مصر من جراح لن يكفر عنها بشيء ولن تلتئم هذه الجراح ما دام الاحتلال قائمًا وجنوده تبرق وترعد:
قانون "دنشاواي" ذلك صحيفة ... تتلى فترتاع القلوب وتخفق
هل يرتجى صفو ويهدأ خاطر ... والماء حول نصوصها يترقرق
ومضاجع القوم النيام أو أهل ... بمعذ يردي، وآخر يرهق
لن تبلغ الجرحى شفاء كاملًا ... وما دام جارحها المهند يبرق
هذا كل ما قاله صبري، وكنى عن المحتل الغاصب بالجارح المهند، ولم يصرح به، ولا نسمع له شيئًا آخر في الإنجليز من قريب أو بعيد، ولكننا نسمع له مقطوعات قصيرة، في البيتين والثلاثة، يضمنها رأيه في وزراء مصر قبل الحرب العالمية الأولى، بدعابة مرحة، كأنها صورة هزيلة فكهة مما تنشره الصحف اليوم، من ذلك قوله في مصطفى فهمي باشا الذي عرفت من أمره ما عرفت، وأنه كان أحب للإنجليز وأخلص لهم من أنفسهم، فلما سقطت وزارته التي طال عليها الأمد، وملها المصريون، وضاقوا بها ذرعًا في سنة 1909 قال إسماعيل صبري:
عجبت لهم قالوا: "سقطت" ومن يكن ... مكانك يأمن من سقوط ويسلم
فأنت امرؤ ألصقت نفسك بالثرى ... وحرمت خوف الذل ما لم يحرم
فلو أسقطوا من حيث أنت زجاجة ... على الصخر لم تصدع ولم تتحطم
ولما مات مصطفى كامل شق عليها نعيه وهو الصديق الوفي، الذي كان يحرص على وداده، وعلى الرغم مما كان بينه وبين الإنجليز من عداوة سافرة، وعلى الرغم من أن إسماعيل صبري كان موظفًا في الحكومة، فوقف على قبره، وهو يوسد الثرى ينعاه، فلم يكد ينطق بالبيت الأول من قصيدته وهو:
أداعي الأسى في مصر ويحك داعيا ... هددت القوى إذا قمت بالأمس ناعيا

(2/135)

حتى ملكته العبرة، وغاب عن الوعي، وفقدت القصيدة(66)، ولولا قصيدته في مصطفى كامل في حفل الأربعين ما عرفنا عن شعوره إزاء هذه الكارثة شيئًا، وهذه القصيدة فيها عاطفة جياشة، تنبئ عن لوعة صديق محزون هده الحزن، ولم يصور فيها مصطفى كامل الوطني المشتعل حماسة وثورة على قيود الرق وأغلاله، بما يليق به، واكتفى بذكر الشجن والأسى والحسرات لفراقه وليس فيها من نبأ عن وطنية مصطفى كامل إلا إشارات عائرة، وما عدا ذلك فهو تصوير لعظم الفجيعة.
عللاني بالتعازي وأقنعا ... فؤادي أن يرضى بهن تعازيا
وإلا أعيناني على النوح والبكا ... فشأنكما شاني وما بكما بيا
وما نافعي أن تبكيا غير أنني ... أحب دموع البر والمرء وافيا
إيا مصطفى تالله نومك رابنا ... أمثلك يرضى أن ينام اللياليا
تكلم فإن القوم حولك أطرقوا ... وقل يا خطيب الحي رأيك عاليا
ويخيل إليك أن سيفيض في ذكر مزاياه ويتحدث بإسهاب عن وطنيته، ولكنه يشير بعد أبيات في إيجاز شديد إلى أن مصطفى كامل كان سلاح مصر، وكوكبها المضيء في دجنة الحوادث، وأنها فقدت هذا السلاح وهي أحوج ما تكون إليه، وهذا الكوكب وهو تتخبط في الظلماء، ولولا ما خلفه من الأماني في نفوس مواطنيه لكان في بكائهم عليه بكاء على أمانيهم.
فقدناك فقدان الكمي سلاحه ... وسارى الدياجي كوكب القطب هاديا
وبتنا ودمع العين أندى خمائلا ... وأكثر إسعافًا من الغيث هاميًا
ولولا تراب من أمانيك عندنا ... كريم بكينا إذ بكينا الأمانيا
وأشار كذلك إلى قوة حجته، وعظيم دفاعه عن مصر في إيجاز:
فليتك إئ أعيبت كل مساحل ... قنعت فلم تعي الطبيب المداويا
وليتك إذ ناضلت عن مصر لم تفض ... مع الحبر قلبا يعلم الله غاليا
(2/136)

فهو لا ينطلق على سجيته، ويخيل إليك أنه يمشي بحذر، خائفًا يترقب فثمة الإنجليز وثمة القصر، وكلاهما غير راضٍ عن مصطفى كامل، وهو شاعر يدين للقصر بالولاء كما ينطق بذلك ديوانه الذي يغص بقصائد المديح يرجيها في كل مناسبة للخديو، ولكنه كان -على كل حال- أجرأ من شوقي في هذه المناسبة، ولعل جرأته أتت من أنه كان قد اعتزل الخدمة(67) وأصبح لا يخشى بأس الإنجليز.
ثم تمر مصر أحداث، ويطوح الإنجليز بعباس، ويأتي السلطان حسين كامل بعد إعلان الحماية، فيهنئه ولكنه كان أشد وطنية من صاحبيه حافظ وشوقي، فلم يشر إلى الإنجليز أي إشارة، ولم يدع إلى التعاون معهم، أو يثن عليهم، بل اكتفى بأن هنأه، وذكر أن الإمارة لم تزل في أهلها، وأنهم يتناوبون العرض ماجدًا بعد ماجد، وأن أهل مصر لا يزالون على الود القديم. إلى غير ذلك من المعاني التي تقال في مثل هذه المناسبة:
إن الإمارة لم تزل في أهلها ... شماء عالية القواعد والذرا
والتاج مقصورًا عليهم ينتفي ... منهم كبيرًا للعلاء فأكبرا
والعرش إن أخلاه منهم ماجد ... ذكر الأماجد منهم وتخيرا
عزى عن العباس أنك عمه ... وأجل من ساس الأمور ودبرا
ولكنه يفضل "حسينًا" بعد ذلك على "عباس"، ويحتج لاختياره، ولو أنه اكتفى بما قاله في البيت الأخير، لكان خيرًا له؛ لأن عباسًا حظي منه بمدح شتى، ورفعه فيها إلى السماكين، وكان واجب الوفاء يدعوه ألا يذم صاحبه الذي مدحه بالأمس، وألا يدعو الناس للشكر على أن جاء حسين بدلًا منه:
والبيت "بيت محمد" قد شاده ... لبنيه لم يستثن منهم معشرًا
والعم أكبر حكمة ودراية ... بالأمر لو أن المكابر فكرا
حال إذا نظر الأريب جمالها ... شكر الإله وحقه أن يشكرا
وهذا التقلب في المديح يدل على أن الشاعر لم يكن صادقًا في مديحه لعباس أو حسين، وإنما يدل على أنه كان مع الحاكم أيًّا كان، شأن معظم شعراء المديح
(2/137)

الذين لا يصدرون في شعرهم عن عاطفة جياشة صادقة وإنما يصدرون عن مراءاة ونفاق ورغبة في الحظوة والمكانة لدى ولي الأمر أيًّا كان خلقه ووطنيته.
هذا هو إسماعيل صبري، كان وطنيًّا صادقًا ولكن في هدوء وحذر، يريد الإصلاح والرقى لقومه عن طريق التعليم والنهضة الصحيحة، ويخشى التيارات السياسية المتلاطمة الأمواج، ولا أدل على وطنيته ومنهجه من قصيدته التي يقول فيها على لسان فرعون مخاطبًا مصر والمصريين محرضًا إياهم على النهوض، تلك القصيدة التي مطلعها:
لا القوم قومي ولا الأعوان أعواني ... إذا ونى يوم تحصيل العلا واني
والتي يقول فيها:
لا تقربوا النيل إن لم تعلموا عملًا ... فماؤه العذب لم يخلق لكسلان
ردوا المجرة كدًّا دون مورده ... أو فاطلبوا غيره ريًّا لظمآن
وسنعود إليها فيما بعد إن شاء الله.
أما محمد عبد المطلب فقد تمثلت فيه الوطنية المصرية الصحيحة، خاض غمارها بحماسة وعنفوان وصدق، لا يبالي بما يصيبه من جراء حمساته أو عنفوانه، ولقد نمى هذه الوطنية في نفسه عاملان قويان: أولًا، نشأته البدوية العربية، وفي العرب إباء وشمم، وأنفة من الظلم، ونزع إلى الحرية، وفي البداوة الصرامة والقوة والعنفوان والصراحة، والعامل الثاني نشأته الدينية وتدينه، والإسلام يدعو إلى العزة والكرامة والسيادة. فلا يدع إذا رأينا الشيخ محمد عبد المطلب وطنيًّا متدفق الوطنية، متطرفًا منذ أن اشتعلت الثورة المصرية سنة 1919.
ولكن قبل أن نعرض شعره السياسي في الثورة نعود إلى الخلف قليلًا لنرى موقفه من تركيا والإنجليز قبل الحماية وبعد أن أعلنت. لم يكن الشيخ محمد عبد المطلب تركي النزعة، ولا يمت إلى الأتراك بجنس ولا نسب، ولا مقربًا من الأمير أو حاشيته، ولا هو من كبار الموظفين الذين يرجون الخير من الأتراك

(2/138)

لقبًا أو منحة، ولم يك في أوائل هذا القرن شاعرًا مشهورًا، بل كان مدرسًا في إحدى قرى الصعيد؛ ولذلك كله لا نراه يعنى بتوجيه المدائح للخليفة بتركيا؛ ولا يشعر كما شعر كل مسلم محب لعظمة الإسلام، وقوة دولته، وليس لعبد المطلب في ديوانه إلا قصيدة واحدة رفعها إلى عبد الحميد بعد أن أعلن الدستور سنة 1908، وعم الفرح جميع الأقطار الإسلامية، وأمل الناس خيرًا في عبد الحميد وفي دور الخلافة، فقد صور في هذه القصيدة الظلم الذي كان يرزح تحته الأتراك، وكاد يؤدي بالدولة كلها إلى هوة سحيقة ما لها من قرار، وذلك حيث يقول:
يا عيد حي وأنت خير نهار ... "عبد الحميد" بدولة الأحرار
ملك أقام على الخلافة منهم ... حرسًا وقاها دولة الأشرار
من بعد ما كاد الزمان يحلها ... بالجور دار مذلة وبوار
يخشى البريء ويأمن الباغي الردى ... والجار مأخوذ بجرم الجام
عهد مضى -لا عاد- كبل دولة الـ ... إسلام في الأغلال والآصار
فرمت مقاتلها يد الأطماع من ... دول كَلِفْن بحب الاستعمار
وتراه ينهئ الطيارين التركيين حين وصولهما إلى مصر لأول عهد الناس بالطيران، على أنهما قوة للإسلام:
طير السلام بطائر الـ ... إسلام والأسد المزير
يا طائر الإسلام يهفو ... بالعواصم والثغور
يختال في الملكوت زهوًا ... فوق آمنة العنبر(68)
أحييتما ميتًا من الـ ... آمال في قلب كبير
إلى أن يقول:
يا دولة الإسلام هبي يا ... كواكبه أنيري
مدى جناحيه على ... النسرين والشعري العبور(69)
فلعل دائرة تجـ ... ـد عهود بعد الدثور
(2/139)

ويقول في انتصار الأتراك على اليونان في سقاريا، معبرًا عن الشعور الإسلامي حينذاك:
هذا مقامك شاعر الإسلام ... فقف القريض على أجل مقام
عادت صوار منا إلى إمادها ... من بعد ما ظفرت بخير مرام
ويقول في حرب طرابلس التي أرادت بها إيطاليا أن تنتزع تلك الولاية العربية الإسلامية من تركيا سنة 1911، وهبت مصر تشد أزر الترك، وتسعف جرحى الحرب، وترسل المال والزاد، وكان المصريون ينظرون إلى هذه الحرب على أنها حرب ضد الإسلام، وضد دولة الإسلام، وأنهم طرف فيها:
هي الهيجاء كم طحنت قرونًا ... وكم صحنت حوادثها قرونًا(70)
ويقول فيها مخاطبًا الطليان:
خرجتم من منازلكم بغاة ... على أوطاننا تتغلبونا
غداة ملأتم الدنيا صياحًا ... به بين الأزقة تهتفونا
وأقلقتم ملوك الأرض لما ... برزتم تبرقون وترعدونا
ويقول مخاطبًا ملوك أوربا:
بغت روما فلم نسمع نكيرا ... ولو شاء واسمعنا المنتكرينا
وإن تغضب ذيادًا عن حياض ... لنا هدمت إذا هم يسخطونا
ملوك الغرب ما هذا التعامي ... وما للحق بينكم مهينًا
يساق ضعافنا للموت بغيًا ... وأنتم تسمعون وتبصرونا
ويقول في هذه الحرب قصيدة أخرى يحرض فيها المسلمين على التطوع والجهاد مع إخوانهم أهل طرابلس:
بني أمنا ابن الخميس المدرب ... وأين العوالي والحسام المذَرَّب؟
وأين النفوس اللاءكن إذا دعا ... إلى الله داعي الموت في الموت ترغب
(2/140)

ولكنا نراه لا يأس حين تسقط الخلافة، وتزول من تركيا بعد الحرب العالمية الأولى إذا انقطعت الصلة التي كانت تربط مصر بتركيا، ولم يشعر نحوها كما كان يشعر من قبل.
ونرى عبد المطلب يثور ويغضب حين تعلن بريطانيا الحماية على مصر، وتتعسف في تسخير المصريين لخدمة الجيوش المحتلة، وتسوقهم كالأنعام لخدمة جيوشهم المحاربة، وتصادر أرزاقهم، وتحكمهم بيد غليظة آثمة: كان صريحًا عنيفًا، ولم يخش بأسًا، ولا عنتًا؛ وكان هو الصوت الأدبي المدوي الذي ثار وغضب، فمن ذلك قوله مشيرًا إلى من نفتهم سلطة الاحتلال:
وما ملهم فيها ثواء وإنما ... نجو بالنوى من ظلم أرعن أحمق
يناديه فينا قائد الجيش قومه ... وما قادهم إلا إلى شر مأزق
تسعف بالأحكام غير موفق ... وما ظالم في حكمه بموفق
فكم ساق من مصر إلى الموت فتية ... زهاها الصبا في عنفوان وريّق
جموع كأرجال النعام تلفها ... يد القهر للآجال من كل مَنْعَق
له عصب في غورها وصعيدها ... تخيير أبناء الشباب تنتقى
ومن لم يسقه السوط والسف ساقه ... إلى حيث شاءوا جهد عيش مرمق
ففي كل بيت صوت ثكلى مرنة ... وتحنان باك بالأسى متمنطق
ويقول منها في الحماية:
دجت يوم إعلان الحماية شمسه ... فيالك من يوم على مصر أورق(71)
به لقحت سود الليالي فليته ... قضى في بطون الغيب لم يتخلق
ويقول في المحتل الغاصب وسيرته بمصر:
يرى نفسه فوق القوانين بيننا ... متى ما نذكره القوانين يحنق
يبيح غدًا ما حرم اليوم بالهوى ... لغير الهوى في حكمه لم يوفق
إلاهة جبار وإمرة خاطل ... وتدبير أعمى في الحكومة أحمق
يقرب خوانًا ويرفع جاهلًا ... ويسعد أشقاها ويشقى بها التقى
إذا ما مضى هذا أتى ذلك بعده ... على النهج لم يعدل ولم يترقرق
(2/141)

وهي قصيدة كل بيت فيها ينطق عن شعور متقد، وصراحة تامة في كشف عورات الإنجليز وسوءاتهم، وسوء سيرتهم بمصر، وما لاقت على أيديهم من الذلة والمهانة والجهل:
وبالعلم سل دنلوبهم لم لم يدع ... ذواقًا من العرفان للمتذوق
وأغلب الظن أنه لم ينشرها غبّ إعلان الحماية؛ لأنها اشتملت على حوادث الحرب كلها حتى انتهت. وربما كان قد بدأها يوم إعلان الحماية، وساير بها حوادث الحرب حتى وضعت أوزارها. ثمة قصيدة أخرى قالها حين نفت سلطة الاحتلال أعضاء الوفد المصري وعلى رأسهم سعد زغلول. وهي تدل على جرأة وبأس لم يتأتيا لشاعر مصري قبله، قيلت، الثورة المصرية في عنفوانها، لتزيدها ضرامًا، وتؤجج في كل نفس نارًا وسخطًا على المحتل الذميم الذي تنكر لمصر بعد أن ساعدته على انتصاره، وسخر كل شيء فيها من مال ورجال ليحرز هذا النصر، ولكن لا عجب فهذا شأن الإنجليز دائمًا؛ وما وعودهم في خلال الحرب العالمية الثانية لمصر وغيرها من البلاد التي رزئت بهم ببعيدة عنا فلما انتصروا أنكروا وعدهم وعادوا جشعهم الاستعمار، ولم تتخلص مصر من بلائهم إلا بعد أن أرغموا على وعودهم وعاودهم جشعهم الاستعماري، ولم تتخلص مصر من بلائهم إلا بعد أن أرغموا على ذلك إرغامًا. بيد أنا لم نجد بعد الحرب العالمية الثانية شاعرًا مثل عبد المطلب يذكرهم بوعودهم، وبما قدمت مصر لهم من خدمات، حيث يقول:
أيها السائرون بالوفد مهلًا ... خبرونا عن وفدنا أين ولى
مر عهد الهوان لا عاد عهد ... كان ويلا على البلاد وخبلا
مر عهد الهوان كم جر فيه ... أهل مصر بالضيم قيدًا وغلا
ويقول فيها مخاطبًا اللورد اللنبي:
أيها القائد المدل علينا ... قاتل الله من علينا أدلًا
ما لمصر تجزى جزاء سنمار ... لديكم وبالدنية تبلى
وأراكم لولا بنيها سقيتم ... من حياض المنون علا ونهلا
سائلو الشام هل بغير بنينا ... جبتم الوعر من فلسطين سهلا

(2/142)

أو مددتم بغير أبناء مصر ... في بلاد العراق للفوز حبلا
أنسيتم في مصر ما منحتكم ... من هبات ما جاوزت بعد حولا
أم نسيتم أبناءها يفتك المو ... ت بهم فيا لوغي وباء وقتلا
إلى آخر هذا الشعر العلوي الذي لم نسمع مثله من حافظ، أو شوقي، أو صبري أو غيرهم من شعراء ذلك الجيل. الذين عاصروا الثورة، ورأوا حماسة الأمة الفياضة، وآمالها العريضة تحثهم على الجهاد والموت.
وظل عبد المطلب على صراحته تلك طوال الثورة، فإذا اشتد الإنجليز وطغوا، وأحكموا الرقابة على القول والنشر، احتال للتعبير عن آماله وعن شعوره الوطني، بالرمز كقصيدته على لسان عصفور في قفص(72) وغيرها من القصائد، وإذا عاد "سعد" من المنفى استقبله بقصيدة وطنية رائعة. ويموت محمد فريد(73) فيرثيه رثاء الوطني الحزين الذي يعرف فضله على القضية المصرية، وأنه كان في الرعيل الأول من المجاهدين الذين صلوا بنار الاحتلال، وضحوا بالأموال، وبالراحة والأمن في ظلال الوطن، وآثروا النفي والغربة في سبيل مبدئهم.
ما أنكرت مصر ابنها فنبت به ... ولكنه دهر على الحر يجنف
ويقول معبرًا عن شعور "فريد" حين فارق مصر:
حرام علينا أرضها وسماؤها ... ألية من لا يمتري حين يحلف
ويا فلك باسم الله مجراك أقلعي ... فإما الردى أو ينصف النيل منصف
ويقول عن جهاده:
عرفنا له بر الوفى بعهدها ... إذا خان قوم عهد مصر فلم يفوا
أفاض عليها نفسه بعد ماله ... وما بهم عنها متاع وزخرف
(2/143)

ويقول حين اعتدى الجنود الإنجليز على قرية العزيزية(74) ومثلوا بأهلها تمثيلًا شنيعًا وساقوهم رجالًا ونساء إلى العراء، وأضرموا النار في القرية وعبثوا بشرف النساء، وقتلوا كثيرًا من الرجال:
يا مصر ما بال الأسى لك حالا ... لو أن مفجوعًا يرد سؤالًا
ما عهد ولسن أين ولسن؟ وهل درى ... أنا بمصر نكابد الأهوالا؟
أمن العدالة عنده أن يبتلى ... شعب يريد بأرضه استقلالا؟
ما بال أبناء الحضارة أوغلوا ... في أرض مصر نكاية ونكالا
إلى أن يقول واصفًا تلك البشائع:
ما لي أقلب ناظري فلا أرى ... في مصر غير نوادب وثكالى
ودم يعز على أبيه مسيله ... عبثت به أيد هناك فسالا
وعزيز قوم في الحديد مصفد ... سيم الهوان وحمل الأثقالا
يسعى إلى دار الإسار وحوله ... نذر المنايا بندقًا ونصالًا
ولرب وجه بالجمال عرفته ... لم تبق فيه الحادثات جمالًا
تلك العقائل يرتمين مع الظبا ... مستقبلات للردى استقبالا
وأرى ابن "لندن" نحوهن مصوبًا ... بيض الظبا متوثبًا مختالًا
وارحمتاه لقرية مفجوعة ... والليل يرخي فوقها أسدالًا
محزونة خبأ القصاء لأهلها ... تحت الظلال وقعية ونكالا
من غادة غال البغاء عفافها ... فكبى الحجاب عفافها المغتالا
وهي قصيدة طويلة تصور أبياتها في إتقان بارع، وعبارات تثير العبرة، وتجلب الشجن هذه الحوادث المفجعة وتصرخ بالظلم، وتنطق بآيات الوطنية، وتحض على الثورة في جراءة وصراحة حتى ينكشف هذا الكابوس، وينجلي ذلك البلاء.
(2/144)

ولم يترك عبد المطلب أي حادثة من حوادث الثورة من غير قصيدة رنانة يترجم فيها عن شعور الشعب، وشجعه على الجهاد، ولا نراه يصمت بعد أن تهدأ الثورة قليلًا، ويؤلف وفد المفاوضات، بل يترقب المصير، ويخشى أن يعصف دهاء الإنجليز بما ضحى الثوار من أجله، فإذا عاد عدلي يكن من مفاوضاته مخفقًا، لم يكن لمكر الإنجليز وخبثهم ويفرط في حقوق البلاد، أقام الناس حفلا يكرمونه على تمسكه بحقوق مصر وسارع عبد المطلب ينظم قصيدة يثبت بها القلوب القلقة، ويؤيد بها تمسك البلاد بحقها الكامل، وأنشدها في الحفل مهنئًا عدلي على موقفه هذا، وفيها يقول:
زعموا سفاها أن وحدتنا ... أمست حديثًا في الورى كذبًا
لا والدم الغالي تسيل به ... فوق التراب أسنة وظبا
لا واتحاد الأمتين(75) جرى ... بين الممالك أية عجبًا
لا والحسان البيض حاسرة ... والموت يحجل حولها شعبًا
لا والشباب النضر في لجب ... يستعذب التعذيب والعطبا
ما إن أصاب بني أبي وهن ... إن المفرق بيننا كذبًا
أبناء مصر جميعهم بطل ... دب لنصر بلاده انتدبا
وقال بعد ذلك في الدستور، وأول اجتماع لنواب الأمة، وفي مقتل السردار، وفي الاعتداء على سعد زغلول، وفي استقالة وزارة سعد عقب مقتل السردار، وفي غير ذلك من المناسبات الوطنية العديدة. وكل شعره الوطني يرمى إلى الاستمرار في الجهاد، ووحدة صفوف الأمة، ومناوأة الإنجليز في شدة وصرامة حتى تنال حقوقها كاملة. وله نشيد وطني قوي يتقد حماسة.
ومثل هذه النغمات العلوية لم يجرؤ سواه من شعراء طبقته على ترديدها إلا محرم والكاشف، وعبد المطلب(76) يقف بينهم متميزًا في هذا الميدان، وقد شغل
(2/145)

الشعر السياسي جزءًا غير قليل من ديوانه وكان به لسان الشعب المجاهد، والمعبر عن آلامه وآماله في صراحة وقوة وجزالة.
أما خليل مطران فقد اتخذ مصر دار إقامة منذ سنة "1892"(77)، وقد كانت مصر تتمتع بشيء من الحرية الصحفية في تلك الحقبة، على نحو ما ذكرنا آنفًا، وقد هاجر إليها كثير من أحرار السوريين الذين فروا من الجو الخانق المخيم على شتى الولايات العثمانية، ويجثم فوقه شبح الاستبداد الحميدي؛ وقد كان هؤلاء المهاجرون فريقين، منهم من يدعو إلى الجامعة الإسلامية. ويبغي الإصلاح لتركيا حتى تنهض البلاد العربية التابعة لها وتساير موكب الزمن، وكان أكثر هؤلاء من المسلمين، وقليل من المسيحيين، ومنهم من أظهر بالغ سخطه على الاستبداد الحميدي، ومصادرة الحريات، ومقاومة النزعات الاستقلالية في البلاد؛ وأغلب هؤلاء من السوريين والمسيحيين(78).
ولكن مصر كما علمت فيما سبق كانت تشايع تركيا، ولا تتدعو إلى الانفصال عنها لأسباب عدة ذكرناها في موضعها، ولذلك كل الاتجاه العام حتى بين السوريين أنفسهم هو عدم تحدي الشعور المصري. وكان خليل مطران من أولئك الذين اضطروا إلى مغادرة بلادهم هربًا بحريتهم، وعاش في فرنسا ردحًا من الزمن، ولكنه وجد عنتًا من الفرنسيين بتحريض سفير تركيا، ووقف مترددًا بين النزوح إلى الغرب إلى "شيلي" أو الرجوع إلى الشرق، وفيه مصر مباءة الأحرار، ومثواهم الأمين، وقد تغلب حبة للعمل في ميدان الإصلاح فآثر الهجرة إلى مصر واتخذها دار إقامة، وشارك في تحرير الأهرام، وقد دلت كتاباته الصحفية، وقصائده التي قالها في تلك الحقبة على أنه لم يكن من الثائرين ضد تركيا الداعين إلى الانفصال عنها، وإنما كان يرجو لها الخير والإصلاح، وكان يدعو إلى الجامعية العثمانية مع الداعين، وهو يقول من قصيدته "فتاه الجبل الأسود":
طغت أمة الجبل الأسود ... على الحكم فاتحها الأيد
(2/146)

فيها ويقول:
وما الترك إلا شيوخ الحرو ... ب ومر تضعوها من المولد
إذا ألقحوها الدماء فلا ... نتاج سوى الفخر والسؤدد
سواء على المجد أيًّا تكن ... عواقب إقدامهم تمجد
وقد فرح كما فرح المسلمون قاطبة بإعلان الدستور العثماني، وأنشد في حفل أقيم بفندق "شبرد" ابتهاجًا بهذا الحادث الذي كان يعد عظيمًا حنذاك، والذي رأيت أن شعراء مصر وغير مصر قد هللوا له وكبروا، وأثنوا على عبد الحميد الطاغية؛ لأنه منح قومه الحربة، وهم جند الخلافة والذادة عن حماها، فقال مطران مع القائلين:
يا أيها ذا الوطن المفدى ... تلق بشرًا وتمل السعدا
يا عيد ذكر من تناسى أننا ... لم نك من أبقة العبدي(79)
كنا على الأصفاد أحرارًا ... أن الرزايا ألزمتنا حدّا
وقال من قصيدة أخرى، يصف فيها كيف تم هذا الانقلاب، وكيف جاهد أحرار تركيا حتى قضوا على عهد الاستبداد، وما شعور النازحين من ديارهم هربًا بحريتهم يوم أعلن الدستور، إلى غير ذلك من المعاني التي أوحى بها هذا الحادث:
حييت خير تحية ... يا أخت شمس البرية
حييت يا حرية
الشمس للأشباح ... وأنت للأرواح
كالشمس يا حرية
كوني لنا عهد سعد ... وعصر فخر ومجد
يدوم يا حرية
ويقول عن المهاجرين الذين فروا من الاضطهاد التركي:
من الجياع الظماء ... ألقتهم الدأماء
(2/147)

في كل أرض قصية
أشتات جاه ومجد ... ضموا لأشرف قصد
قامت به عصبية
ويقول مخاطبًا عبد الحميد:
عبد الحميد أصبتا ... بما إليه أجبتنا
بنيك من أمنية
لا ضير فيها عليكا ... والخير منها إليكا
يعود قبل الرعية
ما شارك الملك أمه ... في الحكم إلا أتمه
بحكمة وروية
وقد تألم العرب بعامة، والمسلمون بخاصة، حين اعتدى الطليان على طرابلس المسكينة وأرادوا انتزاعها من يد الدولة العثمانية وتصدى لها جنود الأتراك، وهب الناس في كل قطر إسلامي يدعون لمساعدتهم، وإغاثة الجرحى وإسعافهم، فقال داعيًا إلى إعانة أهل طرابلس، مصورًا ما وصلوا إليه من البؤس والفاقة، وما ذاقوه من حر الحرب، وما ارتكبه الطليان من فظائع:
وارحتاه لقوم فارقوا النعما ... من غير ذنب لهم واستقبلوا النقما
لولا بشاشة إيمان تثبتهم ... تخيروا دون تلك العيشة العدما
ما حال أم لها طفل بجانبها ... غير المدامع في يوميه ما طمعا
ورضع وجدوا الأثداء لاذعة ... كالجمر فانفطموا واستنكروا الحلما
وغانيات أباحتها الخطوب فلو ... لم تعصم النفس ساء الفقر معتصما
ويقول في تلك الحرب كذلك، عاتبًا على المتقاعسين عن نصرة تركيا ونصرة أهل طرابلس:
صدقت في عتبكم أو يصدق الشمم ... لا المجد دعوى ولا آياته كلم
يا أمتي حسبنا بالله سخرية ... منا، ومما تقاضى أهلها الذمم
إن كان من نجدة فينا تفجُّعنا ... فليكفنا ذلنا، وليشفنا السقم

(2/148)

لا تنكروا عذلي هذا فمذرتي ... جرح بقلبي دام ليس يلتئم
نحن الذين أبحنا الراصدين لنا ... حمى به كانت العقبان تعتصم
وفيها يقول محييا الترك وشجاعتهم:
أبناء "عثمان" حفَّاظ وقد عهدوا ... تاريخ "عثمان" فيه الفتح والعظم
هم الحماة لأعلاق الجدود فلن ... يرضوا بأن ينثر العقد الذي نظموا
أما موقفة حيال الاستعمار الإنجليزي، والأحزاب قبل الحرب الأولى، فقد كان من أول الأمر، حذرًا، يقف موقف الحيدة، خشية أن يميل به الرأي إلى جهة ما، فيتهم بمناصرتها، وقد اتخذ هذا الموقف لأنه كان يشعر بأنه دخيل في المحيط المصري(80)، هذا إلى محبته للعزلة وإيثاره لها، وقد تجلى هذا الحياد في المقالات العديدة التي كان ينشرها في الأهرام، على أنه ما لبث أن خاض غمار السياسة المصرية، ومال مع الحزب الوطني، وناصر مصطفى كامل بقلمه؛ ولا شك أنه ما قال في الترك ما قال، ولا سيما قصائد في حرب طرابلس، وفي الدستور العثماني، إلا وهو متأثر بسياسة الحزب الوطني، مع ما كان له من فكرة سابقة وجهاد قديم في سبيل الجامعة الإسلامية، ونلاحظ أنه لم يمدح عبد الحميد، ويرفع إليه التهاني في الأعياد وغيرها، كما كان يفعل سواه من الشعراء، ولم يكن من المنتظر من مثل مطران، وهو الذي ترك وطنه هربًا من الاضطهاد الحميدي، ولجأ إلى مصر ليتمتع بحرية الفكرة أن يمدح عبد الحميد الطاغية، بل إن له قصائد رمزية حمل فيها عبد الحميد الطاغية مثل قصيدة مقتل "بزرجمهر"(81)، والتي يقدم لها بقوله: "اشتهر كسرى بالعدل وكان بلا نزاع أعدل ما يكون الملك المطلق في أحكامه بلاده، فإن كان ما وصفناه في هذه القصيدة إحدى جنايات مثله في العادلين، فما حال الملوك الظالمين؟ ".
ونلاحظ أنه في الفترة التي سبقت اتصاله بالحزب الوطني كان ولا شك يغالب شعوره نحو الإنجليز، فقد وجد أن مصر في ذلك العهد تتمتع بحرية لم
(2/149)

يجدها في الشام، وأن كرومر قد منح الصحافة شيئًا من هذه الحرية، ولكنه كما ذكرنا كان يخشى أن يجاري بعض المهاجرين من أبناء وطنه في ميولهم الإنجليزية كأصحاب المقطم مثلًا؛ فيتهم بالميل لحزب من الأحزاب، ولذلك لا تجد له شعرًا في كرومر، أو في مدح السياسة الإنجليزية بمصر، وإنما قد انتهز فرصة وفاة الملكة فيكتوريا(82) فرثاها بقصيدة أثنى فيها ثناء جمًّا على أبناء التاميز، وأشاد بقوتهم وعظمتهم كما رثاها حافظ إبراهيم حين كان متأثرًا بسياسة أستاذه الشيخ محمد عبده(83). وفي تلك القصيدة يقول مطران(84):
بنوك فروع للعلى وأصول ... وملكك ما للشمس عنه أقول
وسعدك في الأمثال سار ولم يكن ... له في سعود المالكين مثيل
ويظهر أن طبيعة مطران كانت ميالة إلى الوطنية الصادقة، ولا شك أن مصر والشام كانتا في حالتين متشابهتين في جهاد كل منهما في سبيل الحرية، فكان يجد في الوطنية المصرية صدى لما في نفسه من نزعة للحرية ومتنفسًا لآماله كبتت يومًا ما، وقد وجد في مصطفى كامل زعيمًا قويًّا، ومجاهدًا صادقًا الجهاد، لا يدخر مالًا، أو شبابًا، أو حياة في سبيل مبدئه، فناصره، فنجد له قصيدة قالها في افتتاح مدرسة مصطفى كامل وقد تحولت إلى كلية(85)، ولما مات مصطفى كامل رثاه مطران، وقد قدم لقصيدته في رثائه حين نشرها بالديوان في الطبعة الأولى بقوله: "مصاب الشرق في رجله المفرد، وبطله الأوحد، مصطفى باشا كامل، أيتها الروح العزيزة، إن في هذا الديوان الذي أختتمه برثائك، نفحات من نعمائك، ودعوات من دعواتك، فإلى هيكلك المدفون بالتكريم، تحية الأخ المخلص للأخ الحميم، ووداع المجاهد المتطوع للقائد العظيم".
وهي قصيدة جمعت معاني جمة، فمن إظهار لما بلغه المصاب من نفوس المصريين بخاصة والشرقيين بعامة، لفقدهم هذا الأمل المرجى، والصوت الذي
(2/150)

أتى بعد أن رجف المرجفون بأن بلاد العروبة والإسلام تغط غطيطًا عميقًا، ولا تهفو إلى الحرية فدوى في الخافقين، وإشادة بعظمة الإسلام، وأنه دين الحضارة والعزة، وأن دفاع مصطفى عنه كان دفاعًا حقًّا عن دين أهل للسيادة، وأن مثل مطران في نضج عقله لا يسعه إلا أن ينبري للدفاع عنه:
ولعل حرًّا لا يدين به انبرى ... ليذود عنه خصمه المتعسفا
قد كان للإسلام عهد باهر ... نلنا به هذا الرقى مسلقًا
ملأ البلاد إنارة وحضارة ... ومنى السماحة عوده مستأنفًا
ويذكر فيها جهاد مصطفى في سبيل مصر، ويبين مواقفه الخالدات الباهرات:
مصر العزيز قد ذكرت لك اسمها ... وأرى ترابك من حنين قد هفا
وكأنني بالقبر أصبح منبرًا ... وكأنني بك موشك أن تهتفا
مصر التي لم تحظ من نجبائها ... بأعز منك، ولم تعز بأحصفا
مصر التي لم تبغ إلا نفعها ... في الحالتين ملاينا ومعنِّفا
مصر التي غسلت يداك جراحها ... بصبيب دمعك جاريًّا مستنزفًا
مصر التي كافحت لُدّ عداتها ... متصدرًا لرماتها مستهدفًا
مصر التي سقت الجيوش مناقبًا ... ومنى لتكفيها المغير المجحفا
مصر التي أحببتها الحب الذي ... بلغ الفداء نزاهة وتعففًا
ثم يشيد بخلق مصطفى كامل، وقوة قلمه محررًا في صحفه العديدة، وبقوة لسنه، وشدة عارضته، حين يحاج خصوم مصر، ويفحمهم بالأدلة المقنعة، والبراهين الساطعة، بحرارة إيمانه وقوة يقينه.
يحيي حرارتها ويهدي نورها ... متماهل الإشراق أو متخطفًا
تالله ما أنت الخطيب وإنما ... وقف القضاء من المنصة موقفًا
عن نقطة تقع الصروف مواعظًا ... وكأمره أمر الزمان مصرفًا
إلى غير ذلك من المعاني الجليلة، ولا ينسى الغرس الذي وضعه مصطفى بيده في تربة مصر، وتعهده حتى نماه وكيف يجب على خلفائه من بعده، بل

(2/151)

على المصريين أجمعين أن يحافظوا عليه حتى يؤدي أكله طيبًا، ألا وهو حرية مصر كاملة.
وقد ظل خليل مطران على تعاقب السنين يحفظ عهد مصطفى كامل، ويشيد بذكراه وله في سنة 1933 قصيدة ألقاها في ذكرى مرور عام على وفاة حافظ إبراهيم، ضمنها وصفًا رائعًا للنهضة القومية، التي كونت حافظًا، وكيف أن هذه النهضة هي عرس مصطفى كامل وكيف تعهدها بجهاده إلى أن مات، وبموته كانت الآية التي تم بها استقرارها(86)، وفيها يقول عن حافظ معللًا نبوغه في الوطنيات:
ما تجلى نبوغه كتجليه ... وقد هب مصطفى للجهاد
يوم نادى الفتى العظيم قلبي ... من نبا قبله بصوت المنادي(87)
وورى ذلك الشعور الذي كان ... كمينًا كالنار تحت الرماد
يتجلى هذا الشعور كذلك في مراثيه لرجال الحزب الوطني فيرثي محمد أبو شادي وينوه بجهادها معًا في سبيل مصر، وما لا قيا من عنت وإرهاق:
زمان قضينا المجحد فيه حقوقه ... ولم نله عن لهو ورشف رضاب
محضنا به مصر الهوى لا تشويه ... شوائب من سؤل لنا وطلاب
فداها ولم يكربه أن جار حكمها ... فذل محاميها وعز محاب
فكم وقفة إذ ذاك والموت دونها ... وقفنا وما نلوي إتقاء عقاب
وكم كرة في الصحف والسوط مرهق ... كررنا وما نرتاض غير صعاب
ويرثي الشيخ عبد العزيز جاويش فيزفر زفرة حارة، ويبكي زمن الجهاد، والأيام التي صحب فيها هؤلاء الكرام الأعزة فيقول:
طيبوا قرارا أيها الأعلام ... وعلى ثراكم رحمة وسلام
مصر التي متم فداها أصبحت ... وكأنما فيها السرور حرام
ذهب الأعزة "مصطفى" ورفاقه ... ما كاد يخلو من شهيد عام
(2/152)

ويرثي على فهمي كامل(88)، ويرثي أمين رافعي(89)، ومحمد فريد(90)، وغيرهم من أعلام الحزب الوطني، بل يؤيد الأحياء منهم في المعارك السياسية بعد إعلان الدستور، وها هو ذا يؤيد الأستاذ محمد محمود جلال من رجال الحزب الوطني في حملة انتخابية، ولم يؤيده سواه.
يا من حمدت به اختبا ... ري في اختباري للصحاب
وهكذا يظهر مطران في شتى المناسبات وفاءه للحزب الوطني ورجاله، ولعل هذا ناشئ من أن عهد جهاده مع الحزب الوطني كان في أيام الشباب، وهي عزيزة الذكريات؛ ومن أنه وجد فيه تطرقًا في الوطنية يشبع نهم نفسه التي حرمت الجهاد في موطنها الأصلي.
وقد أكرمت مصر مطران، واحتفت به وآثره الخديو عباس عبد وفاة مصطفى كامل بالعناية والرعاية؛ فساعده في شغل منصب الأمين المساعد بالجمعية الزراعية بعد أن أفلس على أثر مضاربات في السوق المالية، وشكا حاله في عشره. وأنعم عليه بالوسام المجيدي الثالث في أغسطس سنة "1912"(91)، وقد أوعز إلى إسماعيل "باشا" أباظة الذي اشتهر بأدبه وباتصاله بالأدباء في ذلك الوقت؛ وفي أن يوحي للأدباء المصريين والسوريين بإقامة حفل يكرمون مطران، وقد أقيم هذا الحفل في إبريل سنة 1913 تحت رعاية الخديو عباس، وناب عنه فيه الأمير "السابق" محمد علي، وأثنى على مطران ثناء جمًا(92)، وأغدق عليه الشعراء المصريون المشهورون جليل الثناء، فكرمه شوقي وحافظ وإسماعيل صبري وأحمد نسيم وغيرهم، وما قاله الأمير "السابق" محمد علي في حديثه له(93): "قد عرفت مطران من عهد والدى حتى الآن، فرأيته امتاز بانصرافه كل هذا الزمان إلى المحافظة على خطة ولاء مستقيمة لم يحد عنها كل حياته القلمية
(2/153)

في مصر، وهذا الثبات على المبادئ والإخلاص الدائم لمصر والمصريين هو فضيلة يجب اعتبارها وإكرام المتحلي بها".
وقد كان لعطب عباس عليه أثر في شعره فمدحه بأكثر من قصيدة(94). ولكنه بعد أن خلع عن العرش لم يذكره مطران بكلمة خشية سلطة اللاحتلال، وقد مرت فترة الحرب العالمية الأولى، وما عانته مصر في خلالها من عسف وظلم، وهو صامت لا يتكلم، فلما اضطرمت نار الثورة المصرية، وظهرت على مسرح السياسة وجوه جديدة، خص منها بالمحبة والثناء سعد زغلول، وإن لم يكن له في الثورة وحوادثها الدامية، وظلم المحتل الغشوم وجبروته أي كلمة وأول صوت نسمعه له هو تحية "سعد" حين عودته من سيشل(95) بقصيدته التي مطلعها:
خفت لطلعة وجهك الأعلام ... ومشت تحيط بركبك الأعلام(96)
ولكنه يقف بعد ذلك من الحوادث المصرية موقفه الأول، وهو الحياد، والترقب؛ لأنه ثمة أحزابًا، وانشقاقًا في الصفوف، ويخشى أن يتهم بالميل لهذا الحزب أو ذاك فيجني عليه هذا الاتهام، والحزبية في مصر قاسية لا تغفر للمرء حسن ماضيه، وعظيم بلائه في سبيل بلاده، وتراه يرثي زعماء الأحزاب قاطبة: ثروت، وعدلي، وسعد، ولا يقول إلا في الأمور الوطنية العامة كتمثال نهضة مصر، وعيد الجلاء، وتمثال سعد، وتمثال مصطفى كامل وما شابهها، وانصرف إلى العمل في خدمة المسرح المصري، مديرًا للفرقة القومية، وعكف على قول الشعر الخالد.
وثمة شاعر آخر يمثل لونًا في السياسة والشعر غير ألوان هؤلاء الذين ذكرناهم، وهو ولي الدين يكن، أهمله مؤرخو الأدب والنقاد المصريون، فلا يعرف عنه الناس إلا قليلًا؛ وذلك لأنه لم يكن ذلك الوطني المصري المخلص، بل كان من حزب الاحتلال، ورجال كرومر.
(2/154)

وكان ولي الدين أول أمره من دعاة الجامعة الإسلامية، وممن يعني بشئون تركيا، أكثر من عنايته بشئون مصر، ويدعو لتأييد حكومتها، ويدافع عن عبد الحميد ورجاله ولما رحل إلى تركيا فيما بين عامي 1895، 1896، وأقام بها ثمانية أشهر غمره فيها عبد الحميد بعطفه ورضاه، وأنعم عليه بالمرتبة الثانية، ولكنه شاهد في أثناء مقامه الفساد الذي عم الأداة الحكومية التركية، والعسف والاضطهاد للأحرار، والوشاية، والرشوة، فرجع إلى مصر حانقًا ساخطًا على هذا الفساد. داعيًا إلى الإصلاح، وأنشأ جريدة الاستقامة في سنة 1897، وجعلها اللسان المعبر للأحرار المهاجرين إلى مصر والذين تمتلئ قلوبهم غيظًا وموجدة على ما لاقوا وما تلاقى أوطانهم من ظلم عبد الحميد، وعدوان رجاله، فمنعتها الحكومة التركية بعد قليل من دخول ولاياتها، وصار يكتب في جريدة المشير(97) والمقطم والقانون الأساسي(98).
وكان عبد الحميد يجد كل الجد في استرضاء هؤلاء الثائرين، ويعدهم الوعود الخلابة، ويمنيهم بتحقيق الإصلاح المنشود، وإعلان الدستور فدعا إليه ولي الدين فيمن دعا، فسافر إلى الآستانة سنة 1898، وعين في مجلس المعارف الأعلى، ولكن ما لبث أن سئم تلك الحياة الفاسدة، فكان على خصام دائم مع رجال الحكومة، وأخذ يطعن عليهم جميعًا في الصحف الأجنبية فنفي إلى "سيواس" بالأناضول، وظل في منفاه إلى أن أعلن الدستور سنة 1908 فعفي عنه، ورجع إلى مصر، ووجد في صمر "خليفة كرومر" يحوط هؤلاء الساخطين على تركيا بعنايته ورعايته، فأخذ ولي الدين بعد عودته يكتب في الأهرام والمقطم والمؤيد والرائد المصري(99) والزهور(100) ثم أنشأ جريدة "الإقدام" في الإسكندرية سنة 1913، وعين كاتبًا في وزارة العدل حتى سنة 1914، وبعد أن تولى السلطان
(2/155)

حسين عرش مصر لقى منه عطفًا شديدًا فعين كاتبًا في الديوان السلطاني، ونعم بقربه، وخصه بأحسن مدائحه.
قال ولي الدين يكن في أول مقال له بجريدة المقطم بعد عودته من زيارته الأولى لتركيا، وشاهد عن كثب الفساد الشامل من الأداة الحكومية: "هذا قلم أرن القوس صائب الرمية فلأجرينه حتى لا تبقى من دار الظلم لبنة على لبنة، وبياض على سواد، ولأسيرن قوارعه شربًا في كل قاتم الأعماق، شاسع الأطراف، إلى أن يقول نصير الحمية: لبيك، ونستريح وإخواننا مما نحن فيه".
واحتضنته الحكومة البريطانية كما احتضنت غيره من الساخطين على تركيا، فازداد لها حبًّا، وأصبح لا يذكرها إلا بكل خير، ولا يذكر عميدها اللورد كرومر إلا أشاد بفضله ونعته أحسن النعوت، ودعاه مصلح مصر، وأبا المصريين المشفق(101)، قال في المعلوم والمجهول: "ولا أظن رجلًا يشفق اللورد كرومر على المصريين، فهو أبو حريتهم، ومصدر إنصافهم، ومورد سعدهم إلا أنه كان يخدم من يحبونه".
وكان من المناوئين لمصطفى كامل، ويرى استعانته بسياسة فرنسا قبل الاتفاق الودي في سنة 1904 خطأ جسيمًا، بل يرى أن فرنسا هي التي خلقت مصطفى كامل. ويرى أن مصر ليست للمصريين بل هي للعثمانيين فقال عن عبد الله نديم: "وإنما أحدث الخلاف بيننا أنه كان عدوًا للعثمانيين، وهو من قدماء من يقولون: "مصر للمصريين" ونحن نقول: "مصر للعثمانيين" وعلى أن ولي الدين يريدها ولاية عثمانية محكومة بيد إنجليزية.
ولعلك ترى من هذه الصورة الموجزة أن ولي الدين من الأدباء الذين فسدت عقيدتهم الوطنية، والتوت أفكارهم في طرق معوجة ونظروا إلى الأمور نظرة ساذجة، واغتر بالحرية الكاذبة التي منحها الإنجليز للصحافة في مصر، مع أنهم يريدون بينهم الفرقة ويمدون لهم في حرية القول وهو أهون الأمور لديهم،
(2/156)

والقول ينفس عن المصريين، فلا يلجئون للفعل، ولما طال زمن الكبت في خلال الحرب العالمية الأولى وما قبلها، انفجر المرجل، وشبت الثورة.
ولقد أردت بذكر شيء عن ولي الدين يكن في هذا المقام أن أعطي صورة واضحة لتأثير السياسة في الشعر، وأن واجبي وأنا أؤرخ هذه الحقبة ألا أهمل أدبيًا تعود الناس إهماله لأنه انحرف عن جادة الحق. لقد نجح الإنجليز بعض النجاح في جذب بعض الأقلام إليهم، وقد كاد حافظ إبراهيم ألا يحظى بلقب شاعر النيل، وأن يكون بوقًا من أبواقهم، لولا موت أستاذه محمد عبده، ولولا أنه مصري فيه بقية من خير جعلته يستجيب لدعاة الوطنية الصحيحة. أما ولي الدين يكن فلم يكن مصريًّا كامل المصرية، وكان مصريًّا بالوطن والإقامة تركيا بالمولد والجنس والعاطفة، وكانت الحرية التي يدعو إليها حرية مصر وتمتعها باستقلالها التام خالصًا دون الترك والإنجليز، بل هي حرية القول، والخوض في تركيا والدعوة إلى أن تظل مصر مفيدة بِغُلَّيْنِ. الغل التركي والغل الإنجليزي، وهذا لعمري خلط في فهم الأشياء وتسميتها بغير أسمائها الصحيحة.
كان بعد تركيا وطنه الصحيح، إنه في مصر تركي مهاجر، ومصر ولاية تركية في نظره، وإن تمتعت بشيء من الحرية لوجود الإنجليز بها فلهم منه الثناء، وهذا مجمل رأيه السياسي، واستمع إليه يقول بعد عودته من تركيا لأول مرة يصور ما بها من فساد:
يا وطنًا قد جرى الفساد به ... متى يرينا إصلاحك الزمن
دفنت حيا وما دنا أجل ... ما ضر لو دافنوك قد دفنوا
عز علينا "فروق" من قطنوا ... فيك فهم في العذاب قد قطعوا
ولما قال شوقي قصيدته المشهورة:
سل يلدزا ذات القصور ... هل جاءها نبأ البدور
بعد خلع السلطان عبد الحميد 1909، ورثى فيها حال السلطان المخلوع ردّ عليه ولي الدين يكن بقصيدة من الوزن والقافية، يندد فيها بحكم عبد الحميد

(2/157)

ويشمت به، ويقول في أولها مخاطبًا شوقي وعاتبًا عليه هذا الشعور الذي تنافى مع وجهة نظر المهاجرين:
هاجتك خالية القصور ... وشجتك أفلة البدو
وذكرت سكان الحمى ... ونسيت سكان القبور
وبكيت بالدمع الغريـ ... ـر لباعث الدمع الغزير
ولأهب المال الكثـ ... ـير وناهب المال الكثير
حلمي الثغور الباسما ... ت مضيع أهلة الثغور
ويقول من قصيدة أخرى متشفيًا في عبد الحميد، شامتًا به أشنع شماتة:
نعم عبد الحميد أندب زمانًا ... تولى ليس يحمده سواكا
تولى بين أبكار حسان ... تعلق في غدائراها نهاكا
جعلت فداءها الدنيا جميعًا ... ومذ ملكتها جعلت فداكا
وطال سراك في ليل التصابي ... وقد أصبحت لم يحمد سراكا
أما عن ولائه للإنجليز ومدحه إياهم ففي ديوانه أكثر من قصيدة تنم عن إعجاب وولاء وتضفي عليهم عاطر المدح والثناء، فثمة قصيدة إلى "تومي إتكنس سدين الحرية وحاميها".
إلى تومي إنكنس مني الثناء ... يزيد على الرمل في عده
يفيد الربيع إذا فاض فيه ... ندى زهره، وشاذا ورده
فلا يعرف السلم ندًّا له ... ولا يقع الحرب في لده
ويقول في رثاء الملك إدوارد السابع(102):
وداعًا أيها الملك الجليل ... دنا سفر ومهدت السبيل
بكى التاميز صاحبه المفدى ... فجاوبه هنا هرم ونيل
أبا الأحرار لا ينساك حر ... شبابهمو يجلك والكهول
(2/158)

ويودع "الجنرال مكسويل" في سنة 1916 ويرجو أن يعود ثانية إلى مصر بقوله:
سنذكر منك أخلاقًا حسانًا ... تزيد على النوى حسنًا وطيبًا
ونتبعك الثناء بكل أرض ... يقوم إذا نزلت بها خطيبًا
تودعك الأهلة مشرقات ... تحيي في مطالعها الصليبا
لقد أمتعتها بالسلم حتى ... نكاد اليوم لا ندري الحروبا
فعش يا ماكسويل لود مصر ... ونرجو بعد ذلك أن تؤوبا
وعلى النقيض من هذا الأديب الذي اختلت بين يديه موازين السياسة، وقيم الأشياء، فراح يعتسف الطريق، ونجد شاعرين آخرين يجري في عروقهما الدم التركي، ولكنهما كانا مثلًا عاليًا في الوطنية الصادقة على اختلاف يسير بين نهجيهما، أعني بهما: أحمد محرم، وأحمد الكاشف.
أما أحمد محرم فقد جمع إلى حماسته الوطنية، عاطفة دينية جياشة، والدين -كما ذكرنا آنفًا- يدعو إلى العزة والكرامة والسيادة، وقد صدق محرم حين قال:
خلق العروبة أن تجد وتدأبا ... وسجية الإسلام أن يتغلبا
كان أحمد محرم في أول أمره من دعاة الجامعة الإسلامية في ظل تركيا، وقد عرفت موقف مصر من هذه الدعوة ممثلًا في شعرائها الذين أسلفنا الكلام عنهم، وفي زعمائها الوطنيين، ينظر بعضهم إلى هذه الفكرة نظرة دينية، وينظر بعضهم إليها نظرة سياسية؛ لأن إنجلترا الغاصبة لا تملك وثيقة دولية تؤيد بقاءها في مصر، بينما قد اعترفت الدول جميعًا بمركز تركيا في هذه الديار، وكان أحمد محرم يتعلق بتركيا لسببين: ديني وجنسي، استمع إليه يدعو المسلمين جميعًا إلى الالتفاف حول راية الخلافة:
هبوا بني الشرق لا نوم ولا لعب ... حتى تعد القوى أو تؤخذ الأهب
ماذا تظنون إلا أن يحاط بكم ... فلا يكون لكم منجى ولا هرب
كونوا بها أمة في الدهر واحدة ... لا ينظر الغرب يومًا كيف نحترب

(2/159)

ما للسياسة تؤذينا وتبعدنا ... عما يضم قوانا حين تقترب
أغرت بنا الخلف حتى اجتاح قوتنا ... وطاح بالشرق ما نجني وترتكب
ولم يكن يصدق أن تركيا ضعيفة، وأنها سميت في عالم السياسة بالرجل المريض، وأن الفساد قد دب في جسمها كله، وأنها على وشك الانهيار إن لم تتداركها يد الله، والإصلاح.
وليس يزول ملك الترك حتى ... تزول الأرض أو تهوى السماء
ويرى أنهم أهل لأن يتولوا شئون الخلافة، ويراعوا حقوقها، فهم عنها الذادة الأشاوس، وهم الذين انتهجوا خير منهج، وفاته أنهم منذ أن خرجوا من ديارهم غازين للبلاد الإسلامية سبب نكبتها، وما تردت فيه من جهل وذل وانحلال، ضعفت بضعفهم، وفسدت بفسادهم؛ فانهارت بانهيارهم حتى صارت لقمة مستطابة لذائب الغرب.
لولا بنو عثمان والسنن ... شرعوا لما وضح السبيل الأقوم
سطعوا بآفاق الخلافة فانجلى ... عنها من الحدثان ليل مظلم
فهم ولاة أمورها وكفاتها ... وهم حماة ثغورها وهُم هُم
وهو الشاعر الوحيد الذي دافع عن عبد الحميد، وأسف أشد الأسف لما أصابه بعد عزله في سنة 1909، وقد أهمه وأحزنه أن رأى بعض الناس قد شمتوا به وهم الذين كانوا يلهجون بحمده، ويعيشون في نعمائه:
كأن بغاة الجود والمجد لم تفد ... عليه، ولم تهطل عليهم مواهبه
كأن بغاة الشعر لم تغش بابه ... بمستعليات تزدهيها مناقبه
كأن الأولى زانوا المنابر باسمه ... أحلوا بدين الله ما لا يناسبه
ثم أخذ يدافع عنه بحمية، وقد رأى الأعداء كثرًا، وكل يعدد مثالبه:
ألم يستطر يومًا لخطب مساور ... محافظة من أن تسوء عواقبه
ألا راحم هل من شفيع أما كفى ... أكل بني الدنيا عدو يغاضبه
أكل مآتيه ذنوب أكله ... عيوب؟ ألا من منصف إذا نحاسبه

(2/160)

ويحاول أن يبرئ عبد الحميد مما وصم به، ويلقي التبعة على أتباعه وأعوانه، وحاشيته فهم الذين غشوه، وزينوا له الباطل، وخوفوه الموت، وافتروا عليه الكذب، ولذلك هم أولى بالعقاب دونه.
أليس الأولى غشوه أجدر بالأذى ... وأولى الورى بالشر من هو جالبه
هم اكتفوه بالدسائس وافتروا ... من القول ما يصمى عن الرشد كاذبه
وهم خوفوه الموت حتى كأنما ... يلاقيه في الماء الذي هو شاربه
ولا ريب أن أحمد محرم كان يصدر في مثل هذا الشعر عن نظرة سامية لمنصب الخليفة وبعده رمزًا لآمال المسلمين، ولا يريد أن تسوء سيرته في أذهان الناس، فتنتقص الخلافة معه، وتتزلزل مكانتها في النفوس، وقد لام صديقه أحمد الكاشف لأنه نشر قصيدة تهجم فيها على تركيا بعد أن كان يمدحها ويمدح خلفاءها ويشيد بهمم جندها وبلائهم في الحروب ويصور هزائمهم انتصارات، وسيئاتهم حسنات، ويعيب عليه كيف يذم بني جنسه، وفيه دم تركي، وذلك حين يقول له:
عذلت بني عثمان والعذل يؤلم ... وملت عن المدح الذي كنت تنظم
يلي! إنها الأوطان هاجك أنها ... بأدي بني التاميز نهب مقسم
فجردت غضبًا ذا غرارين مخدمًا ... تسيل المنايا منه أو يقطر الدم
حنانك في القوم الألي أنت منهم ... ورأيك في الأهل الذين هُم هُم
ولمال اشتدت الحركة الوطنية بمصر على يد مصطفى كامل، وظهر من يدعو للقوية المصرية خالصة من دون الترك والإنجليز، نرى أحمد محرم يلبي الدعوة قويًّا صريحًا جريئًا شأن المؤمن الذي لا يرهب إلا الله، ولا يبالي أصابه الضر فيما يقول أم الخير، وقد قال في الرد على خطبة كرومر التي رمى فيها المصريين بالتعصب، وحمل على الإسلام حملة ظالمة قصيدة طويلة مطلعها:
رويدك أيها الجبار فينا ... فإن الرأي ألا تزدرينا
وطالما تغنى بحب مصر وأمجادها، بعد أن يئس من تركيا وتحطم المثل

(2/161)

الأعلى في نفسه وتقطعت الأسباب التي كانت تصله بها بعد إعلان الحماية على مصر، ثم زوال الخلافة نفسها.
فإن يسألوا ما حب مصر فإنه ... دمى وفؤادي والجوانح والصدر
أخاف وأرجو وهي جهد مخافتي ... ومرمى رجائي لا خفاء ولا نكر
هي القدر الجاري، هي السخط والرضا ... هي الدين والدنيا، هي الناس والدهر
بذلك آمنًا، فيا من يلومنا ... لنا في الهوى إيماننا ولك الكفر
ويقول في قصيدة أخرى:
وهبت الصبا والشيب والشوق والهوى ... لمصر وإن لم أقض حق الهوى مصرًا
وقد وقف من الأحزاب المصرية موقف الناصح الأمين، لا يميل به الهوى إلى حزب دون آخر، يمحضهم النصح، ويستحثهم على الوحدة، والتمسك بالأهداف العليا للقومية المصرية، استمع إليه بنصح الوفد المصري حين ذهب لأوربا برئاسة سعد زغلول للدفاع عن القضية المصرية، والمطالبة بحقوقها:
وفد الكنانة هل حملت رجاءها ... أم قد حملت أمانة الأزمان؟
الدهر عين والمماليك السن ... النيل قلب دائم الخفقان
قل للألى وزنوا الشعوب: تذكروا ... في مصر شعبًا راجح الميزان
وإذا رماك أولو الخصومة فارمهم ... بالحجة الكبرى وبالبرهان
وإن كان هواه مع الحزب الوطني، حتى لقد أتهم بأنه من حساد "سعد"، مع أنه كان وطنيًّا مخلصًا لا يرتضى أنصاف الحلول، ولا يقنع إلا بالاستقلال الكامل، وقد قال يرد على هؤلاء الذين اتهموه بمناوأة "سعد"، يبين لهم رأيه في الاستقلال المزعوم، وأنه كان يرجو أن يكون سعد فوق السحاب، تنال البلاد خيرها واستقلالها التام على يديه، لا ذلك الاستقلال الذي سماه الاستقلال الذائب.
دعاة الخير والإصلاح مرحى ... رضيناكم وإن كنتم غصابا
رضيناكم على أن تنصفونا ... وألا تظلموا الشعب المصابا

(2/162)

أفي الإنصاف ألا توردوه ... على طول الصدى إلا سرابا
زعمتم أننا حساد سعد ... وقلتم قول من جهل الصوابا
ولو ركب الجواد بمصر سعد ... لقلنا ليته ركب السحابا
كفى يا قوم بهتانا وزورًا ... فقولوا الحق واجتنبوا السبابا
لأنتم خير من يرجى لمصر ... ولكنا نرى العجب العجابا
وفي استقلالكم بعض المزايا ... ولكنا لمسناه فذابا
لم يكن محرم في الواقع حزبيًّا، ولكنه كان شديد الحمية في التعصب لوطنه، استمع إليه حين الخلاف بين أعضاء الوفد المصري، وشاعت الفرقة يقول مشفقًا على وطنه من هذا النزاع:
إذا اختلفوا أو اتفقوا فإنا ... سوى استقلال مصر لا نريد
إذا لم يحفظ استقلال مصر ... فلا سعد يطاع ولا سعيد
رجاء الشعب -لا الأحزاب تجدي ... إذا ضاع الغداة ولا الوفود
نطيع العاملين ونفتديهم ... وننصرهم إذا اشتد الوعيد
إذا اعتصموا فنحن لهم حصون ... وإن زحفوا فنحن لهم جنود
بأظهرنا وأيدينا جميعًا ... تحصن مصطفى ورمى فريد
لقد كان حب مصر يملك عليه شغاف قلبه، حتى ليعز عليه أن يفرط في أي حق من حقوقها، وهو الذي قال فيها:
وهبت الصبار الشيب والهوى ... لمصر وإن لم أقض حق الهوى مصرا
بلاد حبتني أرضها وسماؤها ... حياتي وأجرى نيلها في دمي الدرا
أجل! كان محرم وطنيًّا شديد الغيرة على وطنه، متعصبًا في الحق.
ليسا لتعصب للرجال معرة ... إن الكريم لقومه يتعصب

(2/163)

لقد غضب حين رضى قومه بالاستقلال الزائف، وتوج الجهاد الطويل بالخداع والمداهنة، ولذلك كان جريئًا في لومه وتعنيفه لساسة مصر حينذاك ولقد تميز محرم دائمًا بالجرأة، ولما رأى من عباس انحرافًا عن الجادة، ومهادنة للإنجليز، واستنزافًا لمال الشعب، وانصرافًا عن الإصلاح لم يتردد في أن يقول فيه ما كان يعد في ذلك الوقت جريمة، ويعرض صاحبه للعقاب الصارم:
أضر الناس ذو تاج تولى ... فما نفع البلاد ولا أفادا
وكان على الرعية شر راعٍ ... وأشأم مالك في الدهر سادا
وتدعوه الرعية وهو لاهٍ ... فتصدع دون مسمعه الجمادا
حياة توسع الأخيرا عارًا ... وذكر يملأ الدنيا سوادا
فإيه يا عزيز النيل إيه ... أما ترضى لملكك أن يشادا
وللشعب المصفّد أن تراه ... وقد نزع الأداهم والصفادا
وقد قال بيته المشهور يعرض بعباس وقد سمن على دماء الشعب، بينما صار الشعب هزيلًا.
رأيت الشعب والأمثال جم ... على ما كان مالكه يكون
وأعجبت ما أرى شعب نحيف ... يسوس قطيعة راع بدين
فإذا كان هذا مبلغ جرأته في تلك الآونة، على من يتمسح كل الشعراء بأعتابه، ويزيجون إليه المدح الكاذب! فيحجم محرم عن نقد سعد وغير سعد إذا ظن أنهم فرطوا في حق بلادهم. ولقد شرح لنا مذهبه وعلل غضبته كلما مس مصر ضر أو حاق بها شر في قوله:
يا نيل والموفون فيك قلائل ... ليت الذعاف لمن يخونك مشرب
أيخون عهدك غادر فيضمنه ... ما بين جانحتيك واد مخصب
قتل الوفاء، فما غضبت وإنما ... يحمى الحقيقة من يغار ويغضب
ولذلك كان متتبعًا في حرص بالغ شئون السياسة المصرية، وخطوات ساستها ولم يدع مقامًا إلا أدلى فيه برأيه، صادعًا بكلمة الحق، محذرًا، وناصحًا ومشجعًا ومقرعًا على حسب الموقف الذي يقفه الزعماء والمصلحون.

(2/164)

ولما عاد بعض أعضاء الوفد على الأمة مشروع "ملنر" خشي محرم أن يكون المشروع خدعة إنجليزية لا تحقق استقلال مصر، وصاح صيحة قوية يحذر فيها المصريين من نفاق الإنجليز، فطالما وعدوا الوعود ومنوا الأماني، ولم يتحقق لهم وعد، أو ينجزوا أمنية، كما يحذر المصريين من الفرقة، فطريق الحق واضحة:
يا أيها القوم ماذا في حقائبكم ... إني أرى الشعب قد أودى به القلق
جئتم إلينا فباتت مصر راجفة ... مما حملتم وكاد النيل يحترق
لقد أقاموا طويلًا بين أظهرنا ... فما وثقنا بهم يومًا ولا وثقوا
لا يعبث اليوم باستقلالكم أحد ... ولا يغركم التضليل والملق
استعبد المال قومًا لو يقال لهم ... خوضوا إليه عذاب الله لانطلقوا
برئت من كل ذي نفسين. واحدة ... تأبى القضاء وأخرى همها الورق
ما كنت أحسب أن يقضي القضاء لا ... يومًا فتختلف الأهواء والطرق
ويجزع ... ويشتد جزعه حين تتصدع وحدة الأمة، ويجد العدو ثغره واسعة في صفوفها ينفذ منها إلى مآربه، ويكثر التهاتر واللجاج فيما بينها، وتنصرف عن غايتها السامية.
ألست ترى بنيها في شقاق ... فما يرجون ما عاشوا اتحادا
ويقول:
شرعوا العدواة بينهم لم يوصهم ... دين المسيح بها ولا الإسلام
عوت الثعالب أمس حول عرينهم ... واليوم يزأر حوله الضرغام
ويسدي لهم النصيحة الخالصة في أن يتحدوا، ويرأبوا الصدع. ويجمعوا الصفوف.
يا قوم ماذا يفيد الخلف فاتفقوا ... وقوموا أمركم بالحزم يستقم
صونوا العهود وكونوا أمة عرفت ... معنى الحياة فلم تعسف ولم تهم
يا قوم لا تغفلوا إن العدو له ... عين تراقب منكم زلة القدم

(2/165)

ولعمري إن هذه النفس التي تحترق وطنية وألما لما نكبت به مصر في بنيها كانت جديرة بأن تتبوأ مكانتها اللائقة بها في عالم الأدب، ولقد حظي حافظ بالشهرة في عالم الوطنيات، مع أنه من عرفت، ولم يقف لحرّ الوطنية، وما يلاقيه الوطنيون في سبيل مبادئهم إلا أمدًا يسيرًا، وهو في شعره الوطني لا يشعرك بتلك الحرارة التي يبعثها في نفسك شعر أحمد محرم. ولكن عيب أحمد محرم، وعيب الكاشف معه أنهما آثرا العزلة بالريف حين فسدت الحياة في القاهرة، واختلف الناس فيما بينهم على المبادئ السامية، وكان في محرم زهد وعفة، وإيمان قوي، فلم يتملق رئيسًا، أو يعرف في الحق لينًا أو مواربة وكان حافظ رجل دنيا كثير الاختلاط بالناس. فالتمس له أصدقاؤه المعاذير حين قصر، وأغدقوا عليه عاطر الثناء حين وفق.
أما أحمد محرم فقد بقي حتى اليوم محرومًا القلم القوي الذي يعرض دوره بين الناس، ويعرف به قومه، وهو الذي أثر الفقر، والوحدة، والحرمان في سبيل مبدئه، وكان شاعرًا صاحب رسالة، وكان من أقوى الشعراء ديباجة وأنصعهم بيانًا، كان عيب أحمد محرم أنه يمثل الفريق الجاد من الأمة، والذي يشعر بآلامها المبرحة وأدوائها المستعصية، وكان صاحب مثل أعلى في أمة هازلة تطرب للعبث، ويفتنها زبرج الحضارة الغربية ليفتننا عن أهدافنا القويمة. كان شاعر مصر سياسيًّا واجتماعيًّا؛ وكان شاعر العروبة والإسلام، متعدد النواحي الأدبية؛ ومع ذلك كل عاثر الجد في حياته؛ لأنه لم يتملق العظماء فيمدحهم بالباطل، ويرثيهم إذا ماتوا، بل كان شاعرًا صادق الشعور في كل ما ينطق به، لا نظامًا يقول في المناسبات، فلم يجد من يدفعه إلى عالم الصدارة كما وجد سواه من الشعراء، ولنا إليه عودة إن شاء الله.
أما صديقه أحمد الكاشف فقد وقف نفسه على الشعر السياسي، وكان دون محرم اتساع أغراضه، إذ وقف على لون واحد من الشعر. ويمدح الترك حين كان مدحهم دينًا أو سياسية، ويشن الغارة الشعواء على الإنجليز على عهد كرومر، وغورست، وكتشنر ويمدح عباسًا وحسينًا، ويؤيد الثورة بكل قوة حين

(2/166)

اضطرمت في أرجاء البلاد، فإذا ما تصدعت صفوف الأمة، وصارت أحزابًا وشيعًا لا يعتزل الأحزاب كما اعتزلها محرم، ويسدي لها قول الناصح الأمين، وإنما ينحاز لفريق الأحرار الدستوريين فيمدح محمد محمود باشا، ويخصه بكثير من الثناء في مختلف المناسبات، ويمدح إسماعيل صدقي، وعلي ماهر وغيرهم، ولذلك سبب خاص يدركه من عرف البيئة التي عاش فيها الكاشف، فقد كانت أسرة الخطيب بالقرشية "بلد الكاشف" ذات جاه ونفوذ وثروة، وكان شوقي الخطيب في أول أمره نائبًا وفديًا ولم يكن الشاعر في صفاء مع هذه الأسرة كما لم يكن في صفاء مع أسرة المنشاوي من قبل، فانحاز إلى خصومهم السياسيين علهم ينصرونه إذا حزبه الضر، أو اشتدت وطأة خصومه عليه:
ولكن حسب الكاشف قوله في وداع كرومر:
ولبثت تبدو في زخارف مخلص ... للقوم تخفي ما اعتزمت وتحجب
غافلتهم حينًا فلم يتلفتوا ... إلا ونابك فيهم والمخلب
هل أنت فينا فاتح أو وارث ... أو قيهم أعلى وجار أقرب؟
أتطيل بينهم مقامك جاهدًا ... وتقول لم يتعلموا ويهذبوا
وختمت عهدك بالذي اهتزت له ... أركان مكة واستغاثت يثرب
ويشير في البيت الأخير إلى حادثة دنشواي، واسمعه يقول لكتشنر:
لسنا قطيعًا غاب راعيه كما ... كنا ولست الضيغم الفتاكا
فأقم بمصر مقام ضيف محسن ... وعليهم أن يكرموا مثواكا
وأذكر لوادي النيل نعمته عسى ... تعطي بنيه بعض ما أعطاكا
ولقد كان للنهضة القومية كما رأيت أثر بارز في الشعر الحديث، وكانت النهضة السياسية ويقظة الأمة من العوامل الفعالة في هذا الشعر، ولقد وجد لون جديد من الشعر السياسي في هذه الحقبة، وهو الأناشيد القومية، التي يتغنى بها الناس جماعات؛ وأول من نظمها في الأدب الحديث هو رفاعة الطهطاوي كما عرفت في الجزء الأول(103)، بيد أن شعراء القرن التاسع عشر الذين أتوا بعد رفاعة
(2/167)

الطهطاوي، لم يعنوا بهذا النوع من الشعر، وإذا لم تكن الأمور السياسية بمصر على ما يرام، وتوالت عليها النكبات بعضها في أثر بعض، وانتهت بالاحتلال المشئوم، ثم بوضع الحماية على مصر، فلما كانت الثورة القومية، في سنة 1919 تبارى الشعراء في وضع الأناشيد القومية، وقد نجح بعضها، ولم ينجح كثير منها؛ لأنه يشرط في النشيد القومي: قوة العبارة وسهولتها، وألا يكون وعظًا بل حماسة ونخوة، وأن يكون موضوعًا على لسان الشعب، وموافقًا لكل زمان(104). ولكل أمة من أمم الغرب نشيد وطني تزهو به، ويتغنى به الشعب في حفلاته العامة وينشده الطلبة في المدارس، والجنود في الميدان، فهو يعبر عن أمال أمة، ويبث في نفس كل فرد منها الحمية والحماسة، ويدفعه إلى العمل؛ إنه صورة مركزة للمثل العليا التي تنشدها أمة من الأمم، ولقد كان لنشيد "المارسلييز" أثر عظيم في الثورة الفرنسية، وقد ترجمه رفاعة بك إلى العربية شعرًا ولكن النشيد الذي يصلح لأمة لا يصلح لسواها، وقديمًا كان الفارس العربي يرتجز البيتين والثلاثة قبل المعركة ليثير في نفسه الحماسة، ويوهن من قوى خصمه المعنوية ولكنه كان نشيدًا فرديًّا ينشئه صاحبه لساعته.
وقلما تجد شاعرًا من شعراء العصر الحديث ليس له نشيد قومي، فهذا شوقي يشترك في مسابقة للأناشيد، تختار اللجنة نشيده ولكن هذا النشيد يموت؛ لأن العبرة ليست باختيار اللجنة أو اختيار الحكومة، وإنما بقوة النشيد، وسيطرته على نفوس الناس، وبقائه على الزمن ولو لم يعترف به رسميًّا، وقد تعرض نشيد شوقي لانتقاد كثير وفيه يقول:
بنى مصر مكانكم تهيا ... فهيا مهدوا للملك هيا
خذوا شمس النهار له حليّا ... ألم تك تاج أولكم مليا
على الأخلاق خطوا الملك وابنوا ... فليس وراءها للعز ركن
أليس لكم بوادي النيل عدن ... وكوثرها الذي يجري شهيا
(2/168)

وقد أوسع الأستاذ العقاد هذا النشيد تجريحًا وطعنًا وهو على حق في بعض ما قال وإن لم يسلم نقده في مجموعه من التحامل، ولكن النشيد ليس به القوة التي تكفل له الخلود وقد وضع محمد عبد المطلب أكثر من نشيد فمن تلك قوله:
مصر اسلمي مصر لك السلام ... والملك والدولة والدوام
مصر لك التاريخ والأيام ... والنيل والفسطاط والأهرام
أيام لا ملك ولا نظام ... أنت عروس الأرض والبلاد
ولأحمد محرم نشيد بعنوان مصر الحرة قال في أوله:
مصر انهضي فالدهر ساق وقدم ... شقي السحاب وارفعي النجم علم
تحكمي يا مصر في كل الأمم ... تحكمي فهي عبيد وخدم
ويقول في آخره معلنًا وفاءه لزعماء الحزب الوطني:
نحن الوفاة والكريم من وفى ... نصون ما صان "الرئيس مصطفى
ونقتفي إثر فريد وكفى ... هما إماما الشعب والنيل الحرم
وممن اشتهر بوضع الأناشيد المرحوم مصطفى صادق الرافعي، وقد تغلب نشيده القومي على كل نشيد سواهن ولحن تلحينًا قويًّا، وحفظه الصغار والكبار ثم توجه به سعد باشا زغلول زعيم الحركة الوطنية، وصار هذا النشيد نشيدًا وطنيًّا لمصر، وأرى أنه يمثل ما يشترط في النشيد القومي تمام التمثيل، ولذلك أثبته هنا نموذجًا لهذا اللون من الشعر.
اسملي يا مصر إنني الفدا ... ذي يدي إن مدت الدنيا يدًا
أبدًا لن تستكيني أبدًا ... إنني أرجو مع اليوم غدا
ومعي قلبي وعزمي للجهاد ... ولقلبي أنت بعد الدين دين
لك يا مصر السلامة ... وسلاما يا بلادي
إن رمى الدهر سهامه ... اتقيها بفؤادي
واسلمي في كل حين

(2/169)

أنا مصري بناني من بنى ... هرم الدهر الذي أعيا الفنا
وقفة الأهرام فيما بيننا ... لصروف الدهر وقفتي أنا
في دفاعي وجهادي للبلاد ... لا أميل لا أمل لا ألين
لك يا مصر السلامة
ويك يا من رام تقيد الفلك ... أي نجم في السما يخضع لك
وطن الحر سما لا تمتلك ... والفتى الحر بأفقه ملك
لا عدا يا أرض مصر بك عاد ... إننا دون حماك أجمعين
لك يا مصر السلامة
للعلا أبناء مصر للعلا ... وبمصر شرفوا المستقبلا
وفدى لمصرنا الدنيا فلا ... تضعوا الأوطان إلا أولًا
جانبي الأيسر قلبه الفؤاد ... وبلادي هي لي قلبي اليمين
لك يا مصر السلامة
ومما يتصل بالشعر السياسي، ولا يقل عنه أثرًا في الوطنية المصرية، وإذكائه الحمية قلوب الناشئين، وصف الطبيعة المصرية، وتجلية محاسنها والتغني بها؛ لأنه يجعل المصريين يقدّرون وطنهم ويعشقونه، ويزدادون به تمسكًا وفيه فناء. وقد فطن لهذا الشعراء العرب في جاهليتهم وقلما خلت قصيدة كبيرة من وصف الطبيعة العربية برمالها، وعيونها، وسمائها وخمائلها، ووحشها، وما تثيره في نفس الشاعر من ذكريات، ولا يدعون صغيرة ولا كبيرة إلا التقطتها عيونهم اليقظة، وأذواقهم المرهقة، وأدارتها عقولهم الواعية، وأخرجتها وجداناتهم الحية شعرًا صادقًا في الوصف، حتى حيات الصحراء وذبابها كان لها نصيب في شعرهم، وخلعوا عليها بعض المحاسن، وظل شعراء العرب بعد أن هجروا صحراءهم مفتونين بجمال تلك الصحراء؛ لأن الشعر الجاهلي وهو المنبع الذي استقوا منه، والمدرسة التي تخرجوا فيها، كان من القوة والصدق في وصف تلك الديار، وإبراز ما فيها من جمال بحيث لم يجد الشعراء في العصور الإسلامية بدًّا من أن يذكروا نجدًا وغير نجد من الأماكن التي فتن بها شعراء العصر الجاهلي.

(2/170)

وقد فطن لهذا النوع من الوصف شعراء الغرب، وأدباؤهم، وقلما نجد شاعرًا غريبًا كبيرًا له في مناظر بلاده، وفي غيرها من مواطن الجمال في أوربا أكثر من قصيدة، وهذا النوع من الشعر فضلًا أنه من صميم الشعر القومي السياسي، فهو عمل فني خالص، ينطلق فيه الشاعر على سجيته، ولا يحفزه إليه إلا إشباع رغبته الفنية، وإحساسه بالجمال.
والطبيعة المصرية ليست مملة كما يزعم بعض الناس الذين يدافعون عن أوربا، ونزوحهم إليها كل عام، ففيها مفاتن ساحرة، وفي ريفهان ونيلها، وجداولها، وصحرائها، وشطآن بحارها، وآثارها التي تعد لقدمها جزءًا من هذه الطبيعة. ثم في شمسها الضاحية، وهوائها الرقراق، وأمسياتها، وتألق النجوم في سمائها، وبلابلها وأطيارها.
وقد فتن هذا الجمال شعراء مصر في القديم، وإن لم يفيضوا فيه فيقول محمد بن عاصم الموفقي قصيدته التي مطلعها:
اشرب على الجيزة والمقس ... من قهوة صفراء كالورس
ويقول البهاء زهير:
علاحس النواعير ... وأصوات الشحارير
ويقول علي بن موسى بن سعيد:
انظر إلى سور الجزيرة في الدجى ... والبدر يلثم منه ثغرًا أشنبا
تتضاحك الأنوار في جنباته ... فتريك فوق النيل أمرًا معجبًا
بيننا مفضضًا في جانب ... أبصرت منه في سواه مذهبًا
وكان الظن أن يلفت هذا الجمال البديع أنظار الشعراء في العصر الحديث، كما استرعى انتباه الشعراء في العصر القديم، ولكننا نعلم أنه قد انفضت فترة طويلة من الزمن ركد فيها الشعر العربي بعامة، ولم يبق منه إلا دماء يسير، وهذا الباقي في عصر الممالك وأوائل النهضة كان شعرًا تقليديًّا تغلب عليه الصنعة، والمحسنات اللفظية والمعنوية، وكان يقال في الأغراض التقليدية القديمة من مدح،

(2/171)

ورثاء، وفخر، وما شاكل ذلك، وقلما انطلق فيه الشاعر، وتحرر من تلك القيود، وأفصح عن خلجات شعورهن وحر وجدانه، وإحساسه بالجمال؛ وإذا فعل فإنه لم يكن يملك الأداة المعبرة؛ لفقره في اللغة، وعدم مطاوعتها له؛ لأنه كان في عصر عمت في الجهالة، وغلبت العجمة على الشعراء والأدباء.
ولا شك أن في وصف الطبيعة المصرية والتغني بها ما يدل على إحساس شديد بمحبة الوطن، والتعليق به، والإعجاب بكل ما فيه، والإعجاب أول مراحل المحبة، وبدهي أن الشعراء في العصور المتأخرة لم يكن عندهم هذا الشعور الوطني، أو الإحساس القومي، فلم يلتفتوا إلى الطبيعة وما فيها من جمال وفتنة، وظل الأمر على هذا النوال حتى أتى البارودي، فأحيا الشعر العربي بعد مواته، وابتدأ في أول أمره محاكيًا ومقلدًا حتى تملك زمام اللغة، وناصية البيان، ومن هذا النوع التقليدي قوله في وصف الربيع قصيدته التي مطلعها:
رمت بخيوط النور كهربة الفجر ... ونمت بأسرار الندى شفة الزهر
ولا تحس وأنت تقرأ هذه القصيدة بأنه يصف جوًّا مصريًّا، ولا طبيعة مصرية، ولكنه مال بث أن التفت للريف المصري، فوضحت شخصيته، وظهرت الألوان المحلية، وأبدع إبداعًا عظيمًا في هذا الضرب من الوصف، فأحب الريف محبة ملكت عليه شغاف قلبه الحساس؛ فتراه يصف الصباح المشرق الندي، ويصف السحب، ويصف الناعورة، والقطن، والطيور المزقزقة في مثل قصيدته:
رف الندى وتنفس النوار ... وتكلمت بلغاتها الأطيار
أو أرجوزته:
عم الحيا واستنت الجداول ... وفاضت الغدران والمناهل
وقد وفينا البارودي حقه من الدرس في الجزء الأول من كتابنا، فلا داعي للتكرار، ولكننا نقول إنه أول من فطن في العصر الحديث لجمال مصر، وتغنى به في شعره؛ وإذا نظرنا إلى الشعراء بعده نجدهم يتفاوتون في هذا الباب، فإسماعيل صبري على الرغم من رقة حسه، ودقة ذوقه، وإرهاف شعوره؛

(2/172)

ومحبته للجمال، لا نكاد نجد له في الطبيعة المصرية إلا قطعة واحدة من ثلاثة أبيات مسروقة من "ابن خروف" النحوي ونسبها إلى نفسه.
ما أعجب النيل ما أبهى شمائله ... في ضفتيه من الأشجار أدواح
من جنة الخلد فياض على ترع ... تهب فيها هبوب الريح أرواح
ليست زيادته ماء كما زعموا ... وإنما هي أرزاق وأرواح
ونفتش في ديوان ولي الدين يكن فلا نكاد نعثر على شيء من الوصف، ولا على وصف الطبيعة المصرية، كأنها ليست موجودة ألبتة، وقد علمت فيما سبق أنه كان غريبًا بشعوره عن مصر، وكان في شغل بسياسياته عن التملي في محاسن الطبيعة وفتنتها.
أما عبد المطلب فكان لفرط إعجابه بالعرب القدماء لا يزال يتغنى بالجزع، واللوى والرقمتين، ولعلع.
وحيّ بالجزع ركبًا زان منظره ... نور الربيع وصوب المزن ينسكب(105)
وساجل الورق في تلك الربى وأعد ... ذكر اللوى فلقلبي باللوى طرب
ويخيل إليك بعد أن تستقرئ شعره أنه لم ينشأ في صعيد مصر، ولم يتلق العلم في القاهرة ويرَ مناظر الجزيرة الخلابة، ويشاهد النيل وبعثه للحياة في كل جزء من أرض مصر، ومن تقله أرضها.
ومن العجب أن حافظ إبراهيم الذي لقب بشاعر النيل، لم يهتم بالطبيعة المصرية، ويصفها، وتقرأ ديوانه وتفتش فيه علك تعثر على أبيات ولو في ثنايا قصيدة فلا تجد شيئًا من هذا اللهم إلا أبياتًا جاءت عرضًا عند كلامه على نادي الألعاب الرياضية بالجزيرة، حين أقامة حفلة بدار "الأوبرا" سنة 1916، والتي يقول في أولها(106).
بنادي الجزيرة قف ساعة ... وشاهد بربك ما قد حوى
ترى جنة من جنان الربيع ... تبدت مع الخلد في مستوى
جمال الطبيعة في أفقها ... تجلى على عرشه واستوى
(2/173)

وفيها يعتب على المصريين أنهم زاهدون في جمال بلادهم، صادفون عنه، ويؤثرون الجلوس على المقاهي على التمتع بالرياض:
فما بال قومي لا يأخذون ... لتلك الجنان طريقًا سُوا
وما بال قومي لا ينزلون ... بغير جروبي وباراللوا
تراهم على نردهم عكفًا ... يبادر كل إلى ما غوى
وإلا ما جاء في ثنايا قصيدة بعث بها إلى صديق له في إنجلترا سنة 1908 وفيها يقول:
والنيل مرآة تنفس ... في صحيفتها النسيم
سلب السماء نجومها ... فهوت بلجته تعوم
نشرت عليه غلاله ... بيضاء حاكتها تعوم
شفت لأعيننا سوى ... ما شبه منها الأديم
وقد كان أجدى على حافظ، وهو يملك بيانًا خلابًا متمكنًا من فصيح اللغة أن يعكف على الطبيعة المصرية يخلد آثارها، ويستقرئ جمالها، ولا سيما بعد أن كمم المنصب فاه، فلم يعد يطرق أبواب الشعر السياسي منذ أن عين بدار الكتب، ولو أن حافظًا اتجه هذه الوجهة لكان أثره في الأدب عظيمًا، ولكن أنى لحافظ أن يتجه إلى الطبيعة يتمنى مفاتنها وهو المشغول بالناس ومنادمتهم، ولعل الدكتور طه حسين وهو من المعجبين به قد وقف على سره إزاء الطبيعة وأنه لم يكن مهيأ لمناجاتها والتحدث إليها وإظهار جمالها حين قال:
"
ولم يكن حافظ عظيم الثقافة ولا عميقها، فلم يكن من الممكن ولا من اليسير أن يتجه إلى تلك الفنون الشعرية الخالصة، التي تصل بين الشاعر وبين الطبيعة، والتي ليس للسياسة ولا للنظام عليها سلطان، ولم تكن في السماء ولا الرياض في الأرض ولا النيل ولا الصحراء تلهم حافظًا؛ لأن حافظًا لم يكن شاعر الطبيعة وإنما كان شاعر الناس(107).
(2/174)

ومن الشعراء المقلين الذين عنوا بالطبيعة المصرية وجمالها السيد توفيق البكري وله قصيدة ممتعة عنوانها "مصر"، وفيها يقول:
والنيل في لباتها ... عقد يلوح مجوهر
والجو صحو مشرق ... وكأنما هو ممطر
والظل من خلل الشموس ... مدرهم ومدثر
وغصونها لدن تمد ... بما تقل وتثمر
فكأنهن ولائد في ... حليها تتكسر
يا جنة يجنى الجنى ... فيها ويجرى الكوثر
أنا شاعر في وصفها ... لكنها هي أشعر
ويصف الجيزة، والأصيل، والمتحف، والأزهر والهرمين، وأخلاق المصريين وكرم ضيافتهم؛ وهي تنبئ عن لفتات شعرية سامية لم تتح لكثيرين. كما أن له في وصف الريف قطعًا نثرية هي إلى الشعر أقرب منها إلى النثر مثل: "العزلة"، وهو في مدحه لعباس لا ينسى مصر والتغني بجمالها، ولكنه كما ذكرنا مقل وسنعود إليه بدراسة تفصيلية في آخر هذا الجزء إن شاء الله.
ولعل شوقي قد قضى حق مصر، وحق الطبيعة المصرية، ووفى ما على الشعراء من دين أثقل كاهلهم بعد البارودي، فقد أفاض شوقي حقًّا في وصفها وتجلت شاعريته الفذة وموهبته الخالقة المقتدرة، وإحساسه المرهف، وقد ألهبت الغربة وحرقتها، والنفي ولوعته مشاعره، فاشتاق للوطن ونفث نفثات حارة من قلب مليء بالشوق والمحبة من ذلك قصيدته الأندلسية:
اختلاف النهار والليل ينسي ... اذكر إلى الصبا وأيام أنسي
والتي يقول فيها بيته الخالد:
وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
شهد الله لم يغب عن جفوني ... شخصه ساعة ولم يخل حسي
ويصف الجزيرة وصفًا يجعل الحياة تدب فيها، ويشخصها كأنها بشر.

(2/175)

هي بلقيس في الخمائل صرح ... من عباب وصاحب غير نكس
حسبها أن تكون للنيل عرسًا ... قلبها لم يجن يومًا بعرس
ليست بالأصيل حلة وشى ... بين صنعاء في الثياب وقس(108)
قدها النيل فاستحت فتوارت ... منه بالجسر بين عرى ولبس
ومن ذلك قصيدته:
أذار أقبل قم بنا يا صاح ... حى الربيع حديقة الأرواح
وقصيدة في النيل:
من أي عهد في القرى تتدفق ... وبأي كف في المدائن تغدق
وله في ثنايا قصائده عشرات المقطوعات في وصف مصر وجمالها كقوله من قصيدته التي مطلعها:
يا نائح الطلح............ البيت.
لكنَّ مصر وإن أغضت على مِقَةٍ ... عين من الخلد بالكافور تسقينا(109)
على جوانبها رفت تمائمنا ... وحول حافاتها قامت رواقينا
ومن روائعه قصيدته في وصف "أنس الوجود" التي يقول فيها:
أيها المنتحي بأسون دارًا ... كالثرايا تريد أن تنقضا
أخلع النعل واخفض الطرف واخشع ... لا تحاول من آية الدهر غضا
قف بتلك القصور في اليم غرقى ... ممسكًا بعضها من الذعر بعضا
وهو الذي يقول:
فمصر الرياض وسودانها ... عيون الرياض وخلجانها
وما هو ماء ولكنه ... وريد الحياة وشريانها
ويبدع حتى في وصف الصحراء ورمالها:
(2/176)

كأن الرمال على جانبيك ... وبين يديك ذنوب البشر
ولا عجب فشوقي كما ذكرنا آنفًا كان ذا شاعرية فذة، وحساسية مرهفة، وكان مولعًا بالجمال يهتز له أينما وجده، كما كان مولعًا بالعظمة، وقد رأى مصر تتميز بالجمال كما تتميز بالعظمة، فأعجب بها، والإعجاب أول مراتب الحب، بل أحبها حبًّا عميقًا.
أحبك مصر من أعماق قلبي ... وحبك في صميم القلب نام
سيجمعني بك التاريخ يومًا ... إذا ظهر الكرام على اللئام
لأجلك رحت بالدنيا شقيًّا ... أصد الوجه والدنيا أمامي
وهبتك غير هياب يراعا ... أشد على العدو من الحسام
ولم يقف شوقي من الطبيعة المصرية عند حد تصويرها وإسابغ من الحسام وإبرازها صورًا رائعة تفتن اللب والنظر والسمع، كما فعل البارودي، ولكن اندمج فيها وشخصها وبعثها حية، فأربى بذلك على من تقدمه وأعجز من أتى بعده.
ومن الشعراء الذين أبدعوا في وصف الريف المصري، والطبيعة المصرية بعامة أحمد محرم، ومن ذلك قوله في وصف القرية وجمالها من قصيدة طويلة مطلعها:
قم للصلاة على هدى وصلاح ... واسجد لربك فالق الإصباح
دنيا بدائع حسنها مجلوة ... في منظر بهج وجوّ صاح
هذا الجمال الأخضر انتظم القرى ... وأظلها من جاهه بجناح
كجناح جبريل يظل مرفرفًا ... في جوه المتقاذف الفياح
تلك الحياة لمن يريد لنفسه ... ما تشتهي من متعة ومراح
أما خليل مطران فله بعض قطع في وصف الطبيعة المصرية، ولكننا نشعر ونحن نقرأ شعر مطران في الطبيعة أن هواه كان في بلاد الشام مسقط رأسه، ومدرج طفولته، وأنه فتن بها الفتنة الكاملة، فلم تدع له نظرًا يرى به جمال أرض سواها، ولا قلبًا ويُتَيّم ويهيم بغيرها، وقد خلدها في شعره بأكثر من قصيدة،

(2/177)

وحن إليها تحنانًا شديدًا، وتحس ذلك تشعر به في قوله حين ذهب إليها أول مرة بعد أن تركها وأقام بمصر.
يا وطنًا نفديه بالدماء ... والأنفس الصادقة الولاء
ما أسعد الظافر باللقاء ... والقرب بعد الهجر والجلاء
إن أك باكيا من السراء ... فإن طول الشوق في التنائي
وله في بعلبك وذكريات الطفولة قصيدة طويلة(110) أضفى على أطلالها من روعة فنه، وصادق حسه، وفيض عاطفته ما يعشرك بشديد حنينه إليها، ومحبته لها، كما فعل شوقي في وصف الطبيعة المصرية: وهنا لا بد لنا من القول بأن العبرة ليست بوصف الطبيعة، ولكن بالعاطفة التي يلون بها شعره، فإذا وازنا بين شوقي ومطران في وصفيهما للطبيعة المصرية تجلت لنا محبة شوقي لمصر، وإبراز جمالها للأجيال من بعده في صورة بالغة الإبداع، رائعة الرواء، بينما تجاهل مطران هذه الطبيعة. أو نظر إليها نظرة سخط وغضب، أو إذا ألحت عليه بجمالها وهو الشاعر الفنان، واضطر إلى وصفها جاء شعره فاترًا، وخلوًّا من تلك المحبة والنظرة المعجبة، وعلى العكس من ذلك حين يتكلم عن لبنان أو سوريا، فهو بكثر التحنان إليهما ويقول في نهر "زحلة" قصيدة طويلة:
واهًا لذاك النهر خلّف لي ... عطشًا مذيبًا بعد مصدره
يا طالما أوردته أملي ... وسقيت وهمي من تصوره
تمتد أيام الفراق وبي ... ظمئي لذاك المنهل الشافي
وبمسمعي لهديره اللجب ... وبناظري لجماله الصافي
ويقول في لبنان:
يا منيت الأرز القديم ومربضًا ... يوم الحفاظ لكل ليث أصيبد
هذي إليك تحية من شيّق ... قد بان طوعًا عنك وهو كمُبعد
(2/178)

من هالك ظمأ وماؤك قربه ... مرت به حجج ولم يتورد
يا مسقطًا للرأس في جنباته ... من حر شوقي جمرة لم تخمد
وقد زار مطران بلاد سوريا، وجابها بلدًا بلدًا، ووصفها في شعره: وصف كل مدينة وكل دسكرة، ولمس تربها، وقبله، وطاف بأبنيتها، يتزود منها قبل أن يرحل عنها(111) ومن يكن في مثل حال مطران عسير عليه أن يجود في وصف الطبيعة المصرية أو آثارها القديمة الخالدة، بل لا يرى هذه الآثار رمز عظمة، ودليل فن، وقوة إرادة، وإنما هي مظهر ظلم وعسف وإرهاق وتسخير لشعب مسكين.
إني أرى عد الرجال ها هنا ... خلائقًا تكثر أن تعددا
صفر الوجوه باديًا جباههم ... كالكلأ اليابس يعلوه الندى
محنية ظهورهم خرس الخطا ... كالنمل دب مستكينًا مخلدًا
مجتمعين أبحرًا، متفرعين ... أنهرًا منحدرين صعدا
أكل هذى الأنفس الهلكى غدًا ... تبنى لفان جدثا مخلدًا؟
فنظرته هذه تختلف عن نظرة شوقي المحب الذي يرى السيئات حسنات، ويفرغ ذوب قلبه عاطفة جياشة حين يتكلم عن مصر وأرض مصر وطبيعتها وآثارها. ولقد وصف مطران الطبيعة المصرية، ولكنه نظر في أغلب حالاته نظرة قائمة مفزوعة، كئيبة تدل على تبرم، ونفور منها، وعلى أن روح التشاؤم تسيطر على شعره، واستمع إليه يصف صعيد مصر إبان الصيف وقد يكون الصعيد في الصيف غير محمود، ولكن المحب يراه جميلًا والنيل ينساب ملتويًا يمنه ويسرة يتدفق خيرًا وبركة ويبعث الحياة خضرة نضرة على العابرين، وتأوى المدن والقرى إلى حضنه كما يأوى الصغار إلى أمهم الرءوم ويقل على ظهره المراكب رائحة غادية كالأب الكادح يحمل متاعب بنيه، من غير سأم ولا ضجر وتنتصب الآثار الناطقة بالحضارة العتيقة التي انبعثت على ضفتيه، والدنيا بعد وسنانة في فجر التاريخ، هذا هو الصعيد حين ينظر المرء إليه نظرة المتفائل، البشوش القلب، المحب لما يراه، ولكن مطران يقول:
(2/179)

أوقد الصيف في الصعيد لظاه ... فأجف الحقول والأجاما
وغدا الناس بين جو كثيف ... مرتديًا من الغبار غماما
وفلاة كأنما الرمل فيها ... شرر مد لمعة واضطراما
وكأن المياه في النيل تجري ... بخطى أبطأت ونهر تعامى
شبه ذوب الرصاص في الكير يطغي ... فإذا ما طغى برفق ترامى
وعرا الأعين الكلال، فإني ... نظرت حمرة رأت وقتاما
وكأن النعاس في عصب الأرض ... تمشي فكل ما دب ناما
وكأن الدمى التي صنعتها ... أمة القبط متعبات قيامًا
وقصيدته في وصف المساء بالإسكندرية، وهو على سيف البحر العظيم، لا تقل في تشاؤمها عن هذه القطعة، مع أنه لا يماري أحد في جمال الإسكندرية في الصيف، ولا في منظر الشمس وهي تغيب في البحر، ولكنه يقول في الغروب:
أو ليس نزعًا للنهار وصرعة ... للشمس بين مآتم الأضواء؟
أو ليس طمسًا لليقين ومبعثًا ... للشك بين غلائل الظلماء؟
أو ليس محوًا للوجود إلى مدى ... وإبادة لمعالم الأشياء؟
فهو ينظر إلى الدنيا وما فيها بمنظار أسود يحيل الجميل دميمًا، والمناظر الأنيقة الفتانة رديئة كثيبة، وليس العيب عيب الطبيعة، ولكنه عيب من ينظر إليها. ومطران في أحسن حالاته حين يصف الطبيعة المصرية تراه مبهمًا، لا يعطي اللون الخاص الذي يميز مصر عن سواها، وكأنما ينظر إلى شيء آخر غير مصر حين يصف منظرًا وصفًا فيه شيء من الإنصاف؛ وإذا أعطاك اللون الخاص، اقتضب الكلام وكأنما يفر من شيء يؤذيه. مثال ذلك وصفه لليلة مقمرة على ضفة النيل في الجزية، وهو منظر شعري خلاب، وكان من حق مطران وهو الشاعر المتفنن أن يصوره تصويرًا بارعًا، ولكنه لا يزيد عن ثلاثة أبيات خالية من العاطفة:
وليلة بدر صفا جوها ... وباح بسر السكون الحفيف
وألقت بسمع ظلال الرياض ... لنجوى قلوب بهن تطيف

(2/180)

وصب على النيل شبه السيول ... مغير الدجى من سناه الضعيف
ويقول في مغرب شمس بريف مصر، ولا يعطيك اللون "المحلى" فتحسب أنه وصف لأي شمس في أي مكان:
وللشمى في المنتهى مغرب ... رأينا به آية من عجب
رأينا من الغيم طودًا رسا ... على أفقها وسمها واشرأب
بجسم ظلال وقمة تبر ... وسفح تعاريجه من لهب
كأن الأشعة أثناءه ... مغاور في منجم من ذهب
وهو كذلك في وصفه لشروق الشمس في مصر لا يعطيك خصائص مصر(112). ومطران لم يعجب بجمال مصر، ولا يرى فيها إلا أنها مضيافة، خصبة، هادئة؛ جوها صحو يساعد على نمو الزرع، وحرارتها تمرع النبات:
في مصر مصرخة الهيف ... وملجأ المتفزع
مصر السماء الصحو مصر ... الدفء مصر المشبع
مصر التي ما ريع ساكنها ... بريح زعزع
حيث المراعي والندى ... للمرتوي والمرتعي
حيث السواقي الحانيات ... على الطيور الرضع
حيث الحرارة ما توال ... ربيبها يترعرع
ولا عجب فقد وجد بمصر الأمن، والدعة، والجو الجميل، وحسن الضيافة، ليس بها أعاصير ولا زغازع، وزرعها نضير، وخيرها كثير فهو ينظر إليها نظرة مادية نفعية، وهو يشكرها بمقدار ما تسدي إليه من المنفعة.
مصر العزيزة إن جارت وإن عدلت ... مصر العزيزة إن نرحل وإن نقم
نحن الضيوف على رحب ومكرمة ... منها وإنا لحافظون للذمم
جئنا حماها وعشنا آمنين بها ... ممتعين كأن العيش في حلم
ومطران يعترف بالسبق لشوقي في وصف الطبيعة المصرية، وأن الحب العميق هو الذي أوحى إليه بهذا الإبداع، وأني لمطران أن يبدع إبداع شوقي وليس في فؤاده لمصر هذا الحب:
(2/181)

شوقي إخالك لم تقلها لاهيا ... بالنظم أو متباهيا بذكاء
حب الحمى أملى عليك ضروبها ... متأنقًا ما شاء في الإملاء
أعظم بآيات الهوى إذا يرتقي ... متجردًا كالجوهر الوضاء
فيطهر الوجدان من أدرانه ... ويزينه بسواطع الأضواء
وحسبي ما قدمت في هذا الموضوع، فإن المقام يضيق عن تتبع جميع الشعراء الذين ألهمتهم الطبيعة المصرية وتغنوا بمفاتنها وخلدوها في عشرهم.

(2/182)

 

__________

(1) تصريح جلادستون رئيس وزراء إنجلترا في البرلمان الإنجليزي سنة 1882، مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص 62، ومنشور الجنرال ولسلي قائد الجيوش البريطانية حين وصل إلى الإسكندرية سنة 1882- مذكرة أمين الرافعي عن المسألة المصرية 20 من نوفمبر سنة 1918. وثورة سنة 1919 لعبد الرحمن الرافعي ج1 ص80.

(2) تاريخ مصر مسياشي لمحمد رفعت ج1 ص92- 93.

(3) البول مول جازيت. راجع مصطفى كامل ص314.

(4) مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص 320.

(5) راجع في الأدب الحديث ج1 ص413- 415 ط سابعة.

(6) اللواء في يوم 26 من ديسمبر سنة 1906.

(7) راجع مقالًا للمؤلف عن الشيخ علي يوسف في مجلة الكتاب يونية سنة 1948 وفي دراسات أدبية للمؤلف ج1.

(8) المؤيد في 18 من أكتوبر سنة 1913.

(9) يشير إلى حرب البلقان وحرب طرابلس.

(10) مصطفى كامل 220 ط ثانية.

(11) اللواء 2 من مايو سنة 1906.

(12) اللواء 2 من مايو سنة 1906.

(13) المؤيد 9 يونيو 1892.

(14) اللواء في 6 أكتوبر 1906.

(15) ثورة سنة 1919 ج1 ص95.

(16) ثورة سنة 1919 ج2 ص71.

(17) ولد السلطان عبد الحميد في 21 سبتمبر سنة 1842، وتولى الملك في أغسطس سنة 1876: وخلع في 27 من إبريل سنة 1909 وتوفي في 10 من فبراير سنة 1918.

 (18) شوقيات ج3 ص140.

(19) المصدر السابق ص142.

(20) صهاريج اللؤلؤ ص50.

(21)ديوان حافظ ج1 ص15.

(22) ديوان حافظ ج1 ص44 وقد قالها مهنئًا بعيد جلوسه 1908 بعد إعلان الدستور العثماني.

(23) ديوان عبد المطلب ص198.

(25) ديوان الرافعي ج1 ص33، 46، ج2 ص69.

(26) راجع العوامل الفعالة في الأدب العربي الحديث لأنيس المقدسي.

(27) راجع في الأدب الحديث 1 ص327 ط سابعة.

(28) المرجع السابق ص392.

(29) راجع ص65 من هذا الكتاب.

(30) راجع شارلز آدمز ص215 في كتاب الإسلام والتجديد، والحقيقة عن مصر تأليف الكسندر ص201- 202- لندن 1911.

(31) تاريخ الإمام الشيخ محمد عبده ج1 ص592، مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ط ثانية ص336.

(32) اللواء عدد 26 من ديسمبر سنة 1906.

(33) اللواء عدد 27 مايو سنة 1907.

(34) راجع مصطفى وما بعدها.

(35) راجع مصطفى كامل ص183 وما بعدها، ومحمد فريد ص72.

(36) مصطفى كامل ص185.

(37) من حديث للخديو عباس مع مراسل الديلي تلغراف في مايو سنة 1907 راجع اللواء 26 من مايو سنة 1907.

(38) ديوان شوقي الجزء الأول ص178.

(39) دنشواي قرية صغيرة تابعة لمركز شبين الكوم، وقد ذهب إليها جماعة من الإنجليز في 13 من يونيو سنة 1906 لصيد الحمام، فأصابت رصاصة من رصاصاتهم امرأة وحرقت جرن قمح، فتجمع الأهلون غاضبين، فاعتدى البريطانيون عليهم بأسلحتهم، وقتلوا شيخ الخفراء، فدفع الناس عن أنفسهم بالحجارة فجرح أحد الضباط الإنجليز في رأسه جرحًا وفر الجريح ومن معه، وجروا في الشمس ما يقرب من ثمانية أميال، فمات متأثرًا بضربة الشمس وتارت ثائرة الإنجليز لهذه الحادثة، وأسرفوا في تصويرها إسرافًا جعلهم بخرجونها من صبغتها الفردية إلى التعصب الديني وإلى أنها تمثل روح التمرد الكاملة في نفوس

المصريين. فعقدوا محكمة عسكرية قضت على واحد وعشرين رجلًا بأحكام مختلفة أعدم منهم أربعة وقد صدر هذا الحكم في 27 من يونية سنة 1906أي بعد الحادثة بأربعة عشر يومًا "راجع تفاصيل الحادثة في كتاب مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص 192".

(40) راجع مصطفى كامل ص 232 وما بعدها.

(41) راجع جورج برناردشو في سلسلة أقرأ.

)42) مصطفى كامل ص 203.

(43) الشوقيات ج1 ص248.

(44) ارجع إلى عبد الرحمن الرافعي في مصطفى كامل ص384.

(45) أعلنت الحماية على مصر في يوم 18 من ديسمبر 1914، وفي يوم 19 من ديسمبر خلع عباس عن العرش وولى السلطان حسين كامل، وراجع الوقائع المصرية عدد 19 من ديسمبر سنة 1914.

(46) المرحوم أحمد زكي "باشا" مجلة أبوللو -ديسمبر 1932 ص386.

(47) تعفو: من العفاء أي تندثر.

(48) ليالي سطيح ص 135 لحافظ إبراهيم.

(49) راجع تاريخ الأستاذ الإمام ج2 ص123: وراجع كتابنا في الأدب الحديث ج1 ص275 وما بعدها ط سابعة.

(50)الأدب الحديث ج1 ص293 ط سابعة.

(51).Modern Egypt, Vol: l l.PP. 189- 181

(52) هنأ حافظ الإمام بقصيدة حينما أسند إليه الإفتاء في سنة 1899 فكانت هذه سببًا في الاتصال به، وكان يراسله من قبل أيام مقامه بالسودان، راجع تاريخ الإمام لرشيد رضا ج1 ص604.

(53) كان جورست مستشارًا لوزارة المالية المصرية من سنة 1898 إلى سنة

1904، وفي سنة 1907 عين بدلًا من كرومر، وتوفي سنة 1911.

(54) يريد بالشهود الأربعة الذين أعدموا في حادثة دنشواي.

(55) ديوان حافظ ج2 ص149.

(56) مقدمة الديوان ص19.
(57) انظر حسين شوقي مجلة أبوللو ديسمبر 1932 ص315.

(58) راجع مقالة المرحوم أحمد زكي باشا عن شوقي في مجلة أبوللو عدد ديسمبر سنة 1932 ص338.

(59) هم محمد محمود، وعبد اللطيف المكباني وأحمد لطفي السيد، وعلي ماهر.
(60) ثورة سنة 1919 ج2 ص127.
(61) هم مصطفى النحاس، وحافظ عفيفي، وويصا واصف: وقد رفضت الأمة المشروع.
(62) ثورة سنة 1919 ج2 ص128.

(63) داود بركات مجلة أبولو ديسمبر سنة 1932 ص366.

(64) أحمد الزين مقدمة الديوان ص37. ومصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي 393.
(65) أحمد الزين - المصدر السابق.

(66) انظر ص32 من ديوان إسماعيل صبري وكذلك ص213.

(67) اعتزل إسماعيل صبري الخدمة في 28 من فبراير سنة 1907 راجع المقدمة ص43.

)68) العشير: العثار والزلل.
(69) الشعري: الكوكب الذي يطام في الجوزاء، وطلوعه في شدة الحر، ويقال له الشعرى اليمانية وتلقب بالعبور، والنسران: كوكبان يقال لأحدهما النسر الواقع، وللآخر النسر الطائر.

(70) صحنت: دقت.

(71) الأورق: ما كان في لون الرماد.

(72) ص130 من الديوان.
(73) توفي المرحوم محمد فريد في 15 من نوفمبر 1919، وهو في منفاه ببرلين وقد ظل في المنفى سبع سنوات يكافح في سبيل مصر، ويعاني الأمراض والفاقة ويود أن تكتحل مقلتاه برؤيتها، ولكن لم يسعفه الأجل.

(74) انقض نحو مائتي جندي بريطاني في يوم 25 من مارس سنة 1919 على بلدتي بالعزيزية والبدرشين، وطلبوا من الأهالي جميعًا نزع أسلحتهم وأضرموا النار بعد ذلك في القريتين، واعتدوا على عفاف النساء وقتلوا كثيرًا من الأهالي -راجع ثورة 1919 لعبد الرحمن الرافعي ص 194 وما بعدها.

(75) يقصد الوحدة بين الأقباط والمسلمين.
(76)انظر ص 280 من ديوان عبد المطلب.

(77) راجع الدكتور إسماعيل أدهم -خليل مطران ص68 وهو تصحيح لما قبل من أن مبدأ دخوله مصر كان سنة 1892 كما ذكرنا في كتاب الأدب الحديث ج1 ص367 ط سابعة.
(78) راجع أنيس المقدسي "العوامل الفعالة في الأدب الحديث".

(79) العبدي: العبيد.

)80) راجع مطران للدكتور إسماعيل أدهم ص74.
(81) الديوان ج1 ص120، وراجع روكسي زايد العزيزي في المجلة الجديدة: م6 ج5 ص4038 في "مطران والوطنية".

(82) هي الكسندرينا بنت إدوارد. ولدت سنة 1819، تولدت عرش إنجلترا في سنة 1837 وتوفيت سنة 1901.
(83) راجع ديوان حافظ الجزء الثاني ص 136.
(84) ديوان مطران ج1 ص132.
(85) راجع الديوان ج3 ص27.

(86) مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص396.
(87) نبا: تباعد وتجافى.

(88) الديوان ج3 ص201.
)
89) المصدر السابق ص285.
(90) الديوان الجزء الثاني 233.
(91) مجلة سركيس سنة 1913 ص211.
(92) مجلة سركيس 1913 عدد خاص عن مطران.
(93) مجلة سركيس 1913 ص207.

)94) الديوان ج1 ص44، 77، ج2 ص86، 105، 142.
(95) نفى سعد وصحبه إلى جزر سيشل في 29 من ديسمبر سنة 1921 وعاد من المنفى في 17 من سبتمبر سنة 1923.
(96) الأعلام الأولى: الرايات، والثانية، كبراء الأمة.

(97) أنشأها سليم سركيس اللبناني في الإسكندرية سنة 1894. وقصرها على الطعن في فساد الحكم التركي، واستبداده، والمطالبة بالإصلاح، ثم نقلها إلى القاهرة سنة 1895 ثم إلى نيويورك سنة 1899 بعد ما لقي من حكومة مصر عنتًا وإرهاقًا أو حبسًا، وحكم عليه في بيروت بالإعدام غيابيًّا.
 (98) جريدة سياسية أنشأها صالح جمال في القاهرة سنة 1898، وكانت تصدر بالتركية والعربية يكتب فيها مع ولي الدين يكن الكاتب التركي محمد قدري.
 الرائد المصري أنشأها نقولا شحاته اللبناني في القاهرة سنة 1896. (99)

(100) مجلة سياسية أدبية أنشأها في القاهرة أنطوان الجميل، والشيخ أمين تقي الدين سنة 1910.

(101) أدباء العرب الجزء الرابع ص301 لبطرس البستاني ومقدمة ديوان ولي الدين لأنطوان الجميل.

(102) ولد إدوارد السابع في سنة 1841م. وولي الملك في يناير سنة 1901 وتوفي سنة 1910.

(103) راجع ص33 من كتاب: "في الأدب الحديث" الجزء الأول.

(104) الديوان في النقد والأدب للعقاد والمازني ج1 ص41.

(105) ديوان عبد المطلب ص18.
(106) ديوان حافظ ج1 ص222.

(107) حافظ وشوقي ص211.

)108) قس: موضع بين العريش والفرما اشتهر بمليح الثياب.
(109) المقة: المحبة.

(110)انظر الديوان ج1 ص97.

)111) انظر الديوان ج3 ص78.

(112) انظر القطعة ج2 ص186.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.


العتبة العباسية تطلق مسابقة فن التصوير الفوتوغرافي الثانية للهواة ضمن فعاليات أسبوع الإمامة الدولي
لجنة البرامج المركزيّة تختتم فعاليّات الأسبوع الرابع من البرنامج المركزي لمنتسبي العتبة العباسيّة
قسم المعارف: عمل مستمر في تحقيق مجموعة من المخطوطات ستسهم بإثراء المكتبة الدينية
متحف الكفيل يشارك في المؤتمر الدولي الثالث لكلية الآثار بجامعة الكوفة