الجبر في مقولة الشبستريّ ليس بمعنى عدم استقلال العبد
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج3/ ص291-295
2025-09-22
240
هنا تجدر الإشارة إلى موضوعَين مهمَّيْن:
الأوّل: أن مراد شيخنا العارف من «الجَبْر» المذكور في البيت التاسع أعلاه، ليس الجبر الذي تؤمن به الأشاعرة والمصطلح عليه في كتب أهل الكلام، بل وحدة الحقّ تعالى بشكل يسلب الاختيار الاستقلاليّ من الإنسان سواء أ كان ذلك الاختيار على نحو التفويض أم على نحو الاكتساب.
وهذا يشير إلى معنى الأمْرُ بَيْنَ الأمْرَينِ وهو اعتبار الاختيار اختياراً للحقّ تعالى؛ اي الوحدة بين مفهوم ومصداق اختيار الإنسان وبين اختيار الحقّ؛ ودلالة على معنى ومفاد الآية وما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.[1]
واستشهد على دعواه هذه بحديث للنبيّ أنّه قال: القَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الامَّةِ.[2]
وحديث الرسول هذا يشير إلى بطلان كلام المعتزلة القائلين بالتفويض وكلام الأشاعرة المعتقدين باكتساب الإنسان للاختيار، على حدّ سواء. ذلك أن المجوس تقول بمبدأين (يزدان) و(أهريمن) لأفعال الخير والشرّ؛ وهؤلاء أيضاً يقولون بمبدأ الخيرات وهو الله، ويقولون كذلك بالسيّئات والقبائح الناشئة عن الاختيار الاستقلاليّ للإنسان.
وعلى هذا فإنّ كلا الفريقين يقولان بمبدأين أصليّين (للخيرات والسيّئات)؛ وكلّ منهما يشابه الآخر ويماثله.
وهنا التبس على نجل آية الله البهبهانيّ الوحيد، الآقا محمّد على الكرمانشاهيّ، بظنّه أن المراد من معنى كلمة الجبر هو هذا المعنى الذي ذكرناه، ولهذا انتقد الشبستريّ ومحيي الدين لاستعمالهما هذه اللفظة.
نقل السيّد محمّد باقر الخوانساريّ كلاماً عن الآقا محمّد على البهبهانيّ في كتابه «مقامع الفضل» يردّ فيه على سؤالٍ طُرِح عليه حول أدلّة القائلين بوحدة الوجود، حتى يصل إلى: «و نقل محيي الدين مذهب الجبر كذلك إلى جميع العرفاء؛ وقال الشبستريّ أيضاً في «گلشن راز»:
هر آن كس را كه مذهب غير جبر است *** نبى گفتا كه او مانند گبر است[3]
وهكذا علمنا أن نسبة الجبر سواء إلى الشبستريّ أم إلى محيي الدين ناشئة عن قصور في فهم المعاني الراقية والكلمات السامية بدقّة، والاقتصار على ظاهر اللفظ.
الثاني: ونظير هذا الأمر، الخطأ الذي وقع فيه ثقة المحدّثين الحاجّ ميرزا حسين النوريّ في «المستدرك» وذلك بانتقاد استعمال كلمة «الاتّحاد» التي وردت في كلام كبار العرفاء وهو أعلى مقام في طريق السير والسلوك قبل مقام «الوحدة» ومقام «الفناء في الله»، ممّا حدا بالمرحوم النوريّ إلى الظنّ بأنّ المراد من ذلك هو الاتّحاد الباطل، اي اتّحاد الحقّ المتعال مع السالك إلى الله مع الاحتفاظ بالثنائيّة، وهاجم بعض العرفاء المعروفين مثل بايزيد البسطاميّ وشقيق البلخيّ ومعروف الكرخيّ أعلى الله تعالى درجاتهم لاستعمالهم هذه اللفظة؛ بينما لم يؤاخذ أبا الفتوح الرازيّ أو على ابن طاووس أو الشهيد الثاني رضوان الله تعالى عليهم لأنّهم لم يستخدموا في كلامهم لفظة الاتّحاد؛ مع أن مجموعة من أمثال هؤلاء العلماء كانوا يؤيّدون اولئك العرفاء الكبار وكانوا يعتقدون بالاتّحاد ويعملون كذلك بمقام الاتّحاد.
وشاهدنا في هذا الموضوع هو عبارات وإنشاء الخواجة نصير الدين الطوسيّ في كتابه النفيس «أوصاف الأشراف» والذي اعتبر فيه «الاتّحاد» صراحة مقاماً ومنزلة. ولغرض شرح وتبيين هذا الأمر نرى لزاماً في البدء نقل عبارات الخواجة أعلى الله مقامه؛ ثمّ ننقل بعدها عبارة المرحوم الحاجّ حتى يتبيّن الفرق بين هاتين النسبتين، ونعلم أن أمثال بايزيد البسطاميّ صاحب المقام العالى وتلميذ الأئمّة، لم يجازف في استعمال هذه الكلمة، وأن نسبة الغلط والكفر والارتداد إلى هؤلاء ناتج عن التسرّع في الحكم على الآخرين: يفتتح الخواجة نصير الدين الموضوع بكلمة «الاتّحاد» في الفصل الخامس من ذلك الكتاب وأتبعه بالعبارة التالية: «قال الله تعالى سبحانه: لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.[4]
«التوحيد» هو اعتقاد وحدانيّته تعالى، و«الاتّحاد» الصيرورة شيئاً واحداً. فهناك لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ،[5] وهنا لَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إلَهًا ءَاخَرَ.
وذلك لوجود شائبة التكلّف في التوحيد وهو ما لا يوجد في الاتّحاد. إذاً فمتى ما أصبح التوحيد مطلقاً وترسّخ في الضمير ولم يأخذ الثنائيّة بنظر الاعتبار بوجه أو بآخر، فإنّه سيصل مرتبة الاتّحاد.
وليس الاتّحاد ما يتوهّمه بعض قصار النظر من أن المراد به هو اتّحاد الله تعالى مع العبد: وتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً.[6]
بل معناه أن يرى الجميع دون تكلّف ذلك الذي يقول: ما سواه منه، إذاً فالجميع واحد، اي لأنّه أبصر بنور تجلّيه تعالى شأنه فهو لا يرى أحداً سواه. فلا يكون هناك من راءٍ ولا مرئيّ ولا رؤية ويصبح الكلّ واحد، وتكون مصداقاً لدعاء المنصور الحلّاج الذي أنشد قائلًا:
بَيْنِي وبَيْنَكَ إنِّيِّيٌ يُنَازِعُنِي *** فَارْفَعْ بِفَضْلِكَ إنِّيِّي مِنَ البَيْنِ
فتزول إنّيّته ويُردّد العبارة التالية ما استطاع: «أنَا مَنْ أهْوَى ومَنْ أهْوَى أنَا».
ونعلم أن مَن قال: أنَا الحَقُّ، وسُبحَانِي مَا أعْظَمَ شَأنِي، لم يكن في مقام الادّعاء بالالوهيّة؛ بل هو بذلك قد نفى إنّيّته وأثبت إنّيّة الغير وهو المطلوب».[7]
[1] - قال المرحوم الحاجّ السبزواريّ بهذا الخصوص في «شرح الأسماء» ص333 و334 طبعة جامعة طهران: وليس معنى الأمرِ بَينَ الأمرين أنّه مُركَّبٌ مِن الجَبر والتَّفويضِ بأن يكونَ فيه شَوبٌ من هذا وشوبٌ مِن ذاك كالحرارةِ الفاتِرة؛ بل الفعلُ بسيطٌ محضٌ، بمعنى أنّه تسخيرٌ محضٌ في عينِ كونِه اختياراً محضاً؛ واختيارٌ بحتٌ في عَينِ كونِه تَسخيراً محضاً، كما قيل:
از صفاى مى ولطافت جام *** در هم آميخت رنگ جام ومُدام
همه جام است ونيست گوئى مى *** يا مدام است ونيست گوئى جام
يقول:« من صفاء الخمرة ولطافة الكأس، امتزج لون الكأس. فهو الكأس ولا يقال خمرة، أو الخمرة ولا يقال كأس». وفي أشعار العارف الجاميّ قُدّس سرُّه السامي:
باده نهان وجام نهان آمده پديد *** در جام عكس باده ودر باده رنگ جام
يقول:« إنّما الخمرة المغطّاة والكأس المختفي واقع مشهود، فصورة الخمرة في
الكأس ولون الكأس في الخمرة». رَقّ الزُّجاجُ...
[2] «مفاتيح الإعجاز» في شرح «گلشن راز» ص430، طبعة منشورات المحموديّ؛ وكذلك «روح الأرواح في شرح أسماءِ المَلِك الفتّاح» تأليف شَهاب الدين أبي القاسم أحمد ابن أبي المظفّر السمعانيّ، ص 163.
[3] يقول: «لقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله أن من كان مذهبه غير الجبر فهو كالمجوس». «روضات الجنّات» ج 2، بين ص 193 و196، الطبعة الحجريّة.
[4] - صدر الآية 88، من السورة 28: القصص.
[5] - قسم من الآية 39، من السورة 17: الإسراء.
[6] - هذه العبارة مقتبسة من الآية 43، من السورة 17 الإسراء: وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً.
[7] «أوصاف الأشراف» ص 66 و67، الباب الخامس، الفصل الخامس، بخطّ النستعليق للعماد الكاتب.
الاكثر قراءة في شبهات وردود
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة