سرية عبد اللّه بن جحش
المؤلف:
هاشم معروف الحسني
المصدر:
سيرة المصطفى "ص"
الجزء والصفحة:
ص316-322
2025-11-05
56
لقد جاء في كتب السيرة والتاريخ ان النبي ( ص ) بعث عبد اللّه بن جحش في سرية مؤلفة من اثني عشر رجلا من المهاجرين وكتب له كتابا وامره ان لا ينظر فيه حتى يسير يومين عن المدينة ، ثم ينظر فيه ويمضي لتنفيذ امره ، ولا يستكره أحدا من أصحابه على متابعته بعد اعلامهم بمضمونه ، فلما سار يومين عن المدينة نظر في الكتاب وإذا فيه إذا نظرت كتابي هذا فسر حتى تأتي نخلة بين مكة والطائف لترصد قريشا وتعلم لنا من اخبارهم .
فلما قرأ الكتاب قال : سمعا وطاعة ، وقال : لأصحابه قد امرني رسول اللّه ان امضي إلى نخلة فأرصد بها قريشا حتى آتيه باخبارهم ، وقد نهاني ان استكره منكم أحدا فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع ، فأما انا فاني ماض لأمر رسول اللّه ( ص ) ومضى معه أصحابه ولم يتخلف منهم أحد ، فلما كان بمعدن فوق الفرع في موضع يقال له بحران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما فتعقباه وتخلفا عن السرية في طلبه . ومضى عبد اللّه ومن بقي معه حتى نزل نخلة . ووقع سعد وعتبة اسيرين في يد قريش .
ويرى بعضهم ان سعدا وعتبة بن غزوان قد جبنا فأرسلا بعيرهما وتذرعا في تخلفهما بالفحص عن بعيرهما وفضلا ان يقعا اسيرين في يد قريش على المضي مع عبد اللّه إلى المكان الذي امره النبي بالمضي إليه .
ولما بلغ عبد اللّه بن جحش المكان الذي عينه لهم النبي ( ص ) نزل فيه فمرت عير لقريش تحمل زبيبا وادما وتجارة لقريش ومعها عمرو بن الحضرمي وعثمان بن عبد اللّه بن المغيرة واخوه نوفل بن عبد اللّه بن المغيرة ، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة ، فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم فأشرف عليهم عكاشة بن محصن من أصحاب عبد اللّه وكان قد حلق رأسه ، فلما رأوه آمنوا وقالوا لا بأس عليكم منهم .
وتشاور القوم فيهم وذكروا ما صنعته قريش بهم وما حجزته من أموالهم ، وذلك في آخر يوم من رجب وقال بعضهم لبعض ، واللّه لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن المسجد الحرام ولم يعد لكم بهم طاقة . وترددوا في امرهم وتهيبوا الإقدام عليهم ثم اتفقت كلمتهم على قتالهم واخذ ما معهم ، فرمى واقد بن عبد اللّه التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله وأسر المسلمون رجلين منهم ، وأفلت نوفل بن عبد اللّه وعجزوا عن القبض عليه .
وأقبل عبد اللّه بن جحش بالأسيرين والعير إلى المدينة وقال عبد اللّه لأصحابه ان للرسول مما غنمتم الخمس .
وأضاف ابن جرير وابن هشام إلى ذلك ان هذا القول من عبد اللّه كان قبل ان يفرض اللّه الخمس في الغنائم فإذا صح ان الخمس لم يكن قد فرض في ذلك اليوم فتكون الرواية التي تنص ان عبد اللّه قال لأصحابه : ان لرسول اللّه فيما غنمتم الخمس من موضوعات المنافقين والغاية من وضعها ان النبي ( ص ) كان يشرع حسب الاقتراحات التي يستوحيها من أصحابه لا من الوحي الذي يأتيه من العلي القدير . وأضاف كتاب السيرة ان عبد اللّه قد قسم الغنائم والأموال بين أصحابه واستثنى لرسول اللّه خمسها ، فلما قدموا عليه قال لهم اني ما أمرتكم بقتال أحد في الأشهر الحرم ، وأوقف العير والأسيرين وأبى ان يأخذ من الخمس شيئا ، وأسقط في يد عبد اللّه وأصحابه وعنفهم بقية المسلمين بما صنعوا واستغلت قريش الفرصة للتشنيع والتشويه ، ونادت في كل مكان ان محمدا وأصحابه قد استحلوا الأشهر الحرم وسفكوا فيها الدماء وأخذوا الأموال وأسروا الرجال ، وأجاب المسلمون الذين كانوا بمكة ان ما أصابوه من القوم كان في شهر شعبان ولم يكن في الشهر الحرام ، كما استغل اليهود هذه الفرصة وترقبوا ان تقع الحرب بين محمد وأخصامه وستكون لصالحهم وجعلوا يدسون ويفسدون لإشعالها وقدروا ان ذلك إذا كان سيرتاحون من محمد بدون ان يكلفهم التخلّص منه ضربا أو قتالا مع أحد ، وكثر الحديث عن هذه الغزوة وما جرى فيها ، فلما أكثر الناس في ذلك انزل اللّه سبحانه على نبيه :
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ . وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ . وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا .
فلما نزلت الآية في حكم تلك الغزوة وما نتج عنها في مقابل الضجيج والدعايات التي أثارها المشركون والمنافقون انفرج النبي ( ص ) والمسلمون بهذا التشريع ، واستولى النبي ( ص ) على العير والأسرى ، وبعثت إليه قريش في فدائها ، فقال رسول اللّه لأنفديكموهما حتى يقدم علينا صاحبانا وهما سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان فانا نخشاكم عليهما ، فإن قتلا أو أصيبا بأذى نقتل صاحبيكم .
ولما أرجع المشركون سعدا ورفيقه ترك النبي ( ص ) لهم الأسيرين وهما الحكم بن كيسان وعثمان بن عبد اللّه ، ولكن الحكم رفض الرجوع لأنه كان قد اعتنق الإسلام وأقام بالمدينة إلى أن استشهد في غزوة ( بئر معونة ) ، واما عبد اللّه فرجع إلى مكة ومات بها مشركا .
هذا ملخص غزوة عبد اللّه بن جحش وما نتج عنها من المضاعفات ، والواقع انها كانت أول غزوة من نوعها وقعت في ظروف غامضة محفوفة بالأخطار ، ومع ذلك فقد اقدم هذا النفر القليل يحدوهم الايمان والاخلاص لعقيدتهم وقائدهم على تنفيذ تلك الخطة مهما كانت النتائج .
وكان العرب يحرمون القتال في الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة ، والمحرم ورجب وأقر الاسلام تحريمها كما أقر كل عادة مستحسنة لا سيما إذا كانت تخفف الظلم والقتل وإراقة الدماء ، ولكن العرب الذين كانوا يحرمون القتال في الأشهر الحرم ظلوا ثلاثة عشر عاما يحاربون النبي ويعذبون أصحابه بكل أنواع العذاب وأخيرا لم يجدوا سبيلا لمحو الاسلام الا بقتله ، فاتفقوا على ذلك واضطروه لأن يخرج من المسجد الحرام هاربا بدمه بعد ان تسلل أصحابه وخرجوا متخفين عن قريش واحلافها .
ومضوا يتتبعون تحركاته ويتآمرون عليه مع اليهود مما اضطره لأن يدافع عن نفسه ودعوته بمن معه من المؤمنين ، وما جرى لعبد اللّه بن جحش معهم كان دفاعا عن النفس وردا على تحركاتهم وتحرشاتهم المتوالية .
وأجابت الآية أولئك المشركين الذين استغلوا تلك الحادثة ، بأن القتال في الأشهر الحرم كبير وعظيم ، ولكن الأعمال التي ارتكبتموها مع المسلمين ومع النبي ( ص ) ولا تزالون ترتكبونها هي أكبر وأفظع وأشد خطرا على الإنسانية من القتال في الأشهر الحرم ، فالصد عن سبيل اللّه والكفر به أكبر من القتال في الأشهر الحرم واخراج أهله منه كما فعلتم مع النبي وأصحابه .
واغتصاب أموالهم وتهديم دورهم أفظع وأبشع وأكثر ضررا من استيلاء تلك السرية على شيء من أموالكم التي لا تعادل شيئا بالنسبة لما اغتصبتموه واستوليتم عليه من أموال المسلمين في مكة ، وفتنة الناس عن دينهم بالوعد والوعيد والاغراء والتعذيب أكبر من القتال في الشهر الحرام وغير الحرام .
ولما كان الهدف الرئيسي للمشركين هو القضاء على الاسلام وعلى رسول الاسلام ، وكانوا يخططون لمحوه من الوجود امر اللّه سبحانه نبيه ومن معه من المسلمين ان يقاتلوا المشركين والكافرين دفاعا عن دينهم وعن أنفسهم في كل زمان ومكان ، ولم يستثنى من ذلك الا القتال في المسجد الحرام ، ثم رخص لهم في قتالهم فيه إذا قاتلوهم فقال سبحانه في الآية 191 من البقرة : وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ( سورة البقرة 191 ) .
وليس معنى ذلك ان الاسلام يدعو إلى الحرب واكراه الناس على الدخول فيه كما يدعي المستشرقون والمبشرون وأعداء الاسلام من شرقيين وغربيين ، الذين يعادون الاسلام ويقاومونه لا لشيء إلا لأنه يدعو إلى الحق والعدالة ويقاوم البغي والفساد في الأرض والاستغلال والتسلط على الشعوب وكبت الحريات وقتل الأبرياء وتشريد الملايين من ديارهم وأوطانهم .
ان الاسلام لا يدعو الا إلى حرب من يحارب الاسلام ويحاول البغي والفساد في الأرض ، ومن يحاول ان يفتن المسلمين عن دينهم وبلادهم ، اما انه يكره الناس على الدخول في الاسلام فتلك فرية كذبها القرآن نفسه في الآية ، لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وفي الآية 190 من البقرة : وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ إلى كثير من الآيات التي لم ترخص الا في قتال الذين يفتنون الناس عن دينهم ويبغون الفساد في الأرض .
وبما ان الحديث عن سرية عبد اللّه بن جحش قد جرنا إلى الحديث عن القتال الذي رخص فيه الاسلام في مقام الدفاع أرى ان ألخص ما قاله الأستاذ هيكل بهذه المناسبة . قال ما مضمونه :
ان الحرب التي دعا إليها الاسلام في مقام الدفاع عن النفس والعقيدة هي بالوسائل التي كان المشركون يقاتلون بها ، انه حاربهم بنفس السلاح الذي استعملوه .
فإذا حارب الخصم بالحجة والرأي والمنطق ولم يستعمل وسيلة أخرى من وسائل الدفاع ليس لأحد ان يدافع ويخاصم بسلاح أقوى وافتك من ذلك ، وعندما يلجأ الخصم إلى القوة المسلحة فقد رخص الاسلام دفع القوة بالقوة إذا استطاع إلى ذلك سبيلا ، اما إذا لم يستطع ذلك فما عليه الا ان يصبر ويتحين الظرف المناسب كما فعل المسلمون الأولون قبل هجرتهم إلى المدينة ، فقد احتملوا المساءة والأذى وصبروا على الهوان والضيم ولم يصدهم عن عقيدتهم جوع أو حرمان ، ولكن ذلك لم يكن إلا لمن حباهم اللّه من قوة الايمان ما يصغر معه كل اذى وكل ضيم .
وأضاف إلى ذلك انك إذا استطعت ان تدفع الفتنة بسلاح من يحاول الفتنة وان تقف في وجه من يصد عن سبيل اللّه بوسائله وجب ان تفعل ، والا كنت مزعزع العقيدة ضعيف الايمان ، وهذا ما فعله محمد ( ص ) وأصحابه بعد ان استقر بهم الأمر بالمدينة ، وهذا ما فعله المسيحيون بعد ان استقر لهم السلطان في رومة وفي بيزنطة ، وبعد ان لان قلب عواهل الروم لدين المسيح ، واستطرد يقول إن المبشرين يقولون : ان روح المسيح تنكر القتال على اطلاقه اما الاسلام فإنه يدعو إلى القتال وإراقة الدماء .
وتاريخ الاسلام امامنا شاهد عدل ، وتاريخ المسيحية امامنا شاهد عدل ، فمنذ فجر المسيحية إلى يومنا هذا خضبت أقطار الأرض جميعا بالدماء وباسم المسيح خضبها الروم وخضبتها أمم أوروبا كلها والحروب الصليبية انما أذكى لهيبها المسيحيون لا المسلمون ، وظلت الجيوش باسم الصليب تتحول من أوروبا خلال مئات السنين قاصدة أقطار الشرق الإسلامي تحارب وتريق الدماء ، وفي كل مرة كان البابوات خلفاء المسيح يباركون تلك الجيوش الزاحفة للاستيلاء على بيت المقدس وعلى الأماكن النصرانية المقدسة ، أفكان هؤلاء البابوات جميعا هراطقة ، وكانت مسيحيتهم زائفة ، أم كانوا أدعياء جهالا لا يعرفون ان المسيحية تنكر القتال على اطلاقه ، أم يقولون إن تلك كانت العصور المسيحية المظلمة ، ان يكن ذلك بعض ما يقولون ، فإن هذا القرن المتمم للعشرين الذي يعيش فيه ، والذي يسمّونه عصر الحضارة الانسانية العليا قد رأى أقبح وأفظع مما رأته تلك العصور الوسطى المظلمة ، فقد وقف اللورد اللنبي ممثل الحلفاء سنة 1918 يقول : في بيت المقدس حين استيلائه عليه في نهاية الحرب العالمية الأولى ، اليوم انتهت الحروب الصليبية .
لقد استعرض الأستاذ هيكل موقف المسيحية العالمية من الاسلام ومواقفها العدائية منه إلى حدود الحرب العالمية الأولى ، في حين ان مواقفها العدائية من الاسلام والبشرية التي لا تصبر على الضيم والاستغلال والاستعباد لم تنته ولن تنتهي ، وما زالت الأيام تطالعنا كل يوم بلون جديد من ألوان الحروب الصليبية المعادية للاسلام ومبادئه بقيادة الاستعمار والصهيونية العالمية الحاقدة على جميع القيم والأديان التي لا تقر شريعة الاغتصاب والاستغلال وتدمير المدن على السكان الآمنين والإبادة الجماعية لتحقيق أهدافهم ومصالحهم .
الاكثر قراءة في حاله بعد الهجرة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة