ولاية الائمّة عليهم السلام وكلام الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج5/ص97-92
2025-12-18
42
ذكر العلّامة الفقيد استاذنا المعظّم آية الله الطباطبائيّ رضوان الله عليه في رسالة الولاية موجزاً عن مقامات ودرجات ولاية الأئمّة الاثني عشر للشيعة، الخلفاء المنصوبين من قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله ننقله فيما يلي نصّاً:
ومن الأخبار في هذا الباب، ما في «البحار»، عن «المحاسن» عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: "إنَّا مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ نُكَلِّمُ النَّاسَ على قَدْرِ عُقُولِهِمْ".
وهذا التعبير إنّما يحسن إذا كان هناك من الامور ما لا يبلغه فهم السامعين من الناس، وهو ظاهر. لأنه قال: نُكَلِّمُ، ولم يقل: نَقُولُ أو نُبَيِّنُ أو نَذْكُرُ، ونحو ذلك. وفي هذا دلالة على أنّ المعاف التي بيّنها الأنبياء عليهم السلام إنّما وقع بيانها على قدر عقول اممهم وما تستوعبه وتتّسع له أفكارهم، لأنهم شاءوا الميل من الصعب إلى السهل، لا أنهم اقتصروا بهذا المقدار من المعارف الكثيرة إرفاقاً بالعقول، اقتصاراً من المجموع بالبعض.
وبعبارة اخرى: فإنّ تعبير رسول الله ناظر إلى الكيف دون الكمّ، فيدلّ على أنّ حقيقة هذه المعارف درايةٌ وراءها ما تسير العقول لإدراكه في المعارف بالبرهان والجلال والخطابة، وقد بيّنها الأنبياء عليهم السلام بجميع طرق العقول من البرهان والجدل والوعظ كلّ البيان، وقطعوا في شرحها كلّ طريق ممكن.
ومن هنا يعلم أنّ للمعارف الإلهيّة مرتبة فوق مرتبة البيان اللفظيّ؛ لو نزلت إلى مرتبة البيان لدفعتها العقول العاديّة، أمّا لكونها خلاف الضرورة عندهم، أو لكونها منافية للبيان الذي بيّنت لهم به وقبلته عقولهم.
ومن هنا يظهر أنّ نحو إدراك هذه المعارف بحقائقها غير نحو إدراك العقول. وهو الإدراك الفكريّ، فإنّهم ذلك!
ومنها الخبر المستفيض المشهور:[1] "انّ حَدِيثَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لا يَحْتَمِلُهُ إلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أوْ نَبِيّ مُرْسَلٌ أوْ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإيمَانِ".
ومنها، وهو أدلّ على المقصود من سابقه، ما في «البصائر» مسنداً عن أبي الصامت، قال: سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول: "انّ مِنْ حَدِيثِنَا مَا لَا يَحْتَمِلُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولَا نَبِيّ مُرْسَلٌ ولَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ. قلتُ: فمن يحتمله؟ قال: نَحْنُ نَحْتَمِلُهُ."
والاخبار في هذا المساق أيضاً مستفيضة، وفي بعضها: قلتُ: فمن يحتمله، جعلت فداك؟! قال: مَنْ شِئنَا.
وفي «البصائر» أيضاً عن المفضّل، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: "أنّ حَدِيثَنَا صَعْبٌ، مُسْتَصْعَبٌ، ذَكْوَانٌ، أجْرَدُ، ولَا يَحْتَمِلُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولَا نَبِيّ مُرْسَلٌ، ولَا عَبْدٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإيمانِ.
أمَّا الصَّعْبُ فَهُوَ الذي لَمْ يُرْكَبْ بَعْدُ؛ وأمَّا الْمُسْتَصْعَبُ فَهُوَ الذي يُهْرَبُ مِنْهُ إذا رُئيَ، وأمَّا الذَّكْوَانُ فَهُوَ ذَكَّاءُ الْمُؤْمِنِينَ؛ وأمَّا الأجْرَدُ فَهُوَ الذي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولَا مِنْ خَلْفِهِ وهُوَ قَوْلُ اللهِ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} فَأحْسَنُ الْحَدِيثِ حَدِيثُنَا، ولَا يَحْتَمِلُ أحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ أمْرَهُ بِكَمَالِهِ حتى يَحُدَّهُ لأنهُ مَنْ حَدَّ شَيْئاً فَهُوَ أكْبَرُ مِنْهُ؛ والْحَمَدُ للهِ على التَّوْفِيقِ؛ والإنْكَارُ هُوَ الْكُفْرُ".[2]
قوله: لَا يَحْتَمِلُ، إلى قوله: حتى يَحُدَّهُ مع ما في صدر الحديث من نفي الاحتمال، يدلّ على أنّ حديثهم عليهم السلام أمر ذو مراتب، يمكن أن يحتمل بعض مراتبه بواسطة التحديد، ويشهد له تعبيره عن الحديث في رواية أبي الصامت بقوله عليه السلام: مِنْ حَدِيثِنَا. فيكون حينئذٍ مورد هذه الرواية مع الرواية الاولى: "لَا يَحْتَمِلُهُ إلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ" مورداً واحداً لكونه مشكّكاً ذا مراتب؛ ويكون أيضاً كالتعميم النبويّ السابق "إنَّا مَعَاشِرَ الأنْبيَاءِ نُكَلِّمُ النَّاسَ على قَدْرِ عُقُولِهِمْ".
والعلّة في عدم تحديد الخلائق حديثهم لأنّ ظروفهم التي بها يحتملون ما يحتملون، وهي ذواتهم وحدود وجودهم، محدود، فيصير ما يحتملونه محدوداً، وهو السبب في عدم إمكان أحد احتمال حديثهم بكماله، لأنه أمر غير محدود وخارج عن حدود الإمكان، وهو مقامهم من الله سبحانه حيث لا يحدّه حدّ، وهو الوَلَاية المُطْلَقَة. وسيجيء إن شاء الله العزيز في بعض الفصول الاخيرة كلام فيه أبسط من هذا.
ومنها أخبار اخر تؤيّد ما مرّ، كما عن «بصائر الدرجات» مسنداً، عن مُرازِم، قال أبو عبد الله عليه السلام: "انّ أمْرَنَا هُوَ الْحَقُّ؛ وحَقُّ الْحَقِّ؛ وهُوَ الظَّاهِرُ؛ وبَاطِنُ الظَّاهِرُ؛ وبَاطِنُ الْبَاطِنِ؛ وهُوَ السِّرُّ؛ وسِرُّ السِّرِّ؛ وسِرُّ الْمُسْتَسِرِّ؛ وسِرٌّ مُقَنَّعٌ بِالسِّرِّ".
وما في بعض الأخبار: "انّ لَلْقُرْآنِ ظَهْرَاً وبَطْنَاً، ولِبَطْنِهِ بَطْنَاً، إلى سَبْعَةِ أبْطُنٍ. وما في خبر آخر: انّ ظَاهِرَهُ حُكْمٌ، وبَاطِنَهُ عِلْمٌ".
وما في بعض أخبار الجبر والتفويض، كما عن «توحيد» الصدوق مسنداً عن مُرازم، عن الصادق عليه السلام في حديث، قال: فَقُلتُ لَه: فأيّ شَيءٍ هُوَ، أصْلَحَكَ اللهُ؟! قَالَ: فَقَلَّبَ يَدَهُ مَرَّتَيْنِ أو ثَلاثاً، ثُمَّ قَالَ عَلَيهِ السَّلامُ: لَوْ أجَبْتُكَ فِيه لَكَفَرْتَ!"
وفي الأبيات المنسوبة إلى السجّاد عليه السلام قوله: "وَرُبَّ جَوْهَرِ عِلْمٍ لَوْ أبُوحُ بِهِ لَقِيلَ لِي أنْتَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الْوَثَنَا"، ومن الروايات، أخبار الظهور التي تفضي بأنّ القائم المهديّ عليه السلام بعد ظهوره يبثّ أسرار الشريعة، فيصدّقه القرآن. وما في «بصائر الدرجات» مسنداً عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر (الصادق) عليه السلام عن أبيه (الباقر) عليه السلام، قال: "ذَكَرْتُ التَّقِيَّةَ يَوْمَاً عِنْدَ على بْنِ الْحُسَيْنِ عليهِ السَّلامُ. فَقَالَ لِي: لَوْ عَلِمَ أبُو ذَرٍّ ما في قَلْبِ سَلْمَانَ لَقَتَلَهُ وقَدْ آخَى بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ" (الحديث).
وفي الخبر أنّ أبا جعفر عليه السلام حدّث جابراً[3] بأحاديث، وقال: لو أذعتَها، فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وما في «بصائر الدرجات» أيضاً عن المفضّل، عن جابر، حديث ملخّصه: أنه شكى ضيق نفسه عن تحمّلها، وإخفائها بعد أبي جعفر عليه السلام إلى أبي عبد الله عليه السلام فأمره أن يحضر حفيرة ويدلي رأسه فيها، ثمّ يحدّث بما تحمّله، ثمّ يطمّها فإنّ الأرض تستر عليه.
وما في «بحار الأنوار» عن «الاختصاص»، و«بصائر الدرجات»، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام، في حديث: "يَا جَابِرُ، مَا سَتَرْنَا عَنْكُمْ أكْثَرُ مِمّا أظْهَرْنَا لَكُمْ".
ومتفرّقات الأخبار في هذه المعاني أكثر من أن تحصى، وقد عدّوا جمعاً من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأئمّة أهل البيت سلام الله عليهم من أصحاب الأسرار، كسَلْمَان الفارسيّ، وأوَيْسِ الْقَرَنِيّ، وكُمَيْل بن زياد النخعيّ، ومَيْثَم التمّار الكُوفيّ، ورُشَيْد الهَجَريّ، وجَابِرِ الْجُعْفِيّ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.[4]
تدلّ الآية الكريمة التي صدّرنا بها درسنا هذا، أعني: قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} على ولاية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على جميع المؤمنين، وإطلاق هذه الولاية في المجال التكوينيّ والتشريعيّ، بل حقيقة الولاية في مجال التكوين والحقيقة، وبعد ذلك في مجال التشريع والاعتبار.
[1] هذه الأحاديث كثيرة؛ وجاءت بتعابير متنوّعة بلغت حدّ الاستفاضة. ذكرها المجلسيّ في الجزء الأوّل من «بحار الأنوار» طبع كمباني من ص 117 إلي ص 126 تحت عنوان: «باب إنّ حديثهم عليهم السلام صعب مستصعب وإنّ كلامهم ذو وجوه كثيرة، وفضل التدبّر في أخبارهم والتسليم لهم، والنهي عن ردّ أخبارهم»
[2] الصَعْبْ هو الحيوان الشموس الذي لا يركب؛ في مقابل الذَّلُول وهو الحيوان الذي يسهل انقياده، والمُسْتَصْعَب هو الحيوان الذي يفرّ منه الإنسان خوفاً من حدّته وخشية من ضرره. وقد شبّه الإمام حديثهم هنا بهذا الحيوان، أي: لا قبل لكلّ أحد بالاقتراب من أسرار آل محمّد؛ والذكوان من ذَكَتْ تَذْكُو النَّارُ: اشتدَّ لَهِيبُها. وكما ذكر المجلسيّ حديثاً مماثلًا له جاء فيه: ذَكّاء المؤمنين، أي: هو متّقد ويهيّج الناس على الدوام. والاجْرَد: هو الذي ليس في جسمه شعر؛ فهو نظيف ووسيم للغاية. ويؤتي بهذه الكلمة تعبيراً عن النضارة والحسن من باب الاستعارة.
[3] هو جابر بن يزيد الجُعفيّ من أعاظم أصحابه عليه السلام، لا جابر بن عبد الله الأنصاريّ.
[4] رسالة «الولاية» للعلّامة الفقيد آية الله الطباطبائيّ رضوان الله عليه، وهي من مخطوطاتي، ص 3 إلي 6.
الاكثر قراءة في الامامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة