أمهات الأئمة ( عليهم السلام ) يختارهن الله تعالى بعلمه
قد يبدو لنا الشئ عادياً ، بينما يكون مقصوداً لله قصداً ، ومخططاً لحدوثه تخطيطاً . ومن هذا النوع ما يتعلق بالمعصوم ( عليه السلام ) من خَلْقه وخُلُقه ، وقوله وعمله ، وحياته وموته ، لأن المعصوم أعظم آية لله تعالى ، فقد ورد أن أعطم آية في القرآن البسملة ، ثم آية الكرسي ، وأعظم آية لله تعالى في خلقه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم علي وبقية المعصومين ( عليهم السلام ) .
فالمعصوم مخلوقٌ أَعَدَّهُ الله على عينه واصطنعه لنفسه ، ليكون حجته على خلقه ، وقدوة الأجيال في معرفة الله وعبادته .
ونحن لا نعرف من العلم إلا ظاهر بعض الأشياء ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ . يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا . ولو كشف لنا الغطاء لأخذتنا الدهشة والخشوع لحكمة الله العميقة ، وخططه الدقيقة .
ومن ذلك اختيار أمهات الأئمة ( عليهم السلام ) من شعوب مختلفة ، وكيف يرعى الله الواحدة منهن لتتم إرادته ، ويخلق منها ومن زوجها وليه وحجته !
قال الإمام الرضا ( عليه السلام ) : « للإمام علامات : يكون أعلم الناس ، وأحكم الناس ، وأتقى الناس ، وأحلم الناس ، وأشجع الناس ، وأسخى الناس ، وأعبد الناس ، ويولد مختوناً ، ويكون مطهراً ، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه ، ولا يكون له ظل ، وإذا وقع إلى الأرض من بطن أمه وقع على راحتيه ، رافعاً صوته بالشهادتين ، ولا يحتلم ، وتنام عينه ولا ينام قلبه ، ويكون محدَّثاً « تحدثه الملائكة » ويكون دعاؤه مستجاباً ، حتى أنه لودعا على صخره لانشقت بنصفين . . إن الإمام مؤيدٌ بروح القدس ، وبينه وبين الله عمودٌ من نور ، يرى فيه أعمال العباد ، وكلما احتاج إليه . . يبسط له فيعلم ، ويقبض عنه فلا يعلم » . ( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 1 / 192 » .
ظاهرة تنوع أمهات الأئمة ( عليهم السلام )
شاء الله تعالى بحكمته أن تتنوع أمهات الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) فكانت أم إسماعيل ( عليه السلام ) مصرية قبطية ، وأم الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) فارسية ، وأم الإمام الكاظم والإمام الرضا ( عليهما السلام ) مغربية ، وأم الإمام الجواد ( عليه السلام ) إفريقية ، وأم الإمام الهادي ( عليه السلام ) مغربية ، وأم الإمام المهدي ( عليه السلام ) رومية . وأم الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) مغربية ، واسمها سليل وتسمى حُدَيْث بالتصغير ، وقيل غزالة المغربية . ( الهداية الكبرى / 227 ) .
قال في عيون المعجزات / 123 : ( اسم أمه على ما رواه أصحاب الحديث : سليل رضي الله عنها ، وقيل حُدَيْث ، والصحيح سليل ، من العارفات الصالحات . وروي أنه ( عليه السلام ) ولد في سنة إحدى وثلاثين ومأتين من الهجرة ) .
ولما أُدخلت سليل على الإمام الهادي ( عليه السلام ) قال : ( سليلٌ مسلولة من الآفات والعاهات ، والأرجاس والأنجاس ، ثمّ قال لها : سيهب الله لك حجته على خلقه يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ) . ( إثبات الوصية : 2 / 244 ) . يقصد حفيدها الإمام الثاني عشر الموعود ( عليهم السلام ) .
وفي تاريخ الأئمة للبغدادي / 26 : ( أم الحسن بن علي العسكري ( عليه السلام ) : سمانة مولَّدة ، ويقال أسماء . شك ابن أبي الثلج ) . ومعنى مولَّدة : أنها ولدت في بلاد المسلمين لا في المغرب ، من أم مغربية ، أو أبوين مغربيين .
أما السبب في تعدد أسماء الواحدة منهن ، فهو أن الأئمة ( عليهم السلام ) كانوا يُغيرون أسماءهن ، لأن الخليفة كان يشدد الرقابة عليهم ، ويوظف جاسوسات يأتينه بأخبار بيت الإمام ( عليه السلام ) ، ومن هي حامل من جواريه ، وزاد ذلك لما اقترب الأمر من الإمام الثاني عشر ، لأنه المهدي ( عليه السلام ) الذي ينهي حكم الجبابرة .
نلاحظ أنهم لما حبسوا جارية الإمام العسكري ( عليه السلام ) التي شكوا أنها حامل : ( فجعل نساء المعتمد وخدمه ، ونساء الموفق وخدمه ، ونساء القاضي ابن أبي الشوارب ، يتعاهدن أمرها في كل وقت ) . ( كمال الدين / 473 ) .
كانت أم الإمام العسكري ( عليه السلام ) تسكن في المدينة
ولد الإمام العسكري ( عليه السلام ) في المدينة المنورة في مزرعتهم صِرْيَا ، سنة إحدى وثلاثين ومئتين ، كما روى في عيون المعجزات / 123 .
قال اليعقوبي « 2 / 500 » : « توفي علي بن محمد . . بسر من رأى . . سنة 254 . . وسنهُ أربعون سنة ، وخلَّفَ من الولد الذكور اثنين : الحسن ، وجعفر » .
وقال ابن شدقم في تحفة الأزهار / 461 : « خلف أربعة بنين : أبا محمد الحسن العسكري ( عليه السلام ) ، أمه أم ولد ، والحسين ، وأبا علي محمداً ، وأبا كرين جعفراً الكذاب ، وعايشة . أمهاتهم أمهات أولاد » .
وقد اتفقت مصادر الأنساب على أن أبناء الإمام الهادي ( عليه السلام ) ثلاثة غير الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) : وهم محمد وحسين وجعفر ، المعروف بجعفر الكذاب .
ولم يكن لأم الإمام العسكري ( عليها السلام ) ولد غيره ، فإخوته من أبيه من أمهات أخر .
وروى المسعودي في إثبات الوصية ( 1 / 244 ) أن الإمام العسكري سافر مع أبيه إلى سامراء وكان عمره أربع سنوات ، قال : ( وحملت أمه به بالمدينة وولدته بها ، فكانت ولادته ومنشؤه مثل ولادة آبائه صلى الله عليهم ومنشئهم . وولد في سنة إحدى وثلاثين ومأتين من الهجرة ، وسن أبي الحسن ( عليه السلام ) في ذلك الوقت ستة عشرة سنة وشهوراً ، وشخص بشخوصه إلى العراق في سنة ست وثلاثين ومأتين ، وله أربع سنين وشهور ) .
لكن رجحنا في سيرة الإمام الهادي ( عليه السلام ) أن ولادته كانت سنة 212 ، فيكون عمره عندما رزق بالإمام الحسن ( عليه السلام ) تسع عشرة سنة أو عشرين . كما رجحنا أن إحضاره إلى سامراء كان عدة مرات ، وكان يتخلص من الخليفة ، حتى كان آخر إحضار له سنة 243 ، فحضر مع عياله ومعه الإمام العسكري ( عليه السلام ) وكان عمره اثنتا عشرة سنة . وطبيعي أن تكون والدته مع ابنها وزوجها . لكنها كانت في حياة الإمام العسكري ( عليه السلام ) في المدينة ، وكانت تتسقط أخباره . فلا بد أن يكون أمرها أن تبقى في المدينة إلى ما بعد وفاته ( عليه السلام ) .
قال المسعودي في إثبات الوصية ( 1 / 255 ) : ( ثم أمر أبو محمد ( عليه السلام ) والدته بالحج في سنة تسع وخمسين ومائتين ، وعرَّفها ما يناله في سنة الستين ، وأحضر الصاحب ( عليه السلام ) فأوصى إليه ، وسلم الاسم الأعظم والمواريث والسلاح إليه . وخرجت أم أبي محمد مع الصاحب ( عليهم السلام ) جميعاً إلى مكة ، وكان أحمد بن محمد بن مطهر أبو علي المتولي لما يُحتاج إليه ، الوكيل ، فلما بلغوا بعض المنازل من طريق مكة تلقى الأعراب القوافل فأخبروهم بشدة الخوف وقلة الماء ، فرجع أكثر الناس إلا من كان في الناحية فإنهم نفذوا وسلموا . وروي أنه ورد عليهم ( عليه السلام ) بالنفوذ .
ومضى أبو محمد ( عليه السلام ) في شهر ربيع الآخر سنة ستين ومائتين ، ودفن بسر من رأى إلى جانب أبيه أبي الحسن صلى الله عليهما ، فكان من ولادته إلى وقت مضيه تسع وعشرون سنة ، منها مع أبي الحسن ثلاث وعشرون سنة ، وبعده منفرداً بالإمامة ست سنين ) .
وفي الكافي ( 1 / 508 ) : ( عن أبي علي المطهر أنه كتب إليه سنة القادسية يعلمه انصراف الناس وأنه يخاف العطش ، فكتب ( عليه السلام ) : إمضوا فلا خوف عليكم إن شاء الله ، فمضوا سالمين ، والحمد لله رب العالمين ) .
وسنة القادسية : سنة 259 ، حيث رجع الحجاج من القادسية ، لمَّا بلغهم خطر الطريق بسبب غارات الأعراب ، وبسبب الحر والعطش .
وأبو علي المطهر هذا ، هو كما في مستدركات النمازي ( 1 / 476 ) : ( أحمد بن محمد بن مطهر أبو علي المطهر ، صاحب كتاب معتمد ، صاحب أبي محمد العسكري صلوات الله عليه ، والقيم على أموره ، ويشهد على أنه كان قيماً لأموره ومتولياً لما يحتاج إليه إثبات الوصية . . وهو من أصحاب الأصول التي اعتمد عليها الصدوق وحكم بصحتها واستخرج أحاديث كتابه الفقيه منها ) .
وفي إثبات الوصية للمسعودي ( 1 / 253 ) : ( عن إبراهيم بن مهزيار ، عن محمد بن أبي الزعفران ، عن أم أبي محمد ( عليه السلام ) قال : قال لي يوماً من الأيام :
يصيبني في سنة ستين ومئتين حزازةٌ ، أخاف ان أُنكب منها نكبة . قالت : فأظهرت الجزع وأخذني البكاء . قال : لابد من وقوع أمر الله ، لا تجزعي ! فلما كان في صفر سنة ستين ومائتين أخذها المقيم والمقعد ، وجعلت تخرج في الأحايين إلى خارج المدينة تجسس الأخبار ، حتى ورد عليها الخبر حين حبسه المعتمد في يدي علي بن جَرِين ، وحبس أخاه جعفراً معه ) .
ملاحظات
1 . يدل إبقاء الأمام ( عليه السلام ) والدته في المدينة على وجود مصلحة دينية تستدعي ذلك ، وعلى أهليتها للقيام بتلك المسؤولية . وهو مقامٌ يعني الكفاءة والثقة ، ويدل عليه أيضاً وصية الإمام العسكري ( عليه السلام ) لها ، وإرجاع السيدة حكيمة بنت الجواد ( عليها السلام ) إليها ، على جلالتها في أهل البيت ( عليهم السلام ) ومكانتها في المذهب .
ففي كمال الدين / 507 : ( أحمد بن إبراهيم قال : دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا أخت أبي الحسن صاحب العسكر ( عليهم السلام ) في سنه اثنتين وستين ومائتين [ بالمدينة ] فكلمتها من وراء حجاب وسألتها عن دينها فسمت لي من تأتم بهم ، ثم قالت : والحجة ابن الحسن بن علي فسمته ، فقلت لها : جعلني الله فداك معاينة أو خبراً ؟ فقالت خبراً عن أبي محمد ( عليه السلام ) كتب به إلى أمه فقلت لها : فأين الولد ؟ فقالت : مستور ، فقلت : إلى من تفزع الشيعة ؟ فقالت : إلى الجدة أم أبي محمد ( عليه السلام ) ، فقلت لها : أقتدي بمن وصيته إلى امرأة ؟ فقالت : اقتداءً بالحسين بن علي ( عليهما السلام ) فإن الحسين بن علي أوصى إلى أخته زينب بنت علي في الظاهر ، فكان ما يخرج عن علي بن الحسين ( عليهما السلام ) من علم ينسب إلى زينب ستراً على علي بن الحسين !
ثم قالت : إنكم قوم أصحاب أخبار ، أما رويتم أن التاسع من ولد الحسين بن علي ، يقسم ميراثه وهو في الحياة ) !
ويظهر من الحديث أن حكيمة رضوان الله عليها كانت محتاطة في حديثها مع الراوي ، ولذلك لم تقل له أنا داية المهدي بن الحسن ( عليه السلام ) وشاهدة ولادته ، بل قالت إن الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) كتب إلى أمه في المدينة يخبرها بولادة ابنه المهدي ( عليه السلام ) . وهي صادقة في ذلك ، كما أنها صادقة في إرجاعهم إلى من أوصى له الإمام في الظاهر وهو والدته ( عليهما السلام ) ، وقد سمتها الجدة أي جدة المهدي ( عليه السلام ) .
2 . تقول رواية المسعودي إن الإمام ( عليه السلام ) أحضر والدته وابنه المهدي ( عليه السلام ) من المدينة سنة 259 : ( وعرفها ما يناله في سنة الستين وأحضر الصاحب ( عليه السلام ) فأوصى إليه ، وسلم الاسم الأعظم والمواريث والسلاح إليه . وخرجت أم أبي محمد مع الصاحب ( عليهم السلام ) جميعاً إلى مكة ) .
أقول : لابد أن الإمام ( عليه السلام ) أعلن هذا العمل رداً على ما أشاعته السلطة من أنه لا ولد له ، فأجابهم بأن له ولداً في المدينة وقد أوصى له ، وأوصى لجدته التي ترعاه . وكذلك إعلانه أنه أرسله مع جدته إلى الحج ومعه قسم من عائلته ، وأرسل معهم بعض ثقاته ليدير أمور سفرهم .
كل ذلك ، ليجيب على شائعات السلطة بأنه لا ولد له ، وإلا فإن إحضار الإمام لابنه ( عليهما السلام ) لا يحتاج إلى إرسال خلفه ، فإن المعصوم ( عليه السلام ) ينتقل بطي الأرض ، بل بنية الإنتقال إلى المحل الذي يريده !
3 . مفهوم الرواية أن الإمام العسكري ( عليه السلام ) أرسل والدته وابنه المهدي ( عليه السلام ) وبقية عائلته مع ثقته أحمد بن محمد بن مطهر ، وأنه راسله من القادسية يسأله هل يرجع كما رجع أكثر الحجاج خوفاً من العطش وقطاع الطريق ، أو يواصل السير ، فأمره أن يواصل سيره ، فسار بهم ووصلوا سالمين .
وقد يصح ذلك لكن على غير الإمام المهدي ( عليه السلام ) وجدته ، لأنهما لايحتاجان إلى إرسال أحد معهما ، فلا يعلم أنهما كانا مع ابن المطهر من أول الأمر .
أوصى لها الإمام ( عليه السلام ) وثبتت جدارتها
روى الصدوق ( رحمه الله ) في كمال الدين / 473 : ( عن محمد بن الحسين بن عَبَّاد أنه قال : مات أبو محمد الحسن بن علي ( عليهما السلام ) يوم جمعة مع صلاة الغداة ، وكان في تلك الليلة قد كتب بيده كتباً كثيرة إلى المدينة ، وذلك في شهر ربيع الأول لثمان خلون منه سنة ستين ومائتين من الهجرة ، ولم يحضره في ذلك الوقت إلا صقيل الجارية وعقيد الخادم ومن علم الله عز وجل غيرهما . . .
قال : وقال لي عباد في هذا الحديث : قدمت أم أبي محمد ( عليه السلام ) من المدينة واسمها حُدَيْث ، حين اتصل بها الخبر إلى سر من رأى ، فكانت لها أقاصيص يطول شرحها مع أخيه جعفر ، ومطالبته إياها بميراثه ، وسعايته بها إلى السلطان ، وكشفه ما أمر الله عز وجل بستره ، فادعت عند ذلك صقيل أنها حامل ، فحُملت إلى دار المعتمد ، فجعل نساء المعتمد وخدمه ونساء الموفق وخدمه ، ونساء القاضي ابن أبي الشوارب ، يتعاهدن أمرها في كل وقت ويراعون ، إلى أن دهمهم أمر الصفار وموت عبيد الله بن يحيى بن خاقان بغتة ، وخروجهم من سر من رأى ، وأمر صاحب الزنج بالبصرة وغير ذلك ، فشغلهم ذلك عنها ) .
وفي دلائل الإمامة / 424 : « ما شغلهم عنها وعن ذكر من أعقب ( عليه السلام ) ، من أجل ما يشاء الله ستره ، وحسن رعايته بمنه وطوله » .
ملاحظات
1 . قوله : ( ولم يحضره في ذلك الوقت إلا صقيل الجارية وعقيد الخادم ومن علم الله عز وجل غيرهما ) . يقصد به الإمام المهدي ( عليه السلام ) فقد ورد أنه حضر وفاة أبيه ( عليهما السلام ) ، كما نذكره في فصل وفاته ( عليه السلام ) .
2 . كان بإمكان الإمام العسكري ( عليه السلام ) أن يترك الأمر بعده للسلطة ، لتشيع ما تريد ، وتعطي إرثه إلى أخيه . لكن القضية عنده ( عليه السلام ) أنه يجب أن تكون أبواب الهدى مفتوحة كما هي أبواب الضلال ، فكما توجد مؤشرات لعدم وجود ولدٍ له وإمام بعده ، يجب الحرص على المؤشرات التي ترشد طالب الحق إلى ولادة الإمام المهدي ووجوده بعد أبيه ( عليهما السلام ) . وهذا هو التوازن المطلوب لله تعالى .
لذلك كان من أعظم الجهاد في ذلك الوقت تعريف المسلمين بولادة الإمام المهدي صلوات الله عليه ، وهو ما قام بأدائه الإمام العسكري ( عليه السلام ) مع الفعالين من شيعته ، ابتداء من إخباره به قبل ولادته ، ثم بإخباره الواسع بولادته ، ثم بإراءته للناس ، ثم بوصيته له ووصيته به .
وكانت خطته ( عليه السلام ) أن يبقى بيته بعد وفاته مفتوحاً أطول مدة ممكنة ، وأن تحضر والدته من المدينة ، لتقف في وجه أخيه جعفر الكذاب ، الذي يدعي أنه وارث الإمام لأنه لا ولد له ، وتُبرز وصية الإمام ( عليه السلام ) لها .
وهكذا كان ، فقد قامت بدورها خير قيام ، وكانت النتيجة كما قال ابن رئيس الوزراء : ( قسم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر ، وادعت أمه وصيته ، وثبت ذلك عند القاضي . والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده ) . ( الكافي : 1 / 305 ) .
ومن هذا الباب كان ظهور الإمام المهدي ( عليه السلام ) في أوقات حرجة وزجره لجعفر عن فعله . وقد روي ظهوره أمام المسؤولين في الصلاة على أبيه ( عليه السلام ) ، وعندما اشتد نزاع جعفر لوالدته ، وعندما أراد جعفر منع دفنها في منزل الإمام ( عليه السلام ) .
جاء في خبر الصلاة على الإمام ( عليه السلام ) : ( فتقدم جعفر ليصلي عليه فلما همَّ بالتكبير ، خرج صبي بوجهه سمرة ، بشعره قطط وبأسنانه تفليج ، فجذب رداء جعفر وقال : تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي ، فتأخر جعفر وقد ارْبَدَّ وجهه ، فتقدم الصبي وصلى عليه ) . ( الخرائج : 3 / 1101 ) .
وفي كمال الدين / 442 : ( عن محمد بن صالح بن علي بن محمد بن قنبر الكبير مولى الرضا ( عليه السلام ) قال : خرج صاحب الزمان على جعفر الكذاب من موضع لم يعلم به عندما نازع في الميراث بعد مضي أبي محمد ( عليه السلام ) فقال له : يا جعفر مالك تعرض في حقوقي ؟ فتحير جعفر وبهت ، ثم غاب عنه فطلبه جعفر بعد ذلك في الناس فلم يره ! فلما ماتت الجدة أم الحسن أمرت أن تدفن في الدار فنازعهم وقال هي داري لاتدفن فيها ، فخرج ( عليه السلام ) فقال : يا جعفر أدارك هي ! ثم غاب عنه فلم يره بعد ذلك ) .
3 . نقل الشيخ الصدوق ( رحمه الله ) ( كمال الدين / 107 ) رد ابن قبة على ادعاءات جعفر بقوله : ( ثم ظهر لنا من جعفر ما دلنا على أنه جاهل بأحكام الله عز وجل وهو أنه جاء يطالب أم أبي محمد بالميراث ، وفي حكم آبائه أن الأخ لا يرث مع الأم ، فإذا كان جعفر لا يحسن هذا المقدار من الفقه حتى تبين فيه نقصه وجهله ، كيف يكون إماماً ؟ وإنما تعبدنا الله بالظاهر من هذه الأمور ولو شئنا أن نقول لقلنا ، وفيما ذكرناه كفاية ودلالة على أن جعفراً ليس بإمام ) .
4 . يظهر من حديث تمريض الإمام العسكري ( عليه السلام ) أن صقيلاً الجارية وعقيداً الخادم كانا من أوثق الناس عند الإمام ( عليه السلام ) . ويظهر من ادعاء صقيل أنها حامل أنها فعلت ذلك بأمر الجدة ، ليؤخر القاضي الحكم حتى ينكشف الحال فحبسوها وأخروا الحكم .
أدت دورها ودفنت بجانب زوجها وولدها ( عليهم السلام )
قد يقال إن درجة والدة الإمام العسكري أعلى درجة من والدة الإمام المهدي رضي الله عنهما . وذلك لأن الإمام العسكري ( عليه السلام ) عرَّفها ما يجري بعده ، وتحملت وقامت بدورها الذي كلفها به .
ولا نعرف المدة التي عاشتها في سامراء ، ولعلها سنتان ، وقد أدارت فيها معركتها مع جعفر الكذاب والخليفة المعتمد ، وولي عهده الموفق ، وقاضي قضاته ابن أبي الشوارب . وأدارت شؤون الدار الواسعة ، وأجابت المراجعين الشيعة الذين يسألون عن الإمام بعد الإمام الحسن العسكري ( عليهما السلام ) .
ويظهر من أحاديثها أنها انتزعت الحكم بنصف التركة وبإدارة بيت الإمام ( عليه السلام ) ، وأنها كانت ذات شخصية قوية ، مطاعة من خاصة ابنها الإمام العسكري ( عليه السلام ) وكل موظفي البيت .
روى الخصيبي في الهداية / 381 : ( عن محمد بن عبد الحميد البزاز ، وأبي الحسين بن مسعود الفراتي قالا جميعاً ، وقد سألتهم في مشهد سيدنا أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) بكربلاء عن جعفر وما جرى في أمره بعد غيبة سيدنا أبي الحسن علي وأبي محمد الحسن بن الرضا ( عليهم السلام ) وما ادعاه له جعفر وما فعل ، فحدثوني بجملة أخباره : أن سيدنا أبا الحسن ( عليه السلام ) كان يقول لهم تجنبوا ابني جعفراً ، أما إنه مني مثل حام من نوح الذي قال الله جل من قائل فيه : فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِي فقال له الله : يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ! وإن أبا محمد ( عليه السلام ) كان يقول لنا بعد أبي الحسن : الله الله أن يظهر لكم أخي جعفر على سر ، فوالله ما مثلي ومثله إلا مثل هابيل وقابيل ابني آدم ، حيث حسد قابيل لهابيل على ما أعطاه الله لهابيل من فضله فقتله . ولو تهيأ لجعفر قتلي لفعل ، ولكن الله غالب على أمره !
فلقد كان عهدنا بجعفر وكل من في البلد وكل من في العسكر من الحاشية الرجال والنساء والخدم ، يشكون إذا أوردنا أمر جعفر ويقولون إنه يلبس المصنعات من ثياب النساء ويضرب له بالعيدان ، فيأخذون منه ولا يكتمون عليه . وإن الشيعة بعد أبي محمد ( عليه السلام ) زادوا في هجره وتركوا رمي السلام عليه وقالوا : لا تقية بيننا وبينه نتجمل بها ، وإن نحن لقيناه وسلمنا عليه ودخلنا داره وذكرناه فنحن نضل الناس فيه ، وعملوا على ما يرونا نفعله فنكون بذلك من أهل النار .
وإن جعفراً كان في ليلة أبي محمد ( عليه السلام ) ختم الخزائن وكل ما في الدار ومضى إلى منزله ، فلما أصبح أتى الدار ودخلها ليحمل ما ختم عليه ، فلما فتح الخواتم ودخل نظرنا فلم يبق في الدار ولا في الخزائن إلا قدر يسير ، فضرب جماعة من الخدم ومن الإماء فقالوا له : لاتضربنا فوالله لقد رأينا الأمتعة والرجال توقر الجمال في الشارع ، ونحن لا نستطيع الكلام ولا الحركة ، إلى أن سارت الجمال وغلقت الأبواب كما كانت ! فولول جعفر وضرب على رأسه أسفاً على ما خرج من الدار !
وإنه بقي يأكل ما كان له ويبيع حتى ما بقي له قوت يوم ، وكان له في الدار أربعة وعشرون ولداً بنون وبنات ، ولهم أمهات وأولاد وحشم وخدم وغلمان ، فبلغ به الفقر إلى أن أمرت الجدة وهي جدة أبي محمد ( عليه السلام ) أن يجري عليه من مالها الدقيق واللحم والشعير والتبن لدوابه ، وكسوة لأولاده وأمهاتهم وحشمه وغلمانه ونفقاتهم ، ولقد ظهرت أشياء منه أكثر مما وصفنا ، نسأل الله العافية من البلاء والعصمة في الدنيا والآخرة ) .
وقول الراوي : أمرت الجدة أن يجري عليه من مالها ، يدل على وجود مال لها غير ما في الدار ، وعلى نبلها وحسن إدارتها ، فقد أنفقت على عائلة جعفر الكبيرة رغم أعماله السيئة معهم ، لمجرد أنه منسوب إلى بني علي وفاطمة ( عليهما السلام ) !
وبعد أن أدت دورها رضوان الله عليها ، شاء الله تعالى أن يتوفاها وتدفن قرب زوجها وابنها ( عليهما السلام ) ، وقد ظهر الإمام المهدي ( عليه السلام ) ليردع عمه جعفر عن تصرفاته الهوجاء ، ولم يستطع منع دفنها إلى جانب ابنها وزوجها ( عليهم السلام ) !
الاكثر قراءة في الولادة والنشأة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة