x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في المحتوى

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

التوحيد

اثبات الصانع

النظر و المعرفة

اثبات وجود الله تعالى و وحدانيته

صفات الله تعالى

الصفات الثبوتية

القدرة و الاختيار

العلم و الحكمة

الحياة و الادراك

الارادة

السمع و البصر

التكلم و الصدق

الأزلية و الأبدية

الصفات الجلالية ( السلبية )

الصفات - مواضيع عامة

معنى التوحيد و مراتبه

العدل

البداء

التكليف

الجبر و التفويض

الحسن و القبح

القضاء و القدر

اللطف الالهي

مواضيع عامة

النبوة

اثبات النبوة

الانبياء

العصمة

الغرض من بعثة الانبياء

المعجزة

صفات النبي

النبي محمد (صلى الله عليه وآله)

الامامة

الامامة تعريفها ووجوبها وشرائطها

صفات الأئمة وفضائلهم

العصمة

امامة الامام علي عليه السلام

إمامة الأئمة الأثني عشر

الأمام المهدي عجل الله فرجه الشريف

الرجعة

المعاد

تعريف المعاد و الدليل عليه

المعاد الجسماني

الموت و القبر و البرزخ

القيامة

الثواب و العقاب

الجنة و النار

الشفاعة

التوبة

فرق و أديان

علم الملل و النحل ومصنفاته

علل تكون الفرق و المذاهب

الفرق بين الفرق

الشيعة الاثنا عشرية

أهل السنة و الجماعة

أهل الحديث و الحشوية

الخوارج

المعتزلة

الزيدية

الاشاعرة

الاسماعيلية

الاباضية

القدرية

المرجئة

الماتريدية

الظاهرية

الجبرية

المفوضة

المجسمة

الجهمية

الصوفية

الكرامية

الغلو

الدروز

القاديانيّة

الشيخية

النصيرية

الحنابلة

السلفية

الوهابية

شبهات و ردود

التوحيـــــــد

العـــــــدل

النبـــــــوة

الامامـــــــة

المعـــاد

القرآن الكريم

الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)

الزهراء (عليها السلام)

الامام الحسين (عليه السلام) و كربلاء

الامام المهدي (عليه السلام)

إمامة الائمـــــــة الاثني عشر

العصمـــــــة

الغلـــــــو

التقية

الشفاعة والدعاء والتوسل والاستغاثة

الاسلام والمسلمين

الشيعة والتشيع

اديان و مذاهب و فرق

الصحابة

ابو بكر و عمر و عثمان و مشروعية خلافتهم

نساء النبي (صلى الله عليه واله و سلم)

البكاء على الميت و احياء ذكرى الصاحين

التبرك و الزيارة و البناء على القبور

الفقه

سيرة و تاريخ

مواضيع عامة

مقالات عقائدية

مصطلحات عقائدية

أسئلة وأجوبة عقائدية

التوحيد

اثبات الصانع ونفي الشريك عنه

اسماء وصفات الباري تعالى

التجسيم والتشبيه

النظر والمعرفة

رؤية الله تعالى

مواضيع عامة

النبوة والأنبياء

الإمامة

العدل الإلهي

المعاد

القرآن الكريم

القرآن

آيات القرآن العقائدية

تحريف القرآن

النبي محمد صلى الله عليه وآله

فاطمة الزهراء عليها السلام

الاسلام والمسلمين

الصحابة

الأئمة الإثنا عشر

الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

أدلة إمامة إمير المؤمنين

الإمام الحسن عليه السلام

الإمام الحسين عليه السلام

الإمام السجاد عليه السلام

الإمام الباقر عليه السلام

الإمام الصادق عليه السلام

الإمام الكاظم عليه السلام

الإمام الرضا عليه السلام

الإمام الجواد عليه السلام

الإمام الهادي عليه السلام

الإمام العسكري عليه السلام

الإمام المهدي عليه السلام

إمامة الأئمة الإثنا عشر

الشيعة والتشيع

العصمة

الموالات والتبري واللعن

أهل البيت عليهم السلام

علم المعصوم

أديان وفرق ومذاهب

الإسماعيلية

الأصولية والاخبارية والشيخية

الخوارج والأباضية

السبئية وعبد الله بن سبأ

الصوفية والتصوف

العلويين

الغلاة

النواصب

الفرقة الناجية

المعتزلة والاشاعرة

الوهابية ومحمد بن عبد الوهاب

أهل السنة

أهل الكتاب

زيد بن علي والزيدية

مواضيع عامة

البكاء والعزاء وإحياء المناسبات

احاديث وروايات

حديث اثنا عشر خليفة

حديث الغدير

حديث الثقلين

حديث الدار

حديث السفينة

حديث المنزلة

حديث المؤاخاة

حديث رد الشمس

حديث مدينة العلم

حديث من مات ولم يعرف إمام زمانه

احاديث متنوعة

التوسل والاستغاثة بالاولياء

الجبر والاختيار والقضاء والقدر

الجنة والنار

الخلق والخليقة

الدعاء والذكر والاستخارة

الذنب والابتلاء والتوبة

الشفاعة

الفقه

القبور

المرأة

الملائكة

أولياء وخلفاء وشخصيات

أبو الفضل العباس عليه السلام

زينب الكبرى عليها السلام

مريم عليها السلام

ابو طالب

ابن عباس

المختار الثقفي

ابن تيمية

أبو هريرة

أبو بكر

عثمان بن عفان

عمر بن الخطاب

محمد بن الحنفية

خالد بن الوليد

معاوية بن ابي سفيان

يزيد بن معاوية

عمر بن عبد العزيز

شخصيات متفرقة

زوجات النبي صلى الله عليه وآله

زيارة المعصوم

سيرة وتاريخ

علم الحديث والرجال

كتب ومؤلفات

مفاهيم ومصطلحات

اسئلة عامة

أصول الدين وفروعه

الاسراء والمعراج

الرجعة

الحوزة العلمية

الولاية التكوينية والتشريعية

تزويج عمر من ام كلثوم

الشيطان

فتوحات وثورات وغزوات

عالم الذر

البدعة

التقية

البيعة

رزية يوم الخميس

نهج البلاغة

مواضيع مختلفة

الحوار العقائدي

* التوحيد

* العدل

* النبوة

* الإمامة

* المعاد

* الرجعة

* القرآن الكريم

* النبي محمد (صلى الله عليه وآله)

* أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)

* فضائل النبي وآله

* الإمام علي (عليه السلام)

* فاطمة الزهراء (عليها السلام)

* الإمام الحسين (عليه السلام) وكربلاء

* الإمام المهدي (عجل الله فرجه)

* زوجات النبي (صلى الله عليه وآله)

* الخلفاء والملوك بعد الرسول ومشروعية سلطتهم

* العـصمة

* التقيــة

* الملائكة

* الأولياء والصالحين

* فرق وأديان

* الشيعة والتشيع

* التوسل وبناء القبور وزيارتها

* العلم والعلماء

* سيرة وتاريخ

* أحاديث وروايات

* طُرف الحوارات

* آداب وأخلاق

* الفقه والأصول والشرائع

* مواضيع عامة

العقائد الاسلامية : العدل : الحسن و القبح :

التحسين والتقبيح

المؤلف:  الشيخ جعفر السبحاني

المصدر:  محاضرات الاستاذ الشيخ جعفر السبحاني

الجزء والصفحة:  ص 232

20-11-2014

1788

... هناك أَفعالا يدرك العقل كونها حسنة أو قبيحة ، و يُدرك أَنَّ الغَنيّ بالذات مُنَزّه عن الإِتصاف بالقبيح ، و فعل ما لا ينبغي.

وهذا هو الأَساس للحكم باتصافه تعالى بالحكمة و العدل و أَنه موجود لا يجور و لا يظلم و من هنا يلزمنا البحث عن تلك المسألة على ضوء العقل و الكتاب العزيز.

التحسين والتقبيح العقليان :

ذهبت العدلية إلى أَنَّ هناك أَفعالا يدرك العقل من صميم ذاته من دون استعانة من الشرع أَنها حسنة ، يجب القيام بها ، أَو قبيحة يجب التنزه عنها. ولو أَمر الشارع بالأُولى و نهى عن الثَّانية، فهو كاشف عما يدركه العقل و مرشد إليه. و ليس للشرع أَنْ يعكس القضية بأَنْ يُحَسِّنَ ما قَبَّحهُ العقل ، أَو يُقبِّح ما حَسَّنه.

و قالت الأَشاعرة ، لا حكم للعقل في حُسْن الأَشياء و قبحها ، و لا يتسم فعل بالحُسن أو القُبح بذاته قبل ورود الشرع ، فلأجل ذلك لا حَسَنَ إلاَّ ما حسّنه الشارع ، و لا قبيح الاَّ ما قبحه. فلو كان الظلم قبيحاً ، فلأن الشارع نهى عنه ، و لو كان العدل حَسَناً فلأنه أمَر به. و لو عكس وجعل العدل قبيحاً والظلم حَسَناً ، لكان كما قال.

ثم إنَّ القائلين بالحُسن و القُبح العقليين يقسّمون الأفعال من حيث الإِتّصاف بهما إلى أقسام ثلاثة:

الأول : ما يكون الفعل بنفسه علَّة تامة للحُسْن و القبح ، و هذا ما يسمّى بالحُسْن و القُبح الذاتيين، مثل العدل و الظلم. فالعدل بما هو عدل ، لا يكون إلاّ حَسَناً أبداً ، و متى ما وجد لا بُدّ أن يُمدَح فاعله و يعدّ محسِناً ، و كذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون الاّ قبيحاً و متى ما وجد ففاعله مذموم و مسيء. و يستحيل أن يكون العدل قبيحاً و الظلم حَسَناً.

الثاني : ما لا يكون الفعل علَّة تامة لأحدهما ، بل يكون مقتضياً للإِتصاف بهما ، بحيث لو خلّي الفعل و نفسه ، فإمَّا أن يكون حَسَناً كتعظيم الصديق بما هو هو أو يكون قَبيحاً كتحقيره. ولكنه لا يمتنع أن يكون التعظيم مذموماً لعروض عنوان عليه كما إذا كان سبباً لظلمِ ثالث ، أو يكون التحقير ممدوحاً لعروض عنوان عليه كما إذا صار سبباً لنجاته. و لا ينحصر المثال بهما بل الصدق والكذب أيضاً من هذا القبيل. فالصدق الذي فيه ضرر على المجتمع قبيح ، كما أنَّ الكذب الذي فيه نجاة الإِنسان البريء حَسَن. و هذا بخلاف العدل و الظلم فلا يجوز أن يتّسم العدل ـ بما هو عدل ـ بالقُبح ، و الظُلم ـ بما هو ظلم ـ بالحُسن.

الثالث ـ ما لا علّية له و لا اقتضاء فيه في نفسه للإِتصاف بأحدهما ، و إنما يتبع الجهات الطارئة و العناوين المنطبقة عليه ، و هذا كالضَّرب فإنَّه حَسَن للتأديب ، و قَبيحٌ للإِيذاء.

هذا هو التقسيم الرائج بينهم. و الغرض المطلوب في هذا البحث هو تبيين أنَّ هناك أفعالا يدرك العقل إذا طالعها ، بقطع النظر عن كل الجهات الطارئة عليها ، أنَّها حسنة يجب أن يمدح فاعلها أو قبيحة يجب أن يُذمَّ. و لا نقول إنَّ كل فعل من الأفعال داخل في هذا الإطار.

وبعبارة أخرى : إنَّ النزاع بين الفريقين دائر بين الإيجاب الجزئي والسلب الكلّي ، فالعدلية يقولون بالأول والأشاعرة بالثاني.

في إطلاقات الحُسن و القُبح :

لا شك أنَّ للحسن و القبح معنى واحداً ، و إنما الكلام في مِلاك كون الشيء حَسَناً أو قبيحاً. و هو يختلف باختلاف الموارد ، فقد ذكر للحُسن والقُبح مِلاكات نوردها فيما يلي :

1 ـ ملاءَمةُ الطَبْع و منافرته. فالمشهد الجميل ـ بما أنَّه يلائم الطبع ـ يُعدّ حَسَناً ، كما أنَّ المشهد المخُوف ، ـ بما أنَّه منافر للطبع ـ يُعَدّ قَبيحاً.

ومثله الطعام اللذيذ و الصوت الناعم ، فإنهما حَسَنان كما أنّ الدواء المُرّ و نهيق الحمار قبيحان. و الحُسن و القُبح بهذا المِلاك ليسا محل البحث و الاختلاف. أضف إلى ذلك أنَّهما لا يمكنهما الثبات و الدوام ، لاختلاف الطبائع.

2 ـ موافقة الغَرَض و المصلحة الشخصيَّة و النوعيّة و مخالفتهما. فقتل إنسان لعَدائه حَسَن ، حيث إنَّه موافق لأغراض القاتل الشخصيّة. ولكنه قبيح لأصدقاء المقتول و أهله ، لمخالفته لأغراضهم و مصالحهم الشخصية. هذا في المجال الشخصي. و أَمَّا في المجال النوعي ، فإنَّ العدل بما أنَّه حافظ لنظام المجتمع و مصالح النوع فهو حَسَن و بما أنَّ الظلم هادم للنظام و مخالف لمصلحة النوع فهو قبيح. و هذا أيضاً خارج عن مجال البحث بين العدليّة و الأشاعرة ، فإنَّ المصالح الشخصيَّة لا تصحح توصيف الفعل بالحُسن و القُبح على وجه الدوام ، لما عرفت من اختلاف الأغراض و المصالح الشخصية. فرُبَّ فعل كالقتل حَسَنَ عند فرد أو جَمع و قَبيحٌ عند آخرين ، و البحث إنَّما هو عن الحُسن و القُبح الذاتيين اللذين لا يتغير الإِتصاف بهما عند قوم دون قوم ، وجيل دون جيل ، بل يكون حُكْماً ثابتاً للفعل أبداً.

وأمَّا المصالح النوعيَّة ـ كبقاء النظام و انهدامه فهي و إن كانت تصبغ الفعل بالحُسن و القُبح على وجه الثبات و الدوام ، لكن لا يصحّ توصيف الحُسن و القُبح في هذا المورد بالذاتيين. لأنَّ المراد بالذاتي كون ملاحظة نفس الفعل ـ مع غضّ النظر عن غيره موجباً لإِدراك العقل حُسنَه أو قُبحَه ، و ليس الأمر كذلك في توصيف الفعل بالحُسن أو القُبح لأجل المصالح و المفاسد النوعية ، فإنَّ لتلك الأغراض الخارجة عن حقيقة الفعل دخالة في إدراك العقل و توصيفه. فلأجل ذلك يجب أن يكون مثل ذلك خارجاً عن محل النزاع ، و لو اعترف الأشاعرة بحسن العدل و قبح الظلم من هذه الزاوية ، فلا يمكن عدهم موافقين للعدلية.

3 ـ كون الشيء كمالا للنفس أو نقصاً لها ، كالعِلْم و الجهل ، فالأول زَيْن لها و الثاني شَيْن. ولكنَّ التحسين و التقبيح بهذا المعنى لا غبار عليه و ليس محلا للنقاش. إذ لا أظن أنَّ أحداً على أديم الأرض ينكر كونَ العلمِ و الشجاعة و الفصاحة كمالا و حسَناً ، و الجهلِ و الجُبِن و الفهاهةِ نقصاً و قبيحاً.

فهذه الملاكات الثلاثة على فرض كونها ملاكات للإِتصاف بالحُسْن و القُبح ، خارجة عن حريم البحث ، و إنَّما البحث بين العدلية و غير هم في المِلاك الرابع التالي :

4 ـ ما استحق من الأَفعال مدح فاعله عُدّ عند العقلاء حَسَناً ، و ما استحق منها ذماً عُدّ عندهم قبيحاً. و ذلك بملاحظة الفعل نفسه من حيث هو هو ، من دون ضم شيء إليه ، و من دون أن يلاحظ كونه مشتملا على نفع شخصي أو نوعي ، فيستقل العقل بحُسنه و وجوب فعله ، أو قُبحه و وجوب تركه.

وإِنْ شئت قلت : إِذا وقع الفعل في إطار العقل البشري من دون فرق بين الأَفراد ، و مع غض النظر عن أَي شيء آخر غير الفعل نفسه ، و جده العقل موصوفاً بالحُسن و قابلا للمدح ، أَو على العكس. و هذا كما إِذا لاحظ جزاء الإِحسان بالإِحسان فيحكم بحسنه ، و جزاءه بالإِساءة فيحكم بقبحه.

فالعقل في حكمه هذا ، لا يلاحظ سوى نفس الموضوع ، من دون أن يتصور كونه يتضمن صلاحاً أَو فساداً. فمبحث الحُسن و القُبح الذاتيين ، لا يهدف إِلاّ إلى هذا القسم.

والأَقسام الثلاثة الأُولى خارجة عن مجال البحث ، كما أَنَّ التحسين و التقبيح العاديين ، كتحسين خروج الجندي بالبَزَّة العسكرية و تقبيح خروج العالم باللباس غير المناسب ، خارجان أيضاً عن محل البحث.

وربما يتوهم أَنَّ للتحسين و التقبيح مِلاكاً خامساً ، هو أَنَّ الحَسَنَ ما استَحق الثواب عند الله ، و القَبيح ما استحق العقاب عنده. ولكنه خارج عن مجال البحث أَيضاً ، كيف و قد بحث عن أَصل التحسين و التقبيح البراهمة الذين لا يدينون بشريعة فضلا عن الإِعتقاد بالثواب و العقاب في الآخرة ، فكيف يكون هذا مِلاك البحث. نعم قد اتخذ هذا الوجه سناداً من أراد أنْ ينكر الحُسنَ و القُبحَ ، بحجة أَنَّ العلم باستحقاق الثواب و العقاب على الفعل خارج عن نطاق العقل ، و داخل في مجال الشرع.

 مما قدمنا يعلم ما فيه.

ولأجل زيادة البيان في تعيين محل النزاع بين الأشاعرة و العدلية نأتي بالتوضيح التالي :

إِنَّ كثيراً من الباحثين عن التحسين و التقبيح العقليين ، يعلّلون حُسن العدل و الإِحسان ، و قُبَح الظلم و العدوان ، باشتمال الأَول على مصلحة عامة و باشتمال الثاني على مفسدة كذلك. و لأجل تلك النتائج عم الإِعتراف بحُسن الأَول و قبح الثاني الجميع. ولكنك عرفت أنَّ مِلاك البحث أوسع من ذلك ، و أَنَّ المسألة مركزة على لحاظ نفس الفعل مع غض النطر عن تواليه وتوابعه ، هل يدرك العقل حسنه أَو قبحه ، أَو لا؟ و هل العقل يمدح إحسان المحسن بالإِحسان ، و يذم جزاء المحسن بالإِساءة أَو لا؟ و هل العقل يقبح تكليف الإِنسان بما لا يطيقه ، أَو لا؟ و هل العقل يحسّن عمل العامل بالميثاق ، أَو لا؟ فالنقاش على هذا الصعيد لا بالنظر إلى الأَغراض و المصالح ، فرديَّة كانت أَمْ اجتماعيَّة.

فالقائلون بالتقبيح و التحسين العقليين يقولون : إِنَّ كل عاقل مميِّز ، يجد من صميم ذاته حُسن بعض الأَفعال وقُبح بعضها الآخر ، وإنَّ هذه الأحكام نابعة من صميم القوة العاقلة و الهُويَّة الإِنسانيَّة المِثاليَّة.

وأَول من قام بتحرير محل النزاع على الوجه الذي قررناه هو المحقق اللاهيجي في تأليفه الكلامية. و أَوضح دليل على صواب تحريره هو أَن الغرض من طرح هذه المسألة التوصل إلى التعرف على أَفعاله سبحانه ، و أَنَّ العقل هل يستطيع أَنْ يستكشف وصف أَفعاله ، أَو لا؟ و أَنَّ ما هو حسن عند العقل أَو قبيح عنده هل هو كذلك عند الله تعالى؟ و لا يمكن ذلك الإستكشاف إلاّ بكون المدار في التحسين و التقبيح على ملاحظة نفس الفعل بما هو هو.

وعلى ذلك فلا معنى للبحث عن التحسين و التقبيح بالمِلاكات السَّابقة من الملاءمة و المنافرة للطبع ، أو موافقة الغَرَض و مخالفته ، أَو كونه حافظاً و هادماً للنظام و المجتمع ، و إِلاّ لبطلت الغاية التي طرحت لأَجلها تلك المسألة و هي التعرف على أَفعال الباري سبحانه.

هل التَّحسين و التَّقبيح العقليَّان من المشهورات؟

ربما يظهر من بعض الحكماء و المتكلمين أَنَّ التحسين و التقبيح العقليين من المشهورات التي اتفقت عليها آراء العقلاء و تسمى ب ـ « الآراء المحمودة ».

وقال الشيخ الرئيس في (الإِشارات) : فأَما المشهورات ... و منها الآراء المسماة ب ـ «المحمودة » ، و ربما خصصناها باسم « المشهورة » ، إذْ لا عمدة لها إِلاّ الشهرة. و هي آراء لو خُلّي الإِنسان و عقله المجرد ، و وهمّه و حسّه ، و لم يْؤدَّب بقبول قضاياها و الإِعتراف بها، ولم يَمِل الإِستقراء بظنه القوي إلى حُكم ، لكثرة الجزئيات ، و لم يستدَعِ إليها ما في طبيعة الإِنسان من الرحمة و الخجل و الأَنفَةَ و الحَمِيّة و غير ذلك ، لم يقض بها الإِنسان طاعةً لعقله أو وهمه أو حسّه. مثل حكمنا إِنَّ سلب مال الإِنسان قبيح و إِنَّ الكذب قبيح لا ينبغي أنْ يقدم عليه. و من هذا الجنس ما يسبق إلى وهم كثير من الناس ، و إنْ صَرَف كثيراً عنه الشرع من قبح ذبح الحيوان ، اتباعاً لما في الغريزة من الرقة لمن تكون غريزته كذلك ، وهم أَكثر الناس.

وليس شيء من هذا يوجبه العقل الساذج ، ولو توهم نفسه و أَنَّه خُلق دفعة تام العقل و لم يسمع أَدبا ولم يطع انفعالا نفسانياً أَو خلقياً ، لم يقض في أَمثال هذه القضايا بشيء ، بل أَمكنه أَنْ يجهله و يتوقف فيه. و ليس كذلك حال قَضائه بأَنَّ الكُلَّ أعظمُ من الجزء ـ إلى أَنْ قال ـ : فالمشهورات إمَّا من الواجبات وإما من التأديبات الصلاحية ، وما يتطابق عليه الشرائع الإلهية ، وإمَّا خُلُقِيّات وانفعاليّات ، وإمَّا استقرائيات وإما اصطلاحيّات ، وهي إمَّا بحسب الإِطلاق ، و إِما بحسب أصحاب صناعة و ملة » (1).

فها إِنَّك ترى أَنَّ الشيخ الرئيس يَعُدَّ كون سلب مال الإِنسان قبيحاً ، من القضايا المشهورة و أنَّه ليس له مدرك سوى آراء العقلاء و أن الإِنسان لو خُلي و عقله ، و لم يؤدب بقبول قضاياها ، لم يقض بقبحه.

وقد وافقه على ذلك المحقق الطوسي في شرحه على الإِشارات.

يُلاحظ عليه : إنَّ القياس ينقسم إلى أقسام خمسة :

1 ـ برهاني ، 2 ـ جَدَلي ، 3 ـ خِطابي ، 4 ـ شِعري ، 5 ـ سَفْسَطي.

والأول منها يتركب من اليقينيّات وأصولها ستة :

1 ـ الأوليّات ، 2 ـ المُشاهَدات ، 3 ـ التَجريبيّات ، 4 ـ الحَدْسِيّات ، 5 ـ المُتَواتِرات ، 6ـالفِطْريات.

وأَما الثاني ـ أعني القياس الجَدَلي ـ فيتألف من المشهورات والمُسَلَّمات ، سواء أكانت عند الكل أمْ عند طائفة خاصة.

وعلى ذلك فالمشهورات من مبادئ الجَدَل ، و هو يقابل القياس البرهاني. فلو جعل التحسين و التقبيح العقليان من المشهورات وأدخل في القياس الجدلي و عرف بأنَّه لا مدرك له إلاّ الشهرة التي لو خلي الإِنسان و عقله المجرّد ووهمه و حسّه ، و لم يؤدَّب بقبول قضاياها لم يقض بها ، يلزم إِنكار التحسين و التقبيح العقليين و إِثبات العقلائي منهما. و هو غير ما يتبناه القائلون بالعقلي.

أَضف إليه أنَّ جعلهما من المشهورات و إخراجهما من القياس البرهاني و إدخالهما تحت القياس الجدلي يُبطل جميع الأَحكام و الآثار التي تترتب على القول بالعقلي ، كما أَوضحناه. إِذْ على هذا، لا يكون التحسين و التقبيح برهانياً ، فلا يكون ما يترتب عليه مُبَرْهَناً به بل يُعَدّ من المشهورات التي تطابقت عليها آراء العقلاء. و من الممكن جداً اتفاق العقلاء على ضدها ، فعند ذلك يكون الحَسَن قبيحاً و القَبيح حسناً.

فإنْ قلت : إنَّ الشيخ الرئيس جعل المشهورات أعم مما هو من مبادئ الجَدَل ، فأدخل فيها الأوليّات حيث قال في صدر كلامه : « أمّا المشهورات من هذه الجملة فمنها أَيضاً هذه الأَوليات و نحوها مما يجب قبوله و منها الآراء المسماة ب ـ (المحمودة) و ربما خصصناها باسم (المشهورة) إِذْ لا عمدة لها إلاّ الشهرة ».

قلت : ما ذكرتم صحيح ، فإِنَّ المشهورات عنده أَعمّ من اليقينيات و غيرها حتى أَنَّ الأَوليات لها اعتباران ، فمن حيث انه يعترف بها عموم الناس تعدّ مشهورات ، و من حيث إنه يحكم بها محض العقل و يجب قبولها يقينيات. و في مقابل هذا القسم ، قسم آخر للمشهورات و هي غير يقينيات و يتوقف العقل الصِرْف في الحكم بها ، ولكن لعموم النَّاس بها اعتراف و تسمى « آراء محمودة » ، و ربما يخصص هذا القسم باسم المشهورات.

فالمشهورات تقال بالإِشتراك المعنوي على ما يعمّ اعتراف الناس بها ، ولها قسمان : يقينيّات ، و غير يقينيّات. ولكن الشيخ و من تبعه عدُّوا التحسين والتقبيح من القسم الثاني ، و هو يستلزم إنكار التحسين و التقبيح العقليين و ما بني عليه من الأحكام ، فلاحظ.

ما هو المِلاك للحكم بحسن الأَفعال و قبحها؟

إِذا كان محل النزاع ما ذكرنا من إدراك العقل حُسن الفعل أو قُبحه بالنظر إلى ذاته مع غض النظر عما يترتب عليه من التوالي ، فيقع الكلام في أنَّ العقل كيف يقضي بالحسن والقُبح ، و ما هو المِلاك في قضائه؟

إِنَّ المِلاك لقضاء العقل هو أنه يجد بعض الأَفعال موافقاً للجانب الأَعلى من الإِنسان والوجه المثالي في الوجود البشري ، و عدم موافقة بعضها الآخر لذلك.

وإِنْ شئت قلت : إِنَّه يدرك أَنَّ بعض الأَفعال كمال للموجود الحي المختار ، و بعضها الآخر نقص له ، فيحكم بحُسن الأَول و لزوم الإِتصاف به ، و قبح الثاني و لزوم تركه. و لو عمّم الطبع ـ فيما ذكرنا من المِلاكات ـ لهذا المعنى أي الطبع الأعلى في الإِنسان ، لكان هذا المعنى داخلا في الملاك الأَول.

توضيح ذلك : إِنَّ الحكماء قسموا العقل إلى عقل نظري و عقل عملي ، فقد قال المعلم الثاني : « إِنَّ النظرية هي التي بها يَحُوز الإِنسان علم ما ليس من شأنه أن يعمله إنسان ، والعملية هي التي يعرف بها ما من شأنه أن يعمله الإِنسان بإِرادته ».

وقال الحكيم السبزواري في توضيحه : « إِنَّ العقل النظري و العقل العملي من شأنهما التعقّل ، لكن النظري شأنه العلوم الصِرفة غير المتعلقة بالعمل مثل : الله موجود واحد ، و أنَّ صفاته عين ذاته ، و نحو ذلك.

والعملي شأنه العلوم المتعلقة بالعمل مثل : « التوكّل حسن » و « الرضا و التسليم و الصبر محمودة ». و هذا العقل هو المستعمل في علم الأَخلاق ، فليس العقلان كقوتين متباينتين أو كضميمتين ، بل هما كجهتين لشيء واحد و هو الناطقة » (2).

ثم ، كما أنّ في الحِكمة النظرية قضايا نظرية تنتهي إلى قضايا بديهية ، و لولا ذلك لعقمت القياسات و صارت غير منتجة ، فهكذا في الحكمة العملية ، قضايا غير معلومة لا تعرف إلاّ بالإنتهاء إلى قضايا ضرورية ، و إِلاّ لما عَرِف الإِنسان شيئاً من قضايا الحكمة العملية. فكما أنَّ العقل يدرك القضايا في الحكمة النظرية من صميم ذاته فهكذا يدرك بديهيات القضايا في الحكمة العملية من صميم ذاته بلا حاجة إلى تصور شيء آخر.

مثلا : إِنَّ تصديق كلّ القضايا النظرية يجب أَنْ ينتهي إلى قضية امتناع اجتماع النقيضين و ارتفاعهما ، بحيث لو ارتفع التصديق بها لَمَا أَمكن التصديق بشيء من القضايا ، و لذا تسمى ب ـ « أمّ القضايا » و ذلك كاليقين بأَنَّ زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين ، فإِنَّه لا يحصل إلاَّ إذا حصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضية ، أي عدم مساواتها لهما. و إلاَّ فلو احتمل صدق النقيض لما حصل اليقين بالنسبة. و لأجل ذلك اتفقت كلمة الحكماء على أن إقامة البرهان على المسائل النظرية إنما تتم إذا انتهى البرهان إلى أمّ القضايا التي قد عرفت.

وعلى ضوء هذا البيان نقول : كما أَنَّ للقضايا النظرية في العقل النظري قضايا بديهية أو قضايا أوليّة تنتهي إليها ، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي ، يجب أَنْ تنتهي إلى قضايا أولية و واضحة عنده بحيث لو ارتفع التصديق بهذه القضايا في الحكمة العملية لما صح التصديق بقضية من القضايا فيها.

فمن تلك القضايا البديهية في العقل العملي ، مسألة التحسين و التقبيح العقليين الثابتين لجملة من القضايا بوضوح ، مثل قولنا « العدل حسن » و « الظلم قبيح » و « جزاء الإِحسان بالإِحسان حسن » و « جزاؤه بالإِساءة قبيح ».

فهذه القضايا قضايا أوليّة في الحكمة العملية و العقل العملي يدركها من صميم ذاته و من ملاحظة القضايا بنفسها. و في ضوء التصديق بها يسهل عليه التصديق بما يبنى عليها في مجال العقل العملي من الأحكام غير البديهية ، سواء أكانت مربوطة بالأخلاق أولا ، أم تدبير المنزل ثانياً ، أَم سياسة المدن ثالثاً ، التي يبحث عنها في الحكمة العملية.

ولنمثل على ذلك : إِنَّ العالِمِ الأَخلاقي يحكم بلزوم تكريم الوالدين والمعلِمين و أولي النعمة ، و ذلك لأَنَّ التكريم من شؤون جزاء الإحسان

بالاحسان ، وهو حسن بالذات ، والإهانة لهم من شؤون جزاء الإِحسان بالإِساءة وهو قبيح بالذات.

والباحث عن أَحكام تدبير المنزل يحكم بلزوم القيام بالوظائف الزوجية من الطرفين و قبح التخلف عنها ، ذلك لأن القيام بها قيام بالعمل بالميثاق ، و التخلف عنها تخلف عنه ، و الأول حسن بالذات و الثاني قبيح بالذات. و العالِم الإِجتماعي الذى يبحث عن حقوق الحاكم والحكومة على المجتمع يحكم بأنَّه يجب أَنْ تكون الضرائب معادلة لدخل الأفراد ، و ذلك لأن الخروج عن تلك الضابطة ظلم على الرعيَّة و هو قبيح بالذات.

والعالِم الإِجتماعى الذي يبحث عن حقوق الحاكم والحكومة على المجتمع يحكم بأَنَّه يجب أَنْ تكون الضرائب معادلة لدخل الأفراد ، و ذلك لأَن الخروج عن تلك الضابطة ظلم على الرعيَّة و هو قبيح بالذات.

وقس على ذلك كلّ ما يرد عليك من الأَبحاث في الحكمة العملية ، سواء أكانت راجعة إلى الفرد (الأخلاق) ، أو إلى المجتمع الصغير (البيت) ، أَو إلى المجتمع الكبير (السياسة). فكل ما يرد فيها و يبحث عنه الباحثون ، بما أَنَّه من شؤون العقل العملي ، يجب أَنْ ينتهي الحكم فيه إيجاباً و سلباً ، صحة و بطلاناً إلى القضايا الواضحة البديهية في مجال ذلك العقل.

إلى هنا انتهينا إلى أَنَّه يجب انتهاء الأَحكام غير الواضحة ابتداءً في مجال العقلين (النظري والعملي) إلى أَحكام بديهية مدركة بلا مؤونة شيء منهما. و ذلك دفعاً للدور و التسلسل الذي استند إليه علماء المنطق والحكمة في القسم الأول ، أَي الحكمة النظرية. و الدليل واحد سار في الجميع.

إذا عرفت ما ذكرنا ، يقع الكلام في أمر آخر و هو تعيين المِلاك لدرك العقل صحة القضايا البديهية أو بطلانها في مجال العقلين ، فنقول :

إِنَّ المِلاك في مجال العقل النظري عبارة عن انطباق القضية مع التكوين و عدم انطباقها ، فالعقل ، يدرك من صميم ذاته أَن اجتماع النقيضين شيء غير متحقق في الخارج ، و أنَّه لا يمكن الحكم بكون شيء موجوداً و في الوقت نفسه الحكم بكونه معدوماً ، يدرك ذلك بلا حاجة إلى تجربة واستقراء.

وأما المِلاك في العقل العملي فهو عبارة عن درك مطابقة القضية و ملاءَمتها للجانب المثالي من الإِنسان غير الجانب الحيواني ، أو منافرتها له.

فالإِنسان بما هو ذو فطرة مثالية ، يتميز بها عن الحيوانات ، يجد بعض القضايا ملائمة لذلك الجانب العالي أو منافية له. فيصف الملائم بالحُسن و لزوم العمل ، و المنافي بالقُبح و لزوم الإِجتناب . و لا يدرك القضايا بهذين الوصفين لشخصه فقط أو لصنف خاص من الإِنسان أو لكل من يطلق عليه الإِنسان ، بل يدرك حسن صدورها أو قبحه لكل موجود عاقل مختار سواء وقع تحت مظلة الإِنسانية أو خارجها. و ذلك لأن المقوم لقضائه بأَحد الوصفين نفس القضية بما هي هي من غير خصوصية للمدرك. فهو يدرك أَنَّ العدل حَسَن عند الجميع و من الجميع ، و الظلم قبيح كذلك ، و لا يختص حكمه بأحدهما بزمان دون زمان و لا جيل دون جيل.

إلى هنا تم تبيين الأَمرين اللذين لهما دور في الحكم بالتحسين و التقبيح العقليين و يجب أن لا يُخلط أَحدهما بالآخر لكون الأَول مقدمة للثاني ، و هما :

أ ـ إنتهاء كل القضايا في مجال العقلين إلى قضايا بديهية دفعاً للمحذور.

ب ـ تبيين مِلاك دركِ العقلِ صحةَ تلك القضايا البديهية في مجال العقلين.

وقد اتضح بذلك أنَّ المدعي للتحسين و التقبيح العقليين الذاتيين في غنى عن البرهنة لما يتبَّناه ، كما أَنَّ المدعي لا متناع اجتماع النقيضين

و ارتفاعهما كذلك. و العجب أنَّ الحكماء و المتكلمين اتفقوا على أَنَّه يجب انتهاء القضايا النظرية في العقل النظري إلى قضايا بديهية ، و إِلاّ عقُمت الأَقِيْسَة و لزم التسلسل في مقام الإِستنتاج ، ولكنهم غفلوا عن إجراء ذلك الأَصل في جانب العقل العملي ولم يقسموا القضايا العملية إلى فكرية و بديهية ، أَو نظرية و ضرورية. كيف و الإِستنتاج و الجزم بالقضايا غير الواضحة الواردة في مجال العقل العملي لا يتم إِلاّ إِذا انتهى العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال. و قد عرفت أَنَّ المسائل المطروحة في الأَخلاق ، مما يجب الإِتصاف به أَو التنزّه عنه، أو المطروحة في القضايا البيتية و العائلية التي يعبر عنها بتدبير المنزل ، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة و تدبير المدن ، ليست في وضوح على نمط واحد ، بل لها درجات و مراتب. فلا ينال العقل الجزم بكل القضايا العملية إِلاّ إذا كانت هناك قضايا بديهية واضحة تبتني عليها القضايا المجهولة العملية حتى يحصل الجزم بها و يرتفع الإِبهام عن وجهها. و لأَجل ذلك نحن في غنى عن التوسع في طرح أَدلة القائلين بالتحسين و التقبيح و لا نذكر إِلاّ النَّزر اليسير منها.

فكما أَنهم غفلوا عن تقسيم القضايا في الحكمة العملية إلى القسمين ، فهكذا غفلوا عن تبيين ما هو المِلاك لدرك العقل صحة بعض القضايا أوْ بطلانها في ذلك المجال. و يوجد في كلمات المتكلمين في بيان المِلاك و المعيار أمور غير تامة يقف عليها من راجع الكتب الكلامية.

أَدلة القائلين بالتَّحسين و التَّقبيح العقليين :

الدّليل الأول :

هو ما أشار إليه المحقق الطّوسي بقوله : « و لانتفائهما مطلقاً لو ثبتا شرعاً » (3). أي إنَّا لو قلنا بأنَّ الحُسن و القُبح يثبتان من طريق الشرع ، يلزم من ذلك عدم ثبوتهما بالشرع أيضاً.

توضيحه : إِنَّ الحُسن والقُبح لو كانا بحكم العقل ، بحيث كان العقل مستقلا في إِدراك حُسن الصدق و قبح الكذب ، فلا إِشكال في أَنّ ما أَمر به الشارع يكون حَسَناً و ما نهى عنه يكون قبيحاً ، لحكم العقل بأَنَّ الكذب قبيح ، والشارع لا يرتكب القبيح ، و لا يتصور في حقه ارتكابه.

وأَما لو لم يستقل العقل بذلك ، فلو أمر الشارع بشيء أو نهى عنه أو أخبر بحسن الصدق و قبح الكذب فلا يحسن لنا الجزم بكونه صادقاً في كلامه حتى نعتقد بمضمونه لاحتمال عدم صدق الشارع في أَمره أَو إِخباره فإِن الكذب حسب الفرض لم يثبت قبحه بعد ، حتى لو قال الشارع بأَنَّه لا يكذب لم يحصل لنا اليقين بصدقه حتى في هذا الإخبار. فيلزم على قول الأَشعري أَنْ لا يتمكن الإِنسان من الحكم بحسن شيء لا عقلا و لا شرعاً.

وإِنْ شئت قلت : لو لم يستقل العقل بحسن بعض الأَفعال و قبح بعضها الآخر ، كالصدق و الكذب ، و أَخبرنا الله سبحانه عن طريق أَنبيائه بأنَّ الفعل الفلاني حسن أَو قبيح ، لم نجزم بصدق كلامه لتجويز الكذب عليه.

ثم إِنَّ الفاضل القوشجي الأشعري أجاب عن هذا الإِستدلال بقوله « إِنَّا لا نجعل الأَمر و النهي دليلي الحُسن و القبح ليرد ما ذكر بل نجعل الحُسن عبارة عن كون الفعل متعلق الأَمر و المدح، و القبح عن كونه متعلق النهي و الذم » (4).

يلاحظ عليه : إِنَّ البحث تارة يقع في التسمية و المصطلح فيصح أَنْ يقال إِنَّ ما وقع متعلق الأَمر و المدح حَسَن ، و ما وقع متعلق النهي و الذم قبيح. و العلم بذلك لا يتوقف إلاّ على سماعهما من الشرع. و أخرى يقع في الوقوف على الحسن الواقعي أو القبح كذلك عند الشرع ، فهذا مما لا يمكن استكشافه من مجرد سماع تعلق الأَمر و النهي بشيء إذْ من المحتمل أنْ يكون الشارع عابثاً في أَمره و نهيه. و لو قال إِنَّه ليس بعابث ، لا يثبت به نفي احتمال العابثية عن فعله و كلامه ، لاحتمال كونه هازلا أو كاذباً في كلامه.

فلأجل ذلك يجب أن يكون بين الإِدراكات العقلية شيء لا يتوقف درك حسنه و قبحه على شيء، و أن يكون العقل مستقلا في دركه ، و هو حسن العدل و قبح الظلم و حسن الصدق و قبح الكذب حتى يستقل العقل بذلك على أنَّ كل ما حكم به الشرع فهو صادق في قوله. فيثبت عندئذ أنَّ ما تعلق به الأمر حسن شرعاً ، و ما تعلق به النهي قبيح شرعاً. و هذا ما يهدف إليه المحقق الطوسي من أنَّه لولا استقلال العقل في بعض الأفعال ما ثبت حسن و لا قبح بتاتاً.

الدليل الثاني :

ما أشار إليه المحقق الطوسي أيضاً بقوله : « ولجاز التعاكس » (5) أي في الحسن و القبح.

توضيحه : إِنَّ الشارع على القول بشرعية الحسن و القبح ، يجوز له أن يُحَسّن أو يُقَبّح ما حَسّنه العقل أو قبّحه. و على هذا يلزم جواز تقبيح الإِحسان و تحسين الإِساءة و هو باطل بالضرورة. فإنَّ وجدان كل إنسان يقضي بأنَّه لا يصح أن يُذَمَّ المُحسن أو يُمدَحَ المسيء. قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « و لا يَكُونَنّ المُحسن والمُسيءُ عندَكَ بمنزلة سواء » (6).

والإِمام يهدف بكلمته هذه إيقاظ وجدان عامله ، و لا يقولها بما أنَّها كلام جديد غفل عنه عامله.

الدليل الثالث :

 لو كان الحُسن والقُبح شرعيين لما حكم بهما البراهمة والملاحدة الذين ينكرون الشرائع ، و يحكمون بذلك مستندين إلى العقل.

وهؤلاء الماديون والملحدون المنتشرون في أقطار واسعة من شرق الأرض و مغربها يرفضون الشرائع والدين من أساسه ، ويعترفون بحُسن أفعال و قبح بعضها الآخر.

ولأجل ذلك يغرّون شعوب العالم بطرح مفاهيم خدّاعة ، بدعاياتهم الخبيثة ، من قبيل دعم الصلح و السلام العالميين ، و حفظ حقوق البشر والعناية بالأسرى و السجناء و نبذ التمييز العُنصري ، إلى غير ذلك مما يستحسنه الذوق الإِنساني و العقل البشري في جميع الأوساط ، يطرحون ذلك ليصلوا من خلاله إلى أهدافهم و مصالحهم الشخصية. و لولا كون هذه المفاهيم مقبولة عند عامة البشر لما استخدمها دعاة المادية و الإِلحاد في العالم.

والحاصل أنَّ هناك أفعالا لا يشكّ أحد في حسنها سواء ورد حُسنها من الشرع أم لم يرد. كما أنَّ هناك أفعالا قبيحة عند الكل ، سواء ورد قبحها من الشرع أم لا. و لأجل ذلك لو خُيِّر العاقل الذي لم يسمع بالشرائع ، و لا علم شيئاً من الأحكام ، بل نشأ في البوادي ، خالي الذهن من العقائد كلّها ، بين أن يَصْدُقَ و يُعَطى ديناراً ، أو يَكْذِبَ و يُعْطَى ديناراً ، و لا ضرر عليه فيهما فإِنه يرجحّ الصدق على الكذب. و لولا قضاء الفطرة بحسن الصدق و قبح الكذب لما فرق بينهما، و لما اختار الصدق دائماً.

وهذا يعرب عن أَنَّ العقل له قدرة الحكم و القضاء في أمور ترجع إلى الفرد والمجتمع ، فيحكم بحسن إطاعة وليه المنعم و قبح مخالفته ، وأنَّ المحسن و المسيء ليسا بمنزلة سواء ، ونحو ذلك.

الدليل الرابع :

لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع ، لما قبح من الله تعالى شيء. و لو كان كذلك لما قبح منه إظهار المعجزات على أيدي الكاذبين. وتجوز ذلك يسدّ باب معرفة الأنبياء ، فإنَّ أيّ نبي أتى بالمعجزة عقيب الإدّعاء ، لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعواه.

وهذه النتيجة الباطلة من أهم و أبرز ما يترتب على إنكار القاعدة. و بذلك سدّوا باب معرفة النبوّة.

والعجب أنَّ الفَضْل بن رُوزبَهان حاول الإِجابة عن هذا الدليل بقوله :

« عدم إظهار المعجزة على يد الكذابين ليس لكونه أمراً قبيحاً عقلا ، بل لعدم جريان عادة الله ، الجاري مجرى المحال العادي ، بذلك. فعند ذلك لا ينسد باب معرفة الأنبياء ، لأنَّ العِلْم العادي حَكَم باستحالة هذا الإِظهار » (7).

فإنَّه يُلاحظ عليه ، إنَّه من أين وقف على تلك العادة ، و أنَّ الله لا يجري الإِعجاز على يد الكاذب. ولو كان التصديق متوقفاً على إحرازها ، لزم أن يكون المكذبون بنبوة نوح أو من قبله و من بعده ، معذورين في إنكارهم لنبوّة الأنبياء ، إذ لم تثبت عندهم تلك العادة ، لأَنَّ العلم بها إنما يحصل من تكرر رؤية المعجزة على يد الصادقين دون الكاذبين.

ويمكن أن يقال : إِنَّ تحصيل جريان عادة الله بأن لا يظهر المعجزة على يد الكاذب ، يجب أن يستند إلى مصدر ، فإن كان المصدر هو العقل فهو معزول عند الأشاعرة. و إن كان هو السمع فالمفروض أنَّه يحتمل أن يكون الشرع كاذباً في هذا الإِدعاء ، بل لا سمع قبل ثبوت نبوّة النبي.

وحصيلة البحث : إِنَّ منكر الحُسن والقُبح منكر لما هو من البديهيات. و لا يصحّ الكلام معه ، لأن النزاع ينقطع إذا بلغ إلى مقدمات ضرورية و هؤلاء ينازعون فيها.

ليت شعري ، إذا لم يحكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق ، وجَوَّز أن ينهَى الله سبحانه العبد عن الفعل و يخلق فيه اضطراراً و يعاقبه عليه ، فقل : ها ، أيّ أمر يُدرِكُه العقل؟!!.

قيل : اجتمع النظَّام و النّجّار للمناظرة ، فقال النجار : لم تدفع أن يكلف الله عباده ما لا يطيقون؟.

فسكت النظَّام ، فقيل له : لم سَكَتّ؟

قال : كنت أريد بمناظرته أن الزمه القول بتكليف ما لا يُطاق ، فإذ التزمه و لم يستح ، فبم الزمه؟.

وبذلك تعرف مدى و هن ما ذكره أبو الحسن الأشعري في لمعه ، و إليك نصه :

« فإن قال قائل : هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة؟ قيل له : لله تعالى ذلك ، و هو عادل إن فعله » ... إلى أن قال ... « ولا يقبح منه أن يعذّب المؤمنين ، و يُدخل الكافرين الجنان. و إنما نقول إنَّه لا يفعل ذلك ، لأنه أخبرنا إنه يعاقب الكافرين و هو لا يجوز عليه الكذب في خبره» (8).

أدلة الأشاعرة على نفي التحسين و التقبيح العقليين :

الدليل الأول : الله مالك كل شيء يفعل في ملكه ما يشاء :

استدل الأشعري على مقالته بقوله : « والدّليل على أنَّ كل ما فعله فله فعله ، أنَّه المالك ، القاهر ، الذي ليس بمملوك ، و لا فوقه مبيح ، و لا آمر ، و لا زاجر ، و لا حاظر ، و لا مَن رَسَمَ له الرسوم ، و حدّ له الحدود. فإذا كان هذا هكذا ، لم يقبح منه شيء ، إذ كان الشيء إنَّما يقبح منّا ، لأنَّا تجاوزنا ما حدّ ورسم لنا ، و أتينا ما لم نملك إتيانه. فلمَّا لم يكن الباري مملوكاً و لا تحت آمر ، لم يقبح منه شيء. فإن قال : فإنما يقبح الكذب لأنه قبّحه ، قيل له : أجل ، و لو حسّنه لكان حسناً ، و لو أمر به لم يكن عليه اعتراض.

فإن قالوا : فجوِّزوا عليه أن يكذب ، كما جوزتم أن يأمر بالكذب. قيل لهم : ليس كل ما جاز أن يأمر به ، جاز أن يوصف به » (9).

يلاحظ عليه : أمَّا أوَّلا ـ فإننا نسأل الشيخ الأشعري إنَّه سبحانه إذا أوْلَم طفله في الآخرة و عذّبه بألوان التعذيب ، مع كون الطفل بريئاً لم يصدر منه ذنب ، و رأى الأشعري ذلك بأم عينه في الآخرة ، هل يرى ذلك عين العدل ، و نفس الحُسن؟! أو أنه يجد ذلك الفعل ، من وجدانه ، أمراً مُنْكَراً؟.

ومثله ما لو فُعل بالأشعري نفس ما فعل بطفله مع كونه مؤمناً ، فهل يرضى بذلك في أعماق روحه ، و يراه نفس العدل ، غير متجاوَز عنه ، بحجة أنَّ الله سبحانه مالِك المُلك يفعل في ملكه ما يشاء؟ أو أنه يقضي بخلاف ذلك؟.

وأَمَّا ثانياً : فلا شك أنَّه سبحانه مالِك المُلك و الملكوت يقدر على كل أمر ممكن ـ كما عرفت ـ من غير فرق بين الحَسَن و القبيح ، فعموم قدرته لكل ممكن ممّا لا شبهة فيه ، ولكن حكم العقل بأنَّ الفعل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم ، ليس تحديداً لملكه و قدرته. و هذا هو المهم في حلّ عقدة الأشاعرة الذين يزعمون أنَّ قضاء العقل و حكمه في أفعاله سبحانه نوع دخالة في شؤون ربّ العالمين ، ولكن الحق غير ذلك.

توضيحه : إِنَّ العقل بفضل التجربة ، أو بفضل البراهين العقلية ، يكشف عن القوانين السَّائدة على الطبيعة ، كما يكشف عن القوانين الرياضية ، فلو قال العقل : إِنَّ كل زوج ينقسم إلى متساويين ، فهل يحتمل أنَّ العقل بذلك فَرَض حُكْمَه على الطبيعة ، أو يقال إنَّ الطبيعة كانت تحمل ذلك القانون و العقل كشفه و بيّنه؟ فإذا كان هذا هو الفرق بين فرض الحكم و كشفه في عالم الطبيعة ، فليكن هو الفارق بين إدراكِهِ حُسْن الفعل و قُبحه و أنَّ أيّ فعل يصدر منه و أيَّهُ لا يصدر منه ، و فَرْضِهِ الحُكْمَ على الله سبحانه فرضاً يحدد سعة قدرته وَ إرادته و فعله. فليس العقل هنا حاكماً و فارضاً على الله سبحانه ، بل هو بالنظر إلى الله تعالى و صفاته التي منها الكمال والغنى ـ يكشف عن أنَّ الموصوف بمثل هذه الصفات و خاصة الحكمة ، لا يصدر منه القبيح ، ولا الإِخلال بما هو حسن.

وبعبارة أخرى : إِنَّ العقل يكشف عن أنَّ المُتَّصفَ بكل الكمال ، و الغنى عن كل شيء ، يمتنع أن يصدر منه الفعل القبيح ، لتحقّق الصَّارف عنه و عدم الداعي إليه ، و هذا الإمتناع ليس امتناعاً ذاتياً حتى لا يقدر على الخلاف ، و لا ينافي كونه تعالى قادراً عليه بالذات ، و لا ينافي اختياره في فعل الحسن و ترك القبيح ، فإن الفعل بالإِختيار ، و الترك به أيضاً. و هذا معنى ما ذهبت إليه العدلية من أنَّه يمتنع عليه القبائح. و لا يهدف به إلى تحديد فعله من جانب العقل ، بل الله بحكم أنَّه حكيم ، التزم و كتب على نفسه أن لا يخل بالحسن و لا يفعل القبيح. و ليس دور العقل هنا إلاّ دور الكشف و التبيين بالنظر إلى صفاته و حكمته.

وباختصار : إِنَّ فعله سبحانه مع كون قدرته عامة ـ ليس فوضوياً و متحرراً عن كل سلب و إيجاب ، و ليس التحديد مفروضاً عليه سبحانه من ناحية العقل ، و إنما هو واقعية و حقيقة كشف عنه العقل ، كما كشف عن القوانين السائدة على الطبيعة والكون. فتَصوُّر أنَّ فعله سبحانه متحرر عن كل قيد وحَدّ ، بحجة حفظ شأن الله سبحانه ، وسعة قدرته ، أشبه بالمُغالَطة ، فإنَّ حفظ شأنه سبحانه غير فرض انحلال فعلِه عن كل قيد و شرط.

وبالتأمل فيما ذكرنا يظهر ضعف سائر ما استَدلَّ به القائلون بنفي التحسين و التقبيح العقليين. و لا بأس بالإِشارة إلى بعض أدلتهم التي أقامها المتأخرون عن أبي الحسن الأشعري.

الدليل الثاني : لو كان التحسين و التقبيح ضرورياً لما وقع الإِختلاف :

قالو : لو كان العلم بحسن الإِحسان و قبح العُدوان ضرورياً لما وقع التَّفاوت بينه و بين العِلْم بأنَّ الواحد نصف الإِثنين ، لكنَّ التالي باطل بالوجدان.

وأجاب عنه المحقق الطّوسي بقوله : « يجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور » (10).

توضيحه : إنَّه قد تتفاوت العلوم الضرورية بسبب التفاوت في تصور أطرافها. و قد قرر في صناعة المنطق أنَّ للبديهيات مراتب : فالأَوليّات أبدَه من المشاهَدات بمراتب. والثانية أبده من التجريبيات و الثالثة أبده من الحَدْسيات ، و الرابعة أبده من المتواترات ، و الخامسة أبده من الفطريَّات. و الضابط في ذلك أنَّ ما لا يتوقف التصديق به على واسطة سوى تصور الطرفين فهو أبده من غيره ، و ذلك مثل الأوليات (11) ، و هكذا.

فلو صحّ ما ذكره الأشاعرة من الملازمة ، لزم أنْ لا تكون الحدسيات من اليقينيات.

وباختصار ، إنَّ العلوم اليقينية ، مع كثرتها ليست على نمط واحد ، بل لها مراتب و درجات ، و هذا شيء يلمسه الإِنسان إذا مارس علومه و يقينياته و على ذلك فلا مانع من أن يقع الاختلاف في بعض العلوم الضرورية لدوافع خاصة ، و هي في المقام تصوّر أنَّ الحكم بالحُسن والقُبح تحديد لسلطته .

والأول هو الأوليات ، والثاني إمَّا أن يتوقف على واسطة غير الحس الظاهر و الباطن أو لا.

والثاني المشاهدات ، و تنقسم إلى مشاهدات بالحس الظاهر و مشاهَدات بالحسّ الباطن.

والأول إمَّا أن تكون تلك الواسطة بحيث لا تغيب عن الذهن عند تصور الأطراف أو لا تكون كذلك ، فالأول هي الفطريات ، وتسمى بالقضايا التي قياساتها معها. و الثاني إمَّا أن يستعمل فيه الحدس ، وهو انتقال الذهن الدفعي من المبادي إلى المطالب أو لا يستعمل فيه ، فالأول هو الحَدْسيات ، والثاني إن كان الحكم فيه حاصلا بإخبار جماعة يمتنع عند العقل تواطؤهم على الكذب فهو المتواترات ، و إن لم يكن كذلك بل حاصلا من كثرة التجارب فهي التجربيات و قد علم بذلك حدّ كل واحد منها.

سبحانه ، فلأجل ذلك رفضت الأشاعرة هذا العلم الضروري للحفاظ على عموم سلطته تعالى.

الدليل الثالث : لو كان الحُسن والقُبح عقليين لما تغيرا :

إِنَّ الحُسنَ والقُبحَ لو كانا عقليين لما اختلفا ، أي لما حَسُن القبيح و لما قَبُح الحسن ، و التَّالي باطل ، فإنَّ الكذب قد يحسن والصدق قد يقبح و ذلك فيما إذ تضمن الكذب إنقاذ نبي من الهلاك، و الصدق إهلاكه.

فلو كان الكذب قبيحاً لذاته لما كان واجباً و لا حسناً عندما استفيد به عصمة دم نبي عن ظالم يقصد قتله (12).

وأجاب عنه المحقق الطّوسي بقوله : « و ارتكاب أقل القبيحين مع إمكان التخلّص » (13).

وتوضيحه : إِنَّ الكذب في هذه الصّورة على قبحه إلاّ أنَّ ترك انقاذ النبي أقبح من الكذب ، فيحكم العقل بارتكاب أقلّ القبيحين تخلّصاً من ارتكاب الأقبح. على أنَّه يمكن التخلص عن الكذب بالتعريض (أي التورية).

وباختصار : إِنَّ تخليص النبي أرجح من حسن الصدق فيكون تركه أقبح من الكذب فيرجح ارتكاب أدنى القبيحين و هو الكذب لاشتماله على المصلحة العظيمة ، على الصدق.

أضف إلى ذلك ، أنَّ الإِستدلال مبني على كون قُبح الكذب و حُسن الصدق ، كقُبح الظّلم و حُسن العدل ، ذاتيين لا يتغيران. و أَمَّا على ما مرّ من أنَّ الأفعال بالنسبة إلى الحسن و القُبح على أقسام منها ما يكون الفعل علة تامة لأحدهما ، فلا يتغير حُسنه و لا قُبحه بعروض العوارض كحُسن الإِحسان و قُبح الإِساءة.

 ومنها ما يكون مقتضياً لأحدهما ، فهو موجب للحسن لو لم يعرض عليه عنوان آخر ، و هكذا في جانب القبح. و قد تقدم أنَّ حُسْن الصّدق و قُبح الكذب من هذا القبيل. و منها ما لا يكون علة و لا مقتضياً لأحدهما كالضرب ، جزاء أو ايذاءً.

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة و هي أنَّ هناك أفعالا يستقل العقل بحسنها و قبحها ، و يقضي بهما من دون أن يستعين بالشرع ، ويرى حسنها و قبحها مطّرداً في جميع الفاعلين ، من غير اختصاص بالخالق أو المخلوق. و قد ذكرنا مِلاك قضائه و هو ملاءمة الفعل أو منافرته للشخصية العلوية المثالية التي خلق الإِنسان عليها.

ثم إنَّ القول بالتحسين والتقبيح العقليين إنما يتم على القول بأنَّ الإِنسان فاعل مختار ، و أمَّا على القول بأنَّه مجبور فى أفعاله ، فالبحث عنهما منفي بانتفاء موضوعه ، لأن شيئاً من أفعال المجبور لا يتصف بالحسن و لا بالقُبح عقلا. و بما أنَّ الأشاعرة يصوّرون الإِنسان فاعلا مجبوراً ، فلازم مقالتهم نفي التحسين و التقبيح العقليين ...(14).

التَّحسين و التقبيح في الكتاب العزيز :

إِنَّ التدبّر في آيات الذكر الحكيم يعطي أنَّه يُسَلّم استقلال العقل بالتحسين و التقبيح خارج إطار الوحي ، ثم يأمر بالحَسَن و ينهي عن القبيح.

1 ـ قال سبحانه : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

2 ـ {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } [الأعراف: 33].

3 ـ {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } [الأعراف: 157].

4 ـ {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28].

فهذه الآيات تعرب بوضوح عن أنَّ هناك أموراً توصف بالإحسان والفحشاء و المنكر و البغي و المعروف قبل تعلّق الأمر أو النهي بها ، و أنَّ الإِنسان يجد اتصاف الأفعال بأحدها ناشئاً من صميم ذاته ، كما يعرف سائر الموضوعات كالماء و التراب. وليس عرفان الإِنسان بها موقوفاً على تعلّق الشرع و إنما دور الشرع هو تأكيد إدراك العقل بالأمر بالحسن و النهي عن القبيح.

أضف إلى ذلك أنَّه سبحانه يتخذ وجدان الإِنسان سنداً لفضائه فيما تستقل به عقليّته :

5 ـ يقول تعالى : {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28].

6 ـ و يقول سبحانه : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36].

7 ـ و يقول سبحانه : { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].

فالتدبّر في هذه الآيات لا يَدَعُ مجالا لتشكيك المشكّكين في كون التحسين و التقبيح من الأمور العقلية التي يُدركها الإِنسان بالحجة الباطنيّة من دون حاجة إلى حجة ظاهرية.

ثمرات التحسين و التقبيح العقليين :

تحتل مسألة التحسين و التقبيح العقليين مكانة مرموقة في الأبحاث الكلامية و ذلك أن أجلَّ ما تثبته هذه المسألة حكمة الباري تعالى وأنَّه منزَّه عن فعل ما لا ينبغي ، وبه تنحل الكثير من المشاكل الكلامية و غيرها. و إليك فيما يلي بيان بعض منها:

1 ـ وجوب المعرفة :

إتفق المتكلمون ـ ما عدا الأشاعرة ـ على لزوم معرفة الله سبحانه على كل إنسان لزوماً عقلياً ، بمعنى أنَّ العقل يحكم بحُسْن المعرفة وقُبح تركها ، لِمَا في المعرفة من أداء شكر المنعِم ، وهو حسن ، و في تركها من الوقوع في الضَّرر المحتمل ، و هو قبيح. هذا إذا قلنا باستقلال العقل ، و إِلاّ لَمَا ثبت وجوب المعرفة ، لا عقلا ـ لأنه حسب الفرض معزول عن الحكم ـ و لا شرعاً ، لأنه لم يثبت الشرع بعد.

2 ـ وجوب تنزيه فعله سبحانه عن العبث :

ممّا يترتب على هذه المسألة تنزيه أفعاله سبحانه عن العبث و لزوم اقترانها بالغايات و الأغراض و هذه المسألة من المسائل التي تشاجرت فيها العدلية و الأشاعرة فالأولى على الإيجاب والثانية على السلب. و للحكماء فيها رأي خاص أيضاً ، و لذلك فإِنَّا نفردها بالبحث بعد عرض هذه النتائج.

3 ـ لزوم تكليف العباد :

إذا كان فعله سبحانه منزّهاً عن العبث ، يستقل العقل بالحكم بلزوم إيصال كل مكلف إلى الغايات التي خلق لها ، و ذلك بتكليفهم بما يوصلهم إلى الكمال ، و زجرهم عمّا يمنعهم عنه ، حتى لا يتركوا سدى ، و تتفتح في ضوء التكليف طاقاتهم الروحية. وعِلْم الإِنسان بالحُسن و القُبح لا يكفي في استكماله ، إذ هناك أمور تصده عن بلوغ الغاية أو توصله إليها و هي مجهولة له ، و لا تعلم إلاّ من طريق الوحي و الشرع.

4 ـ لزوم بعث الأنبياء :

إِنَّ مسألة لزوم إرسال الرسل أيضاً ، تبتني على هذه المسألة ، فالعقل الذي يدرك بأنَّ الإِنسان لم يخلق سدى بل خلق لغاية ، يدرك بأنه لا يصل إليها إلاّ بالهداية التشريعية الإِلهية ، فيستقل بلزوم بعث الدعاة من الله تعالى لهداية البشر.

5 ـ لزوم النظر في برهان مدّعي النبوّة :

لا شك أنَّ الانبياء الحقيقيين يبعثون بمعاجز و بيّنات ، فإذا ادّعى إنسان السَّفارة من الله تعالى إلى النَّاس ، فهل يجب على الناس ، النظر في دعواه و برهانه؟ على استقلال العقل في مجال التحسين و التقبيح ، يجب النظر و الإِصغاء دفعاً للضرر المحتمل. و أمَّا على القول بعدمه ، فلا يجب ذلك عقلا ـ لأنه حسب الفرض معزول ـ و لا شرعاً ، لعدم ثبوته بعد. و نتيجة ذلك أنَّ التارك للنظر معذور ، لأنه لم يهتد إلى حقيقة الأمر!

6 ـ العِلْم بصدق دعوى النبوّة :

إِذا اقترنت دعوة المتَنّبئ بالمعاجز و البيّنات الواضحة ، فلو قلنا باستقلال العقل في مجال الحُسن و القُبح ، حكمنا بصدقه ، لقبح إعطاء البيّنات للمدعي الكذّاب ، لما فيه من إضلال النَّاس. و أمَّا إذا عزلنا العقل عن الحكم في المقام ، فلا دليل على كونه نبيّاً صادقاً ، والشرع بعد لم يثبت حتى يحكم بصدقه.

7 ـ الخاتمية و استمرار أحكام الإِسلام :

إِنَّ استقلال العقل بالتحسين و التقبيح ، بالمعنى الذي عرفت من الملاءَمة للفطرة العلوية و المنافرة لها ، أساس الخاتميَّة و بقاء أحكام الإِسلام و خلودها إلى يوم القيامة. و ذلك أنَّ الفطرة مشتركة بين جميع أفراد البشر و لا تتبدل بتبدل الحضارات و تطّور المدنيّات ، فإِنَّ تبدلها لا يمسّ فطرة الإِنسان و لا يغيّر جبلّته ، فيصبح ما تستحسنه الفطرة أو تستقبحه خالداً إلى يوم القيامة ، و لا يتطرق التبدل و التغيّر إليه.

8 ـ ثبات الأخلاق :

إِنَّ مسألة ثبات الأخلاق في جميع العصور و الحضارات أو تبدلها تبعاً لاختلافها ، مما طرح مؤخراً عند الغربيين ودارت حوله المناقشات و أبديت فيه الآراء ، فمن قائل بثبات أصولها ، و من قائل بتبدلها و تغيّرها حسب تغيّر الأنظمة و الحضارات. ولكن المسألة لا تنحل إلاّفي ضوء التحسين و التقبيح العقليين الناشئين من قضاء الجِبِلَّة الإِنسانية العالية و الفطرة الثابتة ، فعند ذاك تتّسم أصول الأخلاق بسمة الثبات و الخلود. و أما ما يتغير بتغير الحضارات فإنما هو العادات و التقاليد العرفية.

خذ على ذلك مثلا « إكرام المحسن » ، فإنه أمر يستحسنه العقل ، و لا يتغير حكم العقل هذا أبداً ، و إنما الذي يتغير بمرور الزمان ، وسائل الإِكرام و كيفياته. فإذاً ، الأصول ثابتة ، و العادات و التقاليد ـ التي ليست إلاّ لباساً للأصول ـ هي المتغيّرة.

9 ـ الحكمة في البلايا و المصائب و الشرور :

من المسائل المشهورة في الحكمة الإِلهية مسألة البلايا و الشرور ، فإِنَّ وجود هذه الحوادث أوجد إشكالات على حكمته بل عِلْمه تعالى ، فهي بظاهرها تدل على انعدام النّظام في الكون من جهة ، و تنافي حكمته بمعنى إتقان أفعاله من جهة ثانية ، و تنافي حكمته على نحو الإِطلاق ـ أعني كون فعله منزهاً عمّا لا ينبغي من جهة ثالثة ، و تنافي حكمته على نحو الخصوص ـ أعني عدله تعالى و قيامه بالقسط من جهة رابعة...

10 ـ الله عادل لا يجور :

من أبرز مصاديق حكمته تعالى ـ الثابتة بفضل القول بالتحسين و التقبيح العقليين ـ عدله ، بمعنى قيامه بالقسط و أنَّه لا يجور ولا يظلم ... و يترتب عليه بعض النتائج منها :

أ ـ قبح العقاب بلا بيان :

إذا كان الله تعالى عادلا ، فإنه لا يعاقب عباده من دون أن يبين لهم تكاليفهم ، فإنَّ ذلك ظلم يحكم العقل بقبحه و لزوم تنزّه الواجب عنه. من دون فرق بين أن لا يقع البيان أصلا ، أو يقع و لا يصل إليهم لأسباب و عوامل معينة. و هذا الأصل مما اتفق عليه الأصوليون و بنوا عليه أصالة البراءة في الشبهات غير المقترنة بالعلم الإِجمالي.

نعم ، المسألة تبتنى على التحسين و التقبيح العقليين إذا لم تثبت البراءة من الشرع بواسطة الكتاب و السنة ، و المفروض أنَّ البحث فيها بعده.

ب ـ قبح التكليف بما لا يطاق :

من نتائج حكم العقل بعدله تعالى ، حكمه بلزوم وجود التمكّن و القدرة في العبد للإِتيان بما يُكَلَّفون به ، و أنَّ تكليفهم و إلزامهم بما هو فوق طاقتهم ظلم و هو قبيح لا يصدر عن الحكيم ، و لأجل أهمية هذا البحث نفرده أيضاً ببحث مستقل بعد عرض هذه النتائج.

ج ـ مدى تأثير القضاء و القدر في مصير الإِنسان :

من جملة المسائل المترتبة على عدله تعالى ، تأثير القضاء و القدر في مصير الإِنسان ، و هذه المسألة مع كونها من المسائل الأصولية في العقيدة الإِسلامية ، مما وقع فيه الجدل و النقاش إلى درجة التكفير و إراقة الدماء بين المسلمين في العصور الأولى. و يتفرع عليها مسألة البَداء أو تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة. و حيث إِنَّ الوقوف عليهما يتوقف على الإِسهاب والتفصيل في مباحثهما ، خصصنا كلاًّ منهما بفصل خاص من فصول الكتاب.

د ـ إختيار الإِنسان :

من جملة المسائل المترتبة على عدله تعالى ، اختيار الإِنسان في أفعال نفسه ، و ذلك أنَّ كونه مجبوراً مُسَيِّراً فيما يقوم به ، ظلم و جور...

الله عادلٌ لا يجور :

إِنَّ مقتضى التَّحسين و التّقبيح العقليين ... هو أَنَّ العقل ـ بما هو هو ـ يدرك أَنَّ هذا الشيء ـ بما هو هو ـ حسن أو قبيح ، و أَن أحد هذين الوصفين ثابت للشيء ـ بما هو هو ـ من دون دخالة ظرف من الظروف أَو قيد من القيود ، و من دون دخالة دَرْكِ مدرك خاص.

وعلى ذلك فالعقل في تحسينه و تقبيحه يدرك واقعية عامة ، متساوية بالنسبة إلى جميع المدركين و الفاعلين ، من غير فرق بين الممكن والواجب. فالعدل حَسَن و يُمْدَح فاعله عند الجميع ، والظلم قبيح يُذَمّ فاعلهُ عند الجميع. و على هذا الأساس فالله سبحانه ، المدرك للفعل ووصفه أعني استحقاق الفاعل للمدح أو الذم ـ من غير خصوصية للفاعل ، كيف يقوم بفعل ما يحكم بأَنَّ فاعله مستحق للذم ، أَو يقوم بفعل ما يحكم بأَنّه يجب التنزه عنه؟

وعلى ذلك فالله سبحانه عادل ، لأَن الظلم قبيح و مما يجب التنزّه عنه ، و لا يصدر القبيح من الحكيم ، والعدل حسن و مما ينبغي الإِتصاف به ، فيكون الإِتصاف بالعدل من شؤون كونه حكيماً منزهاً عما لا ينبغي.

وإنْ شئت قلت : إِنَّ الإِنسان يدرك أنَّ القيام بالعدل كمال لكل احد.

وارتكاب الظلم نقص لكل أحد. و هو كذلك ـ حسب إِدراك العقل ـ عنده سبحانه. و معه كيف يجوّز أَنْ يرتكب الواجب خلاف الكمال ، و يقوم بما يجرّ النقص إليه (15).

دفع إِشكال :

ربما يقال إنّ كون الشيء حسناً أو قبيحاً عند الإِنسان ، لا يدل على كونه كذلك عند الله سبحانه ، فكيف يمكن استكشاف أنه لا يترك الواجب و لا يرتكب القبيح؟.

والإِجابة عنه واضحة ، و ذلك أنَّ مَغْزى القاعدة السالفة هو أنَّ الإِنسان يدرك حسن العدل و قبح الظلم لكلّ مُدْرِك شاعر ، ولكلّ عاقل حكيم ، من غير فرق بين الظروف و الفواعل. و هذا نظير درك الزوجية للأربعة ، فالعقل يدرك كونها زوجاً عند الجميع ، لا عند خصوص الممكن، فليس المقام من باب إسراء حكم الإِنسان الممكن إلى الواجب تعالى ، بل المقام من قبيل استكشاف قاعدة عامة ضرورية بديهية عند جميع المدركين من غير فرق بين خالقهم و مخلوقهم. و لا يختص هذا الأمر بهذه القاعدة ، بل جميع القواعد العامة في الحكمة النظرية كذلك.

وعلى هذا يثبت تنزهه سبحانه عن كل قبيح ، واتصافه بكل كمال في مقام الفعل ، فيثبت كونه تعالى حكيماً لا يرتكب اللغو و ما يجب التنزه عنه ، وبالتالي فهو عادل لا يجور ولا يظلم ولا يعتدي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. الإِشارات و التنبيهات ، ج 1 ، ص 219 ـ 220 ـ قوله : « و إمَّا اصطلاحيات » : يريد منه أن تكون مشهورة عند الكل كقولنا : « العلم بالمتقابلات واحد » ، فإِنَّ العلم بأبوة زيد لعمرو مساوق للعلم ببنوة عمرو لزيد. أو عند أصحاب صناعة كقولنا : « التسلسل محال » ، و هو مشهور عند المناظرة. أو عند أصحاب ملة كقولنا : « الإله واحد » و « الرِّبا حرام ».

2 ـ تعليقات الحكيم السبزواري على شرح المنظومة ، ص 310.

3 ـ كشف المراد ، ص 186.

4 ـ شرح التجريد للفاضل القوشجي ، ص 442.

5 ـ كشف المراد ، ص 186.

6 ـ نهج البلاغة ، الكتاب 53.

7 ـ دلائل الصّدق ، ج 1 ، ص 369.

8 ـ اللّمع ، ص 116.

9 ـ اللّمع ، ص 117.

10 ـ كشف المراد ، ص 186.

11 ـ وجه الضبط أنَّ القضايا البديهية إمَّا أن يكون تصور طرفيها مع النسبة كافياً في الحكم والجزم ، أو لا يكون.

12 ـ الإِحكام ، للآمدي ، ج 1 ، ص 121.

13 ـ كشف المراد ، ص 187.

14 ـ لا حظ شرح تجريد الاعتقاد للفاضل القوشجي ، ص 329 ، حول قولهم بكون الإِنسان مجبوراً في فعله.

15 ـ وربما يقرر وجه عدم صدور عدم القبيح عنه تعالى بأنَّ الدَّاعي إلى صدوره إما داعي الحاجة ، أو داعي الحكمة ، أو داعي الجهل. والكل منتف في حقه سبحانه. أمَّا الأَول فلغناه المطلق ، و أَمَّا الثَّاني فلكون الحكمة في خلافه ، و أَما الثالث فلكونه عالماً على الإِطلاق.

وبما أنَّ هذا الدليل مبنى على كون فاعلية الواجب بالداعي الزائد على ذاته ، و هو خلاف التحقيق ، لكونه تاماً في الفاعلية فلا يحتاج فيها إلى شيء وراء الذات ، أَتينا به في الهامش. وقد اعمد عليه العلاَّمة في شرح التجريد ص 187 ـ 188. والفاضل المقداد في شرح نهج المسترشدين ص 260 وغير ذلك من الكتب الكلامية.