التاريخ والحضارة
التاريخ
الحضارة
ابرز المؤرخين
اقوام وادي الرافدين
السومريون
الساميون
اقوام مجهولة
العصور الحجرية
عصر ماقبل التاريخ
العصور الحجرية في العراق
العصور القديمة في مصر
العصور القديمة في الشام
العصور القديمة في العالم
العصر الشبيه بالكتابي
العصر الحجري المعدني
العصر البابلي القديم
عصر فجر السلالات
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
الاراميون
الاشوريون
الاكديون
بابل
لكش
سلالة اور
العهود الاجنبية القديمة في العراق
الاخمينيون
المقدونيون
السلوقيون
الفرثيون
الساسانيون
احوال العرب قبل الاسلام
عرب قبل الاسلام
ايام العرب قبل الاسلام
مدن عربية قديمة
الحضر
الحميريون
الغساسنة
المعينيون
المناذرة
اليمن
بطرا والانباط
تدمر
حضرموت
سبأ
قتبان
كندة
مكة
التاريخ الاسلامي
السيرة النبوية
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام
الخلفاء الاربعة
ابو بكر بن ابي قحافة
عمربن الخطاب
عثمان بن عفان
علي ابن ابي طالب (عليه السلام)
الامام علي (عليه السلام)
اصحاب الامام علي (عليه السلام)
الدولة الاموية
الدولة الاموية *
الدولة الاموية في الشام
معاوية بن ابي سفيان
يزيد بن معاوية
معاوية بن يزيد بن ابي سفيان
مروان بن الحكم
عبد الملك بن مروان
الوليد بن عبد الملك
سليمان بن عبد الملك
عمر بن عبد العزيز
يزيد بن عبد الملك بن مروان
هشام بن عبد الملك
الوليد بن يزيد بن عبد الملك
يزيد بن الوليد بن عبد الملك
ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك
مروان بن محمد
الدولة الاموية في الاندلس
احوال الاندلس في الدولة الاموية
امراء الاندلس في الدولة الاموية
الدولة العباسية
الدولة العباسية *
خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى
ابو العباس السفاح
ابو جعفر المنصور
المهدي
الهادي
هارون الرشيد
الامين
المأمون
المعتصم
الواثق
المتوكل
خلفاء بني العباس المرحلة الثانية
عصر سيطرة العسكريين الترك
المنتصر بالله
المستعين بالله
المعتزبالله
المهتدي بالله
المعتمد بالله
المعتضد بالله
المكتفي بالله
المقتدر بالله
القاهر بالله
الراضي بالله
المتقي بالله
المستكفي بالله
عصر السيطرة البويهية العسكرية
المطيع لله
الطائع لله
القادر بالله
القائم بامرالله
عصر سيطرة السلاجقة
المقتدي بالله
المستظهر بالله
المسترشد بالله
الراشد بالله
المقتفي لامر الله
المستنجد بالله
المستضيء بامر الله
الناصر لدين الله
الظاهر لدين الله
المستنصر بامر الله
المستعصم بالله
تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام
شخصيات تاريخية مهمة
تاريخ الأندلس
طرف ونوادر تاريخية
التاريخ الحديث والمعاصر
التاريخ الحديث والمعاصر للعراق
تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي
تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني
تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق
تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى
العهد الملكي للعراق
الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق
قيام الجهورية العراقية
الاحتلال المغولي للبلاد العربية
الاحتلال العثماني للوطن العربي
الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية
الثورة الصناعية في اوربا
تاريخ الحضارة الأوربية
التاريخ الأوربي القديم و الوسيط
التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
سلمان المحمدي
المؤلف: علي الكوراني العاملي
المصدر: قراءة جديدة للفتوحات الإسلامية
الجزء والصفحة: ج2، ص243- 264
12-8-2020
7113
سلمان الفارسي المحمدي رضي الله عنه
نشأ سلمان في أصفهان على المجوسية، ثم أعجبته المسيحية فهاجر إلى الشام، وعاش مع كبير علماء النصارى، ثم ذهب إلى العراق ، ثم الى تركيا ، حيث كان كبير علمائهم ، فأخبره بأنه سيظهر نبي في بلاد العرب ، فجاء سلمان إلى أرض العرب ينتظر ظهوره ، فوجد جماعة من اليهود ينتظرونه أيضاً.
ففي كمال الدين/161، عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «كان بين عيسى وبين محمد(صلى الله عليه وآله) خمس مائة عام ، منها مائتان وخمسون عاماً ليس فيها نبي ولاعالم ظاهر . قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا متمسكين بدين عيسى(عليه السلام) . قلت: فما كانوا ؟ قال: كانوا مؤمنين . ثم قال: ولا تكون الأرض إلا وفيها عالم. وكان ممن ضرب في الأرض لطلب الحجة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فلم يزل ينتقل من عالم إلى عالم ومن فقيه إلى فقيه ، ويبحث عن الأسرار ويستدل بالأخبار ، منتظراً لقيام القائم سيد الأولين والآخرين محمد(صلى الله عليه وآله) أربع مائة سنة، حتى بشر بولادته فلما أيقن بالفرج خرج يريد تهامة فسبي » . أي أخذ على أنه عبد وباعوه .
ووجد سلمان في المدينة امرأة فارسية جاءت قبله تنتظر النبي الموعود (صلى الله عليه وآله) ! «قال سلمان: لما قدمت المدينة رأيت امرأة إصبهانية كانت قد أسلمت قبلي، فسألتها عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) فهي التي دلتني على رسول الله».( طبقات المحدثين بأصبهان لابن حبان: 1/123 ، والإصابة لابن حجر: 8/29 ، وأخبار إصبهان: 1/44 ).
وفي إعلام الورى:1/60: «وكان آخر من أتى آبي، فمكث عنده ما شاء الله ، فلما ظهر النبي(صلى الله عليه وآله) قال آبي: يا سلمان إن صاحبك الذي تطلبه بمكة قد ظهر ، فتوجه إليه سلمان ». أي آخر عالم نصراني عاش معه سلمان إسمه آبي .
وقال له الراهب: «أي بني والله ما أعلمه بقيَ أحد على مثل ما كنا عليه . ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل . وإن فيه علامات لا تخفى: بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل ، فإنه قد أظلك زمانه . فلما واريناه أقمت على خير حتى مر بي رجال من تجار العرب من كلب، فقلت لهم: تحملوني معكم حتى تقدموني أرض العرب وأعطيكم غنمتي هذه وبقراتي؟ قالوا: نعم، فأعطيتهم إياها وحملوني حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني عبداً من رجل من يهود بوادي القرى».
ثم باعه مالكه إلى بني قريظة في المدينة، وبقي نحو سنتين حتى هاجر النبي (صلى الله عليه وآله): «فوالله إني لفي رأس عذق إذ جاء ابن عم له فقال: قاتل الله بني قَيْلَة، والله إنهم الآن لفي قباء مجتمعون على رجل جاء من مكة يزعمون أنه نبي! فوالله ما هو إلا أن سمعتها فأخذتني العرواء يقول الرعدة حتى ظننت لأسقطن على صاحبي، ونزلت أقول: ما هذا الخبر وما هو؟ فرفع مولاي فلكمني لكمة شديدة وقال: ما لك ولهذا، أقبل قبل عملك! فقلت: لا شئ، إنما سمعت خبراً وأحببت أعلمه فلما أمسيت وكان عندي شئ من طعام فحملته وذهبت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو بقبا فقلت: إنه بلغني أنك رجل صالح وأن معك أصحاباً لك غرباء، وقد كان عندي شئ للصدقة فرأيتكم أحق من بهذه البلاد به فها هو هذا فكل منه، فأمسك رسول الله(صلى الله عليه وآله) يده وقال لأصحابه: كلوا ولم يأكل ، فقلت في نفسي: هذه خلة مما وصف لي صاحبي.. فاستدرت لأنظر إلى الخاتم في ظهره فلما رآني رسول الله (صلى الله عليه وآله) استدير عرف أني أستثبت من شئ قد وصف لي، فوضع رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصف لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي! فقال: تحول يا سلمان ها كني، فتحولت فجلست بين يديه، وأحب أن يسمع أصحابه حديثي فحدثته». (سيرة ابن إسحاق:2/68وأحمد: 5/443) .
وقال سلمان: « فكنت أسقي كما يسقي البعير ، حتى دَبَر ظهري وصدري (جُرح) من ذلك ، ولا أجد أحداً يفقه كلامي ، حتى جاءت عجوز فارسية تستقي فكلمتها ففهمت كلامي ، فقلت لها: أين هذا الرجل الذي خرج دليني عليه؟ قالت: سيمر بك بكرةً إذا صلى الصبح ». (أخبار أصبهان:1/76 ) .
كان سلمان رضي الله عنه في أعلى درجات الإيمان، بعد المعصومين (عليهم السلام)، ففي الخصال /447، عن عبد العزيز القراطيسي قال: «قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا عبد العزيز، إن الإيمان عشر درجات، بمنزلة السلم، يُصعد منه مِرْقاةٌ بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الواحدة لصاحب الاثنتين لست على شئ. حتى تنتهي إلى العاشرة. ولا تسقط من هو دونك فيسقطك الذي هو فوقك. وإذا رأيت من هو أسفل منك فارفعه إليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنه من كسر مؤمناً فعليه جبره. وكان المقداد في الثامنة، وأبو ذر في التاسعة، وسلمان في العاشرة» .
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): «أدرك سلمان العلم الأول والعلم الآخر، وهو بحرٌ لا يُنزح، وهو منا أهل البيت.. وكان عنده الإسم الأعظم» .(الكشي:1/52و56).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) :«كان سلمان مُحَدَّثاً. قال قلت: فما آية المحدث؟ قال: يأتيه مَلَكٌ فينكت في قلبه كيت وكيت ». (بصائر الدرجات/342 ).
لم يرو المسلمون لأحد بعد النبي(صلى الله عليه وآله) من المعجزات والكرامات ، كما رووا لأهل البيت المعصومين^. ولم يرووا لأحد من الصحابة معجزات وكرامات كما رووا لسلمان الفارسي رضوان الله عليه . فشخصيته شبيهةٌ بشخصيات الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) في علمه ، ومنطقه ، وسيرته ، وبقية ملامح شخصيته .
فقد أعده الله تعالى من شبابه ونشأته ليكون من آيات رسوله (صلى الله عليه وآله)، وعاش عمراً طويلاً، ليكون شاهداً على وراثة النبي(صلى الله عليه وآله) لعيسى المسيح(عليه السلام) ورسالته .
وأعطاه من العلم والأسرار ما يعجز عن حمله أكثر الناس . ومن العقلانية والحكمة والصبر ما جعل النبي(صلى الله عليه وآله) يشترط على أبي ذر عندما آخى بينهما ، أن يطيعه ولا يعصيه ، وكان حذيفة وأمثاله تلاميذ بين يديه !
وأعطاه من قوة الإرادة والأعصاب أنه كان يحمل الإسم الأعظم، فلا تردُّ له دعوة، لكنه لا يدعو لأغراضه الشخصية، بل لتبليغ الدين وهداية الناس !
وجعل معه ملكاً يحدثه ويوجهه كيف يتصرف، فيقول له: إعمل كذا، ولا تعمل كذا، وقل كذا، أو لا تقل! وجعل الملائكة يسمعون كلامه ويطيعونه !
ففي أمالي الطوسي/128: «مرض رجل من أصحاب سلمان فافتقده فقال: أين صاحبكم؟ فقالوا: مريض. قال: إمشوا بنا نعوده فقاموا معه ، فلما دخلوا على الرجل إذا هو يجود بنفسه ، فقال سلمان: يا ملك الموت إرفق بولي الله . قال ملك الموت بكلام يسمعه من حضر: يا أبا عبد الله ، إني أرفق بالمؤمنين ، ولو ظهرت لأحد لظهرت لك » !
وقد تبلغ كرامات سلمان ومعجزاته رضي الله عنه مئة معجزة ، من إخباره بغيب ، الى رده السهام بقراءة آية عندما كان يفاوض الرماة من أبراج قصر كسرى ، الى تكليمه الظباء ومجيئها اليه طائعة ، الى تسخيره الكلاب لحراسة المدائن ودفع السراق ..الخ.
4. كان سلمان أبيض اللون ، بهيَّ الطلعة والشيبة ، قويَّ البنية ، عاش طويلاً ، وروي أنه عاش نحو500 سنة ، وأدرك حواريي المسيح(عليه السلام) ، وقيل360 سنة ، وأقل قول في عمره250 سنة . وروي أنه إسمه روز به (الواقدي:2/204) أي النهار الحسن ، وفي ذكر أخبار إصبهان:1/48 ، إسمه ماهويه بن بدخشان بن آذرجشنس، من ولد منوشهر الملك . وقد آمن بالنبي(صلى الله عليه وآله) عند هجرته، واشتراه النبي(صلى الله عليه وآله) من مالكه وأعتقه ، فهو مولى رسول الله(صلى الله عليه وآله) .
ففي مسند أحمد:5/354: (وكان لليهود فاشتراه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكذا وكذا درهماً، على أن يغرس نخلاً فيعمل سلمان فيها حتى تطعم . قال: فغرس رسول الله(صلى الله عليه وآله) النخل إلا نخلة واحدة غرسها عمر ، فحملت النخل من عامها ولم تحمل النخلة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) :ما شأن هذه؟ قال عمر: أنا غرستها يا رسول الله . قال فنزعها رسول الله(صلى الله عليه وآله) ثم غرسها فحملت من عامها » .
واكتمل تحرير سلمان رضي الله عنه بعد حرب أحُد ، فشهد حروب النبي(صلى الله عليه وآله) بعدها ، وكان من خواص أصحابه وحوارييه .
كان سلمان يعمل في حفر الخندق بقدر عشرة رجال فأصابوه بالعين فعالجه النبي(صلى الله عليه وآله) ! ففي الإمتاع (1/226) وسبل الهدى (4/365): «وجعل لسلمان خمس أذرع طولاً وخمساً في الأرض ففرَّغها وحده، وهو يقول: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.. وكان سلمان يعمل عمل عشرة رجال حتى عانه قيس بن أبي صعصعة، فلُبِطَ به (أصابه بالعين فصرع) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : مروه فليتوضأ له وليغتسل به سلمان ، وليكفئ الإناء خلفه ، ففعل فكأنما حُلَّ من عقال».
ولُبِطَ به الأرض: «صرع من عين أو حمى أو أمر يغشاه شبه مفاجأة ». (العين:7/431).
ومروه فليتوضأ له: أي يغسل الذي أصابه بالعين يديه في طشت أو إناء ، فيصبه سلمان على بدنه ، ويلقي ما بقي منه خلفه . ففعلوا ذلك فصح سلمان ونهض .
وروى البيهقي بمعناه (9/351 ) أن عامر بن ربيعة مرَّ على سهل بن حنيف وهو يغتسل فقال: لم أر كاليوم ولا جلد مخبأة (أي لا تصل الى جماله الجارية المخدرة)!
فما لبث أن لُبِط به، فأتى النبي(صلى الله عليه وآله) فقيل له: أدرك سهلاً صريعاً، فقال: من تتهمون به؟ قالوا عامر بن ربيعة، فقال على مَ يقتل أحدكم أخاه ! إذا رأى ما يعجبه فَلْيَدْعُ بالبركة . وأمره أن يتوضأ ويغسل وجهه ويديه إلى مرفقيه وركبتيه وداخلة إزاره، ويصب الماء عليه. قال معمر قال الزهري: ويكفئ الإناء من خلفه).
وفي المناقب:1/75: «وكان الناس يحفرون الخندق وينشدون، سوى سلمان، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): اللهم أطلق لسان سلمان ولو على بيتين من الشعر، فأنشأ سلمان:
مالي لسانٌ فأقول شعرا
أسأل ربي قوةً ونصرا
على عدوي وعدو الطهرا
محمد المختار حاز الفخرا
حتى أنال في الجنان قصرا
مع كل حوراء تحاكي البدرا
فضج المسلمون وجعلت كل قبيلة تقول: سلمان منا، فقال النبي(صلى الله عليه وآله) :سلمان منا أهل البيت).
اشتهر تشيع سلمان رضي الله عنه بمواقفه واحتجاجه عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ، وقد رويت عنه أحاديث كثيرة احتج بها على أهل السقيفة ، واستنكر إقصاءهم لعلي(عليه السلام) وبيعتهم لأبي بكر، وقال: كرديد ونكرديد ، حق علي را برديد ! أي فعلتم وما فعلتم، حق علي(عليه السلام) غصبتم !
وقال: « أما والله لقد فعلتم فعلةً أطمعتم فيها الطلقاء ولعناء رسول الله(صلى الله عليه وآله) ! ولو بايعتم علياً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم.
قال ابن عمر: فلما سمعت سلمان يقول ذلك أبغضته وقلت: لم يقل هذا إلا بغضاً منه لأبي بكر. فأبقاني الله حتى رأيت مروان بن الحكم يخطب على منبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقلت: رحم الله أبا عبد الله ، لقد قال ما قال بعلم كان عنده».
( أنساب الأشراف للبلاذري:1/591 ، والثاقب في المناقب/129، والإيضاح/457 ).
وفي الإحتجاج: 1/151، عن الإمام الصادق(عليه السلام) : «خطب سلمان الفارسي بعد أن دفن النبي(صلى الله عليه وآله) بثلاثة أيام فقال: ألا يا أيها الناس: إسمعوا عني حديثي ثم اعقلوه عني ، ألا وإني أوتيت علماً كثيراً ، فلو حدثتكم بكل ما أعلم من فضايل أمير المؤمنين(عليه السلام) لقالت طائفة منكم هو مجنون ، وقالت طائفة أخرى: اللهم اغفر لقاتل سلمان ! ألا إن لكم منايا تتبعها بلايا ، ألا وإن عند علي(عليه السلام) علم المنايا والبلايا وميراث الوصايا ، وفصل الخطاب ، وأصل الأنساب ، على منهاج هارون بن عمران من موسى إذ يقول له رسول الله(صلى الله عليه وآله) : أنت وصيي في أهل بيتي وخليفتي في أمتي ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى !
ولكنكم أخذتم سنة بني إسرائيل، فأخطأتم الحق ، فأنتم تعلمون ولا تعلمون! أما والله لتركبن طبقاً عن طبق، حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة !
أما والذي نفس سلمان بيده لو وليتموها علياً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أقدامكم، ولو دعوتم الطير لأجابتكم في جو السماء، ولو دعوتم الحيتان من البحار لأتتكم ، ولما عال ولي الله ، ولا طاش لكم سهم من فرائض الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله .
ولكن أبيتم فوليتموها غيره، فأبشروا بالبلايا ، واقنطوا من الرخاء ، وقد نابذتكم على سواء ، فانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء !
عليكم بآل محمد فإنهم القادة إلى الجنة ، والدعاة إليها يوم القيامة .
عليكم بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فوالله لقد سلمنا عليه بالولاية وإمرة المؤمنين مراراً جمة مع نبينا، كل ذلك يأمرنا به ويؤكده علينا! فما بال القوم عرفوا فضله فحسدوه، وقد حسد هابيل قابيل فقتله! وكفاراً قد ارتدت أمة موسى بن عمران، فأمر هذه الأمة كأمر بني إسرائيل، فأين يذهب بكم !
أيها الناس: ويحكم ما لنا وأبو فلان وفلان؟! أجهلتم أم تجاهلتم؟ أم حسدتم أم تحاسدتم؟ والله لترتدن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة، ويشهد الشاهد على الكافر بالنجاة !
ألا وإني أظهرت أمري وسلمت لنبيي(صلى الله عليه وآله) ، واتبعت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة علياً أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، وقائد الغر المحجلين ، وإمام الصديقين ، والشهداء والصالحين ».
أقول: ركز سلمان في احتجاجه على أهل السقيفة على علم علي(عليه السلام) ، وأن الذين يريدون عزله ليس عندهم علم الكتاب ولا علوم رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
ثم ركز على الرخاء والرفاهية والنتائج المادية التي سيحققونها لو ولوا علياً (عليه السلام) .
شهد سلمان رضي الله عنه جميع حروب النبي (صلى الله عليه وآله) بعد أن تحرر من العبودية ثم شارك في فتوحات العراق وإيران والشام ومصر، وكان في فتح العراق وإيران داعية المسلمين ورائدهم، أي المفاوض عنهم، وكان وجوده مؤثراً في إقناع بعض قادة الفرس بالتسليم وعدم الحرب ، وإقناع بعضهم بالإسلام .
قال الطبري في تاريخه:3/9: «بعث عمر الأطبة ، وجعل على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي ذا النور ، وجعل إليه الأقباض وقسمة الفئ ، وجعل داعيتهم ورائدهم سلمان الفارسي » .
وفي تاريخ الطبري:3/124: «عن عطية بن الحارث وعطاء بن السائب ، عن أبي البختري قال: كان رائد المسلمين سلمان الفارسي ، وكان المسلمون قد جعلوه داعية أهل فارس . قال عطية: وقد كانوا أمروه بدعاء أهل بهرسير. وأمروه يوم القصر الأبيض فدعاهم ثلاثاً. قال عطية وعطاء: وكان دعاؤه إياهم أن يقول: إني منكم في الأصل، وأنا أرقُّ لكم، ولكم في ثلاث أدعوكم إليها، ما يصلحكم: أن تسلموا ، فإخواننا لكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإلا فالجزية ، وإلا نابذناكم على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين . قال عطية: فلما كان اليوم الثالث في بهرسير أبوا أن يجيبوا إلى شئ ، فقاتلهم المسلمون حين أبوا . ولما كان اليوم الثالث في المدائن، قبل أهل القصر الأبيض وخرجوا ، ونزل سعد القصر الأبيض ، واتخذ الإيوان مصلى ، وإن فيه لتماثيل جص فما حركها ».
وفي سنن الترمذي:3/52 ، وذكر أخبار إصبهان:1/55: «عن أبي البختري: أن جيشاً من جيوش المسلمين كان أميرهم سلمان الفارسي، فحاصروا قصراً من قصور فارس فقيل: يا أبا عبد الله ألا تنهد إليهم؟ قال: دعوني أدعوهم كما سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يدعوهم. قال: فأتاهم سلمان فقال لهم: إنما أنا رجل منكم فارسي ترون العرب تطيعني، فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا وعليكم مثل الذي علينا وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه ، وأعطيتمونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون ، وأنتم غير محمودين . وإن أبيتم نابذناكم على سواء. قال: فرطن لهم بالفارسية. رواه زائدة عن عطاء فيه فقالوا: وما الجزية قال: درم وخاكت بسر».
ومعناه: أن تعطي المال وأنت ذليل . وهذا يدل على أن سلمان كان قائداً في الفتح، مضافاً الى أنه داعية المسلمين ورائدهم . ونستطيع أن نقدر له أدواراً غير معلنة ، ونرجح أن يكون ساعد في إقناع الفرس بعدم المقاومة ، وفي دخول شخصيات منهم في الإسلام ، وربما كان منهم الهرمزان الذي هو خال شيروية ابن كسرى ، وكان حاكم الأهواز وقائداً في معركة القادسية وغيرها ، ثم استأسر للمسلمين في معركة تستر ، وأخذه عمار بن ياسر الى المدينة ، وأمنه عمر ، وأسلم على يد علي فصار مولى علي(عليه السلام) .
أتقن سلمان العربية فكان يتكلم بها وقد ينظم الشعر، لكن بقيت عنده لُكْنَةٌ فارسية ، ولذلك كان يقدم أحد الصحابة الفصحاء ليخطب الجمعة ويصلي بالناس ، ففي طبقات ابن سعد: 6/124، عن أبي قدامة: «أنه كان في جيش عليهم سلمان الفارسي ، فكان يؤمهم زيد بن صوحان ، يأمره بذلك سلمان ».
وفي مصنف ابن أبي شيبة:8/17: «كان سلمان أمير المدائن ، فإذا كان يوم الجمعة قال لزيد: قم فذكر قومك ».
أقول: هذا من فقه سلمان رضي الله عنه وتقواه، فهو يقدم من هو أفصح منه، للخطبة والصلاة. وفي قوله لزيد: ذكر قومك، إلفاتٌ الى حسن كون القارئ والخطيب من نفس القوم الذين يذكرهم، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ.
لكن سلمان رضي الله عنه كان يعرف دقائق القرآن وأحكامه أفضل من زيد .
ففي مصنف ابن أبي شيبة:7/152: «عن خليد العصري قال: لما قدم علينا سلمان أتيناه ليستقرئنا القرآن فقال: القرآن عربي فاستقرؤوه رجلاً عربياً ، فاستقرأنا زيد بن صوحان ، فكان إذا أخطأ أخذ عليه سلمان ، فإذا أصاب قال: أيم الله ».
وفي تاريخ دمشق:19/439: «كان يقرؤنا زيد بن صوحان، ويأخذ عليه سلمان، فإذا أخطأ رد عليه سلمان. هذا لفظ المحاملي، وقال الجروي: فإذا أخطأ غير علته، فإذا أصاب قال: إي والله».
أقول: خُلَيْد بن حسان العصري ، من كبار التابعين ، وهو شيخ قتادة المفسر ، وبنو عصر بطن من عبد القيس ، وكان خليد في البصرة وسكن بخارى (تاريخ دمشق: 47/104، وتاريخ الذهبي:10/168) فمعنى قوله: لما قدم علينا سلمان ، أي الى البصرة . ولعل ذلك في فتح الأهواز، لما استأسر الهرمزان، وفتحت تستر.
ورووا «أن قوماً من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئاً من القرآن، فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية». (مجموع النووي:3/380، ومناهل العرفان:2/115).
ولعله ترجم لهم كل القرآن، أو قسماً منه، فهو أول مترجم للقرآن الى غير العربية ، ولا بد أن يكون لذلك تأثير كبير في إقبال الفرس على الإسلام .
وروى ابن سعد (4/84) أن سلمان رضي الله عنه سكن الكوفة في زمن عمر ، وكانت الكوفة مقصد الفرس الذين يريدون أن يتعلموا الإسلام .
أخفى رواة السلطة دور سلمان في الفتوحات والمفاوضات مع الفرس ! وتتعجب عندما تقرأ في معركة القادسية وفتح المدائن وغيرها أن الملك يزدجرد أو رستم طلبوا من المسلمين أن يرسلوا لهم ممثلاً ليتفاوض معه، فأرسلوا المغيرة بن شعبة ، أو وفداً من فلان وفلان وبعضهم حديثوا الإسلام ، ووصفوا لباسهم وذهابهم وحديثهم مع يزدجرد ورستم ، ورجوعهم ، ولم يذكروا سلمان مع أنه كان «رائد المسلمين وداعيتهم» الرسمي بمرسوم الخليفة عمر ، وقد تقدمت رواية وفدهم في معركة القادسية !
وغاية ما ذكروه أن قالوا: «كان رائد المسلمين سلمان الفارسي، وكان المسلمون قد جعلوه داعية أهل فارس. وقد كانوا أمروه بدعاء أهل بهرسير. وأمروه يوم القصر الأبيض فدعاهم ثلاثاً». (الطبري:3/124).
قال الطبري (3/121): «فانتهينا إلى القصر الأبيض وفيه قوم قد تحصنوا، فأشرف بعضهم فكلَّمَنا، فدعوناهم وعرضنا عليهم فقلنا: ثلاث تختارون منهن أيتهن شئتم. قالوا: وما هن؟ قلنا: الإسلام فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا. وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فمناجزتكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم.
فأجابنا مجيبهم: لا حاجة لنا في الأولى ولا في الآخرة ولكن الوسطى. عن عطية بمثله قال: والسفير سلمان ».
لاحظ أن الرواية ذكرت مفاوضة المسلمين مع حامية قصر كسرى ، ولم تذكر سلمان الفارسي ، بينما ذكرته رواية عطية ، وهذا يدل على سياسة الحكومات في كتابة الفتوحات ، وتعمدهم طمس دور سلمان وأمثاله من شيعة علي(عليه السلام) !
ورووا معجزةً لسعد بن أبي وقاص وسلمان رضي الله عنه في فتح المدائن ، وذلك لما حاصروها ، وكان نهر دجلة يفصلهم عنها ، فقالوا إن سعداً أمر الناس بالعبور وكان معه سلمان ، فعبرت خيولهم الماء .
قال الطبري:3/121: «فلما استووا على الفراض هم وجميع كتيبة الأهوال (كتيبة عمرو بن معد يكرب) بأسرهم، أقحم سعد الناس، وكان الذي يساير سعداً في الماء سلمان الفارسي، فعامت بهم الخيل وسعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه وليظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بغيٌ أو ذنوب تغلب الحسنات. فقال له سلمان: الإسلام جديد، ذُلِّلَتْ لهم والله البحور كما ذُلل لهم البر. أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجاً. فطبقوا الماء حتى ما يرى الماء من الشاطئ، ولهم فيه أكثر حديثاً منهم في البر لو كانوا فيه، فخرجوا منه كما قال سلمان لم يفقدوا شيئاً، ولم يغرق منهم أحد ».
أقول: دلت روايات فتح المدائن على أنه لم تقع معركة فيه إلا مع كتيبة كسرى الخاصة التي كانت في موقع يدعى «مظلم ساباط» قبل المدائن ، فخرج قائدها وطلب المبارزة ، فبرز له هاشم المرقال رضي الله عنه وقتله ، فانهزمت الكتيبة ، وتقدم المسلمون نحو المدينة الرومية ، ثم الى قصر كسرى في المدائن .
وروي أن بعض فرسان المسلمين كحجر بن عدي رضي الله عنه ، عبر بفرسه: «فتقدم حِجْر وقرأ: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ. وأقحم فرسه وهو يقول: باسم الله، فعبر وعبر المسلمون على أثره ! فلما رآهم العدو قالوا: ديوان ديوان (جمع دِيو: الغول) يعني شياطين شياطين ! فهربوا فدخلنا عسكرهم».(تفسير ابن كثير:1/419) .
وروي أن عامر بن مالك الأشعري (تاريخ قم/268، وأسد الغابة:4/282) أول من عبر بفرسه نهر دجلة الى المدائن ، وقال في ذلك مرتجزاً:
إمضوا على البحر إن البحر مأمور
والأول القاطع منكم مأجور
قد خاب كسرى وأبوه سابور
ما تصنعون والحديث مأثور
ورووا أن شخصاً دلَّ المسلمين على معبر، فعبروا منه. فأين معجزة سعد؟ كما رووا أن سعد بن أبي وقاص لم يكن في الجيش الذي توجه الى المدائن، بل كان بقيادة خالد بن عرفطة، وهاشم المرقال .
قال البلاذري (2/323): «وجه سعد بن أبي وقاص خالد بن عرفطة على مقدمته، فلم يَرِد سعد حتى فتح خالد ساباط . ثم قدم فأقام على الرومية حتى صالح أهلها على أن يجلو من أحب منهم ويقيم من أقام على الطاعة والمناصحة ، وأداء الخراج ، ودلالة المسلمين ، ولا ينطووا لهم على غش . ولم يجد معابر فدُلَّ على مخاضة عند قرية الصيادين فأخاضوها الخيل ، فجعل الفرس يرمونهم فسلِموا غير رجل من طيئ يقال له سليل بن يزيد بن مالك السنبسي ، لم يصب يومئذ غيره » .
ورواية البلاذري هذه مقدمة على رواية الطبري التي تقول إن سعداً أمرهم بالعبور بدوابهم وأثقالهم فعبروا سالمين. لأنها تريد إثبات معجزةً لسعد، وقد استعانت بسلمان رضي الله عنه لأجل تصديقها .
كما أنها لا تنافي رواية البلاذري بعبور بعضهم سباحة بخيولهم ، كحجر بن عدي وعامر بن مالك. وشاهدنا حضور سلمان رضي الله عنه في فتح المدائن، حضوراً مميزاً.
رووا نموذجاً من عمل سلمان ، وأنه أقنع كتيبة المرازبة باعتناق الإسلام ! قال الواقدي في فتوح الشام:2/204: «خرجنا بعد فتح القصر الأبيض وكان قد تحصن به رجال من المرازبة ، وكانوا أشد جلداً وأقوى عزيمة من جميع الفرس ، وتحالفوا أنهم لا يسملون أبداً ، والذين حصلوا وتولوا حصارهم كتيبة الأهوال وهي كتيبة القعقاع ، فلما رأينا عزمهم على الموت بَعُدْنَا عن نَشَّابهم وحجارة مناجينقهم ، وطال علينا ذلك وشكونا ذلك إلى سعد وقلنا له: قد حرمنا الجهاد بحصارنا لهؤلاء الأعلاج . فقال سعد لسلمان: تقدم إليهم ودبِّر شيئاً فيه مصلحة المسلمين وأمنهم. فتقدم إليهم سلمان رضي الله عنه وكلمهم بالفارسية فأمسكوا عن رميه وقالوا له: من أنت؟ فقال: أنا رسول من المسلمين، إعلموا أن الرجل يقاتل عن نفسه وماله وولده إذا رجا الخلاص، وما أرى لكم من خلاص قط وهذا الملك قد انهزم وأخذنا مملكته وخزائنه ، وما بقي في المدائن أحد غيركم فاتقوا الله في أنفسكم ولا تهلكوها ، وسلموا لنا هذا الحصن ، ولكم الأمان إلى أي جهة توجهتم ، لا يعارضكم منا أحد .
قال: فلما سمعوا قوله قالوا: لا نسلم حتى نهلك عن آخرنا ، ثم رموا سلمان بالنشاب فقرأ: وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ، وأشار إلى النشاب بيده فذهبت السهام يميناً وشمالاً ولم يصبه منها شئ ! قال: فلما رأوا ذلك قالوا: زنهار( إنتبه وأمسك) فبحق ما تشير اليه من أنت؟ قال: أنا روزبه ، وقد عمرت أربع مائة سنة ولحقت آخر أيام عيسى بن مريم ، وطفت الأرض حتى لحقت بنبي هذه الأمة ، فلما أتيته أكرمني وخدمته ، فعظمني حتى أنه جعلني من أهل بيته فقال: سلمان منا أهل البيت . فلما سمعوا قوله وحققوا معرفته ، علموا أنه كان من عظماء أهل دينهم ، قال: فصقعوا له ، وقالوا: والله ما نخفي عليك شيئاً من أمرنا ، وسبب قتالنا ليس بسبب مال ولا متاع ، وإنما الملك قد مضى يريد نهاوند ، ولم يقدر على أخذ ابنته معه ، وهي مريضة ، وقد سلمها الينا ، فلزمنا من أمرها ما لزم. فإن كنتم تعطون الأمان عليها سلمنا لكم ، وإلا نموت يداً واحدة !
فلما سمع سلمان منهم ذلك قال: دعوا هذا الأمر حتى أشاور الأمير ، ثم عاد وحدث سعداً بما سمعه فقال: يا أبا عبد الله إن المسلمين قد انتشروا في العراق ونخاف أن يقع بهم أحد فلا يُبقي عليهم . ولكن قل لهم: لكم علينا أن نذب عنكم وتكونوا في ذمامنا حتى تجاوزوا أي جهة تريدونها ، وبعد ذلك لا نضمن لهم ما يأتي عليهم . قال: فحدثهم سلمان بما قاله الأمير ، فقال العقلاء منهم: لولا أن العرب على حق ما نصروا علينا ، ومن الرأي أن نرجع إلى دين هؤلاء العرب ونعيش في ظلهم ، وإن القوم لا يريدون ملكاً ، وقد رأيتم هذا الرجل وما ظهر لكم من كرامته .
قال: ففتحوا باب السر وخرجوا إلى العسكر، وأتوا إلى سلمان فأتى بهم إلى سعد، وأسلموا على يديه. فلما جرى ذلك بكى سعد وقال: اللهم انصر الإسلام، وقرأ قوله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ .
وبعث إلى صاحب الأقباض فأخذ جميع ما في القصر الأبيص من الأموال وخزانة الملك ، فلما قسم الغنائم على المسلمين ، أعطى أولئك أوفى نصيب ، وأنزلهم منازل كسرى ، وسائر دور المدائن ».
أقول: تلاحظ أن رواية الواقدي عن المتحصنين في القصر، هي نفس رواية الطبري التي طمسوا فيها دور سلمان رضي الله عنه . وأن سلمان بإيمانه حوَّل هؤلاء المرازبة (كتيبة حراس الحدود) وهم من كبار الموظفين، من أعداء مقاتلين الى مسلمين مؤمنين .
أما حضور سعد يومها فقد يكون صحيحاً لأن حصارهم للمدائن طال شهوراً ، وقد يكون سعد حضر في آخر الحصار .
جمعوا أموال قصور كسرى وبيوت المدائن، وجعلوها بيد سلمان الفارسي، ففي تاريخ الطبري:3/125: «ووكل بالأقباض عمرو بن عمرو بن مقرن، وأمره بجمع ما في القصر والإيوان والدور وإحصاء ما يأتيه به الطلب، وقد كان أهل المدائن تناهبوا عند الهزيمة غارة، ثم طاروا في كل وجه فما أفلت أحد منهم بشئ لم يكن في عسكر مهران بالنهروان ولا بخيط، ألح عليهم الطلب فتنقذوا ما في أيديهم ورجعوا بما أصابوا من الأقباض فضموه إلى ما قد جمع، وكان أول شئ جمع يومئذ ما في القصر الأبيض، ومنازل كسرى، وسائر دور المدائن».
وفي الإصابة:3/192: «عن غلام لسلمان يقال له سويد وأثنى عليه خيراً، قال: لما فتحت المدائن أصبت سلة، فقال سلمان: هل عندك شئ؟ قلت: سلة، قال: هاتها فإن كان طعاماً أكلناه، أو مالاً رفعناه إلى هؤلاء. قال: ففتحناها فإذا أرغفة حواري وجبنة، فكان أول ما رأت العرب الحواري ».
وقد تقدم في ترجمة هاشم أن سعداً بقي في المدائن ، ولم يذهب الى جلولاء إلا بعد أن هجاه المسلمون، ومنهم ابراهيم بن المثنى بن حارثة ، فذهب على مضض ، ثم رجع من هناك ، ولم يذهب مع جيشه الى حلوان !
وصار الفارسي المشرد حاكماً لعاصمة كسرى، ونموذجاً للحاكم المسلم قال ابن الأعثم:1/220: «كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص يأمره أن يولي سلمان الفارسي المدائن وما والاها ، ويرجع هو إلى الكوفة ».
وروى في تاريخ دمشق:21/435 ، أنه كتب الى عمر يعتذر عن تولي المدائن فلم يقبل منه ، فقد قال لمن سأله لماذا قبلت الولاية: « إن عمر أكرهني ، فكتبت إليه فأبى مرتين ، وكتبت إليه فأوعدني » !
واستقبله الناس ومهدوا له قصر الإمارة ، فقال: إستأجروا لي حانوتاً في السوق أحكم بين الناس، فاستمر على هذا الحال حتى فاضت دجلة وخربت أكثر المنازل ».(نفس الرحمن في فضائل سلمان/551) .
وفي تاريخ دمشق:21/436: «قال حذيفة لسلمان: ألا نبني لك مسكناً يا أبا عبد الله؟ قال: لمَ تجعلني مَلِكاً ، أوَ تجعلُ لي بيتاً مثل دارك التي بالمدائن؟ قال: لا، ولكن نبني لك بيتاً من قصب ونسقفه بالبردي ، إذا قمت كاد أن يصيب رأسك وإذا نمت كاد أن يمس طرفيك ! قال: فكأنك كنت في نفسي » !
وفي الطبقات: 4/90: «كان سلمان يقول لنفسه: سلمان بمير . يقول: مُتْ» !
وكان لا يأكل إلا من عمل يده ، فكان يتصدق براتبه أو عطائه ، وكان أربعة آلاف درهم في السنة (البلاذري:3/559) أوستة آلاف درهم (ابن أبي شيبة:7/616).
ويصنع من الخوص حصراً وزنابيل، ويقول: «أشتري خُوصاً بدرهم فأعمله فأبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهماً فيه ، وأنفق درهماً على عيالي ، وأتصدق بدرهم . ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عنه ما انتهيت». (الطبقات:4/89).
و«كان إذا سَجَدَت له العجم طأطأ رأسه وقال: خشعت لله». (الطبقات:4/88).
وكان لا يتميز عن فقراء المسلمين بلباسه ، وقد حسبه بعضهم فقيراً أو حمالاً ففي الطبقات:4/88: «كان سلمان أميراً على المدائن ، فجاء رجل من أهل الشام من بني تيم الله ، معه حمل تينٍ وعلى سلمان أندرورد (سروال) وعباءة ، فقال لسلمان: تعال إحمل ، وهو لا يعرف سلمان ، فحمل سلمان فرآه الناس فعرفوه فقالوا: هذا الأمير ! قال: لم أعرفك.. !
وعن شيخ من بني عبس: «أتيت السوق فاشتريت علفاً بدرهم ، فرأيت سلمان ولا أعرفه فسخرته فحملت عليه العلف ، فمر بقوم فقالوا: نحمل عنك يا أبا عبد الله . فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا سلمان صاحب رسول الله(صلى الله عليه وآله) . فقلت: لم أعرفك ضعه عافاك الله ، فأبى حتى أتى منزلي ، فقال: قد نويت فيه نية فلا أضعه حتى أبلغ بيتك ».
وقيل له: «ما يُكرهك الإمارة؟ قال: حلاوة رضاعها ، ومرارة فطامها». (الطبقات:4/88). أي أكره الإمارة لمرارة عاقبتها ، وحساب الإنسان عليها .
ورويَ أن سُراق المدائن استهانوا به ، فسلط عليهم الكلاب ! « لما أرسل سلمان إلى المدائن والياً على أهلها جلس في مسج ، وجعل يسفُّ الخوص بيده لأجل قوته فلما علم به الرعية إن مثل هذا حاكم عليهم ، لم يعبؤوا به ، وكثرت السرقة والفساد فيهم ، فخرج من المسجد فرأى كلباً فأومى إليه فجاء الكلب فتكلم معه ، فرجع الكلب مسرعاً وصعد على مرتفع وعوى بصوت مرتفع ، فاجتمعت عليه كلاب البلاد فسارَّها ، ثم تفرقت في البلاد ، ثم إن سلمان أرسل رجلاً ينادي في البلاد: من خرج بعد ساعة كذا من الليل فإنه يقتل، فخرجت اللصوص ولم يبالوا بأمر حاكمهم ، فمزقتهم الكلاب ، ولم تبق منهم أحداً» . (نفس الرحمن في فضائل سلمان/358).
واختار سلمان مكان الكوفة منزلاً ومِصراً للمسلمين ، بما عنده من علم فقد ذكرت بعض مصادر الحكومات أن الذي اختار مكان الكوفة للمسلمين سعد بن أبي وقاص أو عمر ، والصحيح أن الذي اختارها سلمان رضي الله عنه بما عنده من علم رسول الله(صلى الله عليه وآله) وتوجيهات أمير المؤمنين(عليه السلام) .
فقد روى الكشي (1/73 ) عن المسيب بن نجبة الفزاري قال: «لما أتانا سلمان الفارسي قادماً تلقيته فيمن تلقاه ، فسار حتى انتهى إلى كربلاء فقال: ما تسمُّون هذه؟ قالوا: كربلاء ، فقال: هذه مصارع إخواني ، هذا موضع رحالهم ، وهذا مناخ ركابهم ، وهذا مهراق دمائهم ، قُتل بها خير الأولين ، ويقتل بها خير الآخرين!
ثم سار حتى انتهى إلى حروراء فقال: ما تسمون هذه الأرض؟ قالوا: حروراء فقال: حروراء خرج بها شر الأولين ويخرج بها شر الآخرين. ثم سار حتى انتهى إلى بانقيا وبها جسر الكوفة الأول فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: بانقيا. ثم سار حتى انتهى إلى الكوفة قال: هذه الكوفة؟ قالوا: نعم . قال: قبة الإسلام »!
أقول: لم أعرف المقصود بخير الأولين الذي قتل في كربلاء . وكذا شر الأولين ، الذين خرجوا في حروراء . ويحتمل أن يكون خير الأولين هابيل(عليه السلام) .
وقد ذكرنا في سلسلة القبائل العربية أن الكوفة كانت معروفة للنبي وأهل بيته (صلى الله عليه وآله) وأن إبراهيم(عليه السلام) كما أسس القدس وجدد الكعبة لذريته ، أسس القادسية وهي النجف والكوفة والسهلة والنخيلة لولده المهدي#، واشترى أرض كربلاء لولده الحسين(عليه السلام) .
وبهذا العلم اختار سلمان رضي الله عنه الكوفة منزلاً ومدينة للمسلمين .
روى في كامل الزيارات/78 ، عن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: «عُرِجَ بي إلى السماء ، وإني هبطت إلى الأرض فأهبطت إلى مسجد أبي نوح(عليه السلام) وأبي إبراهيم وهو مسجد الكوفة ، فصليت فيه ركعتين » .
وفي تاريخ الطبري:3/145: «كتب عمر إلى سعد: أنبئني ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم؟ فكتب إليه: إن العرب خددهم وكفأ ألوانهم وخومة المدائن ودجلة فكتب إليه إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث سلمان رائداً وحذيفة، وكانا رائدي الجيش ليرتادا منزلاً برياً بحرياً ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر، ولم يكن بقى من أمر الجيش شئ إلا وقد أسنده إلى رجل فبعث سعد حذيفة وسلمان فخرج سلمان حتى يأتي الأنبار، فسار في غربي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة. وخرج حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة.
والكوفة على حصباء وكل رملة حمراء، يقال لها سهلة، وكل حصباء ورمل هكذا متخلطين فهو كوفة، فأتيا عليها وفيها ديرات ثلاثة: دير حرقة ودير أم عمرو ودير سلسلة وخصاص خلال ذلك، فأعجبتهما البقعة فنزلا فصليا وقال كل واحد منهما: اللهم رب السماء وما أظلت ، ورب الأرض وما أقلت ، والريح وما ذرت ، والنجوم وما هوَت ، والبحار وما جرت ، والشياطين وما أضلت ، والخصاص وما أجنت ، بارك لنا في هذه الكوفة ، واجعله منزل ثبات .وكتب إلى سعد بالخبر » .
وفي فتوح البلاذري(2/354) أن سلمان رضي الله عنه قال: « الكوفة قبة الإسلام ، يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا وهو بها ، أو يهوي قلبه إليها ».
وفي تاريخ دمشق:37/15: «عن عبد الملك بن أبي ذر الغفاري ، قال: أمرني أبي بصحبة سلمان الفارسي ، فصحبته إلى الشام فرابطنا بها ، حتى إذا انقضى رباطنا أقبلنا نريد الكوفة ، فلما أتينا إلى النجف قال لي سلمان: أهي هي؟ قال: قلت لا ، وكانت أبيات الحيرة . قال: فسرنا حتى بدت لنا أبيات الكوفة فقال لي: أهي هي؟ قال: قلت نعم . قال: واهاً لك أرض البلية ، وأرض التقية ! والذي نفس سلمان بيده إني لأعلم أن لك زماناً لا يبقى تحت أديم السماء مؤمن إلا وهو فيك أو يحن إليك. والذي نفس سلمان بيده كأني أنظر إلى البلاء يصب عليك صباً ، ثم يكشفه عنك قاصم الجبارين . والذي نفس سلمان بيده ما أعلم أنه تحت أديم السماء أبيات يدفع الله عنها من البلاء والحزن إلا دون ما يدفع عنك ، إلا أبياتاً أحاطت ببيت الله الحرام أو بقبر نبيه(عليه السلام) . والذي نفس سلمان بيده كأني أنظر إلى المهدي قد خرج منك في أثني عشر ألف عنان لا يرفع له راية إلا أكبها الله لوجهها، حتى يفتح مدينة القسطنطينية».
أقول: يذكر هذا النص سفر سلمان الى الشام وبيروت والصرفندة ، لمشاركة المرابطين على ثغور الدولة الإسلامية ، مقابل الروم والفرنجة ، وتثبيتهم بآيات القرآن وأحاديث النبي(صلى الله عليه وآله) ، وقد رويت عنه أحاديث هناك .
كما يدل كلامه عن الكوفة على أن مروره عليها كان قبل مجيئه هو وحذيفة لاختيارها مركزاً للمسلمين وتمصيرها .
أما كلامه عن المهدي (عج) وأن الكوفة عاصمته فهو من أحاديث النبي(صلى الله عليه وآله) ، ولا بد أن يكون معنى قوله إنه يفتح القسطنطينية أنه يفتح بلاد الروم . ولعله قال يَفتح الروم كما في بعض الأحاديث، فطبقها الراوي على القسطنطينية.
قدم سلمان نموذج الحاكم المسلم الذي ينبغي أن يقتدي به كل الحكام، فقد كان يتصدق بمخصصاته من بيت المال، ويصرف من كسب يده، ويعيش كأدنى مستوى في الذين يحكمهم، في مأكله وملبسه ومسكنه، فكان له بيت متواضع ، وقطعة أرض صغيرة يزرع فيها الخضروات ، وتوفيت زوجته الكِنْدية فتزوج أمةً له: « وتزوج مولاة له يقال لها بَقِيرة ...فأتاه يطلبه فأخبره أنه في مبقلة له ، فتوجه إليه فلقيه معه زبيل فيه بقل ، قد أدخل عصاه في عروة الزبيل وهو على عاتقه ، فقال: يا أبا عبد الله..». (مسند أحمد:5/439).
«كان يأكل من عمل يده ويطحن مع الخادمة ، ويعجن عنها إذا أرسلها في حاجة ويقول: لا تجمع عليها عملين . وكان يعمل من الخوص قفافاً، فيبيع ذلك بثلاثة دراهم فيرد درهماً في الخوص وينفق على عياله درهماً ويتصدق بدرهم ، وكان لا يأكل من صدقات الناس ويقول: إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: سلمان منا أهل البيت ». (الدرجات الرفيعة/261).
وفي الطبقات: 4/90: «أن رجلاً دخل على سلمان وهو يعجن قال فقال: أين الخادم؟ قال: بعثناها لحاجة فكرهنا أن نجمع عليها عملين . قال: إن فلاناً يقرؤك السلام. فقال له سلمان: منذ كم قدمت؟ قال: منذ ثلاثة أيام. قال: أما إنك لو لم تؤدها لكانت أمانة لم تؤديها».
وكان وهو والٍ على المدائن يخرج الى الجهاد والغزو قائداً ويرجع الى المدائن ففي تاريخ دمشق:21/429: «أن سلمان الفارسي مر بجسر المدائن غازياً وهو أمير الجيش، وهو ردف رجل من كندة على بغل موكوف، فقال أصحابه: أعطنا اللواء أيها الأمير نحمله عنك فيأبى ويقول: أنا أحق من حمله، حتى قضى غزاته ورجع وهو ردف ذلك الرجل الكندي ، على ذلك البغل الموكوف»!
وستأتي مشاركته في غزوة بلنجر سنة 22 أي بعد 4 سنوات من حكمه المدائن.
وفي الطبقات:4/87: «عن رجل من عبد القيس قال: كنت مع سلمان الفارسي وهو أمير على سرية، فمرَّ بفتيان من فتيان الجند فضحكوا وقالوا: هذا أميركم! فقلت: يا أبا عبد الله ، ألا ترى هؤلاء ما يقولون ؟قال: دعهم ، فإنما الخير والشر فيما بعد هذا اليوم» !
وشارك سلمان رضي الله عنه في فتح إرمينيا والقفقاز في سنة 22 هجرية ، قال ابن الأثير في الكامل:4/42: «وكان زهير بن القين البجلي قد حج ، وكان عثمانياً ، فلما عاد جمعهما الطريق وكان يساير الحسين(عليه السلام) من مكة ، إلا أنه لا ينزل معه ، فاستدعاه يوماً الحسين فشق عليه ذلك ، ثم أجابه على كره ، فلما عاد من عنده نقل ثقله إلى ثقل الحسين(عليه السلام) ، ثم قال لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد ، وسأحدثكم حديثاً: غزونا بلنجر ففتح علينا وأصبنا غنائم ففرحنا ، وكان معنا سلمان الفارسي فقال لنا: إذا أدركتم سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من الغنائم ! فأما أنا فأستودعكم الله، ثم طلق زوجته وقال: لها إلحقي بأهلك، فإني لا أحب أن يصيبك في سببي إلا خير، ولزم الحسين (عليه السلام) حتى قتل معه» .
وروى نحوه الحميري في الروض المعطار/94، والطبري في تاريخه:4/298 ، لكنه جعل القائل سلمان الباهلي . ومن المؤكد أن سلمان الفارسي رضي الله عنه كان في تلك الغزوة، فقد تقدم من الطبقات (4/92) وغيرها أنه غنم فيها عطراً ، ولم نجد أنه كان فيها جندياً أو قائداً ، أما سلمان بن ربيعة الباهلي فكان فيها قائداً وقتل فيها . ولعلهم فتحوها أولاً ثم جمع لهم حاكمها جيشاً ففتحوها ثانية ، فقُتل سلمان بن ربيعة الباهلي في الفتح الثاني .
وقال البكري في معجمه:1/276: « بَلَنْجَر.. مدينة ببلاد الروم ، شهد فتحها عدد من الصحابة . قال زهير بن القين البجلي: غزوت بلنجر وشهدت فتحها ، فسمعت سلمان الفارسي رضي الله عنه يقول: أفرحتم بفتح الله لكم ، فإذا أدركتم شباب آل محمد ، فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم..الخ.».
وكان فتح بلنجر سنة22هجرية ، وذكرت بعض الروايات أنها تقع في أرمينيا ، وبعضها أنها تقع في بلاد الروم . ولا توجد اليوم مدينة بهذا الإسم .
وقال بعض المؤرخين إنها كانت مكان مدينة بُويْنَاكْس الفعلية ، الواقعة جنوبي بحر الخزر . وقال بعضهم إنها تقع في دولة داغستان في شرق آسيا ، قرب نهر سولاك . ولا فائدة مهمة في تحقيق ذلك .
والمهم في القصة أن سلمان رضي الله عنه كان عنده من علم النبي(صلى الله عليه وآله) أن الحسين(عليه السلام) يقتل ، وأن بعض الذين كانوا معه في فتح بلنجر ، كزهير بن القين ، سيدركون خروجه ، فدعاهم الى الجهاد معه !
وقد حدث تحول سريع في موقف زهير رضي الله عنه من العثمانية الى ولاية العترة النبوية ، وانضم الى الحسين(عليه السلام) بيقين وشوق كأنه وجد ضالته في كلام سلمان معه قبل ثمانية عشرة سنة ! ولا يبعد أن يكون الحسين(عليه السلام) ذكَّره به !
وننبه الى خطأ وقعت فيه بعض المصادر وكتب المقاتل نسبت هذا الحديث الى سلمان بن ربيعة الباهلي، وقد كان فعلاً في قائداً فتح بلنجر وقتل في أرمينية ، لكن نص البكري وغيره على أن الحديث مع سلمان الفارسي رضي الله عنه .
كان سلمان رضي الله عنه يزور الشام، فيستقبلونه بإجلال كاستقبالهم للخليفة فقد روى البخاري في التاريخ الصغير:1/98، وابن عساكر في تاريخ دمشق:12/374، عن القاسم أبي عبد الرحمن قال: «زارنا سلمان وخرج الناس يتلقونه كما يُتلقى الخليفة فلقيناه وقد صلى بأصحابه العصر وهو يمشي، فتوقفنا نسلم عليه، فلم يبق فيها شريف إلا عرض عليه أن ينزل به ، فقال: جعلت في نفسي مرتي هذه أن أنزل على بشير بن سعد . فلما قدم سأل عن أبي الدرداء فقالوا هو مرابط، فقال: وأين مرابطكم؟ فقالوا: بيروت. قال فتوجه قِبَلَه فقال لهم سلمان: يا أهل بيروت، ألا أحدثكم حديثاً يذهب الله به عنكم غرض الرباط: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: رباط يوم وليلة كصيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أجير من فتنة القبر ، وجرى له صالح ما كان يعمل إلى يوم القيامة ».
أقول: هذا النص يدلنا على المكانة العظيمة لسلمان رضي الله عنه عند المسلمين، ولا عجب في ذلك، لأنهم رأوا منه معجزات وسلوكاً لم يروه من غيره من الصحابة، فسلمان بعد المعصومين (عليهم السلام) أكثر الصحابة كرامات ومعجزات !
كما يدل هذا النص على أنه رضي الله عنه ذهب الى الشام عدة مرات التي أقام فيها مدة طويلة في أول شبابه . وكان يأتي ليقوي إيمان المسلمين وعقيدتهم ، ويحدثهم عن النبي(صلى الله عليه وآله) رغم منع الخلافة للتحدثي وتدوين الحديث .
روى عبد الله بن المبارك في كتابه الجهاد/160، أن سلمان زارهم وهم محاصرون لحصن في بلاد الروم . قال شرحبيل بن السمط الكندي: «طال رباطنا وإقامتنا على حصن ، فاعتزلت من العسكر أنظر في ثيابي لما آذاني منه ، قال فمر بي سلمان فقال: ما تعالج يا أبا السمط؟ فأخبرته فقال: إني لأحسبك تحب أن تكون عند أم السمط ، فكانت تعالج هذا منك . قلت: إي والله. قال: لا تفعل فإني سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: رباط يوم وليلة أو يوم أو ليلة كصيام شهر وقيامه ، ومن مات مرابطاً أجريَ عليه مثل ذلك من الأجر ، وأجريَ عليه الرزق ، وأمن من الفتَّان ، واقرؤوا إن شئتم: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا ، وَإِنَّ اللهَ لَهُوَخَيْرُ الرَّازِقِينَ . لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ). وفتح القدير:3/466، وفيه: حصن بأرض الروم .
آخى النبي (صلى الله عليه وآله) بينه وبين أبي ذر: « واشترط على أبي ذر أن لا يعصي سلمان» (الكافي: 8 /162). كما آخى بينه وبين أبي الدرداء، فسكن أبو الدرداء الشام ، وكانا يتراسلان ويتزاوران: «كتب أبو الدرداء إلى سلمان: أما بعد فإني أدعوك إلى الأرض المقدسة وأرض الجهاد ، قال فكتب إليه سلمان: أما بعد فإنك قد كتبت إلى تدعوني إلى الأرض المقدسة وأرض الجهاد ، ولعمري ما الأرض تقدس أهلها ، ولكن المرء يقدسه عمله ». (مصنف ابن أبي شيبة:8/182).
وكتب سلمان الى أبي الرداء: « إنما العلم كالينابيع فينفع به الله شاء ، ومثل حكمة لا يتكلم بها كجسد لا روح له ، ومثل علم لا يعمل به كمثل كنز لا ينفق منه ، ومثل العالم كمثل رجل أضاء له مصباح في طريق ، فجعل الناس يستضيئون به وكل يدعو له بالخير ». (مصنف ابن أبي شيبة:8/1179).