لقد ضاق بمحمد ( ص ) امره بعد وفاة عمه ، واشتدت قريش في معارضته ، ولم يجد من القبائل التي عرض نفسه ودعوته عليها قبل ان يتصل بوفد المدينة ميلا ولا إقبالا ، بل كان بعضهم يرد عليه ردا قبيحا .
وكان عمه عبد العزى يتتبعه من مكان لآخر ، وهو يقول : لا يغرنكم هذا الساحر الكذاب فنحن أهله وأعلم الناس بحاله . ولكن ثقته بالنصر وبوعد اللّه كانت أقوى من قريش وخيلائها ومؤامراتها فصبر وتحدى قريشا في صبره حتى يسر اللّه سبحانه لدينه أنصارا في غير بلدهم قد عاهدوه على أن يبذلوا في سبيله دماءهم وأموالهم ، وقد أصبحوا من الكثرة دعامة للاسلام وقوة ضاربة لكل من يحاول ان يقف في طريقهم إلى اللّه ، وأصبح محمد واتباعه يخططون للخطوات الجديدة للانتقال إلى يثرب حيث الأوس والخزرج على ميعاد معهم ، وفيهم تتاح لهم حرية القيام بفرائض الدين والدعوة إليه ، وأحست قريش بهذا التطور الجديد والانطلاقة التي يسرت لأولئك المحصورين في شعاب مكة وهضابها ، أحست بذلك وأدركته بعد رجوع الأوس والخزرج ، وأصبحت تخطط من جديد للقضاء على هذه الحركة الجديدة في مهدها قبل ان يستفحل خطرها في خارج مكة ويتحول ميزان القوة لصالح محمد ، وأمعنت في التفكير بذلك ، وبدأ هو من جانبه يفكر أيضا في الخروج من ذلك الحصار المضروب عليه وعلى اتباعه ، وما ذا عليه ان يفعل ليتسنى له ان يستغل الموقف الذي تيسر له ، واتخذت المعركة بينهما شكلا جديدا لم يكن بالأمس ، وأصبحت بينهما على أشد ما كانت عليه منذ ان بعثه اللّه سبحانه ، وكل منهما ينظر إليها كمعركة حياة أو موت ، ولكنه ما كان ليقطع امرا ويستبد فيه ما لم تتضح له ابعاده ونتائجه بواسطة الوحي الذي كان يأتيه بأمر اللّه بين الحين والآخر ، وفيما هو يفكر ويخطط وينتظر امر اللّه ، وإذا بالوحي يأمره بترك مكة والهجرة إلى يثرب حيث الأنصار والأعوان ويحل له القتال في سبيل الدعوة إلى اللّه :
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ * وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ .
بعد ذلك امر رسول اللّه أصحابه ان يلحقوا بالأنصار في يثرب على أن يتركوا مكة متفرقين يتسللون ليلا ونهارا حتى لا يثيروا قريشا فتقف في طريقهم ، وانطلقوا يتسللون منها كما امرهم النبي ( ص ) أفرادا وجماعات في جوف الليل وهدوئه ، وأحست قريش بذلك فردت من استطاعت إرجاعه وفرقت بين الزوج وزوجته وأخذت تنكل بمن وقعوا في قبضتها بالضرب والإهانة ، ولكنها لم تقدم في تلك المرحلة على قتل أحد ، لأن المهاجرين أكثرهم من القبائل المكية ، والقتل قد يثير حربا أهلية في مكة تكون لصالح محمد في النهاية .
وجاء في سيرة ابن إسحاق كما روى عنها ابن كثير في تاريخه : ان سلمة بن عبد اللّه بن عمرو بن أبي سلمة روى عن جدته أمّ سلمة انها قالت : لما اجمع أبو سلمة على الخروج إلى المدينة رحّل لي بعيره وحملني عليه ومعي ابني سلمة في حجري ، ثم خرج يقود لي البعير ، فلما رأته رجال من بني المغيرة قاموا إليه ، فقالوا هذه نفسك غلبتنا عليها ، اما صاحبتنا هذه فلا نتركك تسير بها في البلاد ونزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه .
وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة ، فقالوا : واللّه لا نترك ابننا عندها إذا نزعتموها من صاحبنا ، وتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الأسد ، وحبسني بنو المغيرة عندهم ، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة وفرق القوم بيني وبين زوجي وابني ، فكنت اخرج كل غداة فاجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبا منها ، حتى مر بي رجل من بني عمي أخي بني المغيرة ورأى ما بي فرحمني وقال لبني المغيرة : ألا تنظرون لهذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها ، فقالوا لي عند ذلك الحقي بزوجك ان شئت ، ورد بنو أسد عند ذلك ولدي لي فركبت بعيري واخذت ابني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق اللّه ، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار ، فقال لي إلى اين يا ابنة أبي أمية ، قلت : أريد زوجي بالمدينة ، قال : أو ما معك أحد ؟ قلت : ما معي إلا اللّه وابني هذا ، فقال : واللّه ما لك من مترك ، فأخذ بخطام البعير وانطلق معي يهوي بي ، فو اللّه ما صحبت رجلا من العرب قط كان أكرم منه ، لقد كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت اخذ بعيري فحط عنه ، ثم قيده في الشجرة وتنحى إلى شجرة ثانية واضطجع تحتها ، فإذا أردنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه ورحله ، ثم تأخر عني ، وقال اركبي ، فإذا ركبت واستويت على بعيري أقبل واخذ بخطامه وقادني حتى ينزل بي ، فلم يزل يصنع ذلك حتى اقدمني المدينة فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال لي : زوجك في هذه القرية وكان أبو سلمة نازلا بها فادخليها على بركة اللّه ، ثم انصرف راجعا إلى مكة .
ومضت أمّ سلمة تقول : ما اعلم أهل بيت في الاسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة ، وما رأيت صاحبا قط أكرم من عثمان بن طلحة .
ويدعي المؤلفون في السيرة ان أول وافد على المدينة من المهاجرين بعد أبي سلمة عامر بن ربيعة حليف بني عدي ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم من بني عدي بن كعب ، ومن بعده عبد اللّه بن جحش بن رئاب ومعه اخوه أبو أحمد بن جحش وكان رجلا ضرير البصر يطوف مكة أعلاها وأسفلها بدون قائد وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب ، وأمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم ، وأصبحت دار بني جحش خالية من السكان ، فمر بها عتبة بن ربيعة وكان يتمشى هو والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل فنظر إلى الدار وتنفس الصعداء ثم أنشد :
وكل دار وان طالت سلامتها * يوما ستدركها النكباء والحوب
والتفت أبو جهل للعباس وقال : ان ذلك من عمل ابن أخيك الذي فرق جماعتنا . ويدعي الطبري في تاريخه ان هجرة أبي سلمة إلى المدينة كانت قبل بيعة العقبة الثانية بسنة ، بعد ان رجع من الحبشة وقد آذته قريش ، فلما بلغه ان في المدينة قوما قد دخلوا في الاسلام هاجر إليها وهاجر من بعده عامر بن ربيعة وبنو جحش وتتابعت الهجرة .
وجاء في كتب السيرة ان صهيبا لما أراد ان يخرج قال له المشركون :
أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت ، ثم تريد ان تخرج بمالك ونفسك واللّه لا يكون ذلك أبدا ، فقال لهم صهيب أرأيت أن جعلت لكم ما لي أتخلون سبيلي قالوا : نعم فترك لهم ماله ولما بلغ رسول اللّه ما فعل صهيب قال ربح صهيب .
وأخذ المسلمون يتوافدون إلى المدينة أفواجا فمن أدركته قريش أرجعته وضيقت عليه ، ومن فاتها دخل المدينة واستقبله الأنصار بالترحاب .
ولما لم يبق في مكة الا نفر يسير من المستضعفين ومعهم النبي ( ص ) وعلي وأبو بكر بن أبي قحافة ، وكان أبو بكر كلما أراد ان يخرج يشير عليه النبي ( ص ) بالبقاء كما في كتب السيرة والتاريخ ، وشعرت قريش بأن الدعوة قد انتقلت من مكة ، واتخذت مكانا لها فيه أنصار يفتدونها بأموالهم وأنفسهم ، وقدرت بأن محمدا بين عشية وضحاها سيلتحق بأصحابه وستكون له الغلبة عليهم ان عاجلا أو آجلا ان هو خرج من بينهم والتحق بأصحابه فما عليهم اذن ، وهو لا يزال في قبضتهم ، إلا أن يتخذوا بحقه قرارا نهائيا حاسما قبل فوات الأوان ، فاجتمع طواغيتهم في دار الندوة ليتخذوا القرار المناسب بشأنه .
وجاء عن ابن عباس رحمه اللّه انهم لما اجتمعوا في دار الندوة في اليوم الذي تواعدوا فيه قال بعضهم : ان هذا الرجل قد كان من امره ما كان وما قد رأيتم وإنا واللّه لا نأمنه من الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا فقيدوه بالحديد وضعوه في بيت وأغلقوه عليه حتى يأتيه الموت .
ورأى شخص آخر ان يطرد من مكة وتنفض قريش يدها منه ، فاستبعد الحاضرون هذين الرأيين ولم يتفقوا عليهما ، وارتأى أبو جهل بن هشام ان تختار كل قبيلة فتى من فتيانها الأشداء ويعطى كل واحد منهم سيفا ماضيا ويعمدون إليه بأجمعهم فيضربونه ضربة واحدة ، فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها ، ولم يعد باستطاعة أحد من بني هاشم ان يطلب بدمه ، فيختارون ديته على القتال ، فاستحسن الجميع هذا الرأي ، وبالفعل اتفقوا على الفتية وعلى الليلة التي يتم فيها تنفيذ المؤامرة وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا التدبير بالآية كما يدعي أكثر المفسرين :
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ ، أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ .
والمراد من مكر اللّه الذي ورد في الآية ، هو ان اللّه قد فوت عليهم هذا التدبير فأخبر به رسوله وامره بالخروج ليلا ، وان يأمر عليا ( ع ) بالمبيت على فراشه وان يتشح ببرده الحضرمي ليفوت عليهم تدبيرهم .
وهنا تبدأ قصة من أروع ما عرفه تاريخ الفداء والتضحية ، فالشجعان والأبطال يثبتون في المعارك في وجه أعدائهم يدافعون بما لديهم من سلاح وعتاد مع أنصارهم وأعوانهم ، وقد تضطرهم المعارك إلى أن يثبتوا في مقابل العدو منفردين . أما أن يخرج الانسان إلى الموت طائعا مطمئنا بدون سلاح ولا عتاد وكأنه خرج ليعانق غادة حسناء فينام على فراش تحف به المخاطر والأهوال اعزل من كل شيء إلا من إيمانه وثقته بربه وحرصه على سلامة القائد كما حدث لعلي ( ع ) حينما عرض عليه ابن عمه محمد ( ص ) امر المبيت على فراشه ليتمكن هو من الفرار والتخلص من مؤامرة قريش فهذا ما لم يحدث في تاريخ البطولات ، وما لم يعرف من أحد في تاريخ المغامرات في سبيل المبدأ والعقيدة . لقد اخبر الرسول ابن عمه عليا ( ع ) الذي آخى بينه وبينه حينما آخى بين المهاجرين قبيل هجرتهم إلى يثرب ، لقد اخبره بما اتفقت عليه قريش من اغتياله ليلا وهو في فراشه ، فبكى علي ( ع ) خوفا على الرسول ، ولما امره بالمبيت على فراشه اجابه على الفور أو تسلم يا رسول اللّه ان فديتك بنفسي كما جاء في بعض الروايات ، قال له الرسول : نعم بذلك وعدني ربي ؛ فرحب علي ( ع ) بالأمر وتبدل حزنه فرحا وسرورا وتقدم إلى فراش الرسول مطمئن النفس واتشح ببرده الحضرمي الذي كان يتشح به ، وأحاط القوم بالدار وهم من خيرة فتيان قريش الأشداء ، وجعلوا ينظرون إلى المكان الذي اعتاد النبي ان ينام فيه فرأوا على فراشه رجلا قد التحف ببردته وهم لا يشكون انه محمد بن عبد اللّه ، فلما كان الثلث الأخير من الليل وكان قد اختبأ في مكان من الدار خرج من خوخة في ظهرها وانطلق جنوبا إلى غار ثور وكمن فيه .
وجاء في رواية ابن هشام في سيرته والطبري في تاريخه وابن سعد في طبقاته ان رسول اللّه ( ص ) خرج من باب الدار وانسل من بينهم وهم ينتظرون ظلمة الليل لينفذوا خطتهم ، وكان يقرأ : وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ، واخذ حفنة من التراب وجعل ينثرها على رؤوسهم وهم لا يشعرون ، ولما حان الوقت هجموا عليه الدار فثار علي في وجوههم فانهزموا منه ، ثم سألوه عن النبي فقال : لا أدري اين ذهب .
وجاء في بعض المرويات انهم كانوا يقذفون فراش النبي بالحجارة وعلي ( ع ) ساكن لا يتحرك ولا يبالي بما يصيبه من الأذى في سبيل سلامة محمد ( ص ) ، فلما هجموا عليه بسيوفهم وفي مقدمتهم خالد بن الوليد وثب علي ( ع ) من فراشه فهمز بيده ، فجعل خالد بن الوليد يقمز امامه قمزا فأخذ منه السيف وشد عليهم فاجفلوا امامه اجفال الغنم وخرجوا من الدار فامعنوا النظر إليه فإذا هو علي ( ع ) .
وجاء في تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 29 ان اللّه سبحانه في تلك الليلة التي بات فيها علي ( ع ) على فراش النبي أوحى إلى ملكين من ملائكته المقربين وهما جبريل وميكائيل اني قضيت على أحدهما بالموت فأيكما يفدي صاحبه فاختار كلا منهما الحياة ، فأوحى إليهما هلا كنتما كعلي بن أبي طالب لقد آخيت بينه وبين محمد وجعلت عمر أحدهما أطول من الآخر فاختار علي الموت وآثر محمدا بالحياة ونام في مضجعه ، اهبطا فاحفظاه من عدوه فهبطا يحرسانه في تلك الليلة وهو لا يعلم ، وجبريل يقول : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب من مثلك يباهي به اللّه ملائكة سبع سماوات[1].
وعلى اي الأحوال ، ان مبيت علي ( ع ) على فراش الرسول ليقيه بنفسه ويفديه بروحه وان كان من أروع ما عرفه تاريخ البطولات والتضحيات في سبيل الحق والعقيدة والمبدأ ، ولكن المتتبع لتاريخ أبي طالب وولده علي ( ع ) خلال ثلاثة عشر عاما منذ بعثه اللّه نبيا إلى اليوم الذي بات فيه علي على فراشه ، ان المتتبع في تاريخهما لا يجد ذلك غريبا على علي ( ع ) وأبيه ، فلقد كان أبو طالب زعيم قريش والآمر الناهي فيها ، فضحى بكل شيء ووقف وحده يقابل قريشا ويخاصمها ليسلم محمد وتسلم رسالته ، ووطن نفسه على الموت جوعا خلال ثلاث سنوات وهو محصور في شعبه مع الهاشميين لا يجدون أكثر الأحيان غير نبات الأرض وورق الأشجار طعاما لهم ، وعرض نفسه وأولاده لأشد الاخطار في سبيل محمد ، وهو يردد :
واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا
ولم يكن مبيت علي على فراش الرسول ليلة الهجرة بالمرة الأولى ، فلقد كان يوم حصرتهم قريش وحالت بينهم وبين جميع الناس وكانت يوم ذاك تفكر في اغتيال محمد وتحاول ان تدس بعض سفهائها لتنفيذ تلك الفكرة ، وأحس بها أبو طالب ، فأمر بني هاشم بحراسة الشعب ليلا ونهارا لئلا يتسلل إليه أحد ، فإذا جاء الليل كان يأمر محمدا ان ينام على فراشه في وقت مبكر من الليل لكي يراه الجميع اين ينام ، فإذا نام الناس وهدأت الأنفاس اجلسه ونقله إلى فراش آخر بعيد عن فراشه الأول وأضجع أحد أبنائه في مكانه ، كما جاء في رواية ابن كثير .
وفي شرح النهج من رواية الأمالي لأبي جعفر محمد بن حبيب انه كان يقيم محمدا من فراشه يوم كان محصورا في الشعب ويضجع ابنه عليا مكانه كما ذكرنا ذلك فيما مضى من هذا الكتاب عند الحديث عن الحصار الذي ضربته قريش على أبي طالب ومن معه من الهاشميين .
ان من يستعرض تاريخ أبي طالب وولده علي ( ع ) ومواقفهما الحازمة في نصرة الرسول والاسلام لا يستطيع كما اعتقد ان يفضل موقفا على موقف فجميع مواقفهما تأتي في القمة بين مواقف الابطال والمناضلين في سبيل اللّه وخير الانسانية .
والذي يدعو إلى الدهشة وإلى الاستغراب ان الذين كتبوا التاريخ الاسلامي والسيرة النبوية واحصوا الحوادث التي رافقت سيرة الرسول لم يغفلوا عن شيء من تلك الحوادث ، ومع ذلك فقد كانت نتيجة أبي طالب عند القدامى والمحدثين الذين يزعمون أنهم قد كتبوا بروح مجردة عن الرواسب والعقد الكريهة يذهبون إلى أن أبا طالب مات مشركا ويحاولون باساليبهم الملتوية ان يجعلوا التجاء أبي بكر إلى الرسول في الغار ومسيرته معه إلى يثرب فضيلة لا تثبت في مقابلها مواقف أبي طالب ولا مبيت ولده على فراشه ليلة الهجرة وغيرهما يوم كان محصورا في الشعب وإقدامه على الموت ليسلم الرسول وبالتالي لتعم دعوته شبه الجزيرة وما وراءها من العالم ، في حين ان اللّه قد انزل فيه بهذه المناسبة قوله في سورة البقرة :
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ كما نص على ذلك الرازي في تفسيره وأضاف ان جبريل قال له : بخ بخ من مثلك يباهي به اللّه ملائكته .
في حين ان أبا بكر حين التجأ مع الرسول إلى الغار كان الرسول يطمئنه ويمنيه السلامة بواسطة الوحي ومع ذلك فلقد كان يبكي ويرتعش من الخوف وكاد ان يفقد وعيه ، والنبي يقول له : لا تحزن ان اللّه معنا أقول ذلك مع تقديري لمكانة أبي بكر وصحبته المبكرة للرسول ( ص ) .
ولا بد لي وانا اكتب عن سيرة الرسول ( ص ) ان اسرد القصة ولو بنحو الاجمال معتمدا في ذلك على أوثق المصادر في السيرة والتاريخ .
فلقد جاء في كتب السيرة ان رسول اللّه امر أبا بكر وهند بن أبي هالة ربيب رسول اللّه ( ص ) من زوجته خديجة رضوان اللّه عليها ان يقعدا له في مكان حدده لهما في طريقه إلى الغار ، ولبث مع علي يوصيه بالصبر ولما خرج في ظلمة العشاء من بيته والقوم محيطون به أو من بيت آخر كما جاء في رواية ثانية انه مضى في طريقه حتى اتى أبا بكر وهندا فنهضا معه ودخل هو وأبو بكر إلى الغار ، وهو غار يقع في جبل خارج مكة ، ويعرف بغار ثور نسبة لثور بن عبد مناة لأنه ولد عنده ، ورجع هند متخفيا إلى مكة ، وجدّت قريش في طلب محمد ( ص ) ووضعت عليه العيون والجوائز الكبار لمن ادركه فقتله أو رده إلى مكة ، أو أرشدهم إلى مكانه .
ولما دخل هو وأبو بكر الغار قضت مشيئة اللّه سبحانه بأن تنسج العنكبوت على بابه وان تلتجىء إلى باب الغار حمامتان بريتان .
ومضت قريش جادة في طلبه ومعها أهل الخبرة بالقيافة وتتبع الأثر ، فمضى هؤلاء يتتبعون اثره إلى أن بلغوا الغار ، فانقطع الأثر عنهم ، فنظروا إلى الغار فرأوا العنكبوت قد غطت بابه بنسيجها ونظروا إلى الحمامتين في جانب من جوانب بابه فقال بعضهم لبعض ان عليه العنكبوت قبل ميلاد محمد ، هذا وأبو بكر عندما يسمع كلامهم ويحس وقع أقدامهم يرتعد من الخوف والحزن ، والنبي ( ص ) يطمئنه ويمنيه السلامة .
وفي الليلة الثانية جاء علي ( ع ) وهند بن أبي هالة فدخلا عليهما الغار وامر رسول اللّه هندا ان يبتاع له ولصاحبه أبي بكر بعيرين فقال له أبو بكر :
قد أعددت لي ولك يا رسول اللّه بعيرين ، فقال رسول اللّه : اني لا آخذهما ولا أحدهما إلا بالثمن ، قال فهما لك بذلك ، وأمر عليا فأقبضه الثمن[2].
وجاء في سيرة ابن هشام ان النبي ( ص ) قال له اني لا اركب بعيرا ليس لي ، فأخذه بالثمن الذي ابتاعه به .
وجاء عن ابن أبي رافع ، ان سائلا سأله ، أكان رسول اللّه يجد ما ينفقه ليدفع الثمن لأبي بكر ، فقال له : اين يذهب بك عن مال خديجة ، ولقد كان رسول اللّه يفك من مالها الغارم ويحمل العاجز ويعطي في النائبة وينفق على فقراء أصحابه ، ويحمل من أراد منهم الهجرة .
ثم إنه أوصى عليا بحفظ ذمته وأداء أمانته ، وامره بأن يقيم مناديا بالأبطح غدوة وعشية ينادي : الا من كانت له قبل محمد أمانة فليأت لتؤدى إليه أمانته ، وأوصاه ان يقدم عليه مع ابنته فاطمة وغيرها من النسوة إذا فرغ من أداء المهمات التي كلفه بها .
وفي سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق انه لم يعلم بخروج النبي الا علي وأبو بكر وان عليا كان مكلفا بأداء الأمانات والودائع التي كانت عند رسول اللّه .
وجاء في تاريخ ابن جرير ان أبا بكر لم يكن يعلم بخروج النبي ، ولما افتقده جاء إلى علي ( ع ) وسأله عنه فأخبره انه في غار ثور وقال له : إذا كانت لك إليه حاجة فالحق به فخرج مسرعا فلحق بالنبي في الطريق قبل ان يدخل الغار ولما أحس بحركته رسول اللّه قبل ان يتأكده اسرع في مشيته مخافة ان يكون عينا لقريش فانقطع نعله وأصاب ابهامه حجر ففلقه وسال دمه وأخيرا ادركه أبو بكر ودخلا معا إلى الغار .
ويدعي ابن كثير في تاريخه انه كان وهو يسير مع النبي ( ص ) إلى الغار مرة يسرع فيمشي امامه ، وأخرى يتأخر فيمشي خلفه ، ولما سأله النبي عن سبب هذا القلق في سيره اجابه اني مرة أخاف عليك الرصد فأمشي امامك ، ومرة أخاف ان يدركك الطلب فأمشي خلفك لأقيك بنفسي .
والرواية من المراسيل كما يدعي ابن كثير ، ولو صحت فمن الجائز القريب ان يكون مصدر هذا القلق في سير أبي بكر هو ان الخوف الذي كان قد استولى عليه جعله تارة يسرع خوفا من طلب قريش ، فإذا فات النبي وابتعد عنه يخاف ان يكون الطلب قد أصبح امامه فيرجع ليسير خلف النبي حتى إذا التقى النبي بأحد يكون الفرار أيسر عليه ، فلم يدعه الخوف الشديد الذي كان يرتعد منه ان يسير سيرا منتظما ، اما انه كان يصنع ذلك ليفتدي محمدا بنفسه فيما لو ادركه الطلب ، أو تلقاه الرصد ، فلم يحدث التاريخ عنه بأنه كان من ذوي البطولات والتضحيات الجسام في سبيل محمد ( ص ) وقصة الغار واضطرابه الشديد وهو مع النبي يطمئنه ويخفف من جزعه واضطرابه خلال المدة التي قضاها مع النبي ( ص ) في الغار تشهد بذلك .
وجاء في كتب السيرة انهما أقاما في الشعب ثلاثة أيام وخلالها قد استأجرا دليلا ليقطع بهما المسافة إلى يثرب على غير الطريق العام مخافة ان يدركهما طلب قريش ، وكان الدليل عبد اللّه بن أريقط الليثي وهو لا يزال على شركه ، ولكن النبي ( ص ) قد وثق به وامن من غدره ، فلما حان موعد خروجهما من الغار اتاهما الدليل ببعيريهما واتتهما أسماء بنت أبي بكر بطعامهما في جراب ونسيت ان تجعل له عصاما ، فلما أرادا أن يرتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام فحلت نطاقها فجعلت منه عصاما للسفرة وذهبت بالباقي فسميت ذات النطاقين . ثم ارتحلا ومعهما غلام لأبي بكر يدعى عامر بن فهيرة أردفه أبو بكر خلفه ، واخذ بهم الدليل على طريق الساحل .
وجدت قريش في طلب النبي ( ص ) وجعلت لمن قتله أو اسره مائة ناقة ومروا في طريقهم على خيمة أمّ معبد الخزاعية وكانت تقري الضيف فسألوها تمرا أو لحما يشترونه منها فلم يجدوا عندها شيئا ، فقالت واللّه لو كان عندنا شيء ما اعوزكم القرى ، فنظر رسول اللّه إلى شاة في جانب الخيمة وقال : ما هذه الشاة يا أمّ معبد ؟ قالت : هي شاة خلفها الجهد عن الغنم ، فقال لها النبي : هل بها من لبن ؟ قالت : هي اجهد من ذلك ، فقال : أتأذنين لي ان احلبها ؟ فقالت : نعم فداك أبي وأمي ان رأيت بها حلبا ، فدعا رسول اللّه ( ص ) بالشاة فمسح ضرعها بيده وذكر اسم اللّه ، ثم قال : بارك اللّه في شأنها فدرت من ساعتها فدعا بإناء كبير فحلب فيه فسقاها وسقى أصحابه حتى رويت ورووا وشرب هو آخرهم ، ثم قال : وساقي القوم آخرهم شرابا .
ثم حلب في الاناء حتى امتلأ وتركه لها وارتحل ، وما لبث ان جاء زوجها أبو معبد يسوق اعنزا حيلا عجافا هزلا ، فلما رأى اللبن تعجب وقال من أين لكم هذا والشاة عازبة ولا حلوبة في البيت ، قالت لا واللّه : إلا أنه مر بنا رجل مبارك وقصت عليه قصته ، فقال واللّه اني لأظنه صاحب قريش الذي يطلب ، صفيه لي ، قالت : رأيت رجلا ظاهر الوضاء منبلج الوجه حسن الخلق ، لم تعيه ثلجة ، ولم تزر به صلعة ، وسيم قسيم في عينيه دعج ، وفي اشفاره وطف ، وفي صوته صحل ، احور اكحل ، أزج أقرن شديد سواد الشعر ، في لحيته كثافة ، إذا صمت فعليه الوقار وإذا تكلم سما وعلاه البهاء ، حلو المنطق لا نزر ولا هذر ، ومضت تعدد صفاته في حديث طويل لا يعنينا منه أكثر من ذلك ، ولما انتهت من وصفه قال لها أبو معبد :
واللّه هذا صاحب قريش ، ولو وافقته يا أمّ معبد لالتمست ان اصحبه ولأفعلن إذا وجدت إلى ذلك سبيلا ، وأخيرا هاجرت أمّ معبد وزوجها إلى يثرب وأسلمت .
وجاء في طبقات ابن سعد ان النبي ( ص ) بينما هو في طريقه إلى يثرب عرض له سراقة بن مالك بن خثعم وهو على فرس له فدعا عليه رسول اللّه فرسخت قوائم فرسه في الأرض ، فقال يا محمد ادع اللّه ان يطلق فرسي وارجع عنك وأرد من ورائي فدعا له النبي فانطلق الفرس ، فرجع ووجد الناس يلتمسون رسول اللّه فقال لهم ارجعوا فقد استبرأت لكم خبره فلم أجد له أثرا ، فرجعوا وتابع ركب النبي ( ص ) طريقهم يقطعون السهول والجبال والأودية ، ويتحملون من حر الهاجرة ورمال الصحراء وجهد السير خلال سبعة أيام من رحلتهم قطعوا بها القسم الأكبر من المسافة بين مكة والمدينة وأصبحوا في أمان من خطر قريش ، فلما انتهوا إلى قبيلة بني سهم جاء شيخها بريدة لكي يحيي النبي ( ص ) وكان الخبر قد سبقه إلى المدينة .
وخرج أبو ذر في قبيلتي غفار وأسلم للقاء النبي ( ص ) ، فلما دنا منه الركب اسرع إلى ناقة النبي واخذ بزمامها وهو يكاد يطير فرحا بلقائه ، فأخبره ان غفارا قد اسلم أكثرها ، واجتمع عليه بنو غفار ، فقالوا له : يا رسول اللّه : ان أبا ذر قد علمنا ما علمته فأسلمنا وشهدنا انك رسول اللّه ، وأسرع المتخلفون منهم إلى الاسلام وبايعوا النبي وأعلنوا اسلامهم ، ثم تقدمت اسلم فقالوا انا قد أسلمنا ودخلنا فيما دخل فيه اخواننا وحلفاؤنا فأشرق وجه النبي سرورا بنصر اللّه ، ثم قال غفار غفر اللّه لها وأسلم سالمها اللّه .
واستأنف طريقه ، فلما قارب المدينة ، قال من يدلنا على الطريق إلى بني عمرو بن عوف ، فمشى امامه جماعة فلما بلغ منازلهم نزل فيهم بقباء لإحدى عشرة أو لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول ، وأراد أبو بكر منه ان يدخل المدينة فأصر على بقائه في قباء ، فقال ما أنا بداخلها حتى يقدم ابن عمي وابنتي يعني بذلك عليا وفاطمة ( ع ) وكان المسلمون من المهاجرين والأنصار في المدينة يفدون كل يوم إلى حر العصبة يتحينون قدومه ، فإذا علت الشمس عادوا إلى منازلهم ، فلما كان يوم قدومه رآه يهودي فسمع الصوت في بني عمر بن عوف والتكبير واستقبله نحو من خمسمائة منهم فمال بهم إلى قباء .
ثم كتب رسول اللّه منها إلى علي ( ع ) كما جاء في بعض الأخبار ، فلما اتاه كتاب النبي ( ص ) ابتاع ركائب لمن معه من النسوة وتهيأ للخروج وامر من كان قد بقي في مكة من ضعفاء المؤمنين ان يتسللوا ليلا إلى ذي طوى ، وخرج علي ( ع ) بالفواطم وهن فاطمة بنت رسول اللّه وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ، وفاطمة بنت حمزة كما نص على ذلك بعض المؤرخين ، وتبعتهم أم أيمن مولى رسول اللّه وأبو واقد الليثي فجعل أبو واقد يسوق الرواحل سوقا حثيثا ، فقال له علي ( ع ) ارفق بالنسوة يا أبا واقد ، ثم جعل علي ( ع ) يسوق بهن ويقول :
ليس الا اللّه فارفع ظنكا * يكفيك رب الناس ما اهمكا
فلما قارب ضجنان ادركه الطلب ، وكانوا ثمانية فرسان ملثمين معهم مولى لحرب بن أميّة اسمه جناح ، فقال علي ( ع ) لأيمن وأبي واقد انتحيا الإبل واعقلاها وتقدم وانزل النسوة واستقبل القوم بسيفه ، فقالوا أظننت يا غدار انك ناج بالنسوة ارجع لا ابا لك ، قال ( ع ) فإن لم أفعل : قالوا لترجعن راغما ودنوا من المطايا ليثوروها فحال علي بينهم وبينها فاهوى له جناح فراغ عن ضربته وضرب جناحا على عاتقه فقده نصفين حتى دخل السيف إلى كتف فرسه وشد على أصحابه وهو على قدميه شدة ضيغم وهو يقول :
خلوا سبيل الجاهد المجاهد * آليت لا أعبد غير الواحد
فتفرق القوم عنه ، وقالوا احبس نفسك عنا يا ابن أبي طالب ، فقال لهم : اني منطلق إلى أخي وابن عمي رسول اللّه ( ص ) فمن سره ان أفري لحمه وأريق دمه فليدن مني .
ثم أقبل علي ( ع ) على أيمن وأبي واقد وقال لهما أطلقا مطاياكما وسار بها ظافرا قاهرا حتى نزل ضجنان فلبث بها يومه وليلته ولحق به نفر من المستضعفين وبات ليلته تلك هو والفواطم طورا يصلون وطورا يذكرون اللّه قياما وقعودا وعلى جنوبهم حتى طلع الفجر فلما صلوا صلاة الفجر سار بهم حتى قدموا المدينة وقد نزل الوحي على النبي ( ص ) بما كان من شأنهم بقوله تعالى كما جاء في بعض المرويات :
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ[3].
وجاء في السيرة الحلبية ان عليا لما توجه بالفواطم إلى المدينة كان يسير الليل ويكمن النهار حتى تفطرت قدماه فلما بلغها اعتنقه النبي ( ع ) وبكى رحمة لما به ، ثم تفل في يديه وأمرّهما على قدمي علي ( ع ) ، فلم يشك منهما بعد ذلك .
وحدث في أسد الغابة ج 4 ص 19 بعد ان حكى قصة مبيته على فراش الرسول ثم قال : ان عليا خرج بالنسوة يمشي الليل ويكمن النهار حتى قدم المدينة فلما بلغ النبي ( ص ) قدومه ، قال ادعوا لي عليا فقيل له : يا رسول اللّه انه لا يستطيع ان يمشي ، فأتاه النبي فلما رآه اعتنقه وبكى رحمة لما به ، وكانت قدماه تقطران دما فتفل النبي في يديه ومسح بهما رجليه ودعا له بالعافية ، فلم يعد يشتكي منهما حتى استشهد .
وجاء في مستدرك الصحيحين عن الإمام زين العابدين ( ع ) أنه قال :
أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة اللّه علي بن أبي طالب وكان يقول :
وقيت بنفسي خير من وطئ الحصا * ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إله خاف ان يمكروا به * فنجاه ذو الطول الاله من المكر
وبات رسول اللّه في الغار آمنا * موقّى وفي حفظ الاله وفي ستر
وبت أراعيهم ولم يتهمونني * وقد وطنت نفسي على القتل والأسر
وجاء عن المناوي في كنوز الحقائق ص 31 ان اللّه تعالى يباهي بعلي كل يوم الملائكة[4].
وفي المجلد الأول من الطبقات لابن سعد ان الرسول ( ص ) أقام في قباء الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وخرج يوم الجمعة فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف فصلاها عندهم ومعه مائة من المسلمين ، وقيل إنه أقام عند بني عمرو بن عوف اربع عشرة ليلة ، وبعد صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف دعا براحلته فركبها والتف حوله المسلمون وهم مدججون بالسلاح عن يمينه وشماله وكان لا يمر بحي من احياء الأنصار الا ويتعلقون به ويقولون انزل على الرحب والسعة يا نبي اللّه إلى القوة والمنعة والثروة ، فيدعو لهم بالخير ويقول دعوا الراحلة فإنها مأمورة ، وما زالت تسير به ، وكلما مر بحي اخذوا بزمامها وألحوا على النزول بينهم وهو يرفض ذلك إلى أن انتهت إلى حيث مسجده الآن بركت الراحلة عنده .
وجاء خالد بن زيد بن كليب المعروف بأبي أيوب الأنصاري فحط رحله وأدخله منزله فقال رسول اللّه : المرء مع رحله ، وجاء أسعد بن زرارة فاخذ بزمام ناقة رسول اللّه وأدخلها داره ، وقال زيد بن ثابت : وأول هدية دخلت رسول اللّه في منزل أبي أيوب قصعة مثرودة فيها خبز وسمن ولبن ، فقلت أرسلت بهذه القصعة أمي يا رسول اللّه ، فقال : بارك اللّه فيك وفي أمك ، ودعا أصحابه فأكلوا ، ثم جاءت قصعة سعد بن عبادة ، وما كان من ليلة من الليالي الا وعلى باب رسول اللّه ( ص ) الثلاثة والأربعة يحملون الطعام يتناوبون ذلك حتى تحول رسول اللّه من منزل أبي أيوب ، وكان مقامه فيه سبعة اشهر .
وسأل عن المربد ، وهو محل بجوار أبي أيوب فأخبره معاذ بن عفراء بأنه لغلامين يتيمين من بني النجار في حجري يقال لأحدهما سهل ، وللآخر سهيل ابني عمر بن عباد بن ثعلبة بن غنم بن مالك ، وقال له معاذ : اني سأرضيهما من مالي ، وكان فيه نخل وقبور من قبور الجاهلية ، فقطع النخل ونبش القبور وبنى فيه المسجد ، وكان يصلي قبل بنائه حيث أدركته الصلاة ، ويعمل هو والمهاجرون والأنصار في بنائه وكان بعضهم يرتجز ويقول : لئن قعدنا والنبي يعمل * لذاك منا العمل المضلل
وجاء في سيرة ابن هشام ان عليا ( ع ) كان يرتجز ويقول :
لا يستوي من يعمر المساجدا * يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن الغبار حائدا
فأخذها عنه عمار بن ياسر وجعل يرتجز بها ، فلما أكثر ظن رجل من أصحاب رسول اللّه انه انما يعرض به ، فقال له : لقد سمعت ما تقول منذ اليوم يا ابن سمية ، واللّه اني لأراني سأعرض هذا العصا لأنفك ، وكان في يده عصا ، وأضاف ابن هشام إلى ذلك ان ابن إسحاق سمى ذلك الرجل الذي ظن أن عمارا يعرض به ونص في التعليقة على سيرة ابن هشام المجلد الأول على أن الرجل الذي سماه ابن إسحاق هو عثمان بن عفان ، والحوار كان بينه وبين عمار رضوان اللّه عليه .
وبلا شك فإن الرجل هو عثمان ولو كان ابن مظعون كما يدعي بعضهم أو غيره من سائر المسلمين لم يتردد أحد في التصريح باسمه ونسبه ، ولما سمع رسول اللّه مقالة عثمان بن عفان لعمار غضب وقال : ما لهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، ان عمارا جلدة ما بين عيني وانفي .
وقد أشار الرسول ( ص ) في حديثه هذا إلى ما سيجري لعمار على عهد معاوية وعثمان ومواقفه من الظلم والجور اللذين اشتدا في عهد الخلافة الأموية ، وقد ذكرنا فيما مضى لمحة عن حياة عمار ومواقفه الحازمة مع الحق وأهله خلال الفصل الذي تحدثنا فيه عن اسلام عمار وتعذيبه في سبيل اللّه .
وروى المؤلفون في السيرة عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال : كنا نصنع العشاء لرسول اللّه ( ص ) وهو عندنا فإذا رد علينا فضله تيمنت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا فضله نبتغي بذلك البركة ، وفي ليلة بعثنا له بعشائه ووضعنا فيه بصلا أو ثوما فرده ولم نر ليده فيه اثرا فجئته فزعا وقلت : يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي رددت عشاءك ولم ار فيه موضع يدك ، فقال : لقد وجدت فيه ريح هذه الشجرة وانا رجل أناجى فأما أنتم فكلوه ، قال :
فأكلنا ، ولم نصنع له طعاما فيه الثوم والبصل فيما بعد .
وأقام رسول اللّه ( ص ) عند أبي أيوب من ربيع الأول إلى صفر من السنة الثانية حيث أتم بناء المسجد ومنازله ، فانتقل إليها مع زوجته زمعة بنت الأسود وكانت أول امرأة تزوجها بعد خديجة رضوان اللّه عليها ، وقيل إنه أقام عند أبي أيوب سبعة أشهر كما ذكرنا من قبل ، وتم اسلام أهل المحلة التي نزل فيها إلا بعض الأحياء من الأوس كما جاء في سيرة ابن هشام .
وفي تاريخ ابن كثير ان رسول اللّه لما بنى المسجد كان يشترك معهم في العمل كأحدهم ، وقال : ابنوه عريشا كعريش موسى ، قال الراوي : فقلت للحسن ما عريش موسى ؟ قال : كان موسى إذا رفع يده بلغ العريش يعني بذلك السقف ، ثم بعد مدة جمع الأنصار مالا وأرادوا ان يدخلوا عليه بعض الإصلاحات ويرفعوا جدرانه ، وقالوا يا رسول اللّه : ابن هذا المسجد وزينه ، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد ؟ فرفض وقال : مالي رغبة عن أخي موسى ، وأضاف ابن كثير في تاريخه ان مسجد النبي ( ص ) كانت سواريه على عهد رسول اللّه ( ص ) من جذوع النخل ، وأعلاه مظلل بجريد النخل ، ثم طرأ عليه الخراب في خلافة أبي بكر فبناه بجذوع النخل وجريده كما كان في عهد رسول اللّه ( ص ) وبقي المسجد على هذه الحال إلى عهد عثمان بن عفان فبناه بالأحجار المنقوشة وزاد فيه زيادة كبيرة .
ويدعي ابن كثير انه بقي على حالته التي بناه عليها عثمان إلى عهد عمر بن عبد العزيز ، فأمر واليه على المدينة الوليد بن عبد الملك فزاد فيه وأدخل فيه الحجرة التي دفن فيها النبي والشيخان ، ثم أدخلت عليه بعض الزيادات فيما بعد من جهة القبلة واستطرد يصف المرحلة الأولى من بناء المسجد التي أتمها النبي ( ص ) ويصف عمارا وحماسه واقباله على العمل ونقل الأدوات التي بني بها المسجد ، وقال إن غيره كان يحمل لبنة واحدة وهو يحمل لبنتين ، فقال لرسول اللّه : انهم يحملون علي ما لا يحملون .
ويروى عن أمّ سلمة انها قالت : رأيت رسول اللّه ينفض وفرته بيده وكان رجلا جعدا ويقول : ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك انما تقتلك الفئة الباغية ، وأضاف في رواية أخرى أنه قال له : لهم اجر ولك اجران وآخر زادك من الدنيا شربة من لبن وتقتلك الفئة الباغية[5].
وفي رواية أخرى أنه قال له : انك تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار . وأضاف إلى ذلك ابن كثير بعد ان عرض تلك المرويات . أضاف ان ذلك من دلائل نبوته حيث قتله أهل الشام في صفين وهو مع علي وأهل العراق ، ولكنه قال : فإن أهل الشام وان كانوا بغاة وعلي على الحق وأحق بالخلافة من معاوية ، الا انهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من قتل عمار وقتال علي ، وليس كل مجتهد مصيبا ، وللمصيب اجران وللمخطئ اجر واحد .
وهذه الأحاديث التي نقلها ابن كثير نقلها أكثر المؤرخين وكتاب السيرة الذين وصفوا بناء المسجد في الأيام الأولى لدخول النبي إلى المدينة ، وتكاد أن تكون متفقا عليها ، ومع أن ابن كثير قد اعترف بها بنصها الذي ذكرناه واعترف بأن أهل الشام وعلى رأسهم معاوية كانوا بغاة لقتلهم عمار بن ياسر وقتالهم لعلي ، وان عمارا كان يدعوهم إلى الجنة ويدعوه معاوية وحزبه إلى النار ، ومع ذلك يقول بأنهم كانوا مجتهدين ، ولهم اجرهم حيث أخطئوا الحق في قتالهم لعلي وقتلهم لعمار داعية الجنة .
والغريب في الأمر ان يكون للدعاة إلى النار اجر على دعوتهم تلك ، وإذا كانوا مأجورين في قتلهم لعمار ، فكيف صح من النبي ( ص ) ان يصفهم بالبغاة ويجعلهم من الدعاة إلى النار ، في حين ان القرآن الكريم قد انذر البغاة والدعاة إلى النار بالخزي والعذاب الشديد ، كما روى السنة في مجاميعهم أحاديث كثيرة تنذر بسوء مصير من خالف الإمام الشرعي الذي اجتمع عليه الناس مهما كان المخالف .
فقد جاء في صحيح مسلم ج 6 ص 22 و 25 ان النبي ( ص ) قال :
ستكون هنات وهنات فمن أراد ان يفرق هذه الأمة وأمرها جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ، وفي رواية أخرى فاقتلوه وروى مسلم في صحيحه انه ( ص ) قال من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد ان يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه .
ورواه الحاكم في المستدرك ، والبيهقي في سننه ، وصاحب تيسير الوصول ج 2 ص 35 والمحلى ج 9 ص 360[6].
وجاء عن النبي ( ص ) كما في البخاري باب السمع والطاعة للامام ، أنه قال : ليس أحد يفارق الجماعة فيموت الا مات ميتة جاهلية ، وجاء عنه ( ص ) أيضا من بايع اماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعمه ان استطاع ، فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر ، وروى البخاري عن طريق معاوية نفسه من فارق الجماعة ولو شبرا دخل النار[7]، إلى كثير من أمثال هذه المرويات المشحونة بها صحاح أهل السنة ومجاميعهم ، ونحن وان كنا نشك فيها ونعلم بأنها وضعت لغاية خاصة الا انا نطالبهم بالمنطق الذي التزموا به وحاربوا غيرهم فيه .
انهم يؤكدون خلافة علي وصحتها وان معاوية قد بغى عليه وعلى عمار ويسلمون بصدور الحديث عن النبي ( ص ) الذي ينص على أن عمارا تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، ويعترفون بأن النبي قال : من فارق الجماعة وخرج على الإمام الشرعي يجب قتله وهو من أهل النار ، ومع ذلك يقول ابن كثير وغيره من أهل السنة ان معاوية مجتهد له الأجر والثواب في قتاله لعلي الإمام الشرعي وقتله لعمار الداعية إلى الجنة ، وصدق اللّه حيث يقول : فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ . ولما تم بناء المسجد امر رسول اللّه ان يصنعوا له منبرا فصنعوه له فخطبهم عليه وكانت أول خطبة خطبها بينهم كما جاء في كتب السيرة قال فيها بعد ان حمد اللّه وأثنى عليه : أيها الناس قدموا لأنفسكم واللّه ليصعقن أحدكم ، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ، ثم ليقولن له ربه وليس له ترجمان ولا حاجب يحميه دونه ، ألم يأتك رسولي فيبلغك ، وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا ، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم فمن استطاع ان يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة ، فإن بها تجزى الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف .
وفي خطبته الثانية كان أوسع من الخطبة الأولى ، فلقد دعاهم فيها إلى التوحيد والتمسك بالقرآن وإلى الألفة والمحبة وجهاد أنفسهم والصدق في الحديث ، والتمسك بما عاهدوا اللّه عليه وغير ذلك مما تقتضيه ظروفهم ومصلحتهم ، وهكذا كان في خطبه المتتالية يخطو بهم خطوة خطوة نحو تعاليم الإسلام وأهدافه حسبما تقتضيه المصلحة .
[1] انظر ص 29 من المجلد الثاني تاريخ اليعقوبي وأسد الغابة لابن الأثير ج 4 ص 25 والشبلنجي في نور الابصار ص 77 والمناوي في كنوز الحقائق ص 31 والغزالي في احياء العلوم كما جاء في فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 2 ص 310 .
[2] أعيان الشيعة عن أمالي الشيخ أبي جعفر الطوسي .
[3] انظر أعيان الشيعة جزء 2 ص 64 .
[4] فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 2 ص 310 و 312 .
[5] انما عنى النبي ( ص ) بقوله : لهم اجر ولك اجران الذين اشتركوا معه في بناء المسجد ، وكان لعمار اجران لأنه كان يحمل لبنتين ولكل واحد منهم اجر لأنهم كانوا يحملون لبنة واحدة .
[6] انظر الغدير : ج 10 ص 27 و 28 .
[7] انظر الغدير ص 273 و 274 و 275 ج 1 .
الاكثر قراءة في حاله بعد الهجرة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة