تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
اسْتِطَاعَةُ رُؤْيَةِ اللهِ
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج1/ ص55-100
2025-07-03
40
قال تعالى : سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا في الآفَاقِ وَ في أنفُسِهِمْ...
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ (أي آياتنا) الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}. (الآيتان 53 و 54، من سورة فصّلت)
ضمير {أنَّهُ الْحَقُّ} عائد إلى مُقَدَّر منتزع من {سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا}
لشرح الآيتينِ الشريفتينِ الآنفتَي الذِّكر، يتحتّم علينا البحث عن صاحب الضمير في الآية الشريفة {أَنَّهُ الْحَقُّ}.
في اعتقاد الحقير أن هذا الضمير يعود إلى المُقدّر و المستفاد من الفعل «نُرِي» و هو «مُرَي» (أي الآية و المرأة بلحاظ كونها آية و مرآة إلى الضمير «نا». فما هو المُرَء[1] إذن؟ إنّها في الحقيقة آيات الحقّ المُبيِّنَة للحقّ. إذ لا يمكن أن يكون غير ذلك بحسب البلاغة القرآنيّة، و كذا انسجام تتمّة الآية المذكورة و الآية التي تليها. فلا يمكن أن يكون عَوْدُها إلى {ءَايَاتِنَا}، ذلك أن «آيات» هي جمع مؤنّث مجازي، فلا يجوز أن يعود ضمير المفرد المذكّر الغائب إليها بحال من الأحوال. و أيضاً لا يُعقَل أن تكون مضافاً إليه بالنسبة إلى «نا»، إذ يجب أن يكون مرجع ضمير المذكّر الغائب إلى اسم الجنس للمذكّر الغائب، في حين أن الضمير «نا» هو ضمير جمع المتكلّم مع الغير.
و كذلك لا يمكن أن يعود إلى القرآن كما قال به البعض، و أوردوا دليلًا على ذلك، و هو الآية التي تسبق هذه الآية مباشرة: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ.
و ذلك أن هذه الآية، و إن تلاءمت مع الآيات الآفاقيّة الأخرى و انسجمت معها، إلّا أنّه لا بدّ من تفسيرها و تأويلها فيما يتعلّق بالآيات الأنفسيّة. و مضافاً إلى ما قيل، فإنّ هذه الآية لا تنسجم مع تتمّة الآية المذكورة و الآية التي تليها و لا تتلاءم معها.
و كذلك الحال في مسألة عَود الضمير إلى «رسول الله» إذ أن رسول الله ليس مذكوراً في سياق الكلام، اللهمّ إلّا باعتبار التوجيه، حيث يمكن أن يقال: لأنّ إنكار القرآن مُساوق مع إنكار نبوّة رسول الله، فقد اشير إليه هنا باعتباره «حقّ»، و هو مُساوقٌ مع ذِكر القرآن، فلا يخلو هكذا توجيه حتماً من التكلُّف.
و لا ريب في أن الضمير المذكور لا يرجع لا إلى «الله» و لا إلى «التوحيد»، باعتبار أن نتيجة ما حصل من إنكار المشركين لرسول الله و للقرآن، هو إنكارهم وجود الله أو وحدانيّته، لأنّ هذا النوع من العَوْد يستلزم كذلك الاستعانة بالتأويل، و لا شكّ في أن تأويلًا كهذا يُخرجُ القرآن من حياض سلاسته و عذوبة بيانه.
إن ما ذكرناه هنا من تأويل الضمير و عَوده هو ما ارتكز عليه و أيّده إلى حدّ ما صاحب تفسير «مجمع البيان»: الشيخ الطبرسيّ و القاضي البيضاويّ و استاذنا الأكرم العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله أسرارهم جميعاً. مع أن العلّامة أورد وجهاً آخر أيضاً في هذا الصدد، و باعتقاد الحقير أنّه أقرب إلى الحقيقة، هذا في حين لفتتْ نظري مطالب في كثير من التفاسير الأخرى تدعو إلى الدهشة و الإعجاب.
فأمّا إرجاع الضمير إلى اللفظ المقدّر «مُرَي» فهو أقرب لسببينِ اثنين:
أوّلهما: أن إرجاع الضمير في مثل هذه الحالات شائع الاستعمال كثيراً عند العرب، و قد ورد مَثَلُهُ في القرآن الكريم كذلك: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى}.[2]
فهنا نلاحظ أن الضمير «هُوَ» ليس له مرجع لفظيّ في الآية الشريفة، و لذا لزم إرجاعه حتماً إلى لفظٍ تقديريّ مُستَفاد من {اعْدِلُوا}، و هو فعل أمر للجمع المذكّر، و هذا اللفظ التقديريّ هو الـ «عدل».
و هنا وجب إرجاع الضمير إلى كلمة «عَدْل» و ذلك كما يتبيّن من جهة سياق و مفهوم الآية، لأنّنا حين نقول {اعْدِلوا} ثم نُتبِعها بقولنا: {هو أقربُ للتقوي}، ففي الحال يُفهَم من سياق الكلام و يتبادر إلى الأذهان أن «العَدلَ» المُشتَقّ من المصدر {اعْدِلُوا} هو الأقرب للتقوى من غيره.
ثانيهما: في الآية الشريفة التي هي مدار بحثنا هنا {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} يتبادر إلى ذهننا مباشرة من أن الشيء «المُري» هو الحقّ. و هو عبارة عن لفظة «مُري»، اسم المفعول من الفعل «نُرِي»، بمعنى «ءَايَاتِنَا».
و يتوجّب علينا أن نعلم أن هاهنا تكمن مسألة عظيمة و شاهد أعظم على توحيد الله تعالى، و هي: أن الحقّ عبارة عن ءَايَاتِنَا (الآيات مضافة إلى الضمير «نا»)، و يُقصَدُ بها الآيات و الدلائل التي أقرّها الله في الآفاق و النفوس للدلالة على توحيده.
لا جَرَمَ أن جميع الموجودات، سوى الله سبحانه، هي آياته تعالى؛ سواء أ كانت تلك الآيات واقعة في العالَم الخارج عن نفوس بني آدم، أم تلك الحادثة في داخلها. لذا، فليس هناك أيّ وجود مستقلّ لأيّ من المخلوقات، بل هي في مجموعها آيات و مرايا و شواهد على سطوع جمال الذات المقدّسة للحقّ تعالى. و لأنّ هذه الآيات و المرايا لا تمتلك صفة الظهور بنفسها، بل هي كلّها مظاهر للّه سبحانه، لذا صار بالإمكان رؤية الله تعالى في كلّ واحدة من تلك الآيات. لأنّ الآية- بما هي آية- إنّما هي وسيلة لإظهار صاحبها (أي صاحب الآية)، و لا تُبدي أو تُظهر نفسها هي على الإطلاق. إنّها مرآة صافية خالية من أيّ لون أو صدأ، و عارية عن كلّ أنواع التموّج أو الخدوش. مرآةٌ تُري صورة الإنسان كما هي دون أيّة مغالطة أو تحريف. فإن تغيّر فيها أيّ شيء أو تبدّل، فذلك لأنّها غير صافية و لا يمكنها أن تحاكي الواقع أو أن تكون ذات قيمة تُذكَر.
و على هذا فإنّ المرأة الصافية و الماء الرقراق الزلال و الهواء النقيّ في فضاء مُضاء تبدو الآيتيّة واضحة كلّ الوضوح خلالها لا يشوبها شيء، و كأنّه لا وجود لا للمرآة و لا للماء و لا للهواء، بل أن كلّ ما هو موجود إنّما هو موجودات ماثلة أمام تلك المرأة و داخل ذلك الماء و مُشاهَد في ما وراء النور و الهواء.
كلّ ما موجود هو الله و لا وجود لشيء غير الحقّ. جميع الآفاق و كلّ الأنفُس إنّما هي آيات، و لا وجود لشيء أو موجود غير «نا» و «الله» و «الحقّ» في ما وراءها مطلقاً.
لا وجود لغير «الله» في عالَم الوجود. و كلّ ما سواه إنّما هو آية له لا أكثر. و هو وحده ذو الآية و صاحب العلّامة، هو كلُّ شيء و لا شيء سواه. و ذو الآية الذي هو الحقّ في هذه العبارة، هو نفسه الآفاق و الأنفس. فالآفاق و الأنفس هما حقّ إذن.
إن هذه الآية تُدَلِّل على أن حقيقة الآفاق و الأنفس هي وجود الحقّ تعالى، و أنّها لا تملك شيئيّة ما في حدّ ذاتها، لأنّها إنّما وُصِفتْ على أنّها آية و علامه، لا غير. و بالتالى فإنّ الحقّ تعالى عبارة عن واقع الآفاق و الأنفس و حقيقتها. أينما تُوَلِّ وجهك فثمَّ وجود الله، و إلى أيّ شيء أرجعت بصرك ترى فيه الله. فما أكثر الأشياء، لكنّ الله واحد فرد صمد. فلا موجود في عالَم الوجود سوى الله. فالتعيُّنات و الإنّيّات و معها الماهيّات كلّ تلك امور عدميّة و باطلة، و الوجود المقدّس للحقّ تعالى واحد، حيث يتجلى في الآفاق و الأنفس و يظهر في كلّ جنبة من جنباتها.
إن كلمة {لَا إلَهَ إلَّا اللهُ} المباركة التي هي كلمة التوحيد و معنى التوحُّد و الوحدة، إنّما أصلها راجع إلى كلمة لَا مَوْجودَ سوى اللهِ التي تنفي كلّ نوع من أنواع التعيُّن عن ذات الحقّ تعالى، و تُجرّده منه.
و خير دليل و شاهد على هذا الكلام هو تتمّة الآية الشريفة: {أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شيء شَهِيدٌ}.
أي أن الله سبحانه حاضر و ناظر و شاهد بوجوده في وجود جميع الموجودات الآفاقيّة و الأنفسيّة و كذلك في كلّ شيء يمكن أن تُطلَق عليه كلمة شيء، لا بكونه موجوداً آخراً أو في مكانٍ آخر، و أن مُجَرّد عِلمه هو المحيط بالموجودات للتقدير فيها أو التحكُّم بها.
الله تعالى ظاهر في آيات الآفاق و الأنفس، لكنّ الناس يشكّون في لقائه
و أعجب من هذه التتمة هي الآية التي تليها: {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شيء مُحِيطٌ}.
فما السبب في كون هذه الآية أعجب و أغرب؟ السبب في ذلك هو أن الله سبحانه يقول: أن الناس ليشكّون في لقاء الله ربّهم في حين أنّه موجود في الآفاق و الأنفس، و أن واقع الآفاق و الأنفس هو الله الذي برز من خلال الآيات و العلامات، و تجلّى فيها بوضوح. فلمّا كان الله سبحانه موجوداً في الآفاق و الأنفس و مشهوداً في كلّ جزء منها، و لمّا كان الله أوّل شيء ينظر إليه الناس من خلال رؤيتهم لأيّ شيء حولهم و لكلّ نفس من نفوسهم، فلِمَ، و الحال كذلك، يشكُّ الناس بوجود الله و يرتابون في أمره و لقائه، مع وضوح تلك الآيات و جلاء تلك الصور و العلامات؟! ثمّ يقول سبحانه {إنَّهُ بِكُلِّ شيء مُحِيطٌ}، و هذا لا يعني الإحاطة العِلميّة الحضوريّة أو الحصوليّة، بل أن ما يعنيه هو الإحاطة الوجوديّة و إحاطة المَعيّة التي يتجلى فيها أوّلًا عبر وجوده مع كلّ آية و أيّة علامه في الآفاق و الأنفس و إحاطته بها، ثمّ تعيُّن تلك الآية و تشخُّصها ثانياً و بالعَرض و المجاز.
الله أوّلًا و من ثَمّ باقي الموجودات. هو السابق و ما دونه مسبوق مغلوب. هو القائم و ما دونه إنّما هو يتقوّم به. هو الظاهر و به تظهر الأشياء و تتجلّي.
الله نور و ما دونه فهو مُنوَّرٌ بنوره. و لو كانت الأشياء قادرة على إظهار الله، لاستَبدلتْ مكانها بمكانه، و لأصبحت هي الإله، و لأصبح الله هو المخلوق، و لأصبحت الأشياء في سلسلة أعلى مراتب العلل، و لكان الله هو المعلول. لا يمكن للّه أن يتّكل على غيره، لا في أصل الخِلقة و لا في الظهور و الآيتيّة. لذا، فتعبير هو الحقّ يعني أنّه هو الموجود الأصيل عبر جميع مراتب الوجود، من أصل الوجود و من الظهور خلال مراتب الوجود.
و حيث علمنا أن الله سبحانه هو أصل النور و مبدأ الظهور و أصالة التحقُّق و الوجود في الآفاق و في الأنفس، لذا وجب أن نعلم: كيف يتسنى للإنسان معرفة هكذا ربّ؟! فلو أراد الوصول إليه عن طريق معرفة غيره، لم يصحّ ذلك، لأنّ ما دون الله متعلِّق ظهوره بالله سبحانه، إذ الله هو المانح لظهوره فظهر كما يظهر، فكيف يكون بالإمكان إذن الوصول إلى الله، مع علمنا بأنّ الذي نروم معرفة الله عن طريقه إنّما هو ظاهر بظهور الله المُظهِر لذلك الشيء؟!
إمكان معرفة الله تعالى بالله، لا بسواه
إن المصباح المضيء في مسجد، مضيء في نفسه و ذاته، و أمّا بقيّة الأشياء المضاءة في ذلك المسجد، فهي مضيئة بنور ذلك المصباح، لا بنورها هي بالذات. فنور المصباح ينتشر في ظُلمة المسجد، و الأشياء الموجودة في غياهب ذلك المكان تضيءُ و تُنير بضياء المصباح و نوره. فَلِكَيْ نري ذلك المصباح و نتعرّف عليه، يتوجّب علينا رؤيته هو بذاته و ليس نوره الساقط على الأشياء. لا يمكننا بحال من الأحوال رؤية المصباح نفسه من خلال نوره الساقط على الأرض و المنعكِس عن هذا الشيء أو ذاك. يجب رؤية المصباح بنفسه، لا بالأشياء المظلمة المعتمة و المُنارَة بنوره و المستضيئة بضيائه.
إن لهذه المسألة شأناً من الشؤون، إذ يجب معرفة الله عن طريق الله لا غير الله ممّن أساس وجوده و خِلقته و تسويته و حقيقته و ظهوره مأخوذ من الله و مبنيّ على وجوده.
و هنا تبرز مسألة أخرى إلى حيّز الوجود، و هي أنّه كيف يمكن معرفة الله بواسطة الله نفسه سبحانه؟ و ما العمل بشأن كلّ تلك الأخبار الدالّة على استحالة معرفة الإنسان للّه تعالى أو الوقوف على كُنه ذاته المقدّسة؟ لا سبيل إلى معرفة الله إلّا عن طريق آثار الله الدالّة عليه. و مع ذلك فإنّ تلك المعرفة لا يمكن أن تكون تفصيليّة، بل إجماليّة. الحقّ أن الأرض و السماء و الخُضرة و الماء و الموجودات من الذرّة حتى المجرّة، مروراً بالبرغوث و البقّة حتى الفيل، أقول كلّ تلك المخلوقات هي مشاهد تدلّ على وجود الله سبحانه. هي آيات و علامات تدلّ كلّ واحدة منها على وجود الله، كلٌّ حسب سعته الوجوديّة. القرآن نفسه يدعونا إلى تتبُّع تلك الآثار و الرجوع إليها كأصدق بيّنة على وجود الله.
و من هنا تتجلّي مصداقيّة الحِكمة القائلة تَفَكَّرُوا في آلَاءِ اللهِ؛ وَ لَا تَتَفَكَّرُوا في ذَاتِ اللهِ[3].
و من جهة أخرى علمنا أنّه لا يمكن معرفة الله سبحانه عن طريق الموجودات، إذ كما قلنا لا يمكن معرفة الله إلّا عن طريق الله نفسه. و قد وردت روايات كثيرة في هذا الباب في أن الإنسان باستطاعته معرفة الله بذاته.
كانَ أمير المؤمنين عليه السلام يخطب يوماً فسأله أحد الحاضرين قائلًا: يَا أمِيرَ المُؤْمِنينَ! هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟! فأجاب عليه السلام: كَيْفَ أعْبُدُ رَبّاً لَمْ أرَهُ؟!
ثمّ أوضح عليه السلام ذلك بقوله: لَا تَرَاهُ العُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الأبْصَارِ؛ وَ لَكِنْ تَرَاهُ القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ.
و لدينا من الآيات القرآنيّة الشريفة ما يناهز العشرين آية أو أكثر و كلّها تدلّ على أن الناس سينالون شرف لقاء الله في يوم ما، دون ريب.
و بين هذه المجموعة من الأخبار و تلك وقع العلماء في أشدّ حيرة من أمرهم، قائلين: كيف يمكن حلّ مثل هذه المعضلة؟! فنهج البعض منهجاً يقول بأنّ الأخبار التي دلّت على عدم إمكانيّة رؤية الله عزّ و جلّ و إدراكه و معرفته كلّها صحيحة؛ فإنّه لا سبيل لبني آدم إلى معرفة الله بأيّ شكل من الأشكال، سواء كانت تلك المعرفة إجماليّة أم تفصيليّة. فأين الخالق من المخلوق؟ أيْنَ التُّرابُ وَ رَبُّ الأرْبابِ!؟
اعتقاد العلماء عائد إلى طائفتين من أخبار رؤية الله تعالى
فلو قضي الإنسان سنيّ حياته بالجهدِ و الاجتهاد و التفكُّر و الاسترشاد، لما وصل إلى نتيجة ترضيه أو حِلٍّ يُغنيه، و دليل ذلك الأخبار المرويّة هنا. و أمّا الأخبار القائلة بأنّ الإنسان يري الله و تحصل لديه المعرفة به، فيجب حملها على المعنى المجازيّ. أيّ أن معنى رؤية الإنسان للّه تعالى هو أن يري نِعَمَهُ و مخلوقاته العينيّة و ملائكته و رضوانه و منازل الجنّة و الحُور و القصور في الجنّة، ليس إلّا.
في حين يعتقد البعض الآخر أن بالإمكان رؤية الله عزّ و جلّ، و يؤوِّلون الروايات القائلة بعدم القدرة على رؤية الله سبحانه على أنّها تريد بذلك عدم إمكانيّة رؤيته تعالى بالعين الإنسانيّة الموجودة في رأس الإنسان، و لم تقل بعدم إمكانيّة ذلك بعين القلب؛ و تريد بذلك عدم إمكانيّة رؤيته تعالى بالباصرة و لم تُصرّح أن ذلك غير ممكن بالبصيرة، و على هذا فتلك الأخبار مفهومة القصد.
إن الإنسان يري الله بحقائق الإيمان، و هذا ممّا تدلّ عليه الآيات القرآنيّة، بل الحقّ أنّها تُصَرِّح بذلك دون لبس و لا مجال للاعتقاد بكونها مجازيّة. و لِمَ يتكلّم الله بالمجاز؟ هل اغلِقَتْ طرق الصراحة و الحقيقة أمامه حتى يذكر في أكثر من عشرين مكاناً في القرآن الكريم لقاءه و التأكيد على ذلك؟ و هل هدفه من كلّ تلك الآيات هو التقاء أنواع مختلفة من التفاح و الكُمّثرى و العنب و الرُّطَب و الحُور العين و الغلمان {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ}؟! إذن، و الحال هذه، علينا أن نُؤوِّلَ الأخبار التي تؤكّد على عدم إمكانيّة رؤية الله عزّ و جلّ على أنّها نتيجة لدرجات المعرفة غير التامّة، مقارنة بإمكانيّة رؤيته تعالى، بل إمكانيّة حدوث ذلك و تحقُّقه في الخارج. تلك المعرفة أو المعارف الجزئيّة التي تحدث للناس كالمعرفة الحاصلة بالذات و الحقيقة عن طريق شبح أو صورة حسب تصوّرهم، فيريدون بذلك التوصّل إلى كيفيّة و كمّيّة الله عزّ و جلّ و شكله و صفاته، حيث يجعلون كلّ ذلك بمثابة آية للّه ذي الآية.
إنّنا نجد أنفسنا مضطرّين لبيان مقدّمة هنا إذا شئنا الفصل بين هاتين المجموعتين، مستعينين بحول الله و قوّته. و مع كون هذه المقدّمة بمثابة قانون علميّ و قاعدة حِكَميّة و فلسفيّة، إلّا أنّنا سنسعي جاهدين في بيانها بصورة مبسّطة حتى يكون بالإمكان فهمها: حتّى يكون بإمكان أيّ موجود الحصول على معرفة كافية و عِلم شامل عن موجود آخر، يتوجّب وجود شيء من ذلك الموجود (الثاني) في هذا الموجود (الأوّل). إنّنا نري الكثير من الموجودات في العالَم من حولنا، منها الإنسان، و الحيوان على مختلف صوره و أشكاله و آثاره و خواصّه، فالبقر و الغنم و الإبل و الطير و البطّ، كلّ هذه تختلف عن بعضها البعض.
و هناك الشجر و الحجر و الماء. و هي كلّها موجودات كثيرة مختلفة، و الكثرة تستلزم ذلك الإختلاف و التنوع الموجود فيما بينها.
فالشجرة كيان منفصل عن الحيوان، لأنّها تختلف و تتميّز عنه، و إلّا لكانَ الاثنان شيئاً واحداً. و زيد غير عمرو، و الوالد ليس بالولد. فلو كانا متشابهين تماماً في جميع الجهات لما كانا اثنين بل كانا واحداً. و هذه المقدّمة مفهومة و لا تحتاج إلى نقاش.
و الآن، و بعد أن علمنا أن في هذا العالَم و هذه الدنيا كلّ تلك الكثرات، كيف يمكن لشيء ما أن يتوصّل إلى معرفة شيء آخر و العلم به؟! فمثلًا، كيف يعلم الخروف بوجود بقرة هاهنا، و يتوصّل الجَمَل إلى العلم بأنّ الحصان حيوان لا عداوة له معه؟ و يفهم الثعلب أن الأسد عدوّ لدود له، و يدرك الخروف أيضاً أن الذئب عدوّه و قاتله، و هكذا الحال مع جميع أصناف الحيوانات؟ إن الإنسان يعرف الكثير من الموجودات، فهو يعرف الشجرة و الحيوان و الأفراد من أنواع جنسه، مع أن تلك الأشياء منفصلة عن الإنسان مختلفة عنه في كثير من النواحي، و هو أمر بديهيّ و معروف، إلّا أن الإنسان يعلم بها و يتعرّف عليها بهذه البساطة. فكيف تسنّي له ذلك؟
لقد توصّل الحكماء الأفاضل إلى إنشاء قانون مفاده:
قاعدة: لا يعرف شيء شيئاً إلّا بما هو فيه منه
لَا يَعْرِفُ شيء شَيْئاً إلَّا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْهُ.
فحين أعلَمُ بوجود حيوان، كالخروف مثلًا، فما مقدار ما أستطيع الحصول عليه من المعرفة بهذا الخروف؟! بنفس الكمّ الموجود من الخروف في ذاتي شخصيّاً. فما الموجود من الخروف في ذاتي؟ هل هي الحيوانيّة، أم الإحساس؟ هل هي الحركة بالإرادة، أم الجسميّة أم الجوهريّة؟ أم هل هي الآثار و الخواصّ و لوازمها (كالقوّة المغذّية أو النامية أو الدافعة أو المُوَلِّدة و غير ذلك) و إدراك الجزئيّات؟ ربّما كان ذلك الحسّ المشترك و معرفة الصديق و العدوّ (بما يتناسب و حصول المنفعة و اجتناب الضرر)؟ كلّ تلك الامور هي خواصّ و علائم مشتركة موزّعة بين شخصي و بين الخروف بالسويّة، و قد استفاد كلٌّ منّا مشتركاً من تلك الخواصّ و العلائم.
و على الرغم من ذلك، فلا سبيل أمامي على الإطلاق للعِلم بالخروف من خلال الخصائص و المميّزات التي تفصلني عنه و تميّزني منه. لأنّه، و على افتراض حصولي على علم بالخروف، سواء كان ذلك العلم في «ما به الاشتراك» معه أم في «مابه الامتياز الامتياز» عَنه، فعلى أساس تلك الفرضيّة، وجب أن أكون أنا الخروف عينه و الخروف هو عيني، و هذا ما يدعي بالخُلف.[4]
إن العلم بأيّ موجود و الاطّلاع عليه من قِبَل موجود آخر و التعرّف عليه يتأتّى من طريق معرفة الخواصّ المشتركة فيما بين هذين الموجودين و ليس من الامتيازات بينهما، فطريق العلم و العرفان مفتوح فقط في بيان المشتركات (أو الخواصّ المشتركة)، في حين أن الطريق نفسه مسدود عند البحث في المتميّزات، و إلّا كنّا جميعاً متشابهين، و لتشابهت كلّ الموجودات كذلك مع بعضها البعض. اي لو كان المجال (مجال العلم و المعرفة) مفتوحاً للبحث في جميع الجزئيّات و الكثرات، لأصبحت كلّ الموجودات بالضرورة موجوداً واحداً. و لكان الحصان و البقر و الجمل و الخروف و الطيور و الزواحف و الحيوانات البحريّة و الجوامد و النباتات و قبائل الجِنّ و الملائكة، موجوداً واحداً لا اختلاف يُذكَر بينها، فتزول بذلك الأسماء عن المسمّيات و تدعي كلّها باسم واحد.
و الآن، وجب أن نسأل أنفسنا نحن الذين نريد التعرّف على الله عزّ و جلّ، مَن هو الله الذي نروم التعرّف عليه؟! أين الله عزّ و جلّ و أين نحن؟ فنحن مخلوقون و هو الخالق، و نحن مرزوقون و هو الرازق، و نحن معلومون و هو العالِم، و نحن مقدور علينا و هو القادر، و نحن محكومون و هو الحاكم، و نحن مملوكون و هو المالك، و هكذا دواليك.
قابليّة الإنسان في الخلقة لا متناهية
الله عزّ و جلّ هو خالقنا، و هو الذي وهب لنا الجسد و الفكر و العقل، و منحنا الروح و النفس، و تلك كلّها مجرّد مظاهر من لدن الله. و الله ظاهر في ذاته عزّ و جلّ، و هو الذي فرض لنا الظهور و وهبنا إيّاه، لكنّ هذا الظهور إنّما هو ظهور مستند إلى ظهوره هو عزّ و جلّ.
ما مقدار القوّة و الاستطاعة التي نملكها حتى نعرف الله بواسطتها؟! أن ذلك المقدار هو مقدار وجود الله سبحانه في ذواتنا. و ما هو المقدار الموجود من ذات الله عزّ و جلّ فينا؟! ما المقدار من ظهور الله؟! ما المقدار من علم الله؟! ما المقدار من قدرة الله؟! و أخيراً، و ليس آخراً، ما المقدار من حياة الله؟! لقد خلقنا الله عزّ و جلّ {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[5] و أودع فينا من جميع الأسماء الحسنى و الصفات العليا، و جعل أنفسنا من الهيولي (أي قابليّة محضة لأيّة فعليّة متصوّرة في طريق التقدّم و الكمال و التخلُّق بأسمائه و صفاته). و لم يجعل لنا حدّاً و لا حدوداً من جهة الاستعداد و القدرة على التقدّم و التكامل و الارتقاء في سُلّم اليقين و الوصول إلى العرفان و التوحيد و الفَناء في ذات الله المقدّسة و الرُّسوِّ عند صفاته الحسنى. فكما أنّه عزّ و جلّ غير متناهٍ ذاتاً و وجوداً و فعليّة في ذاته و أسمائه و صفاته و أفعاله، فقد جعلنا نحن كذلك لا متناهين قابليّة و إيجاداً و استعداداً.
و على هذا، فبإمكاننا التقدّم إلى قمّة درجات صفاته و أسمائه من جهة الإمكان و الاستعداد، و بإمكاننا أيضاً التخلُّق بجميع ذلك كلّه. أمّا من حيث الفعليّة و تحقّق تلك القابليّة و تمركزها حول الحياة و الصفات و الأفعال، فإنّ ذلك منوط بالحركة و الجهاد مع النفس و سلوك الطريق الواصل إلى الله سبحانه.
فإذا ابتعدنا في مسيرنا عن جلاله و نأيْنا بأنفسنا عن مسلكه، و خُضنا في هوي النفس الأمّارة بالسوء، و أعْتَمتِ الطبيعة و الكثرة أبصارنا، و أغشَت أدْنَي العَوَالِم نواظرنا، و لم نُعِر أهمّيّة تُذكَر لنور الوجود و البساطة في الإطلاق و التجرُّد، و صار جلُّ سعينا هو الاستمرار في السّير في طريق الابتعاد و العزلة، ففي هذه الحالة علينا أن نعترف أنّنا لم نعرف الله إلّا النزر اليسير، و أنّنا هدرنا قابليّاتنا و إمكاناتنا تحت شعار الجهل و الحماقة و الكسل، لأنّنا، و مع الأسف، لم ننتفع من وجود الآصرة بيننا و بين خالقنا على الوجه الصحيح.
و أمّا إذا صعد البشر سُلّماً أفضل، و رقي فيه درجة أعلى، و أبصر العالَم ببصيرته من زاوية أوسع، و جهد في إصلاح نفسه مُخلّصاً إيّاها من الكثرات و الموجودات المختلفة و المتفرّقة و المتشتتة و المتبدّلة، فيكون بذلك قد عرف الله عزَّ و جلّ بنفس ذلك المقدار، لأنّ الله العليّ الأعلى مثله كمَثَل الشمس الساطعة في كبد السماء التي تضيء العوالم كلّها، و لو أطرقنا برؤوسنا إلى الأسفل و أرخينا عيوننا إلى الأرض، فإنّنا لن نري إلّا نور تلك الشمس في هذا الرفّ أو ذاك، أو في هذا البستان أو ذاك. و أمّا إذا رفعنا رؤوسنا قليلًا إلى الأعلى و تخلّلت أبصارنا الغيوم و اخترقت ركام السحاب، فلا ريب في أنّنا سنري قدراً أكبر من نور الشمس لم نكن لنراه و نحن مطرقي الرؤوس، و سنبصر الافق بقعة منيرة و مكاناً ساطعاً بسبب ذلك النور. و لو عرجنا من هناك إلى مرتبة أعلى فسيكون بإمكاننا مشاهدة قرص الشمس المتوهِّج المُشِعِّ بنوره على وجه الأرض. و لو حالفنا الحظُّ و قدرنا على الصعود أكثر فأكثر فإنّنا سنري بعض الكريّات التي تُدعي بالكواكب و السيّارات في منظومتنا الشمسيّة. و إن استمرّينا في العلوّ حتى اقتربنا من قرص الشمس فإنّنا سنطّلع على خصوصيّات أكثر لها كلّما سنحتْ لنا الفرصة من الاقتراب نحوها أكثر.
كذلك الحال مع الإنسان، فلأنّه موجود يعكس كلّ الصفات الجماليّة و الجلاليّة الربّانيّة، و هو أيضاً يمثّل الظهور التامّ و المظهر الأتمّ للّه عزّ و جلّ، فهو يمتلك قابليّة المرونة و المسير معاً. لكن، ما هي قابليّة مرونته و ما هو مسيره؟ هي تجاوزه للموجودات الباعثة على التفرّق و الفرقة، للهواجس النفسانيّة الباطلة التي تحيط بعقيدته، للخيالات و الأحلام المُمَوَّهة و الأفكار المُشوَّهة التي تذهب به بعيداً عن عالم القرب، فليست قابليّة المرونة إلّا مجموع ذلك، و لا شيء غيرها.
يتحتّم على الإنسان أن يترفّع بمنزلته و ينئ بها عن ما يقتاته الحيوان في زريبته، و يأنف عن الناسوت و المادّة و يتنزّه عن أصالة الطبيعة. عليه أن لا يعير كلّ ذلك اهتماماً استقلاليّاً أو أهمّيّة كبيرة، و أن يتوجّه نحو عالم الملكوت و يوجّه فطرته إلى الوجهة الربّانيّة و ملكوتها، و أن يذوب و ينصهر فيها، و أن يصرخ بأعلى صوته:
{وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.[6]
فحينئذٍ، و كلّما كانت وجهة القلب تزداد ميلاناً إلى هذا النحو، سيقترب أكثر من عالَم القدس الذي هو عالَم الطهارة و التجرّد و النقاء و القدس، و سيزداد اتّصافاً بالصفات الإلهيّة، حتى يوفَّق بعد ذلك إلى لقاء حقيقيّ بربّه فيصبح حقّاً و واقعاً من العارفين بالله عزّ و جلّ. و هو لن يُوَفَّق للّقاء بخالقه و حسب، بل و كذلك سيتخلّق بأخلاق الحقّ تعالى بكلّ وجوده من قمّة رأسه حتى أخمص قَدَمَيْهِ.
إمكان معرفة الله التامّة و لقائه الحقيقيّ من قبل المقرّبين إلى ساحته
إن الذين يقولون: «لا يمكن للإنسان الوصول إلى معرفة الله سبحانه و لقائه، و هو عاجز عن الوصول إلى ذلك المقام المنيع و تلك الذروة الرفيعة و لا حتى إيجاد السبيل إلى ذلك، فإنّ هذه المقولة ستصحّ ما دام بقي من وجوده و كيانه شيء يذكر، فهذا الوجود هو مخلوق، و المخلوق هو ما امتلك حالة التعيّن، فلا يمكنه، و الحال هذه، إيجاد سبيل ليصل به إلى الخالق الذي يفتقد التعيّن و اللامتناهي. ليس بمقدور الإنسان معرفة الله بوساطة الفكر و التفكير و لا حتى بطريق الإدراك، ذلك أن الفكر و التفكير محدودان بينما الله سبحانه لا حدّ له. فكلّما حاول الإنسان جهده الإحاطة بالله بالتفكّر و القدرة العقليّة كان ذلك له محالًا، ذلك لأنّ صورة تفكيره، و هو ذهنه، هي صورة تخيّليّة من صُنعِه و صنيعته هو، فأين ذلك من الله عزّ و جلّ؟ لذا، فإنّ الأخبار الدالّة على أن الإنسان عاجز عن معرفة الله تستند كلّها بالأساس إلى هذا المعني. و أمّا الأخبار القائلة بإمكانيّة تشّرف الإنسان بلقاء ربّه و حصوله على معرفة تامّة به، فهي لا تستدلّ بإمكانيّة هذا الوصول و ذلك اللقاء عن طريق الفكر و التفكير، بل عن طريق الوجدان و الإحساس في القلب. أيّ كأنّهم يقولون: اجتز حاجز الفكر و تخطَّ حدود العقل، ثمّ اخلع عنك النَّفْسَ و ترفّع عن القلب كذلك، ثمّ صِلْ إلى مرحلة لا ترى فيها وجوداً لذرّة من كيانك و لا تجد فيها ما كان منك فيما سبق، و حينئذٍ، تلاشَ! فلا وجود هناك لفكر أو عقلٍ أو نفس أو روح أو وجود بالمرّة. فليس هناك مجال لالتئام الفكرة أو تَجَسُّد الشعور أو الإدراك. ليس هناك من موجود يُذكَر. هناك، حيث يوجد الله و حسب! و الله يعرف نفسه و يعلم ما فيها. في تلك اللحظة فقط يستطيع الإنسان أن يعرف الله، تلك اللحظة التي لم يعد فيها ذلك الإنسان إنساناً، لم يعد يدرك معنى لوجوده مقابل ذات الله عزّ و جلّ. فمتى برزتْ ذرّة من الوجود لم يعد لنور الله وجود في مقابل ذلك.
فهذا العالَم هو عالم المقرّبين الذي تجرّدوا من كلّ شيء، و لا مُقام لأيّ شيء آخر بينهم، اي أنّه لا وجود لهم. فهم لا يملكون وجوداً، لكنهم أحياء بحياة الله، و في الوقت نفسه فهم موتي من حياتهم. و هم لا يملكون شيئاً يتباهون فيه أمام وجود الله. هناك يوجد الله، و الله فحسب. هؤلاء قد اجتازوا مراتب الكثرات، و عبروا حدود التعيّنات، و خلعوا عن أنفسهم الحُجُب و أزالوا عنها الستار، و هم بالتالي قد جاوزوا حُجُب الظُّلمات و حُجُب النور.
لقاء النبيّ لله تعالى ليلة المعراج، و إيحاء الله إليه
و لقد اجتاز الرسول الأعظم كلًّا من كثرات عالَم الطبع و عالَم البرزخ و عالَم العقل- كلًّا حسب ما يناسبه-، هذا من جهة، و من جهة أخرى فقد اجتاز منزلة نفس الملك- التي تمتلك التعيّن و الحدّ كذلك- حتى وصل إلى مقام «قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَي» حيث لا يوجد شيء سوى الله وحده! {... وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ، ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ (ذراعين) أَوْ أَدْنى ، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ، ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ، أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى ، وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ، ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى ، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ، أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى ، وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (التي هي نماذج مؤنّثة من الملائكة السماويّين و واسطة لنزول فيض الله تعالى إلى الأرض)، {أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى ، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى} (أن يكون للّه قوى انفعاليّة و يكون لكم قوي فعليّة)، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى} (القرآن و الرسالة).[7]
لقد كان المراد من {شَدِيدُ الْقُوى} هو الله صاحب المقام الأقدس، كما في قوله تعالى: أن {اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.[8]
و أمّا القول بأنّ المراد من ذلك هو جبرائيل فمستفاد من الآية المباركة: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}[9]، و على هذا الأساس فالمقصود بـ {شَديدُ القُوى} هو جبرائيل، و أن الضمائر المذكورة في الآيات: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ، وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ، ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى}، كلّها تعود إليه أيضاً. و كذا الحال مع ضمير المفعول في الآية الشريفة {وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى} حيث يعود إلى المَلاك جبرئيل.
و أمّا الضمير في {فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ} مَا أوْحَي فيعود بالتأكيد إلى الله عزّ و جلّ، و المراد بـ {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى} فهو رؤية فؤاد رسول الله حقيقة الوحي مشافهة و رؤية و لقاء الله سبحانه كذلك.
و أيّاً كان القول فإنّ ممّا لا شكّ فيه أن هذه الآيات تدلّ كلّها على أنّها اوحيَت من قبل البارئ عزّ و جلّ إلى رسوله الكريم، و أن صيغتها بهذا الشكل إنّما هي دليل على أنّها اوحيت بطريق المشافهة الذي يتطلّب الحضور و الالتقاء حتماً.
كلّ ما في الأمر، أن الألقاب و الصفات الخاصّة بجبرئيل المذكورة في الحالة الاولى قد زُحزِحَتْ و وُضِعَت جانباً في الحالة التالية، ليأتي دَوْر تلقين الوحي و التدلّي و الدُّنوّ من مَقام العزّة و الحقّ تعالى، و رؤية ذلك الجلال الإلهيّ، فإنّ الدنوّ و الاقتراب و الرؤية في الحالة الجديدة كلّها تعود إلى الله عزّ و جلّ حيث عاين رسول الله كلّ ذلك ليلة عُرِج به إلى العُلى، و رأي الله و زاره بقلبه و بصيرته في تلك الليلة المباركة.
و لقد وردت أبحاث مفصّلة في التفاسير المختلفة حول لقاء و زيارة ليلة المعراج.
فسماحة استاذنا الأكرم العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله تربته المنيفة يقول: «و ما أوردناه من الآيات هي الفصل الأوّل من فصول السورة الثلاثة و هي الآيات اللاتي تصدق الوحي إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و تصفه، لكن هناك روايات مستفيضة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ناصّة على أن المراد بالآيات ليس بيان صفة كلّ وحي، بل بيان وحي المشافهة الذي أوحاه الله سبحانه إلى نبيّه صلى الله عليه و آله ليلة المعراج.
فالآيات متضمّنة لقصّة المعراج و ظاهر الآيات لا يخلو من تأييد لهذه الروايات و هو المستفاد أيضاً من أقوال بعض الصحابة كابن عبّاس و أنس و سعيد الخدريّ و غيرهم على ما روي عنهم و على ذلك جري كلام المفسّرين و إن اشتدّ الخلاف بينهم في تفسير مفرداتها و جملها».[10]
و على هامش الآية الشريفة {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى}- يقول العلّامة قدّس الله روحه:
«و ليس في الآية ما يدلّ على أن متعلّق الرؤية هو الله سبحانه و أنّه لمرئي له صلى الله عليه و آله، بل المرئيّ هو الافق الأعلى و الدنوّ و التدلّي و أنّه اوحي إليه، فهذه هي المذكورة في الآيات السابقة و هي آيات له تعالى، و يؤيّد ذلك ما ذكره تعالى في النزلة الأخرى من قوله: {ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى ، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى}.
آيات سورة النجم دالّة على رؤية النبيّ لله تعالى في المعراج على أنّها لو دلّت على تعلّق الرؤية به تعالى لم يكن به بأس فإنّها رؤية القلب و رؤية القلب غير رؤية البصر الحسّيّة التي تتعلّق بالأجسام و يستحيل تعلّقها به تعالى و قد قدّمنا كلاماً في رؤية القلب في تفسير سورة الأعراف، الآية 143».[11]
و قال رحمة الله عليه في تعليقه على الآية الشريفة {وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى}: «و قد قالوا: أن ضمير الفاعل المستكن في قوله رَءَاهُ للنبيّ صلى الله عليه و آله، و ضمير المفعول لجبرئيل، و على هذا فالنزلة نزول جبرئيل ليعرج به إلى السماوات، و قوله: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى} ظرف للرؤية لا للنزلة، و المراد برؤيته رؤيته و هو في صورته الأصليّة.
و المعني: أنّه نزل عليه صلى الله عليه و آله نزلة أخرى و عُرِج به إلى السماوات و تراءي له صلى الله عليه و آله عند سدرة المنتهى و هو في صورته الأصليّة.
و قد ظهر ممّا تقدّم صحّة إرجاع ضمير المفعول إليه تعالى و المراد بالرؤية رؤية القلب و المراد بـ: {نَزْلَةً أُخْرى} نزلة النبيّ عند سدرة المنتهى في عروجه إلى السماوات، فالمفاد أنّه نزل نزلة أخرى أثناء معراجه عند سدرة المنتهى فرآه بقلبه كما رآه في النزلة الاولي».[12]
و تعليقاً على الآية {ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى} قال قدّس الله سرّه: «الزَّيْغُ الميل عن الاستقامة، و الطغيان تجاوز الحدّ في العمل، و زَيْغُ البَصَرِ إدراكه المبصر على غير ما هو عليه، و طغيانه إدراكه ما لا حقيقة له، و المراد بالبصر بصر النبيّ.
و المعني: أنّه صلى الله عليه و آله لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقيّة و لا أبصر ما لا حقيقة له، بل أبصر غير خاطئ في إبصاره.
و المراد بالإبصار رؤيته صلى الله عليه و آله بقلبه لا بجارحة العين، فإنّ المراد بهذا الإبصار ما يعنيه بقوله: وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى} المشير إلى مماثلة هذه الرؤية لرؤية النزلة الاولى التي يشير إليها بقوله: {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ، أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى}. فافهم و لا تغفل».
و علّق رحمة الله عليه على الآية الشريفة {لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} بقوله: مِنْ للتبعيض، و المعني: أقسم لقد شاهد بعض الآيات الكبرى لربّه، و بذلك تمّ مشاهدة ربّه بقلبه، فإنّ مشاهدته تعالى بالقلب إنّما هي بمشاهدة آياته بما هي آياته، فإنّ الآية بما هي آية لا تحكي إلّا ذا الآية و لا تحكي عن نفسه شيئاً و إلّا لم تكن من تلك الجهة آية.
و أمّا مشاهدة ذاته المتعالية من غير توسّط آية و تخلّل حجاب فمن المستحيل ذلك، قال تعالى: {وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}. (الآية 110، من السورة 20: طه).[13]
الروايات الواردة في رؤية النبيّ لله عزّ و جلّ في المعراج
و قد أورد العلّامة في بحث روائيّ: و في «تفسير القمّيّ» بإسناده إلى ابن سِنان في حديث قال أبو عبد الله عليه السلام: وَ ذَلِكَ أنَّهُ- يَعْنِي النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ- أقْرَبُ الخَلْقِ إلَى اللهِ تعالى، وَ كَانَ بِالمَكَانِ الذي قَالَ لَهُ جَبْرَئِيلُ لَمَّا اسْرِيَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ: تَقَدَّمْ يَا مُحَمَّدُ! فَقَدْ وَ طَأتَ مَوْطِئاً لَمْ يَطَأهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَ لَا نَبِيّ مُرْسَلٌ. و لَوْ لَا أن رُوحَهُ و نَفْسَهُ كَانَ مِنْ ذَلِكَ المَكَانِ لَمَا قَدَرَ أن يَبْلُغَهُ.
وَ كَانَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ كَمَا قَالَ عَزَّ وَ جَلَّ: {قَابَ قَوْسَيْنِ (أي ذراعين) أوْ أدْنَي}؛ أيْ: بَلْ أدْنَى.
و في «المجمع» و روي مرفوعاً عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله في قوله: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ}، قال: قدر ذراعين أو أدنى من ذراعين.
و في «التوحيد» بإسناده إلى محمّد بن الفضيل قال: سَألْتُ أبَا الحَسَنِ عليه السلام: هَلْ رَأي رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ رَبَّهُ عَزّ وَ جَلَّ؟! فَقَالَ: نَعَمْ! بِقَلْبِهِ رَآهُ؛ أ مَا سَمِعْتَ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ: {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى}؟ لَمْ يَرَهُ بِالبَصَرِ وَ لَكِنْ رَآهُ بِالفُؤَادِ.[14]
و في «الدرّ المنثور» أخرج عبد بن حَميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن محمّد بن كعب القَرْظيّ، عن بعض أصحاب النّبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلّم قال: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: لَمْ أرَهُ بِعَيْنِي؛ وَ رَأيْتُهُ بِفُؤَادِي مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ تَلَا: {ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى}.
قال العلّامة قدّس سرّه: «أقول: و روي هذا المعنى النسائيّ عن أبي ذرّ- على ما في «الدرّ المنثور»- و لفظه رَأي رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ رَبَّهُ بِقَلْبِهِ، وَ لَمْ يَرَهُ بِبَصَرِهِ.
و عن «صحيح مسلم» و الترمذيّ و ابن مردويه، عن أبي ذرّ قال: سَألْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟! فَقَالَ: نُورَانِيّ أرَاهُ[15].
أقول: «نُورَانِيٌّ» منسوب إلى النور على خلاف القياس، كجسمانيّ في النسبة إلى جسم. و قرئ «نُورٌ إنِّي أرَاهُ» بتنوين الراء و كسر الهمزة و تشديد النون ثمّ ياء المتكلِّم، و الظاهر أنّه تصحيف و إن ايِّد برواية أخرى عن مسلم في صحيحه، و ابن مردويه عن أبي ذرّ أنّه سأل رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟! فقال: رَأيْتُ نُوراً! و كيف كان فالمراد بالرؤية رؤية القلب، فلا الرؤية رؤية حسّيّة و لا النور نور حسّيّ.
و في «الكافي» بإسناده عن صفوان بن يحيي قال: سألني أبو قرّة المحدّث أن ادخِله إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام. فاستأذنته في ذلك، فأذِنَ لي فدخل عليه فسأله عن الحلال و الحرام و الأحكام. إلى قوله: أبو قرّة، فإنّه يقول: {وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى}.
فقال أبو الحسن عليه السلام: أن بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا رَأى؛ حَيْثُ قَالَ: {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى}. يَقُولُ: مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ مَا رَأتْ عَيْنَاهُ. ثُمَّ أخْبَرَ بِمَا رَأى فَقَالَ: {لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى}؛ و آيات الله غير الله.
أقول: الظاهر أن كلامه عليه السلام مسوق لإلزام أبي قُرّة، حيث كان يريد إثبات رؤيته تعالى بالعين الحسّيّة فألزمه بأنّ الرؤية إنّما تعلّقت بالآيات، و آيات الله غير الله، و لا ينافي ذلك كون رؤية الآيات بما هي آياته تمثّل رؤيته تعالى و إن كانت آياته غيره، و هذه الرؤية إنّما كانت بالقلب كما مرّت عدّة من الروايات في هذا المعنى.
و جاء في «تفسير القمّيّ» بإسناده إلى إسماعيل الجعفيّ عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام في حديث طويل: فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، تَخَلَّفَ عَنْهُ جَبْرَئِيلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: في هَذَا المَوْضِعِ تَخْذُلُنِي؟! فَقَالَ: تَقَدَّمْ أمَامَكَ! فَوَ اللهِ لَقَدْ بَلَغْتَ مَبْلَغاً لَمْ يَبْلُغْهُ أحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ قَبْلَكَ! فَرَأيْتُ مِنْ نُورِ رَبِّي، وَ حَالَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ السُّبْحَةُ. قُلْتُ: وَ مَا السُّبْحَةُ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟! فَأوْمَئَ بِوَجْهِهِ إلَى الأرْضِ وَ أوْمَئ بِيَدِهِ إلَى السَّمَاءِ وَ هُوَ يَقُولُ: جَلَالُ رَبِّي! جَلَالُ رَبِّي! ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
أقول: السُّبحة الجلال كما فسّر في الرواية، و السبحة ما يدلّ على تنزّهه تعالى من خَلْقه و مرجعه إلى المعنى الأوّل، و محصّل ذيل الرواية أنّه صلى الله عليه و آله رأى ربّه برؤية آياته».[16]
و أمّا القاضي البيضاويّ فقد قال في تفسير الآية الشريفة {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى}: «ما رأى ببصره من صورة جبرائيل عليه السلام أو الله تعالى، اي ما كذب بصره بما حكاه له، فإنّ الامور القدسيّة تُدرَك أوّلًا بالقلب ثمّ تنتقل منه إلى البصر.
أو ما قال فؤاده لمّا رآه: لم أعرفك؛ و لو قال ذلك كان كاذباً، لأنّه عرفه بقلبه كما رآه ببصره، أو ما رآه بقلبه، و المعنى أنّه لم يكن تخيّلًا كاذباً. و يدلّ على ذلك «أنّه عليه الصلاة و السلام سئل: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟! فقال: رَأيْتُهُ بِفُؤَادِي!».[17]
و قال في تفسيره {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى}: «التي ينتهي إليها أعمال الخلائق و علمهم، أو ما ينزل من فوقها و يصعد من تحتها، و لعلّها شُبّهت بالسدرة و هي «شجرة النَّبْق» لأنّهم يجتمعون في ظلّها، و روي مرفوعاً أنّها في السماء السابعة».[18]
و قال في تفسير {أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى}: «إنكار لقولهم الملائكة بنات الله، و هذه الأصنام استوطنها جنّيّات هنّ بناته، أو هياكل الملائكة و هو المفعول الثاني لقوله: {أ فَرَأَيْتُمُ}.[19]
كلام جبرئيل: لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ
و قد شاهدنا في تفسير «علي بن إبراهيم» عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام قوله: فَلمّا انتَهى بهِ إلى سِدرةِ المُنتَهى، تَخَلّفَ عَنهُ جَبْرَئِيلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: في هَذَا المَوْضِعِ تَخذُلُني؟! فقال: تقدّم أمامك! فو الله لقد بلغت مبلغاً لم يبلغه أحد من خلق الله قبلك! و قد ورد في كثير من كتب العرفان أن جبرائيل قال: لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ.
فهذا يشير بالبنان إلى المقام الأوحد و المنزلة الجامعة لرسول الله صلى الله عليه و آله و أصحابه الحقيقيّين، حيث لم يتمكّن جبرئيل من أن ينال ذلك المقام أو أن يحرز تلك المنزلة و يظفر بمراده، فأخذ يقول: لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ. و قد روي عن نبيّ الله أنّه قال: "لِي مَعَ اللهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَ لَا نَبِيّ مُرْسَلٌ"[20].
و في هذا المَقام يقول الشيخ نجم الدين: «... و أمّا آدم، فهو بيضة عنقاء جبل العِزّة. و تلك العنقاء هي لي خليفة و لكم سلطان، فـ{اسْجُدُوا لِآدَمَ} عند قدمَيْه و لا تقولوا {أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} ناظرين بعين الحقارة إليه، {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ} فيه. فاغتنموا الفرصة ما دام في البيضة و اسجدوا له، فإنّه لو خرج من البيضة فسيكون تحليقه إلى حيث عالَم لي مَعَ اللهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ [وَ لَا نَبِيّ مُرْسَلٌ]، فلن تبقى لكم إلّا الحسرة، و ستأخذكم العَبرة و الحيرة و تكثرون من قول لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ.
ما سوى الله تعالى حجاب؛ و المعرفة التامّة مشروطة بانتفاء
و خلاصة الكلام في هذا المقام أنّه: ما لم تَزُل كلّ ذرّة من الأنانيّة من الإنسان، فلن يُسمَح له بالعروج إلى مَنسَك العدم و الفَناء المطلقَينِ المتزامنَينِ مع الوجود المطلق. فذلك مقام خاصّ بذات الله عزّ و جلّ و وجوده. و الله سبحانه غيور، و من شروط الغَيرة نَهر كلّ من استقرّت في قراره ذرّة من بقايا شخصيّته و أنانيّته.
تا بود يك ذرّه باقى از وجود *** كى شود صاف از كدر، جام شهود[21]
فالمسألة جَدُّ مُحيِّرة، إذ يتحتّم هجر كلّ ما سوى الله تعالى للوصول إليه، فكلّ ما سوى الله حجاب و سراب، و ما دام ذلك الحجاب باقياً، فلا سبيل إلى الحصول على المعرفة التامّة. و ما اكتُسِبَ من المعرفة إن هي إلّا معرفة جزئيّة و ناقصة. أن المعرفة الحاصلة من مشاهدة خلق الله تعالى من جبال و أحجار، و صَحارٍ و قفار، و التعرّف على حيوانات البَرّ و البحار، و ما إلى ذلك، إنّما هي معارف جزئيّة و ليست كلّيّة، و المهمّ في هذه المسألة هو المعرفة الكلّيّة، و لا سبيل للوصول إليها إلّا باجتياز سبيل خطير و عظيم! إن العالِم في الرياضيّات الذي يكتشف بواسطة قوانينه الرياضيّة أن القرآن معجزة، و ذلك بسبب الاسلوب القويم لآياته، و السياق المتوازن لسوره، و يتوصّل إلى أن الآيات الخاصّة بالجهاد هي بالشكل الفلانيّ، و الآيات الخاصّة بالصلاة و الصوم بالشكل العلّانيّ، ثمّ يتوصّل طبقاً لحساباته الحاسوبيّة (الكومبيوتريّة) إلى إثبات أن هكذا جُمَل و هكذا ألفاظ لا يمكن للبشر أن يصوغ مثيلاتها، أو حتى صَبّها في قالبٍ يشبه إلى حدٍّ ما تلك الآيات الشريفة، و أنّه بدون تدخّل لقوّة غيبيّة أو أمرٍ من ما وراء الطبيعة سيكون ذلك مستحيلًا، و لن يكون بإمكان أحد على الإطلاق إيجاد مثل تلك الظاهرة العجيبة. فإنّ هذا، في الواقع، هو نوعٌ من أنواع المعرفة بالقرآن الكريم، و مع هذا فإنّ البُعدَ بين هذه المعرفة، و بين المعرفة الحقيقيّة للقرآن كبُعد الثريّا عن الثري! و بينهما ألفا حجاب! فأين هذه المعرفة و أين الدخول في أعماق و حقائق القرآن و بواطنه و معرفة تفسيره و تأويله و طريقة تطبيق آياته على مصاديقه؟ {أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ}.[22]
فهذه المعرفة لا يمكن لها أن تكون معرفة مقنعة؛ انظروا إلى كلّ آية من آيات هذا الكتاب السماويّ و ستجدون كلّ واحدة من تلك الآيات مرآة تعكس وجه الله عزّ و جلّ، إلّا أن الفَرق بين رؤية مَن كانت عيونهم مفتوحة و مَن كانت على أبصارهم غشاوة جِدُّ شاسع و بعيد. فهذا الأمر يستدعي التحقُّق من صحّة الباصرة و فحصها بدقّة.
فلو كانت عينا أحدهم عمياء، فليس معنى ذلك أن سُبُل كلّ العلوم مغلقة في وجهه، بل معناه أن بإمكانه أن يحصل على كثير من العلوم عن طريق سائر حواسّه الأخرى كحاسّة السمع و حاسّة الشمّ و حاسّة اللمس و حاسّة الذوق؛ لكنّ الفَرق بينه و بين مَن كانت حاسّة بصره سليمة من أيّة عاهة و تتمتّع ببصر و بصيرة سالمتَينِ كالفَرق بين السماء و الأرض.
فلا يتمّ اجتماع الله مع سواه ما دامت هناك في ذهن الإنسان أمانيّ باطلة، و نوايا تَشطُطُ، و أهداف نفسانيّة شيطانيّة، و أغراض مادّيّة من حبّ المال و البنين و الجاه و المقام و غير ذلك.
الأبيات الحكيمة لمجنون ليلى في معشوقته
أنشد قيس بن الملوّح العامريّ أبياتاً من الشِّعر في حبّ ابنة عمّه و معشوقته ليلى العَامِرِيَّة، تحتوي على أروع ما انشِدَ من الشِّعر في مقام الحِكمة و الدقائق العقلانيّة و تُعتَبَر بحقّ كتاباً للعرفان و الأسرار و الرموز الشهوديّة، مُبيّناً سبيل الوصول إلى المحبوب. و حتى لو كانت تلك الأبيات في ظاهرها تحكي قصّة حبّ عُذريّ مجازيّ، إلّا أنّها تحوي الكثير من الامور الراقية المفاهيم و العالية المعنى بوجه عامّ، تَصدُق مبانيها على كلّ عاشقٍ حقيقيّ و صادق في حبّه. و تتضمّن مفهوماً يتعلّق بحبّ الله عزّ و جلّ، و تكشف بطريقة مدهشة أسرار السلوك إلى الله و الوصول إليه و الفَناء في ذاته المقدّسة، و تُميط الستار عن أعظم حجاب معنويّ، و تصف أسلم الطرق و أ أمَنَها للوصول إلى المقام الأقدس لذات الله سبحانه. يقول قيس بن الملوّح و المعروف عند العامّة بمجنون ليلى:
تَمَنَّيْتُ مِنْ ليلى عَلَى البُعْدِ نَظْرَةً *** لِيُطْفَي جَوى بَيْنَ الحَشا وَ الأضالِعِ
فَقالَتْ نِسَاءُ الحَيّ تَطْمَعُ أنْ تَرَي *** بِعَيْنَيْكَ ليلى مُتْ بِداءِ المَطامِعِ
وَ كَيْفَ تَرَى ليلى بِعَيْنٍ تَرَى بِها *** سِواها وَ ما طَهَّرْتَها بِالمَدامِعِ
وَ تَلْتَذُّ مِنْها بِالحَديثِ وَ قَدْ جَرَي *** حَديثُ سِواها في خُروقِ المَسامِعِ[23]
و ليس بإمكان من صحب غير الله و خاطب أعداءه و احتوى على مقاصد غير إلهيّة، و نوايا غير سبحانيّة، و آمالٍ دَنيّة دنيويّة، أن يلقى الله تعالى و يتشرّف برؤيته. و بحكم امتناع اجتماع الضِّدَّيْن أو النقيضَيْن، فلا سبيل لدخوله ذلك الميدان ما لم تَزُل النقائض و تنمح تلك الأعراض.
منظر دل نيست جاى صحبت اغيار *** ديو چو بيرون رود فرشته درآيد.[24]...[25]
جَلَّ جَنَابُ الحَقِّ عَنْ أن يَكُونَ شَرِيعَةً لِكُلِّ وَارِدٍ، لقد خصّص ابن سينا، «النمط التاسع» من كتابه «الإشارات» لمقام العارفين، و يقول في نهاية ذلك النمط: «إشارَةٌ: جَلَّ جَنَابُ الحَقِّ عَنْ أن يَكُونَ شَرِيعَةً لِكُلِّ وَارِدٍ، أوْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ إلَّا وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ. وَ لذَلِكَ فَإنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الفَنُّ ضُحْكَةٌ لِلْمُغَفَّلِ عِبْرَةٌ لِلْمُحَصِّلِ؛ فَمَنْ سَمِعَهُ فَاشْمَأزَّ عَنْهُ فَلْيَتَّهِمْ نَفْسَهُ، لَعَلَّهَا لَا تُنَاسِبُهُ؛ وَ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.»[26]
و حكي الشيخ بهاء الدين العامليّ أنّه ورد في رواية أن إبراهيم بن أدهم كان يطوف بالكعبة فرأى شابّاً أمرد جميل الوجه وسيم الطلعة. فنظر إليه برهة ثمّ تنحّى عنه و توارى بين المُطَّوِّفين فلمّا اختلى بنفسه سأله بعضهم عن سبب تلك النظرة قائلين: لم نشهد لك مثل تلك النظرة إلى شابٍّ جميل فيما سبق! فقال: هو ابني، و قد كنتُ تركته في خراسان. فلمّا شبّ ترك مدينته و طفق يبحث عنّي، فخفتُ أن يشغلني عن ذِكر الله، و خشيتُ إن هو عرفني أن آنس به. ثمّ أنشد هذه الأبيات:
هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرَّاً في هَوَاكَا *** وَ أيْتَمْتُ العِيَالَ لِكَيْ أرَاكَا
فَلَوْ قَطَّعْتَنِي في الحُبِّ إرْباً *** لَمَا حَنَّ الفُوَادُ إلى سِوَاكَا[27]
احِبُّ التُّقَى وَ النَّفْسُ تَطْلُبُ غَيْرَهُ *** وَ إنِّي وَ إيَّاهَا لَمُصْطَرِعانِ
فَيَوْمٌ لَهَا مِنِّي وَ يَوْمٌ اذِلُّهَا *** كِلَانَا عَلَى الأيَّامِ مُعْتَرِكَانِ[28]
بيان حال سيّد الشهداء عليه السلام في الخلوة بالحبيب
و بناءً على ما قيل، فإنّ الأبيات التي مطلعها: هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرَّاً في هَوَاكَا..
مرويّة عن إبراهيم بن أدهم، و أمّا نسبتها إلى سيّد الشهداء الحسين عليه السلام و ذلك على المنابر الحسينيّة فإنّ هذا لسان حاله لا لسان مقاله.
لقد كان ذلك الإمام المعصوم روحي و أرواح العالمين فداه اسوة حسنة و مثالًا يُحتَذى به في الفَناء في ذات الحقّ تعالى، إذ لا تنتهي المسألة بيوم عاشوراء و لا تُطوي بانطواء أحداثها في ذلك اليوم، بل أن نفسه الزكيّة و روحه الطاهرة كانت مجبولة على هذه الحال في سبيل الله عزّ و جلّ. أن يوم عاشوراء كان ساحة للتجلّي و الظهور، كان يوم مكاشفة الخلائق و العوالم بما خفي عنهم و إبداء ما لم يُبْدَ لهم.
عظمة الأوج العرفانيّ لسيّد الشهداء عليه السلام
لقد ابتغى هؤلاء الشعراء تبيان تلك الحالة التي اعترت سيّد الشهداء عليه السلام مصوِّراً مقولة «لي مَعَ الله»، تلك الحالة التي تمثّلت فيها السعادة و الأوقات العصيبة، و التي لم يكن لأيّ مَلَك مُقَرَّب أو نبيّ مُرْسَل قدرة الوصول إلى ذلك المقام الرفيع، أو تحمّل تلك الرموز العرفانيّة السامية على الإطلاق.
فلننظر معاً إلى التعابير الجزلة و الإشارات البديعة و اللطائف المليحة لحجّة الإسلام الشيخ محمّد تقي نيّر التبريزيّ، و هو يصف جانباً من حالات ذلك الإمام الهمام و الصمصام البتّار، و القائد الذي تنصّل عن كينونته و طلب الالتحاق بالمحبوب، عزيزه.
"بِأبِي أنْتَ وَ امِّي وَ نَفْسِي يَا أبَا عبد الله؛ أشْهَدُ لَقَدِ اقْشَعَرَّتْ لِدِمَائِكُمْ أظِلَّةُ العَرْشِ مَعَ أظِلَّةِ الخَلائِقِ، وَ بَكَتْكُمُ السَّمَاءُ وَ الأرْضُ وَ سُكَّانُ الجِنَانِ وَ البَرِّ وَ البَحْرِ، صلى اللهُ عَلَيْكَ عَدَدَ مَا في عِلْمِ اللهِ"[29].
يستفاد من هذه الفقرة من الزيارة الشريفة أن أشباح العرش و أشباح الخلائق لم يتحمّلوا أو يطيقوا مشهد تلك الواقعة، فاقشعرّت أبدانهم و ارتعدت فرائصهم و مفاصلهم من شدّة وَقْع تلك الحادثة، و كذا السماوات و الأرضون و سكّانها، و أهل الجَنّة و الصحاري و البحار، بكوا لذلك المصاب الجلل. فعليك سيّدي و مولاي السلام بعدد الخلائق التي لا يعلم عددها إلّا الله وحده، يا مَن أظهر الجميع عجزهم الكامل أمام عظمتك و صبرك و جلدك، و تحيّروا إزاء شخصك و منزلتك.
آسمان بار امانت نتوانست كشيد *** قرعهي فال به نام من ديوانه زدند[30]
[1] مُرَي اسم مفعول من باب أرى يُري من باب أفعال. لأنّ اسم الفاعل منه مُرْئي و اسم المفعول منه هو مُرْأي. و قد حُذِفت الهمزة للتخفيف بعد نقل حركتها إلى ما قبلها، مُرِي و مُرَي. و أمّا مرئيّ فهو اسم مفعول من باب رأي يري، و اسم الفاعل منه راءٍ و اسم المفعول مَرئيّ. و قد كان اسم المفعول من ذلك في الأصل هو مَرْءُويٌ، فطرأ عليه إعلال مَرميّ فأصبح مرئيّ. فـ «رأي يري» متعدٍّ إلى مفعول واحد و «أرى يُرِي» متعدٍّ إلى مفعولين.
[2] الآية 8، من سورة المائدة.
[3] يقول الشيخ نجم الدين الرازي في رسالة «عشق و عقل» ص 53 و 54، بعد بحثه حول الصالحين المحجوبين عن نور الله: «هذه الطائفة هي أصحاب الميمنة، و مشربهم يكون من عالم الأعمال، و يكون معادهم درجات جنّات النعيم؛ و مع ذلك فلا سبيل لهذه الطائفة إلى معرفة ذات الله و صفاته في الحقيقة، لأنّهم ما زالوا مقيّدين بآفة حُجُب الصفات الروحانيّة و النورانيّة؛ إذ أن لِلَّهِ[ تَعالَى] سَبْعينَ ألْفَ حِجابٍ مِنْ نورٍ وَ ظُلْمَةٍ. و قال في مكان آخر: حِجابُهُ النُّورُ، لَوْ كُشِفَتْ لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَي إليه بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ. و لذا قيل لهذه الطائفة: احذروا من خلط العقل بالعقال في مجال التفكّر في ذات الحقّ جلّ و عَلا، لأنّه ليس له حدّ؛ تَفَكَّرُوا في آلَاءِ اللهِ وَ لا تَتَفَكَّرُوا في ذَاتِ اللهِ».
[4] اي ما يُستَدلُّ فيه بامتناع أحَد النَّقيضَيْنِ على تَحَقُّق الآخر.(م)
[5] مقتبس من الآية 4، من السورة 95: التين: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.
[6] هذه الفقرة من الدعاء هي من ضمن الأدعية السبعة في التكبيرات الافتتاحيّة في الصلاة و التي ذكرها آية الله السيّد محمّد كاظم اليزديّ أعلى الله مقامه في كتاب «العروة الوثقي» في باب الصلاة، فصل (تكبيرة الإحرام)، و هو دعاء مأثور عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام، مقتبس من آيتين من اي القرآن الكريم، الاولي: الآية 79، من السورة 6: الأنعام، و هي قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام إذ قال لقومه: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. و الثانية الآيتين 162 و 163، من نفس السورة، هي قوله تعالى خطاباً للنبيّ الأكرم يأمره أن يقول للمشركين: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.
[7] الآيات 7 إلى 23، من السورة 53: النجم. و قبلها: {وَ النَّجْمِ إذَا هَوَى} (أي هوي للغروب)، {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} (أي رسولنا) {وَ مَا غَوَى ، وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الهوى ، أن هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَي ، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى}.
[8] الآية 58، من السورة 51: الذاريات.
[9] الآية 20، من السورة 81: التكوير.
[10] «الميزان في تفسير القرآن» ج 19، ص 26.
[11] «المصدر السابق»، ص 29.
يقول المؤلّف الفقير: ورد في كتاب «نفائس الفنون» ج 27، ص 68 و 69:
«الفصل الحادي العشر، في بيان الوصول:
اعلم أن الوصول إلى حضرة البارئ عزّ و جلّ ليس من قبيل وصول الجسم إلى الجسم، أو وصول العرض إلى الجسم، أو العلم إلى المعلوم، أو العقل إلى المعقول؛ تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
و كذلك ليست مسألة الوصول إلى حضرته هي بفعل العبد، بل هي لطف دون علّة و تصرّف الجذبات الالوهيّة. أ لم تَرَ إلى موسى و قد قال، و هو يسعى إلى رؤية الرؤية: {ربّي أرِنِي أنظُرُ إلَيْكَ}، فقال: {لَن تَرَانِي}! لكنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم، و بحكم {سُبْحَانَ الذي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} ارْكِبَ البُراق و عُرج به (إلي السماء) مجتازاً قاب قوسين حتى وصل مقام أو أدْنى، و البِسَ كلّ لباس محمّديّ بحكم ما كانَ محمّد أبا أحدٍ من رجالِكُم و بُعِثَ رحمةً و تشرّف بالخطاب القائل و ما أرسلناك إلّا رَحْمَةً للعالَمين. فكلّ من لم يستطع أن يحلّق ببراق القدرة من حضيض البشريّة إلى سدرة منتهي الروحانيّة فليعرّج على حضرته و يقدّم له الولاء و الطاعة، لأنّ من وصل إليه فقد وصل إلينا؛ {من يُطِعْ الرسول فقد أطاعَ الله} إلى آخر البيان الذي أورده في هذا الفصل.
[12] «الميزان» ج 19، ص 31.
[13] «المصدر السابق»، ص 32.
[14] روي في «اصول الكافي» ج 1، ص 98، في باب إبطال الرؤية، الحديث 8، عن محمّد بن يحيي و غيره، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه قال:
قالَ رَسولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: لَمَّا اسْريَ بِي إلى السَّمَاءِ، بَلَغَ بِي جَبْرَئيلُ مَكَاناً لَمْ يَطَأهُ قَطُّ جَبْرَئيلُ. فَكُشِفَ لَهُ؛ فَأرَاهُ اللهُ مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ مَا أحَبَّ.
[15] روي في «اصول الكافي» ج 1، ص 98، باب إبطال الرؤية، الحديث 7، عن أحمد بن إدريس، عن محمّد بن عبد الجبّار، عن صفوان بن يحيي، عن عاصم بن حُمَيد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
ذاكَرْتُ أبَا عبد الله عليه السلام فِيمَا يَرْوُونَ مِنَ الرُّؤْيَةِ؛ فَقالَ: الشَّمْسُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعينَ جُزْءً مِنْ نُورِ الكُرْسيّ، وَ الكُرْسيّ جُزْءٌ مِنْ سَبْعينَ جُزْءً مِنْ نُورِ العَرْشِ، وَ العَرْشُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعينَ جُزْءً مِنْ نورِ الحِجابِ، وَ الحِجابُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعينَ جُزْءً مِنْ نُورِ السِّتْرِ؛ فَإنْ كَانُوا صَادِقِينَ فَلْيَمْلَؤُوا أعْيُنَهُمْ مِنَ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ!
[16] «الميزان» ج 19، ص 34 إلى 36.
[17] «تفسير البيضاويّ» ج 2، ص 472 و 473، طبعة دار الطبع العامرة.
[18] «المصدر السابق»، ص 473 و 474.
[19] «تفسير البيضاويّ» ج 2، ص 473 و 474.
[20] و تدلّ الفقرات التالية من زيارة الجامعة الكبيرة على هذا المقام:
"فَبَلَغَ اللهُ بِكُمْ أشْرَفَ مَحَلِّ المُكَرَّمينَ وَ أعْلَى مَنازِلِ المُقَرَّبِينَ وَ أرْفَعَ دَرَجَاتِ المُرْسَلِينَ، حَيْثُ لَا يَلْحَقُهُ لَاحِقٌ وَ لَا يَفوقُهُ فَائِقٌ وَ لَا يَسْبِقُهُ سَابِقٌ وَ لَا يَطْمَعُ في إدْرَاكِهِ طَامِعٌ، حتى لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَ لَا نَبِيّ مُرْسَلٌ وَ لَا صِدِّيقٌ وَ لَا شَهِيدٌ وَ لَا عالِمٌ وَ لَا جَاهِلٌ وَ لَا دَنِيّ وَ لَا فاضِلٌ وَ لَا مُؤْمِنٌ صَالِحٌ وَ لَا فَاجِرٌ طَالِحٌ وَ لَا جَبَّارٌ عَنيدٌ وَ لَا شَيْطَانٌ مَرِيدٌ وَ لَا خَلْقٌ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ شَهِيدٌ إلَّا عَرَّفَهُمْ جَلَالَةَ أمْرِكُمْ وَ عِظَمَ خَطَرِكُمْ وَ كِبَرَ شَأنِكُمْ وَ تَمَامَ نُورِكُمْ وَ صِدْقَ مَقاعِدِكُمْ وَ ثَبَاتَ مَقامِكُمْ وَ شَرَفَ مَحَلِّكُمْ وَ مَنْزِلَتِكُمْ عِنْدَهُ وَ كَرَامَتِكُمْ عَلَيْهِ وَ خاصَّتَكُمْ لَدَيْهِ وَ قُرْبَ مَنْزِلَتِكُمْ مِنْهُ".
تعتبر هذه الزيارة من الزيارات المهمّة، التي وردت في «مفاتيح الجنان» ص 544 إلى 550، الطبعة الإسلاميّة، 1379 هجريّة، و قد رُويت عن الشيخ الصدوق في «الفقيه»
(...تابع الهامش في الصفحة التالية)
[21] يقول: «لن يصفو لأحد كأس الشهود، ما دام هناك فيه ذرّة من الوجود».
[22] ذيل الآية 44، من السورة 41: فصّلت.
[23] «ديوان قيس بن الملوّح العامريّ» المشهور بمجنون ليلى العامريّة، ص 109، طبعة بومبي؛ و قد روي آية الله الملّا أحمد النراقيّ أعلى الله درجته و هو (خالي لُامّي)، هذه الأبيات الأربعة في كتاب «الخزائن» ص 130، إلّا أنّه ذكر البيتَينِ الأوّلين كالتالي:
و إذ رُمتُ من ليلى عن البُعد نظرةً *** لأُطفى بها نارَ الحَشا و الأضالِعِ
تقول نساءُ الحيّ تَطمعُ أن تَرى *** مَحاسن ليلى مُتْ بداءِ المَطامِعِ
و ذكر الأبيات كذلك الشيخ بهاء الدين العامليّ في «الكشكول» ص 610، العمود الأيمن، الطبعة الحجريّة، و في طبعة مصر بتحقيق طاهر أحمد الزاويّ، دار إحياء الكتب العربيّة: ج 2، ص 230، و قال: «يُنْسَب إلى المجنون».
[24] جاء في «ديوان حافظ» ص 84، الغزليّة رقم 187، طبعة پژمان، مطبعة بروخيم، سنة 1318، ما يلي:
(تابع الهامش في الصفحة التالية...)
[25] (...تتمة الهامش من صفحة السابقة)
بر سر آنم كه گر ز دست برآيد *** دست بكارى زنم كه غصّه سر آيد
منظر دل نيست جاى صحبت اضداد *** ديو چو بيرون رود فرشته درآيد
صحبت حكّام، ظلمتِ شبِ يلداست *** نور ز خورشيد خواه بو كه برآيد
بر در ارباب بى مروّت دنيا *** چند نشينى كه خواجه كى بدر آيد
ترك گدائى مكن كه گنج بيابي *** از نظر رهروى كه بر گذر آيد
صالح و طالح متاع خويش نمودند *** تا كه قبول افتد و چه در نظر آيد
بلبل عاشق تو عمر خواه كه آخر *** باغ شود سبز و سرخ گل به برآيد ***
غفلت حافظ درين سراچه عجب نيست *** هر كه به ميخانه رفت بى خبر آيد
يقول: «إنّي عازم على بذل كلّ ما في وسعى لأضع حدّاً للأحزان.
بيت القلب ليس مكاناً لاجتماع الغرباء و الأضداد، فإذا طردتَ الشيطان من قلبك (و هو رمز الأوهام الساذجة و الشهوات الباطلة) فستدخل ملائكة السكون و الخير إليه لتنيرهُ بنور الحقّ.
إن صحبة حكّام الجور هي بحلكة ليلة يلدا (و هي أوّل و أطول ليلة من ليالي الشتاء) و برودتها، فالتمس شمس الحقيقة حتى تشرق هذه الشمس على كلّ العالم.
إلى متى تظلّ مُلازماً عتبة باب بيت اللئام، في حين أنّك تهجر بيت الله و هو القادر على أن يُحسِن إليك و يَمُنّ عليك.
لا تنسَ التوجّه إلى أصحاب الضمائر الحيّة، عسى أن تحظى بكنز السعادة بمعونة أحد العرفاء.
الصالح و الطالح كلاهما يقدمان على البارئ عزّ و جلّ بما عندهما من عمل و سنرى لأي منهما يمنح الله تعالى رضاه و يشمله برعايته.
اطلب العمر من بلبلك العاشق فسيخضرّ البستان آخر الأمر و يورق الزهر الأحمر.
لا عجب من غفلة حافظ من عاقبة الأمر في هذه الدنيا، فكلّ من يدخل خمّارتها (الدنيا) و يشربُ من خمر الهوى و الشهوة سيسكرُ لا محالة و يغفل».
*** جاء في التعليقة: (خلوت دل نيست) بدلًا من (صحبت اغيار).
*** البيتان التاليان المعروفان هما في نهاية الغزليّة:
بگذرد اين روزگار تلختر از زهر *** بار دگر روزگار چون شكر آيد
صبر و ظفر هر دو دوستان قديمند *** بر اثر صبر نوبت ظفر آيد
يقول: «سينقضي هذا الدهر الأمرُّ من السمّ (القاتل)، و سيعود ثانية الزمن (الحلو) كالسكّر.
إن الصبر و الظفر صديقان قديمان، إذ أن الظفر دوماً يعقب الصبر».
لكن لا يوجد هذان البيتان في النسخ القديمة.(التعليقة)
[26] «شرح الإشارات» للخواجة نصير الدين الطوسيّ، الطبعة الحجريّة، لسبع صفحات بقين منه، و عبارة «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» هي من حديث نبويّ يستشهد به العرفاء في كتبهم، منهم عزيز الدين النسفيّ في كتاب «الإنسان الكامل» ص 214.
[27] ورد في كتاب «نفائس الفنون في عرائس العيون» ج 2، ص 28، طبعة الإسلاميّة، ذِكْر هذه القصّة بالشكل التالي:
«و علامه أخرى من علامات المحبّة هي الحذر من أن يكون الابن أحد الموانع التي تقف في طريق الوصول؛ حيث ذكروا: أن إبراهيم أدهم رحمه الله عقد مع رفيقه، و هو في الطريق لأداء فريضة الحجّ، اتّفاق موافقة و مصاحبة، تعهّد فيها الجانبان عدم ستر المنكر عند ما يصدر من أحدهما. فلمّا وصلا إلى مكّة، شاهدا إحدى العمارات المزيّنة و قد جلس فيها فتى و سيم. فتطلع إبراهيم إليه، و كرّر النظر. فآخذه رفيقه على هذا العمل. فاغرورقت عينا إبراهيم بالدموع و قال: ذاك ولدي فارقتُهُ و هو صغير، فالآن لمّا رأيتُهُ عرفتُهُ. فقال رفيقه: اخبِرهُ عنك؟!
فأجاب إبراهيم: لا! فإنّ ذلك شيء تركناهُ للّه فلا نَعودُ فيه! و أنشد هذين البيتين:
هجرتُ الخلقَ طُرّاً في هواكا *** و أيتَمتُ العيالَ لكي أراكا
و لو قَطّعتَ إرباً ثُمّ إرباً *** لما حنّ الفؤادُ إلى سواكا
[28] «الكشكول» ج 5، ص 496، العمود الأيمن، الطبعة الحجريّة؛ و كذا في «طرائق الحقائق»، ج 2، ص 119، الطبعة الحروفيّة، نقلًا عن الشيخ البهائيّ.
[29] «مفاتيح الجنان» ص 439، الطبعة الإسلاميّة، 1379 هـ؛ و هي جزء من جملة زيارة سيّد الشهداء عليه السلام التي تُقرأ في الأوقات الستّة: في أيّام و ليالي الأوّل من رجب، و النصف من رجب و النصف من شعبان (حسب ما روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في كتب الشيخ المفيد و السيّد ابن طاووس و الشهيد).
[30] يقول: «أزفت السماء عن حمل الأمانة، فجاءت القرعة باسمي أنا المجنون».
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
