طيّ طريق الولاية منحصر في المواظبة على ذكر الله
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج5/ص27-31
2025-12-15
45
قال الله الحكيم في كتاب الكريم: {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.[1]
نجد في هذه الآيات أنّ الولاية الإلهيّة لا تتحقّق بمجرّد الإيمان البدائيّ، وذلك في ضوء القرينة القائمة في تفسير قوله: {أَوْلِياءَ اللَّهِ} بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ}. وإنّما تتحقّق بالإيمان الذي يأتى بعد ارتقاء معارج التقوى والعمل الصالح؛ فهو- إذَن- لون من الإيمان الراسخ الوطيد الذي يتلو الإيمان البدائيّ، ويكتسب بعد العمل في ضوئه، وبملازمة التقوى والعمل الصالح خلال مدّة مديدة. ويستوي الإيمان على سوقه قويّاً شيئاً فشيئاً بسبب ديمومته مقروناً بالعمل الصالح والتقوى، إلى أن تضمر الحجب النفسانيّة الحائلة بين العبد والحقّ جلّ وعزّ تدريجاً؛ وتهزل نسائج الانشداد إلى المشتهيات المادّيّة والأفكار والهواجس الجسمانيّة، فإذا الحجب تتمزّق، وحلقات الهوى تتفكّك تماماً نتيجة المثابرة والمواظبة على ذلك، فلا يظلّ أيّ حجاب بين العبد وربّه. وهذا هو معنى الولاية؛ وكيفيّة الارتقاء إلى تلك الدرجة إجمالًا.
ولمّا كانت الولاية قائمة على ركيزتين: الله، والعبد؛ فإنّ الله يُسمّى وَلِيّاً والمؤمن يُسمّى وَلِيّاً إيضاً؛ الله من حيث الربوبيّة والفاعلية، والعبد من حيث العبوديّة والتسليم والقابليّة. وهذه هي الولاية الإلهيّة، لأنّ رفع الحجاب بين العبد والمعبود قد تحقّق فعلًا.
وفي المقابل ولاية الشيطان حيث لا يبقى حائل بينه وبين الشخص المتمرّد العاصي؛ فنرى الشيطان هو الذي يدير شئونه ويدبّرها ويتصرّف بها كيف يشاء؛ ويرتفع كلّ حجاب بينهما؛ فالشيطان ما فتئ فاعلًا، وهذا المسكين ما برح طيّعاً قابلًا، الشيطان وليّه، وهو وليّ الشيطان.
وإنّها لخسارة كُبرى أن يصبح الشيطان وليّ أحد، يتصرّف في شئونه بواسطة اتّحاده معه.
{وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً}.[2]
وقال جلّ من قائل: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ، فَرِيقاً هَدى وفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}.[3]
وقال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}.[4]
يدعو الشيطان إلى الفحشاء، والمنكر، والتباهي، والاستكبار، والشرك، والكفر، ويجرف الإنسان إلى الضلال والضياع، ويعده بالخلود في عالم الغرور؛ ويخيفه من الفقر والمصائب والمشاكل. ولكنّ الله يدعو إلى العدل، والمعروف، والصلاح، والإحسان، والتوحيد، والعرفان والذوبان فيه.
ويهدي الإنسان إلى هذا الطريق، ويعده بالخلود في الآخرة، والبقاء ولقاء الله، والفناء في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وذاته القدسيّة المقدّسة؛ ويحذّر من الباطل، والعبث، والغرور، ويدعو إلى دار السلام ومهد السعادة.
لذلك، فإنّ سبيل ولاية الله ينحصر في الابتعاد عن الشيطان وآرائه وأفكاره. أي: في الحركة من عالم الكثرات والالتفات والانشغال بعالم الغرور إلى عالم الوحدة، والعالم الأصيل وحقيقة العرفان واللقاء الإلهيّ.
واجتياز كثرات هذه العوالم وظواهر هذه النشآت والإعراض عنها وذلك بالمضي قُدماً للورود في وادي العرفان الأيمن بنداء الله أكبر.
ولا يتحقّق هذا إلّا بنسيان الكثرة، وذكر الله، والتفكّر المتواصل فيه، والبكاء على فراقه، والاحتراق بنار هجرانه المتّقدة.
وما أروع الآية المباركة إذ تكشف لنا هذه الحقيقة، وهي أنّ السبيل الوحيد للولاية هو ذكر الله، وأنّ الغفلة عن ذكره تؤدِّي إلى الانغماس في الضلالة، قال عزّ اسمه: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا ولَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى}.[5]
أوّلًا: نجد في هاتين الآيتين أنّ الحياة الوضيعة والغرور الدنيويّ، والانغماس في الشهوات، والأفكار الباطلة، والآراء السقيمة، كلّ ذلك ملازم للإعراض عن ذكر الله.
وثانياً: نفهم من الآيتين أنّ غاية البلوغ العلميّ بنحو مطلق لا ترسو عند هذا المرفأ؛ بل أنّ هذا المرفأ هو غاية البلوغ العلميّ والفكريّ لمن كان قصير النظر؛ وإنّ غاية البلوغ العلميّ للاشخاص الذين يذكرون الله دائماً ستكون في مكان آخر.
وثالثاً: تبيّن الآيتان أنّ هؤلاء الأشخاص هم من أهل الضلالة؛ وأنّ الله أعلم بهؤلاء الضالين عن سبيله ومطّلع على أحوالهم؛ وكذلك تدلّ على أنّ هناك فئة غير هذه الفئة الغافلة عن ذكر الله؛ متّجهة إلى ذكره، وهي فئة المهتدين؛ والله عالم بأحوالهم؛ وفي ضوء ذلك فإنّ هذه الآية تكشف لنا بوضوح أنّ الضلال عن سبيل الله ناتج عن الغفلة عن ذكره؛ وأنّ الاهتداء إلى سبيله نابع عن ذكره. إذَن، فإنّ ذكر الله يؤدِّي إلى السلوك وبلوغ المقصود ومقام الولاية.
وتبيّن الآيات التي تضمّها سورة التكاثر بوضوح أنّ الاتّجاه إلى كثرات هذا العالم يحرم الإنسان من لقاء محبوبه، ومن جنّة نعيم اللقاء والولاية؛ ولذلك فإنّ الظفر بنعيم الولاية؛ والحلول في منزل الأمن والأمان الإلهيّين، والتمكّن في ذلك المقام الأمين دون أي حاجب وساتر، يتوقّفان على نسيان الكثرات التي يعجّ بها هذا العالم.
{أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} (التي هي حقيقة التوجّه إلى الكثرات، وباطن وحقيقة الالتفات لغير الله تعالى) {ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.[6]
لقد أثبتنا بحول الله وقوّته في الجزء الثامن من كتابنا «معرفة المعاد» في المجلس الثامن والخمسين أنّ المُراد من النعيم هو مقام الولاية؛ وحيثما ورد في القرآن الكريم ذكر للنعيم والنعمة، فإنّ القصد هو الولاية؛ وفي هذه الحالة تعتبر الآيات المشار إليها التكاثر، أي الالتفات إلى الكثرات والتكاثر مطلقاً، سواء كان في المال، أو الولد، أو النساء، أو المِلك والضَيْعة، أو المُلك والحكومة، أو العلم والمعرفة، أو الجاه وعلوّ المنزلة، كلّه منبعث عن نسيان الوحدة؛ ولذلك يؤدّي إلى الضلال عن المقصود ونعمة الولاية ونعيمها؛ وبالتالى فإنّ الشخص الذي يُمنى بهذه الكثرات سيكون عرضة للسؤال والاستنطاق عن فقدان الولاية؛ وبالملازمة فإنّها تعتبر النعيم، أي؛ الولاية ورفع حجاب الاثنينيّة والبينونة، وبلوغ مقام العبوديّة الخالصة متوقّفاً على نسيان الكثرات، والإعراض عن عالم الاعتبار والغرور والباطل والآمال الزائفة العابثة؛ ومن المعلوم أنّ نسيان الكثرات لا يتيسّر إلّا بذكر الله؛ إذَن فذكر الله المتواصل يؤدّي إلى بزوغ نور الحقيقة، والظفر بمقام الأمن، والتمكّن في مَنْزِلِ الوَلَاية.
[1] الآيات 62- 64، من السورة 10: يونس.
[2] الآية 119، من السورة 4: النساء.
[3] الآيتان 29 و30، من السورة 7: الاعراف.
[4] الآية 27، من السورة 7: الاعراف.
[5] الآيتان 29، 30، من السورة 53: النجم.
[6] الآيات 8-1 من السورة 102: التكاثر.
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة