ثُمَّ أوْرَثْنَا الْكِتَابِ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبَادِنَا
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج1/ ص35-39
2025-10-01
349
هذا البحث يتناول موضوعين:
- الموضوع الأوّل: ما هو المقصود من الكتاب؟
- الموضوع الثاني: من هم العباد المصطفون الذين أورثهم الله الكتاب؟
امّا الموضوع الأوّل، فليس هناك من شكّ في انّ المقصود بالكتاب هو القرآن الكريم، لأنّه يقول في الآية التي سبقتها: {وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}[1].
وهذا الخطاب موجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله؛ كما انّ الكتاب الذي أوحى اليه هو القرآن الكريم.
وباعتبار انّه يقول بعد هذه الآية مباشرة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا}.
فقد اتّضح بأن المراد بهذا القرآن المورث ليس القرآن المكتوب، بل انّ المراد بذلك هو حقيقة القرآن الذي نزل على قلوبهم. فقد تلقّى رسول الله- وفق نهجٍ معيّن- تلك الحقائق من جبرئيل الأمين، وبنفس ذلك النهج تلقّى هؤلاء العباد المصطفون القرآن من رسول الله صّلى الله عليه وآله وتلك الحقائق والأسرار واللطائف التي: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}[2]. و{إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}[3]؛ حيث وردت على قلوبهم بمستوى رفيع مختصّ بهم.
امّا فيما يخصّ الموضوع الثاني، فحسب الروايات المستفيضة والمتظافرة التي وردت عن الامام محمّد الباقر والإمام جعفر الصادق عليهما السلام، فانّ المراد بهؤلاء العباد المصطفين، ذريّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله من أولاد فاطمة الزهراء سلام الله عليها؛ الذين يقعون في ذريّة: (وآلَ إبراهيم) بمقتضى الآية المباركة: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحاً وآلَ إِبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ}[4].
وعلاوةً على ذلك، فلم يدّعِ أحد منذ صدر الإسلام حتّى الآن أنّ هناك شخصاً أعلم بكتاب الله من أمير المؤمنين والأئمّة الطاهرين عليهم السلام؛ بل انّ أمير المؤمنين- حسب الروايات المتواترة الواردة عن كبار أهل السنّة- أعرف الأمّة وأعلمها بكتاب الله. وبناءً على هذا فانّ من المسَلَّم انّ المراد بالعباد المصطفين الذين أورثهم اللهُ القرآن هؤلاء الأئمّة الطاهرين.
وبغضّ النظر عن ذلك فانّه وفقاً للحديث المتواتر بين السّنّة والشيعة الذي جعل فيه النبيّ عترته ملازمةً للقرآن وقرينةً له، فانّه يتّضح أنّ المراد من العباد المصطفين عترة رسول الله: "إني تَاركٌ فِيكُمُ الثَّقلينِ كِتابَ اللهِ وعِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عليّ الحَوضَ"[5].
علاوة على الروايات الكثيرة الواردة في علم أمير المؤمنين عليه السّلام، كالحديث الوارد عن أمّ سلمة حيث قالت: قال النبيّ: "عَليّ مَعَ الْقُرْآنِ والْقُرْآنُ مَعَ عَليٍ".
وحديث: "أنَا مَدِيَنَةُ الْعِلم وعليّ بَابها"[6].
ونظائرها من الروايات الواردة في علم أمير المؤمنين، والتي تفيد انّه كان من وارثي كتاب الله من رسول الله صلى الله عليه وآله.
امّا بشأن قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}.
فمن الجلي انّ المقصودَ بهم أصحاب الشمال وأصحاب اليمين والمقربّون، ومسلماً فانّ المراد بالعباد المصطفين هم الفئة الثالثة الذين سبقوا إلى الخيرات.
وبناءً على هذا فانّ الضمير في (منهم) امّا ان يكون عائداً إلى (عبادنا) بدون قيد الاصطفاء، أي انّ مطلق عبادنا ينقسمون إلى ثلاث مجاميع، لكنّ من بينهم السابقون إلى الخيرات الذين كانوا هم المصطفين وورثة الكتاب.
وامّا أن يعود الضمير في (منهم) إلى {الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا}، أي انّ الطوائف الثلاث شركاء في وراثة الكتاب، على الرغم من انّ الفئة الثالثة ستكون العالمة بالكتاب والمحافظة عليه والوارث الحقيقي له.
ولا مانع هناك أن يكون القائمون بكتاب الله والمحافظون عليه فئةً خاصّة بينما تُنسب الوراثة إلى الجميع، كما في الآية الكريمة الشريفة: {وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ}[7]، التي تنسب الوراثة إلى بني إسرائيل مع انّ نزول التوراة كان على موسى (عليه السلام) لا عليهم جميعاً، ولكن باعتبار انّ موسى كان يعيش في بني اسرائيل، فانّ نسبة إعطاء التوراة لبني اسرائيل صحيحة تجوّزاً. وبناءً على هذا الاحتمال، فسيكون المراد بعبارة (ظالمٌ لنفسه) أفراد المسلمين الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب السيّئات والمعاصي، وذلك لأنّه تبعاً لهذا الاحتمال فانّ فئة (ظالم لنفسه) سيكونون من المصطفين، لذا لا يمكن جعلهم من أصحاب الشمال، بل هم من أصحاب اليمين، غاية الأمر انّ فيهم بعض النقائص.
وعلى كلّ حال فلنعد إلى أصل البحث، وهو ان امير المؤمنين والأئمة الأطهار باعتبارهم عباد الله المصطفين- طبقاً للنصوص الصريحة التي نقلها أهل السنّة بأنفسهم عن كبار المحدّثين- فانهم حارسوا وحافظو كتاب الله. فالحافظ للقرآن والوارث له هو الذي يمتلك مقامَ ومنزلة رسول الله، ويمتلك قلباً كقلب رسول الله في تحمّل تلك الحقائق واستيعابها.
[1] الآية 31، من السورة 35: فاطر.
[2] الآية 79، من السورة 56: الواقعة.
[3] الآية 3 و4، من السورة 43: الزخرف.
[4] الآية 33، من السورة 3: آل عمران
[5] يروي أحمد بن حنبل هذا الحديث عن حديث زيد بن ثابت بطريقين صحيحين، أوّلهما بداية ص 182 من الجزء الخامس من مسنده، لكن العبارة هكذا: قال رسول الله صلّي الله عليه [وآله] وسلم: "انّي تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبلٌ ممدود ما بين السماء والأرض او ما بين السماء إلى الأرض وعترتي اهل بيتي وانّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض". وثانيهما في نهاية ص 189 من الجزء الخامس من مسنده، لكنّ عبارته بهذه الكيفية: قال النبي: إنّي تارك فيكم ثقلين كتاب الله وأهل بيتي وانّهما لن يفترقا حتّي يردا علي الحوض جميعاً. ويقول في تفسير (الدّر المنثور)، ج 6، ص 7: وأخرج الترمذي وحسن ابن الانباري في المصاحف عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه[ وآله] وسلّم: "إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الأخر، كتاب الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّي يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما".
[6] (كنز العمال)، ج 12، ص 203، الحديث 1152، طبعة الهند 1384.
[7] الآية 53، من السورة 40: المؤمن.
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة