x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في المحتوى

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

تأملات قرآنية

مصطلحات قرآنية

هل تعلم

علوم القرآن

أسباب النزول

التفسير والمفسرون

التفسير

مفهوم التفسير

التفسير الموضوعي

التفسير الترتيبي

التأويل

مناهج التفسير

منهج تفسير القرآن بالقرآن

منهج التفسير الفقهي

منهج التفسير الأثري أو الروائي

منهج التفسير الإجتهادي

منهج التفسير الأدبي

منهج التفسير اللغوي

منهج التفسير العرفاني

منهج التفسير بالرأي

منهج التفسير العلمي

مواضيع عامة في المناهج

التفاسير وتراجم مفسريها

التفاسير

تراجم المفسرين

القراء والقراءات

القرآء

رأي المفسرين في القراءات

تحليل النص القرآني

أحكام التلاوة

تاريخ القرآن

جمع وتدوين القرآن

التحريف ونفيه عن القرآن

نزول القرآن

أخبار القرآن الكريم في المدينة

أخبار القرآن الكريم في مكة

الناسخ والمنسوخ

المحكم والمتشابه

المكي والمدني

الأمثال في القرآن

فضائل السور

مواضيع عامة في علوم القرآن

القصة القرآنية

البلاغة القرآنية

رسم وحركات القرآن

القسم في القرآن

اشباه ونظائر

آداب قراءة القرآن

الإعجاز القرآني

الوحي القرآني

الصرفة وموضوعاتها

الإعجاز الغيبي

الإعجاز العلمي والطبيعي

الإعجاز البلاغي والبياني

الإعجاز العددي

مواضيع إعجازية عامة

قصص قرآنية

قصص الأنبياء

قصة النبي ابراهيم وقومه

قصة النبي إدريس وقومه

قصة النبي اسماعيل

قصة النبي ذو الكفل

قصة النبي لوط وقومه

قصة النبي موسى وهارون وقومهم

قصة النبي ثمود وقومه

قصة النبي داوود وقومه

قصة النبي زكريا وابنه يحيى

قصة النبي شعيب وقومه

قصة النبي سليمان وقومه

قصة النبي صالح وقومه

قصة النبي نوح وقومه

قصة النبي هود وقومه

قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف

قصة النبي يونس وقومه

قصة النبي إلياس واليسع

قصة ذي القرنين وقصص أخرى

قصة نبي الله آدم

قصة نبي الله عيسى وقومه

قصة النبي أيوب وقومه

سيرة النبي والائمة

سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام

سيرة الامام علي ـ عليه السلام

سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله

مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة

حضارات

مقالات عامة من التاريخ الإسلامي

العصر الجاهلي قبل الإسلام

اليهود

مواضيع عامة في القصص القرآنية

العقائد في القرآن

أصول

التوحيد

النبوة

العدل

الامامة

المعاد

سؤال وجواب

شبهات وردود

فرق واديان ومذاهب

الشفاعة والتوسل

مقالات عقائدية عامة

قضايا أخلاقية في القرآن الكريم

قضايا إجتماعية في القرآن الكريم

مقالات قرآنية

التفسير الجامع

حرف الألف

سورة آل عمران

سورة الأنعام

سورة الأعراف

سورة الأنفال

سورة إبراهيم

سورة الإسراء

سورة الأنبياء

سورة الأحزاب

سورة الأحقاف

سورة الإنسان

سورة الانفطار

سورة الإنشقاق

سورة الأعلى

سورة الإخلاص

حرف الباء

سورة البقرة

سورة البروج

سورة البلد

سورة البينة

حرف التاء

سورة التوبة

سورة التغابن

سورة التحريم

سورة التكوير

سورة التين

سورة التكاثر

حرف الجيم

سورة الجاثية

سورة الجمعة

سورة الجن

حرف الحاء

سورة الحجر

سورة الحج

سورة الحديد

سورة الحشر

سورة الحاقة

الحجرات

حرف الدال

سورة الدخان

حرف الذال

سورة الذاريات

حرف الراء

سورة الرعد

سورة الروم

سورة الرحمن

حرف الزاي

سورة الزمر

سورة الزخرف

سورة الزلزلة

حرف السين

سورة السجدة

سورة سبأ

حرف الشين

سورة الشعراء

سورة الشورى

سورة الشمس

سورة الشرح

حرف الصاد

سورة الصافات

سورة ص

سورة الصف

حرف الضاد

سورة الضحى

حرف الطاء

سورة طه

سورة الطور

سورة الطلاق

سورة الطارق

حرف العين

سورة العنكبوت

سورة عبس

سورة العلق

سورة العاديات

سورة العصر

حرف الغين

سورة غافر

سورة الغاشية

حرف الفاء

سورة الفاتحة

سورة الفرقان

سورة فاطر

سورة فصلت

سورة الفتح

سورة الفجر

سورة الفيل

سورة الفلق

حرف القاف

سورة القصص

سورة ق

سورة القمر

سورة القلم

سورة القيامة

سورة القدر

سورة القارعة

سورة قريش

حرف الكاف

سورة الكهف

سورة الكوثر

سورة الكافرون

حرف اللام

سورة لقمان

سورة الليل

حرف الميم

سورة المائدة

سورة مريم

سورة المؤمنين

سورة محمد

سورة المجادلة

سورة الممتحنة

سورة المنافقين

سورة المُلك

سورة المعارج

سورة المزمل

سورة المدثر

سورة المرسلات

سورة المطففين

سورة الماعون

سورة المسد

حرف النون

سورة النساء

سورة النحل

سورة النور

سورة النمل

سورة النجم

سورة نوح

سورة النبأ

سورة النازعات

سورة النصر

سورة الناس

حرف الهاء

سورة هود

سورة الهمزة

حرف الواو

سورة الواقعة

حرف الياء

سورة يونس

سورة يوسف

سورة يس

آيات الأحكام

العبادات

المعاملات

قصة موسى (عليه السلام) في جميع مراحله.

المؤلف:  الدكتور محمود البستاني

المصدر:  قصص القران الكريم دلاليا وجماليا

الجزء والصفحة:  ج2، ص 10- 37.

13-12-2020

4328

 

 

لقد بدأت القصةُ على النحو الآتي :

{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى}

{إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا }

{لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى }

بعد هذه البداية القصصية واصل النص حديثه عن موسى (عليه السلام) وفق تسلسل زمني هو : تكليمُ موسى (عليه السلام) ، وإصدار الأمر إليه بالذهاب إلى فرعون .

إلى هنا فإن القصة تأخذ تسلسلها الزمني . . .

لكن النص يقطع سلسلة الأحداث ، ويرتد بنا إلى أحداث ما قبل البحث عن النار ، إلى الأحداث الاُولى من حياة موسى (عليه السلام) أحداث إلقائه في التابوت مع إشارة عابرة إلى نجاته من اليم ، وقتله للنفس ، ولبثه في مدين .

ثم يعود النص من جديد إلى النقطة التي قطعها ويواصلُ سرد الأحداث المتصلة بموسى (عليه السلام) وعلاقته بفرعون .

إن هذا التقطيع لأجزاء القصة ، وكسر وحدتها الزمنية من خلال الاسترجاع والاستباق ينطوي على أسرار فنية يتعين الوقوف عندها ، لملاحظة الصلة بين أهداف القصة وطرائق صياغتها .

* * *

لقد بدأت القصةُ من حيث خُتمت حياة عادية لموسى (عليه السلام) حياة يحياها سائرُ البشر دون أن يُوشحها حادث خطير له تميزه العبادي .

وبالرغم من أن طفولة موسى (عليه السلام) قد اقترنت مع واقعة التابوت الذي سنتعرض لتفصيلاتها بعد قليل . . . بالرغم من هذه الواقعة التي يُوشحها المعجز ، وبعض الحوادث أو المواقف المرتبطه بعصاه وسواها إلا أن حياة موسى (عليه السلام) مضت في حركتها العادية لحين انتهائها بواقعة البحث عن النار . وهي الواقعةُ التي بدأت القصةُ بها .

وتتمثل بساطةُ أو عاديةُ هذه الواقعة التي خُتمت بها حياةُ موسى (عليه السلام) في اصطحابه إمرأته ـ بعد أن غادر مَدْيَن ـ حيث جاءها الطلق ، وحيث احتاج إلى النار للتدفئة أو للاستدلال بها على الطريق ، بعد أن كانت الرحلة في ليل مظلم أضل موسى (عليه السلام)فيها الطريق .

هذه الواقعة المتسمة بما هو عادي ومألوف من حياة البشر ، قد خُتمت بها حياةُ موسى (عليه السلام) في شطرها الأول ، لكنما قد بُدئ بها في القصة ، لتكون فصلاً بين حياة عادية وحياة خطيرة تنتظر موسى (عليه السلام) ، ألا وهي : حياة النهوض بمهمة لرسالة .

وفعلاً ما أن بدأ النص بسرد واقعة البحث عن النار ، حتى وصلها بحادثة التكليم : تكليم السماء لموسى :

﴿فَلَما أَتاها ]أي : النار التي يبحث عنها[ نُودِي : يا مُوسىَ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ. . .﴾

إذن خُتمت حياه عادية ، وبدأت حياة خطيرة من خلال حادثة البحث عن النار .

هذه الخاتمةُ خاتمةُ حياة عادية وهذه البدايةُ بدايةُ حياة خطيرة ينبغي أن نضعها في الاعتبار ونحن نتناول نصاً فنياً يتحدث بلُغة القصة عن شخصية موسى (عليه السلام) ، حيث تجيء صياغة هذه الخاتمة وهذه البداية من الحياة ، بداية قصصية لها دلالتها الفنية في السرد القصصي .

هذه البداية القصصيةُ إذن لها مغزاها الفني مادامت تُحسسُنا بأنـنا حيال عهد جديد له خطورته التي ما بعدها من خطورة ، ألا وهي : الاضطلاع برسالة السماء .

إنها حين تبدأ بما هو خاتمة لحياة عادية ، إنما تُلفت أنظارنا إلى ما هو إعلان لحياة غير عادية .

ومما لا شك فيه ، أن حادثة النهوض بالرسالة كان من الممكن أن تجيء هي البداية القصصية مادامت تشكل أهم حادث في رحلة الكائن الآدمي . إلا أن سبقها بحادثة البحث عن النار أكسب القصة بُعداً فنياً له خطورته ، حيث افصحت هذه البدايةُ عن انتهاء المرحلة العادية من حياة موسى ، وحيث أفصحت ـ وهذا بُعد فني آخر ـ عن أن معطيات السماء التي لا حدود لها قد استثمرت نشاطا عادياً ـ من حيث مستواه العبادي ـ لتهيئ للشخصية نشاطا غير اعتيادي مادامت الشخصيةُ المذكورة قد التزمت بمبادئ السماء في سلوكها المألوف ، ومنه : العنايةُ بكائن آخر من خلال البحث عن النار لأهله .

لقد بدأت قصة موسى (عليه السلام) بواقعة البحث عن النار ، حيث أوضحنا أهمية مثل هذه البداية القصصية التي تمثل خاتمة لحياة عادية ، وبداية لحياة جديدة أوكلتها السماء إلى موسى (عليه السلام)ليضطلع بمهمة الرسالة .

وها هي الحياة الجديدة ترسمها القصةُ لنا على النحو الآتي :

{فلما أتاها ]أي : النار[ نُودي : يا مُوسى}

{إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المُقدس طُوى}

{وأنا اخترتُك فاستمع لما يُوحى﴾

{إنني أنا اللهُ لا إله إلا أنا فاعبُدني وأقم الصلاة لذكري}

{إن الساعة آتية أكادُ أُخفيها لتُجزى كُل نفس بما تسعى}

{فلا يصُدنك عنها من لا يُؤمنُ بها واتبع هواهُ فتردى}

لقد ذهب موسى باحثا عن النار بُغية الدفء لأهله ، وبغية الاهتداء بها عندما ضل طريقة .

ولم يدُر بخلده أن هذه الرحلة نحو الدفء والاضاءة ستفاجئُه بحدث خطير كل الخطورة ، حيث تعوضه عن الدفء والاضاءة الفرديتين بدفء وإضاءة اجتماعيتين يضطلع من خلالهما بأكبر مهمة خلافية على الأرض ، في حينه قد اختارتها السماء لصفوة من البشر ، هم : الأنبياء والرسل .

هذه المهمة العبادية قد أوكلتها السماءُ لموسى على نحو له خطورته الكبيرة أيضا من حيث طريقة الإيكال ، فيما تحدثت السماء مباشرة مع موسى وكلمته تكليما دون واسطة .

وتقول النصوص المفسرة : إن النداء قد سُمع من الشجرة التي كان قد توجه نحوها عبر بحثه عن النار ، وإن النار كانت تتوقد أعلى الشجرة ، فيما يُسمعُ أيضا تسبيحُ الملائكة ، وفيما يُرى نور عظيم . . . وتُضيف بعض النصوص المفسرة ، إلى أن الخُضرة لم تكن لتطفئ النار ، ولا النار لتطفئ الخضرة . . . حيث تساهم مثلُ هذه البيئة المعجزة في ترسيخ اليقين لدى موسى بحقيقة الموقف المفاجئ .

هذه البيئةُ الإعجازيةُ : النورُ ، الخُضرةُ ، تسبيحُ الملائكة ، . . . إلى آخره ، قد أردفها النص ببيئة معجزة نسجتها السماء من ممتلكات موسى نفسه . . . من أشيائه التي يصحبُها ، بل من الأشياء التي لم يتوقع أن تكون بصُحبته . . . من الأشياء التي لم يتوقع أنها كانت من ممتلكاته . . .

إنها : العصا ، واليد . . .

ولكن أية عصا ؟ وأية يد ؟

لنقرأ النص القصصي :

{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}

{قال : هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}

{ وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي}

{ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}

{قال : أَلْقِهَا يَا مُوسَى}

{ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}

{قال : خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}

{ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى}

إن النور ، والخضرة ، وتسبيح الملائكة ، والعصا . . . وقد انقلبت حية تسعى . . .

ثم اليد وقد أضاءت مثل الشمس أو القمر أو أشد إضاءة . . . مُضافا إلى نداء السماء ذاتها وما يحف به من رهبة وجلال . . . كل ذلك يُشكل بيئة قصصية مشحونة بعناصر الجمال المُدهش ، والمُثير ، والمُعجز . . . فيما يتحسسها المُتلقي بوضوح ، حيث تُشيع فيه أحاسيس الجمال والفن . . . في ذات الآن الذي تُشيع فيه مشاعرُ الجلال والرهبة . . . وفي ذات الآن الذي ترفده بأفكار وقيم ومعان عن الحياة ووظيفتها العبادية ، ودعم السماء لأوليائها . . . إلى آخره .

إن هذه البيئة القصصية تزداد نصوعا في أذهاننا حينما تمدنا التفاسيرُ المأثورةُ بمزيد من التفاصيل عنها ، حيث اختزلها النص وترك للمُتلقي بأن يمارس عملية الكشف بنفسه ، ليُثري بذلك عُنصر الإمتاع الفني لديه .

إن عنصر الإمتاع الفني نتحسسه بوضوح في تفصيلات البيئة القصصية المذكورة بأكملها . . .

فالعصا مثلا تقول القصةُ عنها : إنها كانت مُتوكئاً يعتمد عليه موسى في مشيه .

كما كانت وسيلة يخبط بها ورق الشجر لترعاه غنمُهُ . فضلا عن إنها كانت وسيلة يعتمد عليها في حاجات اُخرى .

ولقد أبهم النص القصصي من جانب تفصيلات هذه الرحلة التي يقوم بها موسى . . . كما أبهم أهدافها مُكتفيا من ذلك بالإشارة إلى أنه مُسافر فحسب . ثم أبرز من بيئة السفر بعض عناصرها ، ومنها : العصا .

وحتى العصا أبرز بعضا من وظائفها . . . وأبهم البعض الآخر ، حيث أبرز مهمتها في التوكؤ عليها مشيا ، وفي الخبط بها ورق الشجر لترعاه الغنم . . . ثم أبهم النص وظائف العصا الاُخرى ، ولمها في فقرة مُركزة هي : ﴿مآربُ اُخرى﴾ يحققها موسى من هذه العصا .

وهكذا سائر مفردات البيئة الاُخرى التي أبرز النص القصصي بعض تفصيلاتها من جانب وحذف البعض منها من جانب آخر ، ثم أبهم البعض منها من جانب ثالث .

ومما لا شك فيه أن لكل إبهام أو اختزال أو حذف من هذه العناصر سببا فنيا يستهدفه النص القصصي ، يستطيع المتلقي بأدنى تأمل أن يستكشف ذلك إذا توفرت لديه ذائقة فنية في حقل الأدب القصصي أو مطلق الأعمال الأدبية التي تتطلب توفر مثل هذه الذائقة الفنية ، حتى يتحسس المتلقي خطورة هذه الأعمال ، وما تستبطنه من أهداف فكرية يتضخم تأثيرها ـ دون أدنى شك ـ من خلال لُغة الفن .

قلنا : إن النص القصصي قد أبرز من بيئة القصة عنصر العصا . وأبرز بعضا من وظائفها متمثلة في التوكؤ عليها ، وفي خبط ورق الشجر بها لترعاه غنمُه . ثم أبهم وظائفها الاُخرى مكتفيا من ذلك ، بقوله ـ على لسان موسى (عليه السلام) ـ :

{ولي فيها مآربُ اُخرى}

ويحسن بنا الآن أن نتعرف على هذا العنصر البيئي وما يواكبه من الأسرار الفنية وراء عمليات الاختزال والإبهام والتفصيل للعصا .

* * *

إن أول تفصيل ذكرته القصةُ عن العصا ، هو أنها كانت وسيلة يعتمد عليها في رحلته المجهولة . ولقد أبهم النص أهداف هذه الرحلة التي قام بها موسى (عليه السلام) .

وبين من خلال البداية القصصية التي تحدثنا عنها سابقا ، أن النص كان في صدد التمهيد لإبراز قضية النهوض برسالة السماء ، وليس في صدد الحديث عن حياة موسى السابقة ، إلا بما له صلة بأفكار القصة لاحقا .

ومن هنا ينتفي المُسوغ للحديث عن الرحلة من حيث بداياتها ، حيث ينحصر المسوغ في تحديد بعض معطياتها التي تحدثنا عنها متمثلة في البحث عن النار بغية التدفئة لزوجته التي داهمها الطلق ، وبغية الإفادة منها في تحديد معالم الطريق .

وحيث قد انتفى المسوغُ لذكر الرحلة التي قام بها موسى إلا في نطاقها المحدد المذكور . . . حينئذ ينتفي المسوغ لتفصيلاتها وتبقى الحاجةُ من ثم إلى رموز فنية تتحدث عن وجود رحلة فحسب ، وليس عن تفصيلات لهذه الرحلة .

من هنا جاءت العصا لتُشير من خلال رموزها الفنية إلى مستويات هذه الرحلة ، حيث نستكشف فنيا أن هذه الرحلة طويلة المدى ، بدليل أن موسى (عليه السلام) يحتاج من خلالها إلى عصا يتوكأ عليها في مشيه لمسافة طويلة ، وإلا لانتفت الحاجةُ إليها في المسافات القصيرة عادة .

ومما يدعم ذلك أيضا ، هو أن الوظيفة الثانية للعصا تكشف عن طول الرحلة واستمراريتها . فالوظيفة الثانيةُ للعصا تتمثل في أنها قد استخدمت للهش بها على الغنم : يخبط بها ورق الشجر لترعاه الغنم .

وهذا يعني أن موسى (عليه السلام) قد صحب الغنم .

واصطحاب الغنم لا يتحقق إلا في رحلة طويلة ذات استمرار .

مضافا إلى ذلك فإن الوظيفة الثالثة التي أبهمها النص ، تكشف بدورها عن طول الرحلة واستمراريتها .

فقد قال النص ـ على لسان موسى ـ عن الوظيفة الثالثة للعصا :

{ولي فيها مآربُ اُخرى}

فلقد أبهم النص هذه المآرب الاُخرى للعصا ، لكن التفسير المأثور أوضح جانبا من هذه الحاجات ، حيث نقل لنا أن موسى كان يحمل عليها زاده .

وواضح أيضا أن حمل الزاد لا يتحقق إلا لمُسافر . وأشارت التفاسير إلى بعض الظواهر الإعجازية التي رافقت العصا حتى قبل هبوط الرسالة على موسى ، حيث ذكرت أن موسى كان يضرب بها الأرض فيخرج منها ما يأكله ، ويركزها فيخرج منها ما يشربه .

وأضافت النصوصُ المفسرةُ إلى ذلك ، إلى أ نه كان يحارب بها السباع ، ويستضيء بها في الليل ، ويحني بها رؤوس الشجر ، بل وكانت تحدثه وتؤنسه في الدرب .

كل هذه الوظائف للعصا تنم عن أن الرحلة كانت استمرارية تمتد في الليالي والأيام .

* * *

البُعد الآخر لهذه الرحلة ـ فيما نستكشفها من الرموز الفنية للعصا ـ هو أن الرحلة كانت في الصحارى والغابات الصحراوية ، حيث أن مطاردة السباع ، ورعي الأغنام ، وتفجير العيون ، واستخراج الأكل ، لا يتم عادة إلا في الصحارى وغاباتها .

* * *

مما يمكن أن نستخلصه فنيا ـ من العصا ووظائفها وطبيعة شكلها وما واكب ذلك ـ من خلال النصوص المفسرة ، أن العصا من حيث أصلها هي من آس الجنة ، أخرجها آدم (عليه السلام) وتوارثها الأنبياء إلى أن بلغت شُعيبا (عليه السلام) فدفعها إلى موسى .

ومن حيث شكلها تقول النصوص المفسرة : إن طولها كان عشرة أذرع .

وأيا كان الأمر ، فإن العصا بكل رموزها الفنية تمثل من حيث المصدر والوظيفة شريحة من عنصر البيئة الجمالية التي رسمتها القصة .

وقد واكب ذلك ، أن رسم العصا قد اقترن بنمطين من الرسم ، أحدهما : رسمها بملمح مألوف من حيث كونها مجرد عصا يتوكأ عليها ، ويُهش بها على الغنم ، ويحارب بها السباع . . . إلى آخره .

والآخر : رسمُها بملمح مُعجز ، من حيث أصلها : آس الجنة ، ومن حيث مصدرها : توارثها الأنبياء ، ومن حيث وظيفتها : تفجير المياه ، واستنبات الأكل ، وإحناء رؤوس الشجر .

بيد أن هذا الملمح المعجز لم يرسمه النص ، بل تكفلت النصوص المفسرة بتوضيحه .

وهذا على العكس من الملمح المعجز الذي سيواكب رسالة موسى ، حيث يترافق رسم المعجز مع رسم الرسالة .

لقد كانت العصا عصا موسى (عليه السلام) ـ فيما لحظنا ـ ذات وظائف متنوعة ، بعضها

يتصف بما هو مألوف وعادي ، وبعضها يتصف بما هو مُدهش ومعجز .

فالتوكؤ عليها ، والهش بها على الغنم ، ومطاردة السباع بها . . . إلى آخره ، تمثل ما هو مألوف وعادي .

أما تفجير المياه بها ، واستخراج الأكل وإحناء الشجر ، . . . إلى آخره ، فتمثل ما هو مُدهش ومعجز .

بيد أن ما هو مدهش ومعجز من العصا ، إنما يأخذ فاعليته الأشد دهشة واعجازا مع زمان الرسالة بدء من لحظات التكليم تكليم السماء لموسى ، مرورا بقضية موسى مع السحرة ، وانتهاء بالأزمنة اللاحقة لنبوة موسى(عليه السلام) .

ويعنينا الآن من ذلك ، أن نتحدث عن فاعلية العصا في لحظات التكليم ، وهي تمثل المرحلة الثانية من الفعاليات .

يقول النص القصصي ـ بعد أن سألت السماءُ موسى عما في يمينه ، وبعد أن أجابها بأنها عصاه التي يتوكأ عليها ، ويهش بها على الغنم ، وأن له فيها مآرب اُخرى ـ يقول النص بعد ذلك مطالبا موسى بأن يُلقيها في تلك اللحظات لحظات التكليم :

{قال : ألقها يا مُوسى}

{فألقاها فإذا هي حية تسعى}

وطبيعيا فإن ما هو مدهش ومعجز حقا يأخذ فاعليته الشديدة عندما يُفاجأُ موسى بما لم يدُر في حسبانه ، وهو انقلاب العصا إلى حية تسعى . حيث أن عنصر المفاجأة يسهم في تصعيد الدهشة والانبهار . أما إذا ألفت الشخصيةُ ملاحظة المعجز ، فحينئذ يضمر حجم الاستجابة لديها ، وتعوض عنصر التخوف أوالدهشة المقرونة بالتوجس بعنصر آخر ، هو الدهشة المقرونة بما هو عميق ومتغلغل من إيمان الشخصية بقدرات السماء التي لا حدود لتصورها .

من هنا لم يتكرر عنصر التوجس والتخوف لدى موسى ، عندما انقلبت عصاه إلى حية تسعى ، بل تلقف ما صنعه السحرة . . . لم يتكرر لديه هذا التوجس والتخوف بسبب من اُلفته للظاهرة المعجزة وتغلغُل إيمانه بقدرات السماء ، حيث يتحقق ذلك من خلال التأمل المستأني ، وليس من خلال المفاجأة التي تتطلب بعض الوقت ، لحين تحقق فاعليتها .

وهذا ما لحظناه فعلا في طبيعة استجابة موسى عندما فوجئ بانقلاب العصا حية تسعى .

فالنصوص المفسرة تقص لنا بأن موسى (عليه السلام) قد حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون ، ويمر بالصخرة مثل الخلفة - أي الحامل ـ من الإبل فيلقمها ، وتطعن أنيابه في أصل الشجرة فتجتثها ، وعيناه تتوقدان نارا .

وحيال مثل هذا المرأى المفاجئ ، نجد موسى وقد ولى مدبرا ولم يُعقب ، لكنه بعد لحظات عندما ضمر عنصر المفاجأةُ وسمح الوقتُ له باستعادة توازنه الداخلي . . . عندها تذكر أنـه حيال السماء التي لا حدود لقدراتها العظيمة . . .

وعندها ذكر الله فوقف استحياء منه .

ومع ذلك فإن الخوف الشديد لا يزال يلازمه من المرأى المدهش المُعجز . . .

فالسماء ـ وهي تحيط بكل شيء علما ـ قدرت مبلغ الاستجابة الخائفة لدى موسى ، فشجعته ـ تبعا لذلك ـ مطالبة إياه بعدم الخوف ، مُطمئنة إياه بأن السماء ستعيد الحية إلى حالتها الاُولى : العصا .

{قال : خُذها ولا تخف سنُعيدُها سيرتها الأُولى}

وتقول النصوص المفسرة : إن موسى (عليه السلام) كانت عليه مدرعة من صوف قد خلها بخلال . فلما أمره سبحانه بأخذها ، أدلى طرف المدرعة على يده . فقال : ما لك يا موسى ؟ أرأيت لو أذن الله بما تحاذر ، أكانت المدرعة تغني عنك شيئا ؟

وعندها أقر موسى بضعفه .

ثم كشف عن يده ووضعها في فم الثعبان ، فإذا هي في ذات الموضع الذي كان يتوكأ ـ من خلاله ـ على عصاه .

إن هذا النمط من الاستجابة يكشف لنا عن طبيعة الخوف الإنساني بعامة ، وإلى أ نه استجابة طبيعية جدا .

بيد أن السماء أرجعت كل شيء إلى مكانه عندما أفهمت موسى (عليه السلام) أنها مالكة لناصية الاُمور كلها ، وإلى أنها لو لم تتدخل في الأمر لما كانت المدرعةُ تغني عن موسى أي شيء .

* * *

وبعامة ، ستأخذ العصا بعد هذه الواقعة مرحلة جديدة من الفعالية ، حيث يطالب النص القصصي مُوسى بأن يذهب إلى فرعون ويحتج عليه بأدلة عقلية وتجريبية ، ومنها تجربة العصا ذاتها ، فضلا عن تجربة اليد البيضاء .

وكما نعرف جميعا فإن العصا لعبت دورا كبيرا في الانقلاب الفكري لدى السحرة أنفسهم وهم طرف المخاصمة في هذا الموقف ، حيث اُلقي السحرةُ ساجدين .

من هنا نفهم القيمة الفنية لرسم ظاهرة العصا التي امتدت بوظائفها منذ الوهلة التي تسلمها موسى من شعيب ، وحتى اللحظة التي أحدثت الانقلاب الفكري العظيم لدى السحرة . . . ممتدة بوظائفها إلى أزمنة لاحقة من حياة موسى .

* * *

وإذ ننتقلُ من رسم البيئة في قصة موسى (عليه السلام) إلى رسم الموقف فيها ، نجد أن القصة في فصلها الأول الذي مُهد له بقضية البحث عن النار ، واستهله بقضية التكليم . . . هذا الفصل قد استهله بموقف هو : اصطفاء موسى للنهوض بالرسالة .

ويلاحظ أن الدلالة العبادية في هذا الموقف قد صاحبها التشددُ على إبراز معاني القداسة والصفاء والطهر والتوجه النقي نحو السماء .

فأول ما طالب النص به ، هو خلع النعل ، ومن ثم الإشارة إلى قداسة الوادي الذي يضم موسى (عليه السلام) .

{فاخلع نعليك إنك بالواد المُقدس طُوى}

ثُم تلا ذلك المُطالبة بالعبادة وممارسة الصلاة ، من خلال التشدد على أحد مستوياتها المتمثلة في إقامتها أي وقت تذكرها فيه .

ثم تبع ذلك الإشارة إلى موعد الساعة وإخفاء الموعد عن الآخرين ، وكونها موعدا لثواب الأعمال وعقابها .

وحين نتابع هذا الموقف نجد أن جواب موسى للسماء ، قد صاحبته أيضا أمثلةُ تلك الدلالات العبادية ، فموسى (عليه السلام) عندما طلب من السماء أن تعينه في النهوض

بالرسالة ، علل هذا الطلب بقوله :

{كي نُسبحك كثيرا ونذكُرك كثيرا}

فالتسبيح والذكر يشكلان دلالات عبادية توازن المطالبة بذكر الله من خلال الصلاة وسواها من الممارسات التي تحمل دلالة الطهر والقداسة والتوجه نحو السماء .

ونتابع هذا الفصل القصصي ، فنجد أن الموقف فيه قد تضمن طلب الدعم من السماء للنهوض بالرسالة ، ليس من خلال نتائجها العبادية فحسب ، بل من خلال وسائلها التي تتطلبها طبيعةُ الموقف السياسي الذي يواجه به طاغية العصر ، فرعون .

{قال : رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري}

{واحلُل عُقدة من لساني يفقهُوا قولي}

{واجعل لي وزيرا من أهلي هارُون أخي}

{اشدُد به أزري وأشركهُ في أمري}

إن هذا الحوار حوار موسى مع السماء يتضمن جملة من مُلابسات الموقف ، بما يتطلبه من إعداد نفسي ومادي لمواجهة العدو، مسبوقا بالدعم أساسا .

فقد طلب موسى أولا ، أن تمنحه السماء قدرة الصبر على الشدائد وتيسير المُهمة :

{اشرح لي صدري ويسر لي أمري}

تلا ذلك طلبُه من السماء أن تزيح عنه عُقدة اللسان ، مادام الموقف يتطلب مهارة كلامية ، بُغية إيصال الحقائق إلى العدوبوجهها الأكمل :

{واحلُل عُقدة من لساني يفقهُوا قولي}

تلا ذلك طلبُه من السماء ، أن ترسل معه أخاه هارون ، ليُساعده في تحقيق المُهمة .

أكثر من ذلك طلب موسى من السماء ، أن تجعل من هارون ليس مجرد وزير يستعين به في تحمل المسؤولية ، بل طلب من السماء أن تُحمل هارون مسؤولية النبوة ذاتها . لأن تحميله مسؤولية النبوة يجعله أشد حرصا على تحقيق المُهمة الخلافية :

{أشركهُ في أمري}

وإزاء هذا الطلب حققت السماء لموسى اُمنيته ، قائلة له :

{قد أُوتيت سُؤلك يا مُوسى}

ولسوف نرى أن تحقيق الطلب لموسى يرتبط ليس بما يتطلبه الموقف من الإعداد النفسي والمادي فحسب ، بل بمواقف سابقة ولاحقة تُلقي بعض الإنارة على هذا الجانب .

أما المواقف اللاحقة ، فستتمخض عن طبيعة التعامل الذي سيواجه هارون عندما يخلفه موسى على القوم عشية ذهابه إلى الميقات على النحو الذي سنفصله .

وأما المواقف السابقة ، فتتصل بطبيعة العقدة اللسانية لدى موسى ، حيث يرتبط طلب إزالة هذه العقدة بتعامل فرعون مع موسى في طفولته .

فالنصوص المفسرة تروي لنا : إن فرعون عندما أوتي موسى إليه ـ بعد حادثة إلقائه في اليم ـ أراد قتله عندما عبث موسى بلحية فرعون ، وعندها تدخلت آسية بنت مزاحم في الأمر موضحة لزوجها فرعون أن صنيع موسى بفرعون إنما هو ناجم من كونه طفلا غير مميز .

ولكي تثبت آسية هذه الحقيقة لفرعون ، أتت إليه بجمرة ودرة ، فهم موسى بتناول الدرة لولا أن تدخل جبرئيل فصرف يده نحو الجمرة ، فتناولها ووضعها في فمه فاحترق لسانه وتسبب ذلك في تشكل العقدة لديه .

والمهم أن هذه الواقعة الطفولية قد شكلت جانبا من العطاءات التي ستذكر السماء موسى بها ـ في سلسلة العطاءات التي تسردها هذه القصة وسواها ـ فيما أنقذت موسى من القتل ، بعد أن أنقذته من الغرق في اليم غداة القي في التابوت .

وخارجا عن هذا الموقف ، فإن طلب إزاحة العقدة اللسانية يظل مرتبطا بمواجهة فرعون الذي كان وراء تسبيب العقدة المذكورة . حتى كأن النص القصصي ـ من الواجهة الفنية ـ ينقلنا إلى إجراء موازنة :

بين الذهاب إلى فرعون ، وقد كبر موسى ، واضطلع بأكبر مهمة .

وبين التخلص من فرعون وهو طفل .

حيث تطل النتيجة نصرا على فرعون في الطفولة وفي الكبر ، فضلا عن أن إزالة العقدة اللسانية سيقترن بظاهرة كان فرعون نفسه قد أحدثها ، وهو أمر يتطلب إزاحة تلك العقدة مادامت المواجهة الجديدة مع فرعون نفسه ، حتى كأن النص القصصي ينقلنا من جديد إلى إجراء مقارنة بين مواجهة لفرعون وقد أصبح موسى فصيح اللسان ، وبين تذكر لحادثة كان فرعون وراء إزالة الفصاحة عنه .

ومثل هذه الموازنة لها أهميتها الفنية في حقل البناء القصصي ، كما هو واضح .

لقد بدأت قصة موسى بواقعة البحث عن النار ، حيث تمثل هذه الواقعة آخر مرحلة من حياته الاولى : حياة ما قبل النبوة .

وفي حينه أوضحنا السبب الفني وراء هذه البداية ، وقلنا : إن القصة حينما تبدأ من مرحلة زمنية معينة دون أن تأخذ تسلسلها الموضوعي في الزمان ، فلأن سياق الأفكار التي يستهدفها النص القرآني هوالذي يفرض تقطيع الزمان واختيار المرحلة الملائمة .

والآن نجد أن النص القصصي يرتد بنا إلى الوراء بعد أن بدأ بالقصة من حادثة البحث عن النار ، وبعد أن تابعها بمراحل الزمان الموضوعي حيث سرد لنا بعد حادثة البحث عن النار ، سرد حادثة التكليم في الواد المقدس على النحو الذي فصلنا الحديث عنه .

ولقد لحظنا أن قضية التكليم قد وقف بها النص عند ظاهرة العصا واليد ، ومطالبة موسى بالذهاب إلى فرعون ، وجواب موسى بطلب إلى السماء بأن تزيح عقدة لسانه ، وبأن ترسل معه أخاه هارون ، ثم إجابة السماء لطلبه .

هنا قطع النص سلسلة الأحداث ، فبدلا من أن يسرد لنا ذهاب موسى وهارون إلى فرعون ، . . . بدلا من ذلك . . . عاد بنا إلى الأيام الاولى من حياة موسى ، . . .

عاد بنا إلى طفولة موسى ، فشبابه ، فمكوثه في مدين ، فمجيئه إلى الواد المقدس .

أي عاد بنا النص إلى نفس النقطة التي بدأت القصة بها ، بحيث وصل بين مراحل حياته الاولى التي بدأت بحادثة إلقائه في اليم ، وختمت بحادثة بحثه عن النار .

ثم واصل بعد ذلك تكملة ما قطعه من السرد المتصل بقضية ذهاب موسى إلى فرعون .

إن هذا البناء القصصي الذي يقوم على تقطيع الزمن وفق مراحله النفسية وليس وفق تسلسلة الموضوعي ، ينبغي ألا نمر عليه عابرا ، بل يتعين الوقوف عنده والنظر مليا إلى أسراره الفنية .

ينبغي أن نفهم السبب الفني الكامن وراء مثل هذا التقطيع للزمان ، والعود إلى وصل أجزائه بعضها بالآخر . فقد كان من الممكن مثلا ـ كما سنرى في قصة لاحقة ـ أن تبدأ القصة بحياة موسى وفق مراحلها المتسلسلة ، كأن تبدأ بحادثة إلقائه في التابوت ، ثم رجوعه إلى امه ، ثم قتله للنفس ، ثم مكوثه في أهل مدين ، ثم بحثه عن النار . . . وبهذه ، تنتهي سلسلة حياته الاولى .

وكان من الممكن أيضا أن يواصل النص سرد حياته الجديدة ، بأن يبدأ من حادثة التكليم ، ثم ذهاب موسى إلى فرعون . . . إلى آخره .

أقول : كان من الممكن أن يسرد النص هذه القصة وفق مراحلها المتسلسلة التي ذكرناها ، حيث سيتم مثل هذا السرد في قصة لاحقه . لكننا نتساءل من جديد عن السر الفني الكامن وراء قطع سلسلة الزمن ، بحيث يبدأ النص بحادثة البحث عن النار ويصلها بحادثة التكليم والمطالبة بالذهاب إلى فرعون . ثم يقطع السرد عند هذه النقطة ويعود إلى المراحل الاولى من حياة موسى ـ بعد أن كان قد بدأها باخريات حياته الاولى ـ ثم يعود من جديد إلى متابعة ما قطعه من السرد المتصل بالذهاب إلى فرعون ؟

إن جانبا من الأسرار الفنية وراء هذا التقطيع للزمن ، ووصله من جديد ، قد أوضحناه عند حديثنا عن واقعة البحث عن النار ، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه .

هنا ، عندما يقطع النص سلسلة الأحداث ويرتد بنا إلى المراحل الاولى من حياة موسى ، . . . يمكننا أن نستخلص الدلالة الفنية وراء ذلك ، متمثلة في جملة ما تتمثل به أن قطع سلسلة الحدث جاء عند المرحلة التي طلب بها موسى (عليه السلام) من السماء أن تعينه على النهوض بالمهمة التي أوكلتها السماء إليه ، حيث أجابته السماء إلى طلبه ، قائلة له :

{قد أوتيت سؤلك يا موسى}

ولقد ربطنا في حينه بين عقدة اللسان لدى موسى ، وصلة ذلك بحياته الاولى ، وتدخل السماء لإنقاذه من فرعون وهو طفل غير مميز .

هنا يستثمر النص هذا التذكر لعقدة اللسان ، عبر تحقق العطاء الفعلي الذي اغدقته السماء على موسى ، حيث حققت طلبه بإرسال هارون ، وإزالة العقدة اللسانية ، رابطة بين هذا العطاء الفعلي الذي يداعي إلى الذهن ذكريات العطاءات السابقة ، حيث استدعاه ـ في جملة ما استدعاه ـ تذكر العقدة اللسانية وصلتها بإمكان القتل لولم تتدخل السماء فتصرف يد موسى عن الدرة .

إن استثمار هذا التداعي الذهني ، إنما يتم من خلال العطاء الفعلي الذي اغدقته السماء على موسى ، متمثلا في إجابتها لطلبه بإرسال هارون ، وإزالة العقدة اللسانية لديه ، وهو أمر ـ كما قلنا ـ يداعي الذهن إلى العطاء السابق المرتبط بالإنقاذ من القتل وهو طفل غير مميز .

ومن هنا يستثمر النص هذا العطاء المرتبط بحادثة الطفولة ، . . . يستثمره بتذكير عطاءات مماثلة تمت منذ عهد الطفولة أيضا ، حتى امتدت إلى مراحل الشباب ، . . . وحتى امتدت إلى المرحلة الجديدة : مرحلة النبوة .

والآن ، كيف تم السرد القصصي لهذا التذكير بعطاءات السماء من خلال المرحلة السابقة على النبوة ؟

لقد بدأ العود إلى المرحلة الاولى من حياة موسى ـ في هذه القصة ـ على النحو الآتي :

{ولقد مننا عليك مرة أخرى}

{إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى}

{أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم}

{فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له}

{وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني}

{إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله}

{فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن}

{وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا}

{فـلبثت ســنيـن فـي أهـل مـدين}

{ثـم جئت على قدر يا موسـى}

وواضح أن النص حينما عاد بنا إلى الحياة الاولى لموسى ، ربطها بعد ذلك مباشرة بالنقطة التي قطع سلسلة السرد من خلالها ، حيث عاد من جديد إلى حادثة التكليم الذي تمثلها الفقرة الأخيرة :

{ثم جئت على قدر يا موسى}

ونحن بعد أن أوضحنا السر الفني وراء تقطيع الحدث ووصله على النحوالمذكور ، يجدر بنا أن نقف عند هذه المرحلة وملاحظة تفصيلات الحدث فيها .

* * *

لقد سرد لنا النص المرحلة المبكرة من حياة موسى بنحو من التفصيل ، ثم سرد مراحله الراشدة عابرا ، وفصلها في قصة لاحقة نقف عندها إن شاء الله .

وتتمثل هذه المرحلة المبكرة في التذكير بعطاء السماء ، وتدخلها لإنقاذ موسى منذ اللحظة التي ولد فيها .

ومن البين أن التذكير بأول لحظات الحياة ينطوي على أهمية فنية بالغة المدى إذا أخذنا بنظر الاعتبار ـ ما سبق أن ذكرناه ـ من أن النص إنما ارتد بالحدث إلى الزمن السابق ، فلأنه في صدد التذكير بنعم السماء على موسى . والتذكير بهذه النعم منذ لحظات الولادة يعني تحسيس الشخصية بضخامة العطاء ، واستمراريته ، وعدم انقطاعه منذ اللحظة التي يدب فيها على الأرض .

والمهم أن هذا العطاء الذي استهل مع ولادة موسى يتمثل في عملية الإنقاذ من القتل . فالنصوص المفسرة تذكر لنا أن فرعون طاغية عصره ، كان قد قرر قتل بني إسرائيل وهم أطفال . ثم قرر أن يكون ذلك في سنة ، ورفع القتل في سنة .

فولد موسى في السنة التي يقتل فيها الأطفال ، فانقذته السماء من عملية القتل من خلال الإيحاء إلى امه ـ يقظة أو حلما ـ بأن تصنع تابوتا وتضع فيه موسى وتلقيه في نهر النيل ، حيث يقتاده الموج في نهاية المطاف إلى الساحل . وفعلا هيأت الام هذا التابوت ، وجعلت فيه قطنا ، ووضعت وليدها فيه ، وقذفته في النيل .

وتقول النصوص المفسرة : إن التابوت قد اتجه إلى فرع يتصل ببستان عائد إلى فرعون . وكان فرعون وقتئذ جالسا هناك مع امرأته آسية بنت مزاحم . فلمح التابوت ، وأمر بإخراجه . وما أن فتح التابوت حتى شاهد طفلا من أحسن الناس وجها ، فأحبه فرعون وأمر باحضار النساء اللواتي كن حول داره لكي يرضعنه ، بيد أن موسى ، الطفل الذي كان يبكي بحثا عن اللبن ، قد امتنع عن تناول اللبن من أية واحدة منهن .

وكانت اخت موسى واقفة هناك ، حيث أمرتها امها في اللحظة التي القي فيها موسى في النيل أن تتبعه وتراقب التابوت . ونتيجة لمتابعتها المذكورة استقر بها المطاف عند دار فرعون .

وعندما امتنع الطفل عن تناول اللبن ، قالت اخته حينئذ :

{هل أدلكم على من يكفله}

فوافقوا على ذلك وجيء بامه فعلا ، فتناول اللبن . . .

وبهذا اللقاء تم عودة الطفل إلى الام :

{فرجعناك إلى أمك : كي تقر عينها ولا تحزن}

* * *

وهكذا يسرد لنا النص تفصيلات هذه الواقعة مذكرا موسى بعطاء السماء عليه وعلى امه ، إذ أنقذته من القتل وأقرت عيون والدته به .

بعد هذا التذكير يتابع النص تذكير موسى بعطاءات اخرى ، ومنها : إنقاذه من تبعات القتل الذي تم على يديه ، حيث قتل أحد الأقباط ، فأنجاه الله من إلقاء القبض عليه حتى استقر به المطاف في مدين .

ويختم النص هذا التذكير بالنعم . . . يختمه بوصل شرائح القصة بعضها بالآخر ، حيث تجري السماء حوارا مع موسى على هذا النحو :

{ثم جئت على قدر يا موسى}

وواضح أن النص بهذا الحوار قد اتجه إلى النقطة التي قطع فيها سلسلة الحدث ، ونعني به حادثة التكليم . فقد قطع النص كما لحظنا سابقا سلسلة الحدث المتصل بالتكليم والمطالبة بالذهاب إلى فرعون . . . قطعها بتذكير موسى بنعم السماء عليه .

وارتد بذلك إلى مراحل حياته التي أنتهت إلى حادثة التكليم .

وها هو النص من جديد يعود إلى حيث قطع سلسلة الحدث ، ليتابع السرد وفق تسلسله الزمني الذي يبدأ بمطالبة موسى بالذهاب إلى فرعون ، حيث نواجه تفصيلات جديدة في هذا الموقف .

لحظنا كيف أن قصة موسى (عليه السلام) بدأت من وسط الأحداث ، ثم ارتدت إلى البداية ، ثم اتصلت من جديد بوسط الأحداث ، حيث تجسدت في مطالبة موسى بالذهاب إلى فرعون .

ولحظنا أيضا أن موسى (عليه السلام) طلب من السماء أن تعينه على ذلك من خلال إزالة العقدة من لسانه ، ومؤازرة أخيه هارون ، حيث أجابته السماء إلى طلبه .

هنا يواصل النص القصصي مطالبة السماء من جديد بالذهاب إلى فرعون .

وموسى بدوره يطلب من السماء من جديد ، أن تعينه على ذلك مبديا تخوفه من فرعون وبطشه .

ثم تجيبه السماء من جديد راسمة له طريقة التعامل مع فرعون ، مؤكدة له أنها في عون موسى وأخيه في مهمتهما العبادية .

ولنقرأ نصوص هذا الموقف :

{اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري}

{اذهبا إلى فرعون إنه طغى}

{فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}

{قالا : ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى}

{قال : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى}

{فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل}

{ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك}

{والسلام على من اتبع الهدى}

ويلاحظ في هذا الموقف أن موسى (عليه السلام) لا يزال مبديا تخوفه من طاغية عصره فرعون بالرغم من أن السماء أجابته إلى طلبه الأول ، حينما توجه إلى السماء بإزالة العقدة من لسانه ، بإرسال أخيه هارون لمؤازرته .

ومن قبل كان قد تخوف من مرأى الثعبان أيضا .

وها هو للمرة الثالثة يبدي تخوفه من فرعون بالرغم من أن السماء تطالبه بألا يني في مهمته .

ولكن مثل هذا التخوف يبدو وكأنه دافع غريزي ـ كما سبقت الإشارة ـ مادام الأمر متصلا ببداية الاضطلاع بالمسؤولية ، وبخاصة أن النص القصصي نفسه قد أضفى على الموقف ما يحسس الشخصية بمناخ الخوف ، من نحو تكراره بأن فرعون قد طغى مثلا .

بل إن إشارة النص إلى مخاطبة فرعون باللغة اللينة يحسس موسى بأنه حيال مهمة محفوفة بالأخطار ، حيث سيواجه طاغية من الصعب أن يخضع لليونة القول .

وفعلا فإن الأحداث اللاحقة ستكشف عن أن فرعون لن يتبع الهدى الذي رسم له . وبأنه سوف يطغى أشد فأشد . . .

على أية حال ، يظل عنصر التخوف في هذا الموقف ، هو سمة ملحوظة يرسمها النص في القصة .

يبدأ الفصل الجديد من قصة موسى بمواجهة فرعون على النحو الآتي ، حيث يحذف النص واقعة الذهاب إلى فرعون . كما يحذف طريقة المواجهة التي بدأها موسى مع فرعون . بل نجده يسرد لنا جواب فرعون :

{قال فمن ربكما يا موسى}

{قال : ربنا الذي اعطى كل شيء خلقه ، ثم هدى}

{قال : فما بال القرون الأولى ؟}

{قال : علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى}

إن النص القصصي بحذفه طريقة المواجهة ، إنما يحقق نمطا من الاقتصاد في السرد تفرضه طبيعة المواجهة التي تتطلب إعادة لما سبق أن أوضحه الحوار بين السماء وموسى ، فيما طالبت السماء موسى أن يتعامل مع فرعون بلغة لينة وأن يطالبه ببني إسرائيل .

هذه المطالبة لم يعدها النص القصصي تحقيقا للاقتصاد في السرد أولا ، ولأن المواجهة اللينة لا تخضع لطريقة خاصة ، بل تخضع لطبيعة الموقف وما يفرضه من لغة تتناسب مع تركيبة الشخص ، وهو أمر مادام لم يتحدد في صيغة خاصة ، فحينئذ يجيء حذفه ضرورة فنية كما هو بين .

المهم أن النص بدأ برسم جواب فرعون ، ثم استمرار الحوار بين طرفي المواجهة التي تلخصت في التعريف بمبدع الكون ، وتقديره للظواهر ، ومجازاته للسلوك .

وقد قطع النص الحوار بين موسى وفرعون ، . . . وأتم التعريف بمبدع الكون

وعطاءاته على هذا النحو:

{الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا}

{وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى}

{كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى}

{منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى}

ثم ختم النص هذا الفصل القصصي بالتعقيب الآتي ، ملخصا نتيجة الحوار بينه وبين موسى وهارون:

{ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى}

وبهذا التعقيب يحقق النص مهمة فنية مزدوجة:

إحداها: تحديد موقف فرعون من الأدلة الفكرية التي قدمها موسى في حواره مع فرعون .

والاخرى: التنبؤ بالموقف ذاته في مجالات لاحقة .

حيث سيكذب فرعون وسيأبى ويمارس العناد رفض الحقائق التي واجهها .

والمهم أن التنبؤ بموقف فرعون لاحقا ، إنما سيتحقق من خلال أدلة عملية يقدمها موسى بعد أن قدم أدلته الفكرية في هذا الصدد ، وحيث يجيء الدليل العملي من نقطة التحرش التي بدأها فرعون نفسه ، فيما اتهم موسى بأنه ساحر ، وحينما تحداه بأنه سيجيئه بسحر مثله .

لقد مهد النص القصصي للأحداث اللاحقة من خلال التعقيب القائل عن فرعون:

{ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى}

وها هو النص يقدم نموذجا للتكذيب ، متمثلا في حادثة السحرة التي منحها النص شيئا من التفصيل ، بدأها أولا بتحدي فرعون لموسى:

{قال أ جئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله}

ومع هذا التحدي تبدأ القصة بتقديم تفصيلات جديدة عن البيئة التي ستتحرك من خلالها حادثة السحرة .

فلقد طالب فرعون أولا بأن يتم موعد بين الطرفين لا يتخلف عنه أحد ، وأن يكون المكان مستوي المسافة على الطرفين . قال فرعون مخاطبا موسى:

{فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى}

وأجابه موسى (عليه السلام) إلى طلبه واقترح أن يتم ذلك في يوم قد اعتاد الناس أن يحتفلوا به وتزين أسواقهم فيه ، كما اقترح أن تكون ساعة الاستعراض عند الضحى . قال موسى مجيبا فرعون:

{موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى}

ومن الواضح أن كلا من موسى وفرعون ، قد حرص على تحديد الزمان والمكان اللذين يتم التحدي فيهما . إلا أن الفارق بين فرعون وموسى ، أن فرعون كان التوجس والحذر والقلق خلف اقتراحه ، حيث يريد أن يتم الأمر لصالحه بأي ثمن كان . حتى أنه وضع احتمال الخسارة في حسبانه .

كل ذلك يمكننا أن نستخلصه من خلال نمط الاقتراح الذي قدمه .

فقد طالب بضرب موعد بينهما ، مجرد موعد ، دون أن يحدد اليوم أو الساعة ، بل طالب بأن يكون المكان مستويا على الفريقين فحسب .

وهذا الاقتراح الثاني ، يكشف لنا عن مبلغ القلق والحذر اللذين يسيطران على نفسية فرعون . فمطالبته باستواء المكان يعني أ نه يتوجس خيفة من فشل جماعته الذين أعدهم لهذه المهمة ، وانتصار موسى .

وهذا على العكس تماما من موسى .

فموسى حدد الزمان على نحو مضاد تماما للإبهام الذي تعمده فرعون .

فقد طالب موسى بأن يتم الموعد في يوم لا يكاد يبقى فيه أحد في بيته ، بل يخرج الناس كلهم إلى الشوارع والأسواق .

ومن هذا الاقتراح نستكشف مدى اليقين والاطمئنان بنتائج المبارزة لدى موسى . على الضد تماما من مدى القلق والشك لدى فرعون .

أكثر من ذلك ، فإن موسى طالب بأن تكون ساعة البدء بالاستعراض عند الضحى ، وهي ساعة لا يكاد يتخلف عن الحضور فيها أي أحد قد اعتاد مثلا ألا يخرج مبكرا .

وهذا يعني أن موسى كان على مزيد من اليقين والاطمئنان بنتائج المعركة .

إذن ينبغي من خلال هذه المقارنة بين شخصيتي موسى وفرعون ، أن نستكشف الفارق بين شخصية قلقة ، خائفة ، مشككة بقدراتها وإمكاناتها ، وبين شخصية مطمئنة ، موقنة بإمكاناتها التي تستمدها من اليقين بالسماء .

وهذا كله من حيث البعد الفكري للموقف ، وأما من حيث البعد الفني فإن القصة بهذا الرسم للموقف إنما ترسم التنبؤ بالنتائج التي سيسفر الموقف عنها ، أي أنها من الناحية الفنية ستهيئ لأذهاننا حسابا خاصا للموقف ، ألا وهو أن النصر سيكون حليف موسى ، مادام نمط اقتراحه يفصح عن قوة اليقين والاطمئنان والثقة لديه .

وفعلا عندما نتابع حادثة السحرة ، نجد أن النصر كان حليف موسى . وأن الهزيمة كانت لدى فرعون بنحو يتوافق ومدى حجم الشك والخوف لديه .

أكثر من ذلك سيواجهنا النص بمفاجآت لم تدر في حسبان المتلقي .

ونقصد بذلك انقلاب السحرة أنفسهم ، حيث أن القوى التي كان يعتمدها فرعون في صراعه مع موسى (عليه السلام) لم تخسر المعركة فحسب ، بل انقلبت على فرعون نفسه ، وهو أمر أشد إيلاما للذات من الهزيمة التي مني بها فرعون .

وهنا ينبغي ألا تفوتنا الإشارة إلى ظاهرة الخوف لدى موسى نفسه .

ففي حادثة السحرة عندما القيت عصي القوم وحبالهم خيل إلى موسى أنها ثعابين تسعى .

{فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى}

{فأوجس في نفسه خيفة موسى}

{قلنا: لا تخف إنك أنت الأعلى . . .}

والفارق بين خوف موسى (عليه السلام) وخوف فرعون ، إن فرعون لم يؤمن بقضيته أساسا . على العكس من موسى فيما كان الخوف من وراء إيمانه بقضيته .

وهذا الفارق الكبير بينهما يفسر لنا خوف موسى من تأثير فرعون على الجمهور وحذره من عدم تحقيق الرسالة التي نهض بها .

بيد أن السماء وهي تجسد الدعم الحي للمؤمنين بها أزاحت عنصر الخوف من موسى وشجعته على المضي في مهمته ، حيث كانت النتيجة فعلا لصالحه على الضد تماما من فرعون ، حيث كانت الهزيمة وانقلاب السحرة عليه أمرا يستدر الرثاء والاشفاق .

 

 

 

 

 

 شعار المرجع الالكتروني للمعلوماتية




البريد الألكتروني :
info@almerja.com
الدعم الفني :
9647733339172+