مدرسة النحو التوليدي التحويلي:
أدت الرغبة إلى تبني منهج عقلي في دراسة اللغة، إلى نشوء طريقة جديدة عند علماء اللغة الأمريكان، أطلقوا عليها اسم: "علم اللغة التحويلي" Transformational Linguistics وقد رفضت هذه المدرسة الجديدة كثيرا من الأسس التي ارتضتها المدرسة البنيوية، من النواحي التالية:
1- فمن حيث الموضوع، كانت المدرسة البنيوية تتخذ من النصوص اللغوية موضوعا لدراستها، على حين اتخذت المدرسة التحويلية من قدرة المتكلم على إنشاء الجمل التي لم يكن سمعها من قبل، موضوعا لها.
2- ومن حيث أسلوب الدراسة والتحليل، كان المدرسة البنيوية تعتمد على وسائل الاستكشاف، على حين يؤمن التوليديون بضرورة الحدس والتخمين، ثم إجراء الاختبار، لتقويم الفروض المتضاربة.
3- ومن حيث الهدف، كان البنيويون يحاولون بدراساتهم القيام بتصنيف عناصر اللغات المدروسة، على حين جعل التوليديون تعيين القواعد النحوية الكامنة وراء بناء الجملة هدفا لهم. وهذا يعني الكشف عن وجود عدد غير متناه من الجمل في أية لغة، وتوضيح أي نوع من سلاسل الكلمات تشكل جملا، وأيها لا يشكل جملا. وكذلك وصف البنية النحوية لكل جملة(1).
4- وعلى حين كان البنيويون يرون أن لكل لغة بنيتها التي تتفرد بها، يرى التوليديون أن اللغات تتشابه على مستوى المقصود "العميق" من المعاني، ويحاولون الكشف عن هذه التشابهات الكلية.
ص187
5- كان كثير من البنيويين يستبعدون المعنى من دراستهم للغة استبعادا كليا، ويهتمون بالشكل الخارجي للغة. ويرى "ديفيد كريستال" أن الكلام عن التحليل اللغوي بلا إشارة للمعنى، شبيه بمن يصف طريقة صنع السفن دون الإشارة إلى البحر(2)، ولذلك يعد التحويليون اعتبار المعنى في التحليل اللغوي، أمرا ضروريا في شرح العلاقة بين الجمل، التي تحمل نفس المعنى وتختلف في ظاهر تراكيبها.
وعلى رأس علماء المدرسة التحويلية التوليدية في دراسة اللغة: "هاريس" Harris وتلميذه "تشومسكي" Chomsky. وقد كان لهما أكبر الأثر في نشوء علم اللغة التوليدي والتحويلي. أما "التوليدي" فهو علم يرى أن في وسع أية لغة أن تنتج ذلك العدد اللانهائي من الجمل التي ترد بالفعل في اللغة. وأما "التحويلي" فهو العلم الذي يدرس العلاقات القائمة بين مختلف عناصر الجملة، وكذلك العلاقات بين الجمل الممكنة في لغة ما(3).
ويعد "هاريس" الأب الحقيقي لعلم اللغة التحويلي، و"تشومسكي" الأب الحقيقي لعلم اللغة التوليدي. كما أدخل الأخير كثيرا من التعديلات على علم اللغة التحويلي عند "هاريس". وقد نشر "هاريس" بحوثه بين 1952 و1957م، وعرف التحويل بأنه عملية نحوية تغير ترتيب المكونات في داخل جملة ما، وبوسعها حذف عناصر أو إضافتها أو استبدالها(4).
ص188
وقد ميز "هاريس" بين مجموعتين فرعيتين من الجمل النحوية الكلية، القائمة في لغة كالإنجليزية مثلا:
1- الجمل النواة Kernelsentences.
2- الجمل غير النواة Nonkernelsentence.
ويمكن الفرق بين هاتين المجموعتين الفرعيتين، في أن الجمل غير النواة، يتم اشتقاقها من الجمل النواة، بواسطة قواعد تحويلية. مثال ذلك من العربية جملة مثل: "سَرَقَ اللصُّ البنكَ" فهي جملة نواة، يمكن أن تشتق منها جملة غير نواة، نحو: "سُرِقَ البنكُ". وتبدو العلاقة التحويلية بين هاتين الجملتين على النحو التالي:
فعل متعد مبني للمعلوم+ مورفيم المعلوم+ اسم "1"+ اسم "2" فعل مبني للمجهول+ مورفيم المجهول+ اسم "2".
فقد استبدل في أثناء عملية التحويل، مورفيم البناء للمجهول بمورفيم البناء للمعلوم، كما حذف الفاعل "الاسم رقم 1" من الجملة النواة، وتحول المفعول به "الاسم رقم 2" إلى نائب فاعل. وهكذا نرى التحويل هنا يقتضي الحذف والاستبدال، وإعادة ترتيب المكونات.
أما "تشومسكي" فقد لاحظ، وهو يحضر للدكتوراه في جامعة بنسلفانيا، أن المنهج البنيوي الذي يتمتع بشيء من الجدوى، في دراسة الفونيمات والمورفيمات، لا يتوافق مع دراسة الجمل؛ لأن كل لغة بها عدد محدود من الفونيمات والمورفيمات، غير أن عدد الجمل في أية لغة واقعية، هو عدد غير متناه؛ إذ ليس هناك حد لعدد الجمل الجديدة، التي يمكن إنشاؤها، ولا تستطيع المدرسة البنيوية تفسير ذلك.
ص189
كما يرى "تشومسكي" أن المنهج البنيوي، غير قادر على شرح العلاقات التي يمكن أن تقوم بين مختلف الجمل، فقد تشترك جملتان في الشكل، على حين تختلفان اختلافا جذريا في المعنى، وذلك على نحو ما في الجملتين التاليتين:
صراخ المجرم لم يؤثر في الناس
عقاب المجرم لم يؤثر في الناس
فالجملتان من حيث الشكل الخارجي، متشابهتان تماما، في علاقة المفردات بعضها ببعض، وكذلك في علاقة المسند إليه والمسند. ومع ذلك فالمعنيان يختلفان اختلافا جذريا.
كما وجد "تشومسكي" أيضا، أن هناك بعض الجمل التي تحتمل معنيين مختلفين، ولا يميز الشكل الخارجي بنيهما، فجملة: "كان عقاب علي صارما" مثلا، لا يتضح معناها تماما خارج السياق؛ إذ لا ندري إن كان "علي" هو الذي عاقب إنسانا آخر، أم أن إنسانا آخر هو الذي عاقب عليا.
كانت مثل هذه الجمل، التي يكتنفها اللبس من الوجهة التركيبية، هي التي أدت بتشومسكي إلى التأكيد بأن هذه الجمل معنى ظاهرا "سطحيا" Surface Stucture وهو الذي يقال فعلا، ومعنى مقصودا "عميقا" Deep Structure وهو الذي تكون العلاقات المعنوية فيه واضحة، وأن الذي ينظم العلاقة بين المعنى المقصود "العميق" والمعنى الظاهر "السطحي" هو تلك القوانين التي تطبق على الأولى، فتحولها إلى الثانية. وقد أطلق على هذه القوانين اسم "القوانين التحويلية" Transformational rules(5).
ص190
وقد أفاد "تشومسكي" من تقسيم "دي سوسير" السابق للغة إلى: "لسان" Langue "وكلام" Parole وأطلق على النوع الأول: مصطلح "الكفاءة" Competence وعلى الثاني: مصطلح "الأداء" Performance. ويقصد بالكفاءة: ما يكون عند المتكلم باللغة -من أبنائها- من معرفة حدسية غير واعية، بالأصوات والمعاني والنحو. أما الأداء فهو عبارة عن الممارسة اللغوية الفعلية في الحياة اليومية، وربما لا تكون صورة صحيحة للكفاءة، لمخالفتها -في بعض الحالات- القواعد النحوية(6).
وقد ناقش كثير من اللغويين المحدثين "نظرية تشومسكي" في كثير من نواحيها. وعلى رأسهم المدرسة اللغوية الحديثة المعروفة "بمدرسة القوالب" Tagmemec analysis.
ص191
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الألسنية: أحداث العلوم الإنسانية 127.
(2) انظر: أضواء على الدراسات، لنايف خرما 295
(3) انظر: Micropaedia Vll 667-668.
(4) انظر: Bornstein An lntroduction.
(5)انظر: أضواء على الدراسات، لنايف خرما 117، 118.
(6) انظر كتابي تشومسكي Syntactic Structures Aspects of the: theory of Syntasx.
|
|
التوتر والسرطان.. علماء يحذرون من "صلة خطيرة"
|
|
|
|
|
مرآة السيارة: مدى دقة عكسها للصورة الصحيحة
|
|
|
|
|
نحو شراكة وطنية متكاملة.. الأمين العام للعتبة الحسينية يبحث مع وكيل وزارة الخارجية آفاق التعاون المؤسسي
|
|
|