عبد الله بن لسان الدين
عبد الله بن محمد بن علي بن سعيد بن الخطيب التلمساني، حسن الشكل، جيد الفهم، يغطي منه رماد السكون جمرة حركة، منقبض عن الناس قليل البشاشة، حسن الخط، وسط النظم، كتب عن الأمراء بالمغرب، وأنشدهم واقتضى صكوكهم بالإقطاعات (1) والإحسان، واختال في خلعهم، ثم لما كانت الفتنة كتب عن سلطان وطنه معزز الخطة بالقيادة، قرأ على قاضي الجماعة الخطيب أبي القاسم الحسني، والخطيب أبي سعيد فرج بن لب التغلبي، واستظهر بعض المبادئ في العربية، واستجيز (2) له من أدركه ميلاده من أهل المشرق والمغرب. وشعره مترفع عن الوسط إلى الإجادة، يكلله عذر الحداثة، فمنه قوله في مولد أربعة وستين وسبعمائة:
بحق الهوى يا حداة الحمول ... قفوها قليلا بتلك الطلول
معاهد مرت عليها السحاب ... ببرق خفوق ودمع همول
أحن إليها حنين العشار ... وأبكي عليها بشجو طويل
فيا سعد عرج عليها الركاب ... ففيها لقلبي شفاء الغليل
سقاها من المزن صوب الغمام ... وحيا بعرف النسيم العليل
ولا زال فيها يجر الذيول ... فيحيي النفوس بجر الذيول
لئن حلت يا ربع عن عهدنا ... فعهد الهوى ليس بالمستحيل
ومما شجاني وميض خفوق ... كقلبي غداة النوى والرحيل
وميض إذا سله المزن وهنا ... يضيء سناه كعضب صقيل
أطار الفؤاد فؤاد المشوق ... وأغرى السهاد بطرف كليل
فبت أطاول ليل التمام ... بوجد جديد وصبر محيل
ودمع يساجل دمع الغمام ... وشجو الحمائم عند الهديل
فيا ليت شعري وهل من سبيل ... على الوجد يوما بصبر جميل
وهل (3) يسمح الدهر بعد العناد ... بجبر الكسير وعز الذليل
وهل راجع عهدنا بالحمى ... على رغم دهر ظلوم جهول
فيا حسن مأوى عزاء جميل ... ويا طيب مأوى بظل ظليل
وفي ذمة الله ركب سروا ... يجدون والليل مرخى السدول
نشاوى بكأسين كأس الهوى ... وكأس من الأمن مثل الشمول
يؤمون بالعيس أم القرى ... وقبر النبي الشفيع الرسول
ديار بها الوحي وحي السما ... تنزل، أكرم به من نزول
بها أشرق الدين كالشمس نورا ... وآن من الشرك وقت الأفول
فيا حادي العيس يطوي الفلا ... بوخد القلاص ونص الذميل
سفائن آل طواها السرى ... وشق الحزون وقطع السهول
نشدتك بالبان بان الحمى ... وبالمورد العذب والسلسبيل
إذا ما حللت لدى طيبة ... وجئت محل الرضى والقبول
وقبرا ثوى فيه خير الورى ... وبشرى الكليم وفخر الخليل
فأبلغ تحية صب مشوق ... عدته عوادي الزمان الخذول
وقل يا رسول الهدى والشفيع ... إذا ضاق صدر أب عن سليل
عليك الصلاة وطيب السلام ... يحييك عند الضحى والأصيل
نبي كريم رؤوف رحيم ... بنص الكتاب وحكم العقول
إمام الهدى المجتبى المصطفى ... بأزكى شهيد وأهدى دليل
به أظهر الله دين الهدى ... وعلم كيف سواء السبيل
وقام بأعباء دين الإله ... أتم القيام بفعل وقيل
فأكرم بليلة ميلاده ... على كل وقت وعصر وجيل
لك الله من ليلة فضلها ... يجر على النجم فضل الذيول
وأيد بالنصر مولى أقام ... مواسمها فعل بر وصول
أعاد بها الليل مثل النهار ... بوجه كريم وفعل جميل
وأبدى الرضى نحوها والقبول ... وأكرم به من حفي كفيل
سمي النبي الكريم الرسول ... وسيف الإله العلي الجليل
محمد المرتجى المستجار ... مبيد العدا ومنيل الجزيل
من النفر الغر أسد الكفاح ... وأهل السماح عشي النزول
تراهم لدى السلم أطواد حلم ... ويوم الكريهة آساد غيل
مبيد العداة، ومحيي العفاة ... ومأوى الغريب ومدني الدخيل
فبأس حكى النار عند احتدام ... وجود حكى السحب عند الهمول
فيصلي عداه لدى الحرب نارا ... ويروي نداه زمان المحول
مليك كفيل لمن يرتجيه ... بكل مرام بعيد وسول
وفرع كريم حميد الخلال ... نماه إلى المجد طيب الأصول
فدام لنا ما سرى في الرياض ... نسيم الصبا ومهب القبول
وحن مشوق لأرض الحجاز ... إذا لاح إيماض برق كليل وقال يمدح السلطان أبا عبد الله محمد بن يوسف بن نصر من مدينة فاس (4):
لمن طلل بالرقمتين محيل ... عفت دمنتيه شمأل وقبول
يلوح كباقي الوشم غيره البلى ... وجادت عليه السحب وهي همول
فيا سعد مهلا بالركاب لعلنا ... نسائل ربعا فالمحب سؤول
قف العيس ننظر نظرة تذهب الأسى ... ويشفى بها بين الضلوع غليل
وعرج على الوادي المقدس بالحمى ... فطاب لديه مربع ومقيل
فيا حبذا تلك الديار وحبذا ... حديث بها للعاشقين طويل
دعوت لها سقي الحمى بعدما سرى ... وميض وعرف للنسيم عليل
وأرسلت دمعي للغمام مساجلا ... فسال على الخدين منه مسيل
فأصبح ذاك الربع من بعد محله ... رياضا بها الغصن المروح يميل
لئن حال رسم الدار عما عهدته ... فعهد الهوى في القلب ليس يحول
ومما شجاني بعدما سكن الهوى ... بكاء حمامات لهن هديل
توسدن فرع البان، والنجم ماثل ... وقد آن من جيش الظلام رحيل
فيا صاحبي دع عنك لومي فإنه ... كلام على سمع المحب ثقيل
تقول: اصطبارا عن معاهدك الألى ... وهيهات صبري ما إليه سبيل
فلله عينا من رآني وللأسى ... غداة استقلت بالخليط حمول
يطاول ليل التم مني مسهد ... وقد بان عني منزل وخليل
فيا ليت شعري هل يعودن ما مضى ... وهل يسمحن الدهر وهو بخيل
وهل راجع عهد الحمى سقي الحمى ... وظل بعين الدمع فيه ظليل
وأيام أنس كم نعمنا بقربها ... وقد غاب عنا حاسد وعذول
حلفت برب الراقصات إلى منى ... لهن إلى البيت العتيق ذميل
لجود أمير المسلمين محمد ... بكل مرام في الزمان كفيل
مليك أتاه الله في الملك عزمة ... يروع الأعادي بأسها ويهول
هو الملك المنصور والبطل الذي ... يهون عليه الخطب وهو جليل
إذا فلت البيض الرقاق وجدته ... أخا عزمات ما بهن فلول
يقصر باع المدح دون صفاته ... ويرجع عنها الفكر وهو كليل
من النفر البيض الوجوه لدى الوغى ... لهم غرر وضاحة وحجول
هم ما هم والحرب قد شب نارها ... وللخيل في جنح العجاج صهيل
إذا سئلوا يوم الندى فنوالهم ... تفيض شآبيب له وسيول
بهم عز دين الله شرقا ومغربا ... وأصبح دين الكفر وهو ذليل
هم السادة الأنصار والعرب الألى ... حمى الدين حي منهم وقبيل
لهم يوم بدر والرسول أميرهم ... تصول به أرماحهم وتطول
فأصبح أصحاب القليب كأنهم ... كثيب لوطء المرهفات مهيل
وقد أمن الإسلام كيد عدوه ... وغودر ربع الكفر وهو محيل
وعدوا رواحا للمدينة والرضى ... لهم منه فوز عاجل وقبول
فمن ذا يجاري أو يداني عصابة ... جزاؤهم عند الإله جزيل
لكم يا بني نصر من المجد هضبة ... تزول الرواسي وهي ليس تزول
فيا سيد الأملاك والواحد الذي ... إذا عد فخر ليس عنه عدول
لقد قرع الأعداء منك مؤيد ... له الذعر نصر والحسام دليل
فلم يدركوا ما أملوا غير ساعة ... كذاك متاع الأخسرين قليل
تعاوين في باب البنود بسحرة ... كلاب عليهم بعد ذاك عويل
أبى الله إلا أن يموتوا بغيظهم ... فويل لهم من مكرهم وأليل
فأضحوا حديثا في البلاد ويومهم ... وساء صباح عندهم وأصيل
بسعد إمام ينزل العصم سعده ... ويروي نداه والزمان محول
وفرع كمال في الخلافة ثابت ... نمته إلى المجد الزكي أصول
حكى وجهه شمس النهار إذا بدا ... ورياه عرف الروض وهو بليل
أعاد لنا بالعدل أيامه التي ... عهدنا، فدارت للسرور شمول
فدام لنا ما هب عرف من الصبا ... وأومض برق في الظلام كليل
وحن مشوق للحجاز إذا بدت ... لعينيه منه شامة وطفيل
وأشرق نجم مثل قلبي خافق ... وحان له عند الغروب أفول
ولا زالت الأقدار تجري بأمره ... وصنع إله العرش فيه جميل وقال في إعذار ابن السلطان رحمه الله تعالى ورضي عنه:
أثرها عزمة تنضي الركابا ... وإن دميت لها العين انسكابا
لعل الوجد تطفأ منه نار ... أبت إلا زفيرا والتهابا
أما بعد الألى ترجو قلوب ... تسارع نحو أرضهم انقلابا
فيا أخوي كفا عن عتابي ... فلست بسامع أبدا عتابا
تذكرت العقيق فسال دمعي ... عقيقا من تذكره مذايا
أقول لنسمة مرت صباحا ... يعطر عرفها القفر اليبابا
ألا يا هذه كوني رسولي ... وكوني إن رجعت لي الجوابا
نشدتك بلغي صحبي سلامي ... إذا جئت المعاهد والقبابا
يلومني العواذل في اشتياقي ... إذا ما القلب من وجدي تصابى
وكم بين الأباطح من مهاة ... تروع بلحظها الأسد الغضابا
رمتني ثم قالت وهي تزري ... ولم تحذر بفتكتها العقابا
إذا ما الشهب للغرب استمالت ... وفود الليل بالإصباح شابا
أوجه إن رقدت إليك طيفي ... كلمع البرق يخترق السحابا
فقلت: لقد بخلت على مشوق ... أبى إلا غراما (5) واكتئابا
وكيف له بنوم بعد وجد ... يذيب لهيبه الصم الصلابا
سينصره من الأنصار ملك ... إذا ناداه مظلوم أجابا
كريم الذات من ملأ كرام ... لقد طابت سجاياهم وطابا
تواضع رحمة وعلا محلا ... وسهل منه للناس الحجابا
فليس يصد عن جدواه راج ... وليس يسد عن عافيه بابا
له عطف على الراجي جميل ... يفل من الردى ظفرا ونابا
وعدل (6) أمن الأرجاء حتى ... ترى الغزلان لا تخشى الذئابا
أمولاي الذي أحيا المعالي ... وقد بليت وألحفت الترابا
مددت على البلاد جناح عدل ... وكف الجور تستلب استلابا
وتاب الدهر مما قد جناه ... فجدت له بعفوك حين تابا
وسكن عز دولتك الدواهي ... فكانت رحمة دفعت عذابا
ويا لله إعذار سعيد ... دعوت السعد فيه فاستجابا
عجبت لمقدم والروع يهفو ... بأفئدة الكماة وما استرابا
ومن شبل أطاع أخا سلاح ... وحكمه اصطبارا واحتسابا
وهل عذر لعاذر ليث غاب ... أظن فؤاده والعقل غابا
فلولا سنة حكمت وهدي ... أصبت وقد سلكت به الصوابا
لحامت عصبة الأنصار عنه ... بأسياف تقد بها الرقابا
من الصيد الذين لهم نفوس ... لغير الفخر لا تصل الطلابا
تنير الليل أوجههم إذا ما ... أرادوا السير أو حثوا الركابا
دعوت به الأنام ليوم حشر ... ولم تذخر لهم إلا الثوابا
رأوا من زخرف الدنيا مقاما ... يذكر بالجنان لمن أنابا
وأبهتهم فما عاطوا حديثا ... ولا عرفوا السؤال ولا الجوابا
ولو مكثوا به دهرا طويلا ... لما ذكروا الطعام ولا الشرابا
وطاردت الصوار بكل ضار ... كما أتبعت عفريتا شهابا
ضربت به على الآذان منها ... فلم تسطع حراكا واضطرابا
ومعصوب الجبين بتاج روق ... يروع خواره الأسد الغضابا
تعرف أن تحت الأرض ثورا ... فرام بأن يشق له الترابا
وكلت به هضيم الكشح أجنى ... حديد الناب تحسبها حرابا
تباعد مجمع الشدقين منه ... وسال الموت بينهما لعابا
فأثبته كوحي الطرف حتى ... توثق منه جازره غلابا
وصاح به الصوار وقد رآه ... حبيس الكلب قد منع الإيابا
" فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا " (7)
وأرسلت الجياد إلى استباق ... كأن بوارقا شقت سحابا
فمن ورد أقب ومن كميت ... وأشهب يلهب الأرض التهابا
وساقية العماد إذا أطلت ... إلى الأدواح تنساب انسيابا
تحوم بها العصي فراش ليل ... تروم بسمعه منه اقترابا
تجف بها خيول القوم منا ... فترسل نحوها الجرد العرابا
عجائب أبدعت علياك فيها ... ومثلك يبدع الأمر العجابا
محمد لا عدمت الدهر حمدا ... فقد أحسنت في الملك المنابا
وزكى نفسك الرحمن لما ... رآك ملكت للمجد النصابا
تداركت البلاد ومن عليها ... فأمنت التنائف والشعابا
لقد أوليتنا بيض الأيادي ... لقد طوقتنا المنن الرغابا
روت عنك العوالي في المعالي ... حديث الفخر حقا لا انتسابا
ستفتح من بلاد الشرك أرضا ... قد اعتقلت عقائلها اغتصابا
وتعمل في العدا بيض المواضي ... إلى أن ينكر السيف القرابا
فما كأس من الصهباء صرف ... تعيد الشيخ من طرب شبابا
وطاف بها من الرهبان بدر ... يهتك من دجى الليل الحجابا
تجد الأنس عودا بعد بدء ... وربع الهم تتركه خرابا
بأعذب من ثنائك حين يطوي ... به الركب الأباطح والهضابا
أمولاي استمعها بنت فكر ... تخيرها فأبرزها لبابا
وغاص على فرائدها الغوالي ... وشق على نفائسها العبابا
وهناك الإله بكل نعمى ... تقود لك الأماني الصعابا
ودمت لعزة الإسلام ركنا ... إلى أن يشمل الشيب الغرابا
وقال، وقد أنشدها السلطان ليلة الميلاد عام خمسة وستين وسبعمائة:
نفس الصبا أهدى إلي نسيما ... قد رام ممتنعا ورام عظيما
يا هل يبلغني السرى خير الورى ... فأرى معاهد للهوى ورسوما
وأسابق الركبان فوق نجيبة ... تفري من البيد العراض أديما
وأحط رحلي في كريم جواره ... أرجو نعيما في الجنان مقيما
حتى إذا بلغوا الذي قد أملوا ... ورأوا مقاما بالرضى موسوما
وتزاحموا في الترب يستلمونه ... أرأيت في الورد الظماء الهيما
قبلت ذاك الترب من شوقي إلى ... من حله وأقمت فيه لزيما
وبكيت من دمع المآقي زمزما ... وتركت جسمي كالحطيم حطيما
صلى عليه الله ما هبت صبا ... تهدي من الطيب الزكي شميما
لله مولده الذي أنواره ... صدعت ظلاما للضلال بهيما
شرعت من التأييد سيف هداية ... أردت ظباه فارسا والروما
كسر الأكاسر بالعراء ولم يدع ... أن رد قيصر قاصرا مهزوما
لله منها ليلة أضحى بها ... شمل الهدى لأولي الهدى منظوما
أبدا أمير المسلمين أعدها ... بدعا من القصر (8) الكريم جسيما
ملك أقام الله منه لخلقه ... مولى رؤوفا بالعباد رحيما
يحمي ذمار المسلمين من الردى ... ويبيح ربعا للعدا وحريما
بمحمد قد عاد دين محمد ... غض الرياض وكان قبل هشيما
أحيا به الله الخلافة بعدما ... كانت بأطباق التراب رميما
من آل سعد الخزرج بن عبادة ... طابوا فروعا في العلا وأروما
تلقاه في يوم الكريهة والوغى ... والخيل عابسة أغر وسيما
وتخال كفيه إذا شح الحيا ... أفقا بعامية الغيوث غيوما
تأبى خلال العدل والشيم العلا ... من أن يرى في دهره مظلوما
كهف العباد وفخرها وثناؤه ... ترك المديح على الطروس رقيما
لا زال يلقى العيش طلقا والعلا ... مرقى وصرف الحادثات خديما
ما اهتز غصن في الحديقة ناعم ... لما أحس من الشمال شميما مولده بغرناطة، يوم السبت سابع عشر صفر عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإحاطة: بالاقطاع.
(2) الإحاطة: وأجاز.
(3) ق: وما.
(4) أورد بعضها في نسخة الإحاطة المشار إليها.
(5) ق: عراما.
(6) ق: وعطف.
(7) بيت لجرير بن الخطفي.
(8) ق: القصد.
الاكثر قراءة في العصر الاندلسي
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة