الاعداد للمستقبل ونص معاهدة المدينة
المؤلف:
هاشم معروف الحسني
المصدر:
سيرة المصطفى "ص"
الجزء والصفحة:
ص273-278
2025-11-01
66
لقد عرفت ان أول شيء قام به النبي ( ص ) بعد ان استقر في يثرب هو بناء مسجده والمساكن التي يحتاج إليها ، والمسجد في الاسلام كما يجمع الناس للعبادة وأداء فريضة الصلاة ، كان أيضا مدرسة للتعليم وندوة يجتمعون فيه للنظر في جميع شؤونهم الدينية والدنيوية وملجأ للفقراء والمساكين يأوي إليه منهم من لا يملك مسكنا ولا يجد من يؤويه .
وقد أعد منه النبي جانبا لأولئك البؤساء الذين لا يملكون شيئا غير إيمانهم بربهم وانقطاعهم إليه سبحانه ، ثم بذل جهده في توثيق الصلات بين المسلمين من المهاجرين والأنصار وتذويب العصبيات والنزعات الجاهلية التي كانت تتحكم في مصير الأفراد أو الجماعات وتجرهم إلى الحروب وإراقة الدماء كما كان الحال بين الأوس والخزرج الذين كانوا يتعرضون بين الحين والآخر لحروب دامية تراق فيها الدماء وتستباح الأعراض والأموال .
واستطاع في برهة يسيرة ان يعبأ نفوسهم بتعاليم الاسلام والايمان برسالته بدون جبر أو إكراه ، بل بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأعطى الحق لأصحاب الأديان الأخرى ان يناقشوا ويناظروا ويبحثوا عن الحقيقة على ضوء ما تهدف إليه تلك الأديان ، وما يدعو إليه الاسلام من عبادة الواحد الأحد ، والعمل للآخرة والدنيا ليستقيم النظام وتنتظم الحياة ويستوفي كل فرد نصيبه منها ، بدون بغي أو عدوان أو تحكم بالفقراء والمستضعفين من الناس .
ولم يكتف الرسول بعد استقراره في يثرب بتوثيق عرى التعاون والأخوة بين الأوس والخزرج وبينهم وبين المهاجرين إليها معه من المسلمين والمؤمنين ، بل بذل جهدا كبيرا لتحقيق الوحدة بين جميع سكان يثرب من المسلمين والمشركين وأهل الكتاب من اليهود كبني قينقاع وبني النظير وقريظة المقيمين على مقربة منها مخافة ان تثور بينهم البغضاء والعصبيات وتعصف بهم الأحقاد ، فيصبح حينذاك بين خطرين خطر التفكك والخصومات المحلية وخطر قريش التي ارتحل عنها هو وأصحابه المؤمنون برسالته .
ولولا هذا التدبير الذي ابدى فيه النبي منتهى المهارة والمقدرة والحنكة ، والذي وحد فيه بين المواطنين على ما كان بينهم من عداء وخصومات موروثة ، لولا ذلك لوجد من الصعوبات والمشاق في نشر دعوته وهو في يثرب ما لا يقل عما وجده خلال ثلاثة عشر عاما ، ولم يكن في مقدوره ان يحقق تلك الانتصارات الباهرة التي مكنت لدعوته ان تنتشر في شبه الجزيرة خلال سنوات معدودات ، وتتعدى شبه الجزيرة إلى ما وراءها لتهد عروش الطغاة والظالمين .
وقال الأستاذ هيكل حول ذلك الموقف الذي وقفه النبي من سكان المدينة على اختلاف نزعاتهم ومعتقداتهم ، فقد قال : ولكن العمل السياسي الجليل حقا والذي يدل على أعظم الاقتدار ذلك ما وصل إليه محمد ( ص ) من تحقيق وحدة يثرب ووضع نظامها السياسي بالاتفاق مع اليهود على أساس متين من الحرية والتحالف .
وقد رأيت اليهود كيف أحسنوا استقباله املا في استدراجه إلى حقوقهم ، وبادر هو إلى رد تحيتهم بمثلها وإلى توثيق صلاته بهم فتحدث إلى رؤسائهم وتقرب إليه كبراؤهم ، وربط بينه وبينهم برابطة المودة باعتبار انهم أهل كتاب موحدون ، وكانت قبلته في الصلاة ما تزال إلى بيت المقدس ، وما كانت الأيام لتزيده باليهود أو لتزيد اليهود به إلا مودة وقربى ، كما أن سيرته وعظيم تواضعه وجميل عطفه وحسن وفائه وفيض بره بالفقير واليائس والمحروم ، وما أورثه ذلك من قوة السلطان على أهل يثرب ، كل ذلك وصل بالأمر بينه وبينهم إلى عقد معاهدة صداقة وتحالف ، وتقرير لحرية الاعتقاد .
ولا بد لنا ونحن نتحدث عن موقف الرسول ( ص ) من يهود المدينة حين دخولها وما بذله لهم من التساهل والتسامح وحسن الجوار ان نعرض وثيقة المعاهدة بينه وبينهم بنصها الحرفي .
نص المعاهدة كما وردت في كتب السيرة والتاريخ
بسم اللّه الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد بن عبد اللّه النبي بين المسلمين والمؤمنين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم ، إنهم أمة واحدة من دون الناس المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم[1] وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، ثم استعرض كل بطن من بطون الأنصار إلى أن قال : وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا[2] بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل .
وان لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه ، وان المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة[3] ظلم أو اثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين ، وان أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم ، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ، ولا ينصر كافرا على مؤمن ، وإن ذمة اللّه واحدة يجير عليهم أدناهم ، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس ، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة[4] غير مظلومين ولا متناصر عليهم ، وإن سلم المؤمنين واحدة ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلا على سواء وعدل بينهم ، وان كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا ، وإن المؤمنين يبيء[5] بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل اللّه ، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى واقومه ، وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن وإنه من اعتبط [6] مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به الا ان يرضى ولي المقتول ، وإن المؤمنين عليه كافة ، ولا يحل لهم إلا قيام عليه ، وانه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن باللّه واليوم الآخر ان ينصر محدثا[7] ولا يؤويه ، وإن من نصره أو آواه فان عليه لعنة اللّه وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل ، وانكم مهما اختلفتم فيه من شيء فان مرده إلى اللّه وإلى محمد ، وان اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم . مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ[8] إلا نفسه وأهل بيته وإن ليهود بني النجار ويهود بني الحارث ، ويهود بني ساعدة ، ويهود بني جشم ، ويهود بني الأوس ، ويهود بني ثعلبة كأنفسهم ، وأن بطانة يهود كأنفسهم ، وانه لا يخرج منهم أحد إلا باذن محمد ( ص ) وانه لا يتحجر[9] على ثائر جرح ، وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظلم ، وان اللّه على ابر هذا[10] وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم ، وان بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وان بينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم ، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه ، وان النصر للمظلوم وان اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ، وان يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ، وان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم ، وانه لا تجار حرمة الا باذن أهلها ، وانه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى اللّه وإلى محمد رسول اللّه ( ص ) وان اللّه على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره ، وانه لا تجار قريش ولا من نصرها وان بينهم النصر على من دهم يثرب ، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه ، فإنهم يصالحونه ويلبسونه ، وانهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين الا من حارب في الدين على كل ناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم ، وان يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر الحسن من أهل هذه الصحيفة ، وإن البر دون الاثم : لا يكسب كاسب إلا على نفسه ، وإن اللّه على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره ، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم وإنه من خرج آمن ، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم ، وإن اللّه جار لمن بر واتقى ومحمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم .
وكما ذكرنا ان هذه الوثيقة ان صحت عن الرسول ، ومن غير المستبعد صحتها ، وإن كانت تشتمل على استعمال الألفاظ الغريبة وتكرير في فقراتها مع عدم الانسجام في التركيب إلا أن ذلك لا يكفي وحده لردها ما دام المؤلفون في السيرة متفقون على صدورها .
ومن الجائز ان يكون قد طرأ عليها بعض التحوير أو التقطيع مما جعلها تبدو وكأنها غريبة عن أسلوب النبي ( ص ) .
ومهما كان الحال فالوثيقة مع قطع النظر عن هذه الناحية هي أشبه بالمعاهدة بين المسلمين وغيرهم من سكان يثرب وجيرانها من اليهود وغيرهم على التعاون المخلص وحرية الأديان والمعتقدات والدفاع عن يثرب والضرب على أيدي المعتدين ومدبري الفتن ، ومقاطعة المشركين في مكة وعدم اسداء العون لهم ، والوقوف صفا واحدا في وجوههم فيما لو حاولوا غزو يثرب والعدوان عليها لينتقموا من النبي وأصحابه .
وقد رحب اليهود والمشركون بهذه المعاهدة حيث ظنوا بأنها تتفق مع مصالحهم ومنافعهم وتحفظ لهم نفوذهم ، ولكنهم بعد ان رأوا ان الاسلام سيوحد بين العرب ويجعل من المسلمين على اختلاف أجناسهم أمة واحدة ، وأيقنوا انه يحارب الاستغلال والجشع ويحرم الربا وكل المنافع التي تأتي عن طريق الغش والخداع والفجور ، أيقنوا بالخطر على مصالحهم ، وحتى على وجودهم القائم على التسلط واستغلال الآخرين . بعد ان علموا ذلك وتيقنوه صمتوا صمت المستريب ، ثم أعلنوا موقفهم من الدعوة وانحازوا إلى جانب المشركين كما سننبه على ذلك في الحديث عن مواقفهم ودسائسهم التي اضطرت النبي ( ص ) إلى استعمال القوة ضدهم .
[1] على ربعتهم اي على استقامتهم يريد بذلك انهم على امرهم الذي كانوا عليه يتعاقلون ويراد من التعاقل انهم يحملون الدية ويتعاونون عليها .
[2] المفرح هو المثقل بالدين والكثير العيال .
[3] ابتغى دسيعة ظلم : أي سعى في الظلم .
[4] اي المساواة في المعاملة .
[5] يبيء : أبأتّ فلانا بفلان إذا قتلته به يريد ان المؤمنين بعضهم أولياء بعض فيما ينال دماءهم .
[6] اعتبطه : اي قتله بلا جناية منه توجب القتل .
[9] لا يتحجر اي لا يلتئم جرح على ثأر .
الاكثر قراءة في حاله بعد الهجرة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة