تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
قصص إبراهيم ولوط (عليهما السلام)
المؤلف: الدكتور محمود البستاني .
المصدر: قصص القرآن الكريم دلالياً وجمالياً
الجزء والصفحة: ج1 ، ص 245 - 266 .
30-11-2020
15933
مما يلفت النظر حقا أن نجد في النصوص القرآنية الكريمة عبر أكثر من سورة أن كلا من إبراهيم ولوط (عليهما السلام) يجسدان بطلين لقصة واحدة أو لقصتين لا تنفصل إحداهما عن الاخرى ، أو لبطلين كأنهما متلازمان يستدعي أحدهما الحديث عن الآخر . . .
طبيعيا أن كلا منهما يستقل عن الآخر في قصص اخرى ، فإبراهيم يتكرر بطلا لقصص متنوعة لاحظنا بعضها في قصته مع الطيور الأربعة ، ومع نمرود ، وقصص ترتبط ببناء الكعبة ، و . . . وقصص سنلاحظها في سور لاحقة مثل قصته المعروفة التي انتهت إلى أن تتحول النار عليه بردا وسلاما . . . إلى آخره .
وأما لوط فإنـه يرد في سلسلة القصص المتنوعة التي تعرض لمصائر الامم الممزقة البائدة ، مثل مجتمع نوح ، وهود ، وصالح وشعيب . . . إلى آخره ، حيث تتكرر هذه القصص أو الحكايات في سور متنوعة بعضها يتسع حجم القصص فيها والآخر يضؤل إلى درجة الحكاية ، ولكنها جميعا ترد في سلسلة متعاقبة من القصص أو الحكايات .
والمهم الآن هو ، أن نتناول قصص لوط وإبراهيم في سياقهما المشترك الذي أشرنا إليه ، حيث يتلخص السياق المشترك بينهما في سور مثل سورة هود ، الحجر ، الذاريات . . . إلى آخره . وحيث يمكن تلخيص ذلك في أن الملائكة ذات يوم تفد على إبراهيم (عليه السلام) وهو منكر لهم ، ليبشروه وامرأته وهما كبيران بمولود ، ثم يعرفهم ويخبرونه بأنـهم ذاهبون إلى مجتمع لوط لإنزال العذاب عليهم وإبادتهم بما في ذلك امرأة لوط ، عدا أهل بيته وذريته ، وفعلا يتجهون إلى لوط (عليه السلام) وهو منكر لهم أيضا ويعرفونه أنفسهم بعد أن يتشبث مجتمعه المنحرف بهؤلاء الملائكة الذين ارسلوا بهيئة متنكرة في هياكل بشرية مرد ، ويبادون في نهاية المطاف . . .
إذن قصتا إبراهيم ولوط تردان غير منفصلة إحداهما عن الاخرى ، بحيث يستدعي أحدهما الآخر بالنحو الذي ألمحنا سريعا إليه . والسؤال الملح جدا هو :
ما هي الأسرار الكامنة وراء هذا الاتحاد بين القصتين أو البطلين ، مع أن أحدهما يرتبط بـ بشارة والآخر ضد ذلك هو العذاب أو الميلاد والموت ، ميلاد الفرد وموت المجتمع ، ميلاد اسحاق ومن ورائه يعقوب ، وموت امة بأكملها وهو مجتمع لوط .
ترى ما هي الأسرار الكامنة وراء هاتين المهمتين للملائكة : الولادة والإبادة؟ ونحن نطرح هذا السؤال الملح نظرا لمواجهتنا عنصرا قصصيا ينطوي بطبيعته السردية على ما هو مثير ومدهش وحافل بعناصر المماطلة والتشويق والمفاجئات . . . إلى آخره ، مما يطبع العنصر القصصي في القرآن الكريم وسواه واختلافه عن العناصر غير القصصية مما تنتمي إلى الأشكال التعبيرية الاخرى .
المهم من جديد نتساءل : ما هو السر الكامن وراء الاتحاد بين قصتين أو بطلين يداعي أحدهما الآخر مع ملاحظة أنـهما لا يشتركان البتة في الموقف والحدث والبيئة ؟
إنـه من المتعذر بأن نفسر هذا الجانب تفسيرا تاما أو صائبا بقدر ما نخضع ذلك ما وسعنا إلى الاحتمال الفني فحسب ، أي أن التذوق القصصي الصرف ، وهو أمر يكشف بطبيعة الحال عن الإمتاع الذي تتميز القصة القرآنية به ، ولا نعلم فيما إذا كان المتلقون ـ قراء القصة القرآنية المذكورة ـ سوف يحرصون بأجمعهم على معرفة سبب تواشج هاتين القصتين أيضا ؟
إذن لنتحدث عن الاحتمال الفني للظاهرة المذكورة . . . ولعل الملحظ الأول لهاتين القصتين هو : القرابة التي تطبع البطلين المذكورين ، حيث تذكر النصوص المفسرة بأن لوطا (عليه السلام) هو ابن اخت إبراهيم (عليه السلام) وهو أمر قد نجد له مماثلا في بعض القصص ، ومنها ما لاحظناه مثلا في قصص مريم (عليها السلام) وما سبقها من أبطال ينتمون إلى الابوة والبنوة مريم وعيسى (عليهما السلام) ، زكريا ويحيى (عليهما السلام) ، وأيضا ما نلحظه في قصص لاحقة تتصل بسليمان وداود (عليهما السلام) مثلا . . . وهكذا . لكن الملاحظ فيها جميعا هو ليس البعد القرابي ـ النسبي فحسب ، بل الاشتراك في السمات والأحداث والمواقف والبيئات ، حتى أننا لنجد من السمات المشتركة ما يتجاوز العشرة منها ، بينما لا نجد في قصتي إبراهيم ولوط (عليهما السلام) من المشتركات عدا القرابة المشار إليها ، بل نجد عكس ذلك ، أي التضاد أو التباين . . . إلى آخره .
المهم ، أن أحد الاحتمالات الفنية للقصتين المتقدمتين هو : عنصر القرابة .
وأما ثانيا ، أي الملحظ الآخر الذي قد يقف وراء الاتحاد المذكور بين القصتين وبطلهما ، هو : معاصرة إبراهيم ولوط ، حيث أن وجودهما حيين يمارسان مهمتهما العبادية في الحياة مسوغ آخر بدوره ، ولكنه مسوغ يرتبط بأهم علاقة تنتظمها .
وهي ثالثا : أن لوطا (عليه السلام) هو أول من آمن بإبراهيم (عليه السلام) ، فصلة لوط بإبراهيم من حيث كونه يرتبط موقفيا بإبراهيم له أهميته الكبيرة من حيث وثاقة العلاقة بين البطلين .
رابعا : يمكن الذهاب إلى أنـهما يتماثلان في قلة أتباعهما المؤمنين ، حيث أن إبراهيم كان وحده امة ومبلغا ، ولوطا بدوره كان وحده وبعض ذويه قد سلموا من الاستئصال .
خامسا : تماثلهما في المهاجرة حيث أن إبراهيم ولوطا قد هاجرا من مكانهما إلى آخر بحسب ما صرح القرآن الكريم به عبر قوله تعالى :
﴿ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين﴾
سادسا : مجيء الملائكة لإبراهيم متنكرين ، وكذلك إلى لوط .
سابعا : مجيئهم المصحوب بمهمة خاصة لكل منهما ، حيث تتسم المهمة بحدث إعجازي الإنجاب في مرحلة الكبر والجزاء الاجتماعي المتمثل في جعل الأرض سافلها عاليها وطمس الأعين . . . إلى آخره .
ثامنا : أن نفس مناقشة إبراهيم (عليه السلام) للملائكة في إخبارهم إياه بمهمتهم لإبادة مجتمع لوط يكشف عن الاهتمام الذي يوليه إبراهيم ـ وهو الخال للوط ـ حيث يعنيه أمر لوط لا لأنـه ابن اخته وإلا فإن إبراهيم تخلى عن عمه آزر عقائديا ، بل لأنه المشارك له في الإيمان برسالة السماء .
إذن هذه الأسباب وسواها لعلها تفسر لنا جانبا من الأسرار الكامنة وراء اتحاد البطلين وقصتهما ، وإن كنا حتى هذه اللحظة نتطلع إلى معرفة السبب الأشد وثاقة بالموضوع دون أن نصل إليه . . .
على أية حال ، لندع هذا الجانب ونتحدث عن البناء الفني والفكري للقصة أو القصتين المتداخلتين . . . ونكتفي من ذلك بالقصة الواردة في سورة «هود» دون سواها تبعا لما سلكناه من منحى دراسي يأخذ تسلسل السور بنظر الاعتبار ، إلا في حالات خاصة نجد فيها أن تناول هذه القصة أو تلك يحمل مسوغات فنية دون سواها . . .
والمهم أن نشير إلى جملة نقاط في هذه الحقل ، منها أن ثمة تفصيلات نجدها في قصة إبراهيم ولوط في سورة «هود» تختلف عن التفصيلات التي نجدها في سور اخرى ، فقد تعرض القصة هناك ما لم تعرضه في سورة اخرى ، وقد تعرض هناك في السور الاخرى ما لا نجده في السورة التي نحن بصددها .
ولكن في الحالات جميعا يظل الحديث عن البناء الفني والفكري هو المستهدف في الدراسة . كما ينبغي لفت النظر إلى نقطة اخرى لها اهميتها ، وهي أن قصص إبراهيم ولوط لا تتحد في عرض المواقف أو الأحداث جميعا ، بل نجد اختلافا ملحوظا في ذلك ، فمثلا نجد في سورة «هود» أن القصة تبدأ بهذا النحو :
﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى﴾
أي بشارتهم بالمولود ، بعد ذلك تقول القصة :
﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾
حيث يستكشف القارئ بأن الملائكة بشرت إبراهيم (عليه السلام) أولا بولادة إسحاق ، ثم جادل الملائكة في قوم لوط ، ولكن القصة ذاتها تقول :
﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ﴾
﴿وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾
﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ . . .﴾
فهنا يجد قارئ القصة بأن الملائكة الذين جاؤوا متنكرين بزي البشر ، حيث قدم لهم إبراهيم عجلا سمينا ولكنهم لم يأكلوا منه ، وحينئذ خاف منهم ، ولكنهم طمأنوه قائلين :
﴿لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾
وهذا يعني أنهم أخبروه أولا بمهمتهم حيال مجتمع لوط ، ثم بشروه بالمولود .
إذن في القصة ذاتها ما يوحي بأن البشرى بالمولود هي المتقدمة موقفا ، ثم الإخبار بقضية لوط ومجتمعه ، وأيضا العكس هو الموحى أيضا ، أي الإخبار بلوط ومجتمعه أولا ، ثم ببشارة الولد . . .
والأمر نفسه نجده في سورة «الذاريات» حيث قالت القصة :
﴿قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾
حيث أنها صريحة في أن البشرى سابقة على التلويح بالعقاب ، ولعل القصة الواردة في سورة «الحجر» أشد وضوحا حينما قالوا :
﴿لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ . . . قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾
﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . . .﴾
حيث نستخلص من هذه القصة وسابقتها أن البشرى بالوليد جاءت أولا ، ثم الإرسال إلى قوم لوط . . . من هنا نتساءل : لماذا ـ إذن ـ نجد في القصة الواردة في سورة «هود» أن العرض القصصي يوحي وكأن الملائكة تحدثت أولا عن مجتمع لوط ، ثم البشرى بالوليد؟ والأشد إثارة هنا ، هو أن بعض النصوص المفسرة ذهبت إلى أن امرأة إبراهيم حينما ضحكت إنما كان ذلك ليس بسبب بشارتها بالوليد ، بل كان ضحكها تعجبا من غفلة قوم لوط ، أو لامتناعهم عن الأكل ، أو لأنها فهمت أن لوطا سيكون بمنجى من العذاب . . . إلى آخره ، إلا أننا لا نميل إلى هذه التفسيرات لجملة أسباب ، منها : أن الضحك لا يتسق مع الإخبار بالعذاب المستأصل ، بل يتسق مع البشارة بمولود لا يخطر ببال المرأة العجوز ، هذا بالإضافة إلى أن نصوصا تفسيرية عن أهل البيت (عليهم السلام) تعبر بوضوح من أن الضحك كان بسبب البشارة وليس التعجب من غفلة قوم لوط ، والأمر هو تقديم وتأخير ، لعلنا نستطيع أن نبين أسرار ذلك عندما نتناول البناء الفني للقصة .
إنـه من الممكن للقارئ ألا يقيم وزنا لما نهتم به من معرفة سبب الضحك أو معرفة أن البشرى كانت بالمولود أولا أو بإبادة مجتمع منحرف ، ولكننا نهتم بذلك لأن النص القرآني الكريم لا يقدم موقفا أو واقعة تخلو من هدف إلا ويحملنا على معرفة السر الكامن وراء ذلك ، نظرا لأن الإحاطة بالنكات المتنوعة والعميقة لها إسهامها في إثراء المعرفة العبادية بعامة .
على أية حال نتحدث عن البناء الفني والفكري للقصة ، لنستخلص في الآن ذاته ما تتضمنه من القيم الفكرية المستهدفة .
إن أول حدث أو موقف يواجهه قارئ القصة هو :
﴿جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ﴾
القارئ يعرف سلفا أن الرسل هم الملائكة لأن النبي يتعامل مع قنوات الغيب ، . . . بيد أن إبراهيم لا علم له بذلك ، بدليل أ نه بعد أن سلموا عليه وسلم عليهم (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) لذلك لو كان يعلم أ نهم رسل الله تعالى لما قدم لهم الطعام لأن الملائكة لا تجربة لهم في الطعام . . . القصة بطبيعة الحال لا تنقل لنا هذا الكلام ، بل تدعنا ـ نحن قراء القصة ـ نساهم في تفسير مواقفها وأحداثها ، . . . لكن الأهم من ذلك جميعا هو العرض المضبب الذي نواجهه من بداية القصة . . . أليس من حق القارئ أن يتساءل : لماذا جاءت الرسل إلى إبراهيم ؟ هذا أولا .
ثانيا ما هي البشرى التي ذكرتها الحكاية ، هل هي مرتبطة بشخصه أم بمجتمعه ؟ مع ملاحظة أن البشرى قد يبلغ مداها الآلاف من الحوادث أو المواقف .
في غمرة هذه الضبابية التي تلفعت القصة بها نواجه ضبابية أشد حينما يقدم إبراهيم الطعام لهم . . . فإذا كانوا ملائكة فما معنى تقديم الطعام إليهم ؟ وإن كانوا بشرا وهو ما يلتئم مع ظاهرة الطعام ، فلماذا سماهم النص القصصي رسل الله ؟
صحيح أن الرسل هم بشر ، ولكن هل نتعقل إمكانية أن يبعث الله تعالى مجموعة من الأنبياء ينزلون ضيوفا على إبراهيم ؟ طبيعيا أن يستكشف القارئ بوضوح أن الرسل هم ضيوف ـ كما قلنا ـ بمكان . . .
ولكن المفاجأة القصصية تزيد القارئ ضبابية حينما يصدم بعملية ، هي عدم أكلهم للطعام . هذه الصدمة أو المفاجأة المضببة تزيد الموقف ضبابية حيث يختلط على القارئ ويلتبس عليه ويحيا في غابات مكثفة من التيه متسائلا : إنهم إذن بشر لا ملائكة ، بدليل أنـه(عليه السلام) قدم لهم طعاما ، ولكن لماذا لم يتناولوه مع أنـهم جاؤوا ببشارة لصاحب المنزل ؟ القارئ إذن لا يهتدي إلى شيء ، وهنا تجيء المماطلة والتشويق والمفاجأة تتراكم لتفصح أو لتكشف لنا ما غطى افق قراءتنا عن ضباب ، ولكنه نسبي لا كلي حيث أن الضبابية لا تزال تضرب بأجنحتها على الافق . . .
وأول تجلية لضبابية الموقف هي : أن إبراهيم (عليه السلام) كشف للقارئ بأنـه ليس على إحاطة البتة بهؤلاء الضيوف ، لذلك نكرهم وتوجس خيفة منهم عندما وجد أن أيديهم لا تصل إلى طعامه :
﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾
إذن ماذا يستخلص قارئ القصة هنا ؟ وما هي المفاجأة ؟ يستخلص بأن ضيوفا نزلوا عنده بدليل تقديمه الطعام ،و الضيوف كما قلنا بشر في تصوره للدليل ذاته . . .
ولكن أما من حق إبراهيم (عليه السلام) أن يسيطر عليه الخوف حينما يفاجأ بأن البشر أو الضيوف لا يأكلون الطعام ، مع أن الأعراف الاجتماعية تقضي بضرورة تناول الطعام بنفس الضرورة التي تحكم على صاحب الدار بتقديم الطعام إليهم .
والواقع أن خوف إبراهيم ينعكس حيرة عند قارئ القصة ، لأن قارئ القصة أساسا عرف بأن ضيوف إبراهيم ليسوا من البشر ، إلا أن إبراهيم (عليه السلام) بسبب أنـه نكرهم وتوجس منهم خيفة جعل القارئ متحيرا ليس بسبب أن الرسل لم يتناولوا الطعام ، بل لتوجسه خيفة منهم . . .
طبيعيا قد يستخلص القارئ سريعا بأن إبراهيم مادام قد خفي عليه أنـهم ملائكة الله تعالى ، حينئذ سوف تضطرب أعماقه عندما يجد أن ضيوفه ليسوا من البشر العاديين ، مع ملاحظة أن القارئ سوف يتساءل : لماذا الوجل ؟ فإذا كان تصوره أنـهم ملائكة وليسوا بشرا ، حينئذ فإن الأمر لا يتطلب وجلا ـ وهو المتعامل مع الغيب ، بل هو خليل الله تعالى ـ لذلك يظل القارئ فريسة توقعات وتفسيرات جمة لا يهتدي من خلالها إلى شاطئ اليقين ، طبيعيا أن النصوص التفسيرية سوف تضطلع بحل المشكل ، ولكننا بصفتنا قراء للقصة فإن القصة ذاتها تدعونا لأن نمارس عملية الكشف لفراغاتها .
إن النصوص التفسيرية تلقي إضاءات متنوعة على الموقف ، إنها توضح بأن إبراهيم (عليه السلام) كان مضيافا يحب الضيوف ويهتم بشؤونهم ولذلك أسرع بتقديم العجل لهم ، ولكن لما وجدهم لاتصل أيديهم إلى الطعام حينئذ سيطر عليه الخوف وذلك بسبب تصوره أنـهم جاؤوا لممارسة مهمة تقترن بنزول البلاء مثلا ، خاصة أن الأعراف الاجتماعية عصرئذ كانت إذا أكلت الضيوف من الطعام ، حينئذ لا تصدر عنها أية إساءة لمضيفها لأنـها أكلت من طعامه . . . فإذا امتنعت فهذا يعني أن الضيوف سوف يمارسون سلوكا غير متعارف ، أو شريرا مثلا . كما تقرر هذه النصوص التفسيرية إمكانية أن يكون خوفه من أنهم ليسوا بشرا ، بل من جنس آخر غير محدد جاؤوا لبلاء ما ؟ وتقرر نصوص اخرى أنه علم أنـهم ملائكة ، وأنـهم جاؤوا لكي ينزلوا بالبلاء على مجتمع إبراهيم .
ونصوص اخرى تزعم بأنه خيل إليه بأنـهم لصوص . . . إلى آخره .
هذه النصوص التفسيرية تلقي إنارات متنوعة على الموقف ، ولكنها من الجانب الآخر ينطوي بعضها على تفسير غير قابل البتة للتسليم به ، كذهاب البعض إلى أنـه (عليه السلام)عرف أنـهم ملائكة جاؤوا لإنزال العذاب على مجتمعه ، حيث لا يمكننا التسليم بهذا مادام قد قدم لهم الطعام ، حيث أن الملائكة لا يفعلون ذلك ، ولعل الإنارة التي ألقاها النص المفسر ، هي إمكانية أن يكون الخوف هو نزول البلاء على مجتمعه أو مجتمع سواه ، مما يشكل لديه هاجسا يهتم به . . . ولكن إذا تجاوزنا النصوص التفسيرية وتابعنا النص القصصي ، حينئذ نجد أن الضبابية تنقشع قليلا عندما يفاجأ ونفاجأ نحن أيضا بالعبارة الحوارية القائلة :
﴿لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾
إذن الإنارة تفضي بالقارئ ـ وبإبراهيم (عليه السلام) قبل ذلك ـ إلى أن يفهم بأن المجموعة المتنكرة بزي البشر هم ملائكة أرسلهم الله تعالى إلى قوم لوط . . .
طبيعيا هذه الإنارة سوف تجعل قارئ النص مستجيبا لنمط آخر من الاستجابة هي : الاستجابة المفرحة المتمثلة ببشارة المولود ، حيث يقرر العرض القصصي في سورة الحجر (قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) إذن ، نكرر بأن قارئ القصة في سورة «هود» سوف يستجيب باستجابة تقترن بنزول عذاب على المنحرفين ، بمعنى أن غضب الله تعالى قد نزل على القوم ، بخلاف استجابته المسرة المبشرة بالمولود . . .
لكن لندع الإنارة المتقدمة ، ونواصل حركة القصة وتموجاتها وإيقاعاتها المتنوعة التي تحفل بإثارات ممتعة ، ولكنها مشفوعة بشيء من الضبابية الممتعة أيضا . . .
* * *
يمكننا أن نذهب بأن ما عرضناه للآن يمثل القسم الأول من حكاية إبراهيم (عليه السلام) متمثلة في المناخ المضبب الذي وجدناه في حادثة الضيوف المجهولين . . . صحيح أن القصة قد اعتمدت الاستباق الزمني في استهلالها عندما قالت بوضوح :
﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى﴾
حيث وضعت القارئ في مناخ مسر وليس مأساويا هو ، مجيء الرسل بالبشارة إلا أنـها بدأت بتضبيب الموقف بعد أن ارتدت الاسترجاع الزمني إلى أول الموقف وهو الذرية ، ثم إنكار إبراهيم (عليه السلام) ثم «الخوف» . والمهم الآن أن القسم المشوب بالضبابية التامة قد انقشع الآن مع القسم الآخر من الحكاية وهو إخبار الملائكة إبراهيم بالمهمة الملائكية ، أي الإرسال إلى قوم لوط بما واكب ذلك من الاستجابة الصادرة عن امرأة إبراهيم (عليه السلام)عبر قوله تعالى :
﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ﴾
ثم بالبشارة بإسحاق ويعقوب بعده ، ثم الاستجابة الجديدة الصادرة عن امرأة إبراهيم أيضا عبر قوله تعالى :
﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾
ثم إجابة الملائكة :
﴿أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾
ثم ذهاب الخوف عن إبراهيم ومجيء البشارة ، ثم مجادلة إبراهيم بالنسبة إلى قوم لوط . هنا يتضبب الموقف من جديد عندما ترسم القصة موقف إبراهيم بأنـه مجادلة حيث لا يستطيع القارئ أن يتبين معالم هذه المجادلة ومحورها بقدر ما يفهم بعد ذلك بأنـه يعترض أو يستفسر ـ على أحسن تقدير ـ عن بعض القضايا .
إلا أن القصة تضع القارئ بعدها في شيء من الإنارة المضببة وهي ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ . وهذا هو التعقيب الإلهي على موقف إبراهيم المجادل ، ولكن المحاورة تعود بين إبراهيم والملائكة ، أو بالأحرى أن القصة قطعت محاورة إبراهيم وعقبت متدخلة ثم واصلت المحاورة متمثلة في إجابة الملائكة لإبراهيم :
﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾
﴿وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾
وبهذا تنتهي حكاية إبراهيم ، لتجيء حكاية لوط . . . لكن قبل أن ننتقل إلى تحليلنا وتفسيرنا لحكاية لوط ، يتعين علينا أن نتناول الصياغة الفنية للقسم الثاني من حكاية إبراهيم ، متمثلة ـ كما مر ـ في الاستجابتين الصادرة عن إبراهيم وامرأته ، وقبل ذلك : لماذا ربطت الملائكة بين خوف إبراهيم وإزالته وبين إخباره بأنـهم مرسلون إلى قوم لوط ؟ ثم ـ وهنا موقع الدهشة الفنية ـ تفسير الضحك لدى امرأة إبراهيم ، ومن ثم تعجبها من الإنجاب . . . إلى آخره .
هذه الظواهر مع وضوحها تظل ملفعة بغموضها أيضا ، حيث أن الوضوح يتمثل في عملية الإرسال وعملية الإنجاب ، وقبلهما معرفة أن الضيوف هم رسل الله تعالى وأما الغموض فيتمثل في تحديد البشارة وفي أسبقيتها ، وضحك امرأة إبراهيم (عليه السلام) ومجادلة إبراهيم في قوم لوط . . . اولئك جميعا أي : الوضوح والضبابية ستكشف لنا بناء الاقصوصة جماليا وما ينتظم ذلك من أسرار فنية .
إن أول سؤال يثار في هذا الحقل هو : هل إن الملائكة بشروا إبراهيم بإنزال العذاب على قوم لوط ، أم بالمولود الجديد ، أم بهما ؟ وإذا كان الأمر كذلك أو لا ، فهل بدأت البشارة بالولادة أم الإبادة ؟ وقد سبق أن أشرنا أن قارئ القصة إذا كان مستعجلا لاستكشاف ما هو مهم في نظره ، حينئذ سيعترض قائلا : لماذا يتناول الناقد الأدبي ظاهرة أيهما أسبق : الولادة أم الإبادة ؟ ما هي فائدة ذلك ؟ أليس المهم هو معرفة الدارس أو الناقد أو القارئ ، بأن الملائكة جاؤوا بمهمتين ، إحداهما : البشارة بالمولود ، والاخرى : إنزال العذاب على قوم ، وما عدا ذلك فلا فائدة من معالجته ؟ إلا أننا نجيب القارئ بما يلي :
القصة القرآنية لا تصوغ موقفا أو واقعة من أجل الإمتاع الجمالي وحده ، بل تردفه ـ وهذا هو الأهم ـ بالإمتاع الدلالي . وعندما تنتخب في قصة ما إبراز الولادة وفي اخرى إبراز الإبادة ، وفي ثالثة تزاوج بينهما بحيث لا يتبين القارئ ما هو المهم ، وما هو الأهم ، وما هو الهدف من ذلك ، عندئذ نستنتج بأن المسألة ليست عملا عابثا والعياذ بالله ، بل لا مناص من محاولة التفسير لهذه الصياغة الجمالية . . .
إذن لنحاول إلقاء الإنارة على ما تقدم . . .
بالنسبة إلى أيهما أسبق : بشارته بالولادة أم الإبادة ، يحسن بنا أن نعرض العبارة القصصية ذاتها :
قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾
النص هنا صريح بأن الملائكة قالوا : أولا بأن مهمتهم هي الإرسال إلى قوم لوط . هنا بعد أن طمأنوه على هذه المهمة ، عرض النص استجابة امرأة لوط . . . إن دخول امرأة لوط بطلة في القصة لم يأت جزافا ، بل لابد له من الاضطلاع بوظيفة فنية هي إلقاء الإنارة على الموقف والحدت ، فماذا نستخلص من دخول الامرأة بطلة هنا ؟ يقول النص :
﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾
﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾
﴿قالوا : أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾
﴿إنه حميد مجيد﴾
هذه المحاورة بين امرأة إبراهيم والملائكة ، وقبل ذلك استجابتها لحدث الإرسال بــ الضحك ، ثم تبشير السماء ـ لا الملائكة ـ بإسحاق ويعقوب . . . ماذا نستخلص جماليا ودلاليا منها ؟
وبما أن هدف دراستنا للقصة القرآنية هو : تذوقها الفني الخالص دون الرجوع إلى النصوص المفسرة إلا أن هذا لا يحجزنا من الرجوع إليها للإضاءة فحسب .
طبيعيا ثمة فارق بين أن نستوحي ونستكشف دلالات فنية من النص ، وبين أن نفسر برأينا متشابهات القرآن الكريم ، حيث لا مناص من الرجوع إلى ما يفسره المعصوم (عليه السلام) ، ولذلك نلجأ إلى النصوص المفسرة بين الحين والآخر لهدفين :
أحدهما : أن المتشابه لابد من الرجوع إلى النصوص المفسرة حياله .
والآخر : أن الظاهر أو المحكم أو النص غير المقترن بإمكانية وجود دلالة غائبة خارجة عن دلالته اللغوية . وحيث نتجه إلى استكشاف الوظائف الفنية لموقف امرأة إبراهيم حيال طمأنة الملائكة إبراهيم بعدم الخوف ، وأن المسألة ترتبط بقدومهم لإنزال العذاب على مجتمع لوط .
هنا لابد من التنبيه قبل أن نتحدث عن الوظائف الفنية للبطلة إلى أن المجيء الصرف إلى منزل إبراهيم لا معنى له إذا كان الهدف هو مجرد إخباره بأن مجتمع لوط سوف يباد عدا ابن أخيه لوط وذويه ، فلابد إذن أن يقترن مجيء الملائكة بوظيفة تخص إبراهيم وذويه ، أي امرأته ، وهو : البشارة بالإنجاب ، حيث يتعلق الإنجاب بهما ، ولذلك تجيء البطلة امرأة إبراهيم أمرا لا مناص منه من الزاوية الفنية ، بل إن اهتمام المرأة بالإنجاب سيكون أشد من الرجل ولذلك من الزاوية الفنية نجد أن النص عرض محاورة المرأة بطولها المتمثل أولا بقولها بعد أن قال الله تعالى :
﴿فبشرناها بإسحاق﴾
حيث قالت : ﴿يا ويلتى أ ألد وأنا عجوز﴾
وبقولها : ﴿هذا بعلي شيخا﴾
وبقولها تأكيدا عدا ما سبق : ﴿هذا لشيء عجيب . . .﴾
وهذا يفسر لنا الاهتمام الأشد لدى المرأة بظاهرة الإنجاب . . .
من هنا نتوقع أو تزداد قناعتنا بأن البشارة بالمولود هي السابقة على الإخبار بإبادة قوم لوط ، حيث تهم الحادثة طرفي الإنجاب ، لكن نلاحظ بوضوح أن النص ـ كما قلنا ـ طمأن إبراهيم من خلال الإخبار بالعذاب ، ثم ترك حوار الملائكة ليقدم لنا سردا هو :
﴿وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها . . .﴾
هذا يعني بوضوح أن البشارة جاءت متأخرة ، وهو أمر يتنافى ظاهريا مع فلسفة دخول الملائكة ضيوفا على إبراهيم ، إلا في حالة ما إذا انطلقنا من تذوق فني خالص هو : بما أن إبراهيم يجسد شخصية كبيرة أو متبوعة ، في حين أن لوطا يجسد شخصية أصغر منها وتابعة ، بدليل أنـها آمنت برسالة إبراهيم ، حينئذ فإن المناسب ، هو الدخول عليه أي على إبراهيم (عليه السلام) أولا وإخباره بالموضوع بصفته نبيا عظيما يعنيه ما يجري في مجتمع لوط . . . وخلال ذلك يبشر بولادة إسحاق ومن بعده يعقوب ، مع ملاحظة أن هذه البشارة ليست مجرد حدوث إنجاب معجز ، بل هو إنجاب لشخصيات عبادية مصطفاة ، فإسحاق ويعقوب ليسا شخصين عاديين بقدر ما يجسدان شخصيات نبوية لهما فاعليتهما في توصيل مبادئ السماء إلى الآخرين .
إذن البشارة بالوليد لها دلالتها القصصية الخطيرة وهي الوليد النبوي وليس العادي ، ولكن إذا قدر لنا أن نقتنع الآن بأن حدث البشارة جاء متأخرا بالقياس إلى حدث العقاب فلان الموقع الذي يحتله إبراهيم بالقياس إلى لوط يفسر لنا عملية دخول الملائكة إلى بيته قبل ذهابهم إلى بيت لوط ، ولكن ثمة إشكالات ترد على هذا الاستخلاص الذي عرضناه ، من أن امرأة إبراهيم قد ضحكت :
﴿قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط﴾
﴿وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق . . .﴾
وقد قلنا ـ قبل صفحات ـ : إن الضحك لا يتناسب مع نزول العقاب ، بل مع حدوث البشارة . . . ومن الإشكالات أيضا أن قصة إبراهيم ولوط في السور القرآنية الاخرى كانت صريحة في تقدم خبر البشارة على الإبادة ، يقول النص القصصي في سورة الحجر :
﴿قالوا : لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم﴾
وكذلك نجد الظاهرة ذاتها في سورة الذاريات :
﴿قالوا : لا تخف وبشروه بغلام﴾
إذن مع هذه الصراحة كيف نوفق بين هاتين الحكايتين وبين الحكاية الواردة في سورة هود ؟ هاتان الإشكاليتان يمكن الإجابة عنهما على النحو الآتي : بالنسبة إلى امرأة إبراهيم تقول بعض النصوص المفسرة ـ وقد سبق أن ذكرناها واستبعدناها ـ : إن ضحكها كان تعجبا من غفلة قوم لوط .
ويقول بعضها : كان تعجبا من امتناعهم عن الأكل .
ويقول بعضها : إنما ضحكت تعبيرا عن سرورها بالنسبة إلى نجاة لوط من العقاب المذكور . لكن ورد ـ كما ذكرنا ـ أن المعصوم (عليه السلام)ربط ظاهرة الضحك بالبشارة ، حيث علل البعض بأن النص القصصي استبق واسترجع المواقف من حيث العرض ، أي قدم وأخر لنكات فنية . . . ومع صدور النص المفسر من المعصوم لا نملك تفسيرا مقابلا بقدر ما يمكن الذهاب إلى أن الضحك من المحتمل أن يكون لسببين ، بحيث أن المعصوم (عليه السلام) حينما يقتصر على ذكر سبب واحد لا يعني نفيه لسبب آخر . . .
وأما بالنسبة إلى تقدم خبر البشارة على الإبادة ، فيخضع للظاهرة ذاتها ، أي من الممكن أن تحدث البشارة بالأمرين معا ، أي : البشارة بالوليد ، والبشارة بهلاك المنحرفين . . . وكذلك الأمر بالنسبة إلى قولهم لا تخف قالوها مرة ، ثم أتبعوها بخبر لوط ، ثم أتبعوها مرة اخرى بخبر الإنجاب ، حيث أن ذكر أحدهما لا ينفي وجود الآخر .
إذن نستخلص مما تقدم بأن النص القصصي حينما يقدم حينا خبر الإنجاب ، وحينا خبر الإبادة ، فلأن السياق يتطلب ذلك ، كأن يستهدف النص لفت النظر مرة إلى أهمية الإنجاب واخرى إلى أهمية العقاب للمنحرفين . . . وبالنسبة إلى الاقصوصة التي نتحدث عنها في سورة «هود» نجد فيما بعد، أن العرض القصصي للمواقف والأحداث والبيئات والشخصيات يتسم بطول وبتفصيل لا يرد في القصص الاخرى الواردة في سورتي «الحجر» و«الذاريات» مثلا ، ففي سورة الحجر لا تتجاوز الإشارة بالنسبة إلى لوط ومجتمعه :
﴿جاء أهل المدينة يستبشرون﴾
﴿قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون﴾
﴿واتقوا الله ولا تخزون﴾
﴿قالوا أ ولم ننهك عن العالمين﴾
﴿قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين﴾
وفي سورة الذاريات يظل العرض القصصي أقصر :
﴿لنرسل عليهم حجارة من طين﴾
﴿مسومة عند ربك للمسرفين﴾
﴿فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين﴾
﴿فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين﴾
ولكننا بالنسبة إلى سورة هود (عليه السلام) نجد أن التفصيلات للعناصر القصصية أغزر وأشمل طرحا لدلالات متنوعة ، ولنقرأ :
﴿فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط﴾
﴿إن إبراهيم لحليم أواه منيب﴾
﴿يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك﴾
﴿وإنهم آتيهم عذاب غير مردود﴾
إن هذه المناقشة أو المجادلة مع الملائكة بالنسبة إلى موقف إبراهيم من إنزال العقاب على مجتمع لا ذكر له في القصتين الواردتين في سورتي الحجر والذاريات . . . وهذا وحده كاف للإفصاح عن الأهمية التي تستهدفها القصة لحادثة نزول العذاب على المجتمع المنحرف . . . ولكن بالإضافة إلى ذلك نجد التفصيلات الآتية :
﴿ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا﴾
﴿وقال هذا يوم عصيب﴾
﴿وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات﴾
﴿قال : يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي﴾
﴿أ ليس منكم رجل رشيد﴾
﴿قالوا : لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد﴾
﴿قال : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد﴾
﴿قالوا : يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك . . .﴾
لنلاحظ أن هذا العرض القصصي حوارا وسردا يتضمن تفصيلات لا وجود لها في القصص الاخرى ، منها ـ وهذا هو الأهم ـ : رد الفعل الصادر من لوط من حيث حجم الشدائد التي واجهها من جانب ، ومن حيث نمط أو نوعية الدعاء أو المساعدة التي طلبها من الله تعالى . . . القصص الاخرى اقتصرت على الإشارة إلى استبشار المنحرفين بضيوف لوط وردعه إياهم بعدم فضحه ، وتقديم بناته وإجابتهم بعدم رغبتهم ، وأخيرا نزول العذاب . بينما نجد في سورة هود ، ما يأتي :
ساءه ، أي لوط مجيء الضيوف لأنـه خاف عليهم من مجتمعه :
﴿ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم﴾
ضاق بمجيئهم ذرعا حيث جاؤوا في صورة مرد وجمال .
﴿وضاق بهم ذرعا﴾
قوله :
﴿هذا يوم عصيب﴾
وهو دعاء يكشف عن المرارة العميقة التي يتحسسها في أعماقه . وفي هذا السياق ينقل أحد المفسرين قول الإمام الصادق (عليه السلام) بأن لوطا كان ـ وهو يصطحب ضيوفه إلى منزله ، حيث هبطوا عليه في مكان آخر ، ـ يقول بما مؤداه : أي شيء أقدمت عليه ؟ كيف آتي بهم وقومي أشرار كما أعرفهم ؟ و . . . ومن البين أن هذه المحاورة مع نفسه تكشف عن المرارة وعمق الأسى والتمزق . . . إلى آخره .
قوله :
﴿أليس منكم رجل رشيد ؟﴾
هذا التساؤل بدوره يكشف عن الشدة النفسية التي يكابدها .
قوله :
﴿لو أن لي بكم قوة﴾
أي ، ليت لي قوة استطيع من خلالها أن أقف أمامكم . . . واضح أيضا أن هذه المحاورة تكشف عن قلقه الكبير وتمزقه وأساه بحيث يتمنى أن تصل إليه قوة لمساعدته .
قوله :
﴿أو آوي إلى ركن شديد﴾
أي ، ليت لي مثلا عشيرة أحتمي بها من شر هؤلاء المنحرفين . . . وفي هذا السياق ورد نص مفسر عن النبي (صلى الله عليه وآله) من أن لوطا كان يأوي إلى ركن شديد هو : مساعدة الله تعالى إياه .
إذن هنا التفصيلات المرتبطة بردود الفعل لدى لوط ، لا وجود لها في القصتين الأخيرتين الواردتين في سورتي «الحجر» و«الذاريات» . . . وهي ليست تفصيلات خارجية أو ثانوية الأهمية ، بل تتسم بذروة الأهمية وخطورتها لأنـها تكشف عن جملة دلالات ، منها : الشدة النفسية التي بلغت بمداها ما لا نتوقع الأشد من ذلك ، ومنها : الدلالة المرتبطة ـ كما ألمح النبي (صلى الله عليه وآله) في نصة التفسيري ـ من أن الله تعالى كان له الركن الذي قد آوى إليه ، فضلا عن أن القوة التي تمنى أن تصله قد اعتمدها عند الله تعالى ، وهكذا . . .
إذن ، للمرة الجديدة يمكننا أن نقرر بشيء من الثقة ، بأن الاقصوصة المتقدمة في سورة «هود» عندما ورد العرض القصصي فيها باستباق الإخبار عن مجتمع لوط بالنسبة إلى البشارة بالمولود إنما كان كذلك ، فلأن السياق أو الهدف الذي حرصت القصة على إبرازه قد استتبع الاستباق المذكور ، أي تقديم خبر لوط وتأخير خبر الإنجاب .