1

x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في المحتوى

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

جولة في مراحل الفقه

بقلم: الشيخ محمد إبراهيم الجناتي.

 

معنى كلمتي الفقه والفقيه

الفقه في اللغة بمعنى الفهم، كما جاء في الآية القرآنية:  ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ . وهذه الكلمة في اصطلاح الفقهاء تعني معرفة الأحكام الفرعية الشرعية، التي نحصل عليها عن طريق أدلتها التفصيلية (القرآن، السنة، الإجماع والعقل) سيأتي البحث فيما بعد في مورد بداية ظهور هذا العنوان والاصطلاح.

تطلق كلمة الفقيه اليوم على من لديه قدرة استنباط الأحكام الفرعية الشرعية عن طريق أدلتها التفصيلية.

تاريخ هاتين الكلمتين

كلمتا الفقه والفقيه ليستا مستحدثتين، وليس استخدامهما جديداً، بل كانتا رائجتين منذ بداية ظهور الإسلام، بناءً عليه لا أساس لما يظنه بعض المستشرقين من أنّ المسلمين أخذوهما من قوانين الفقه الرومية. لأنّهما وردتا في القرآن الكريم والحديث الشريف. يقول الله تعالى في القرآن:  ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾

ويقول الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين".

فالملاحظ أنّ هاتين الكلمتين استعملتا في أول المتون الإسلامية.

الفقه الإسلامي لم يتأثر بالفقه الرومي

يدعي بعض المستشرقين إنّ المسلمين في صدر الإسلام كانوا منهمكين بالفتوحات، والفقه الإسلامي تأثر بقوانين وأحكام الروم، بمعنى أنّه في زمن الصحابة - الذين يروون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وفي زمن تابعيهم -الذين يروون عن الصحابة- أُخذت بعض الأحكام الشرعية المستنبطة من قوانين وأحكام بلاد الروم. جاءت هذه الجماعة بدليلين على مدعاها:

الدليل الأول: كلام لأحد المستشرقين يقول فيه: عندما فتحت بلاد الشام على يد المسلمين، كانت مدارس الفقه الرومي لا تزال قائمة في القيصرة الواقعة على سواحل فلسطين وبيروت وكانت المحاكم القضائية تقضي على أساسه، واستمرت هذه القوانين إلى مدةٍ بعد الفتح. هذا الأمر دليل على أن المسلمين اعتبروا ذلك القانون رسمياً وأقرّوا به.

يتابع دليله فيقول: من الطبيعي أنّ المسلمين الذين لم يتمتعوا بقدر يذكر من المدنية، يجب أن يتبعوا مجتمعاً سبقهم بالثقافة والتمدن، وأن يجعلوا من تصرفاتهم وقوانينهم دستوراً لهم.

الدليل الثاني: إن مقايسة بعض أبواب الفقه الإسلامي، وبعض قوانين الروم تبين التشابه بينهما. بل يدلّ على أنّ متن بعض الأحكام نقل من قوانين الروم مثل القانون الذي يقول: "على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين".

وفي هذين الدليلين إشكالات واضحة:

أولاً: لا أحد من المسلمين حتى نفس المستشرقين يقول أن المسلمين أعم من الفقهاء وغيرهم أشاروا إلى الفقه والقوانين الرومية بنقدٍ أو تأييد وتصديق أو اقتباس واستناد. بناءً على هذا لم يكن يظهر كلام عن الفقه الرومي بين المسلمين فضلاً عن جعله مورداً للبحث والدراسة وإن ترجم بعض المسلمين فلسفة اليونان إلى العربية، ولكن لم يترجم كتاب واحد بل كلمة واحدة من الفقه الرومي إلى العربية.

بالنظر لهذا الأمر نحصل اليقين أن جميع الأحكام الرومية ألغيت بمجرد فتح تلك البلدان.

ثانياً: كان المستشرق المذكور يدعي أنّ مدارس الفقه الرومي كانت موجودة في بلاد الشام في ذلك الوقت، وأنّ المحاكم والقضاة كانوا يحكمون طبقاً له، ولكن يجب الانتباه إلى أنّه كان يوجد في الشام فقهاء وقضاة وولاة كبار، وفي هذه الحال لو كان هناك تأثير من ناحية القوانين الرومية لكان على هذه المجموعة من الفقهاء والقضاة لا على مجموع الفقه الإسلامي.

ثالثاً: المسلمون حاملوا رسالة سماوية عظيمة وقد كانوا يقومون بالفتوحات لتطبيق أحكام دينهم. بناء على هذا كيف يتصور أنّهم يفتتحون أرضاً ثم يخضعون لقوانين قاموا هم أنفسهم للقضاء عليها وسحقها وإقامة حكم الإسلام مكانها؟

رابعاً: ليس بالإمكان أبداً الإتيان بدليل على الادعاء بأنّ المسلمين في عصر الفتوحات يتمتعون بمستوى أقل من التمدن والثقافة نسبة لأهل تلك الأراضي. ولو كان الأمر كذلك لترك المسلمون ثقافتهم ورضخوا لثقافة وآداب تلك الأرض، لأنّ الفكرة العليا هي التي تتمتع بتأثير ونفوذ لا تلك التي تكون ضعيفة ودون مميزات، إضافةً إلى أنّ الإسلام رفض الإكراه في الدين ومنعه.

خامساً: إن جملة "على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين" هي حديث شريف، وجاءت أيضاً في رسالة أرسلها "عمر بن الخطاب" إلى "أبي موسى" في البصرة، بناءً عليه كيف يظن بأنها أُخذت من الأحكام الرومية.

ومما قيل يعلم أنّ دعوى "تأثير الفقه الرومي في الفقه الإسلامي" هي دسيسة من المستشرقين وادعاء لا أساس له، الفقه الإسلامي هو مجموعة أحكام استنبطت من الأدلة الشرعية، وما لم يكن مستنداً إلى دليل فهو ليس من مسائل الفقه الإسلامي.

بداية ظهور عنوان الفقه

لم يكن عنوان الفقه مصطلحاً ورائجاً قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة المنورة، بل ظهر بعد الهجرة، ولكن يستفاد من بعض الأحاديث النبوية أن الفقه كان يستعمل قبل ذلك بمعنى مجموعة القوانين الإلهية. ولكن هذا العنوان لم يصطلح عليه عند الإمامية.

على كلّ حال، هذا العنوان بمعنى الأحكام الشرعية ظهر بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة أقام في مكة ثلاث عشرة سنة ثم بقي في المدينة عشر سنوات وطوال هذه الثلاث وعشرين سنة كانت تنزل آيات القرآن، إلاّ أن الآيات المكية التي تشمل ثلثي القرآن لم تكن في مجموعها تبين الأحكام، بل لبيان مسائل من قبيل الأصول الاعتقادية، الدعوة إلى الإيمان بالله والنبي والقيامة، الأمر بالصلاة، والدعوة للمحاسن الأخلاقية مثل الصدق والأمانة والامتناع عن القبائح والفحشاء مثل الزنا والقتل وغيره، والنهي عن البخس في المكيال وغير ذلك، بناءً عليه، أنّ الجهة الأصلية للتشريع في مكة كانت متوجهة إلى تثبيت العقائد وإصلاح المفاسد العقائدية ومحاربة الشرك والإلحاد ومحوه لا نحو بيان الأحكام والمسائل الفقهية.

أما الآيات المدنية التي نزلت في المدينة بعد الهجرة، وهي ثلث القرآن تقريباً، هي بيان للأحكام والقوانين الشرعية. كانت الآيات تنزل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلوها للناس. الآيات التي تحمل المسائل المرتبطة بوقائع وحوادث المجتمع، والمزيلة للمشكلات الاجتماعية والفردية والسياسية لدى المسلمين، الآيات المتضمنة لمسائل المعاملات نظير البيع والإجارة والرهن والربا. والمسائل الحقوقية مثل حد الزنا والسرقة والجنايات مثل القتل العمد، ومسائل من قبيل الشهادة في الزنا وغيره، والآيات التي ذكرت فيها الأحكام العبادية مثل الصوم والزكاة والحج والجهاد وشرائطها.

فمختصر الكلام هو أنّ جهة التشريع في المدينة المنورة كانت بيان الأحكام الشرعية الفقهية حتى نال الدين كماله النهائي ووصلت رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم السماوية إلى نهايتها.

إذن الفقه الإسلامي من بداية ظهوره في المدينة المنوّرة كان له تطورات كثيرة وتجاوز مراحل متعددة، هذه المراحل والعهود يمكن بيانها بالترتيب التالي:

مرحلة التشريع:

هذه المرحلة تبدأ من أول يوم لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سن الأربعين سنة وتستمر حتى يوم وفاته صلى الله عليه وآله وسلم سنة 11 هـ.ق، بناءً عليه تكون مرحلة التشريع قد استمرت مدة ثلاث وعشرين سنة، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقي في مكة مدة 13 سنة تقريباً بعد البعثة، ثم هاجر إلى المدينة، ودخلها يوم الاثنين 11 ربيع الأول بعد ثلاثة أيام. (بداية الهجرة هي مبدأ التاريخ الهجري). وفيما بعد أقام النبي بحدود عشر سنوات ولبى دعوة الحق بتاريخ يوم الاثنين 28 صفر المظفر السنة الحادية عشرة للهجرة وبرحيله انتهت مرحلة التشريع.

كيفية ظهور الفقه في هذه المرحلة

الفقه الإسلامي في هذه المرحلة لم يظهر دفعة واحدة، بل بصورة تدريجية، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلّغ بالفقه والأحكام الإلهية للمسلمين تدريجاً. وكل مدة كان يؤمر من ناحية الله تعالى بإبلاغ واحدة من مسائل الفقه والأحكام الإلهية، فيعلم الناس بها، وأتباع حضرته صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً عند الضرورة لتعلم الأحكام الدينية والاجتماعية والأخلاقية وغير ذلك كانوا يراجعون شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون أي واسطة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجيب عن السؤال بآية من القرآن، أو بقوله وفعله، أو بتأييد قول السائل، لا بد من توضيح أن قول وعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأييد الشخص من قبل النبي تسمى "السُنَّة" في اصطلاح الفقهاء، والسُنَّة في اللغة بمعنى الطريق والطريقة.

في هذه المرحلة من مراحل الفقه الإسلامي كانت أيدي المسلمين مطلقة في تعلم المسائل الفقهية كاملاً، لأنهم كانوا يأخذونها بشكل مباشر من لسان رسول الإسلام الكريم، وأحياناً كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحيل المسلمين إلى الإمام علي عليه السلام لأجل حل المسائل الشرعية، وكانوا يحصلون على أجوبتهم بمراجعة الإمام عليه السلام، وفي بعض الأوقات كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث بعض أصحابه إلى بعض مناطق المسلمين، ليبينوا المسائل الفقهية والأحكام الشرعية، كإرسال معاذ إلى اليمن، ورُشد الفقه لإسلامي في هذه المرحلة لم يزد عن هذا الحد.

مصدر الفقه والتشريع في هذه المرحلة

الفقه والتشريع في هذه المرحلة كان ينبع من الوحي فقط والقول المنسوب للشافعية والمالكية وبعض الحنفية، من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه كان يجتهد، وكان يعطي رأيه في بعض المسائل النظرية غير صحيح، لأن هناك دلائل عديدة في القرآن الكريم على خلافه منها قوله عزّ وجلّ:  ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3/4).

وأيضاً قوله تعالى:  ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين﴾َ  (الحاقة: 44/45/46).

وكذلك قوله تعالى في الآية الأولى من سورة المجادلة في مسألة الظهار التي لم يبين حكمها حتى مضى أربعين يوماً: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ .

مكان وزمان الوحي

الوحي الإلهي نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكان عبادته الواقع في ضواحي مكة المكرّمة. جبل حراء. وقد بدأ بهذه الآيات: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم﴾ .

الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بسماع هذا النبأ ارتجف واضطرب اضطراباً شديداً، وأسرع إلى زوجته وهو في حالة الاضطراب وقال لها "دثريني" فغطته حتى ابتعد عنه الاضطراب والهلع.

يرى الشيعة أن ابتداء نزول الوحي هو 27 رجب، وأهل العامة يعتقدون أنه في السابع عشر من شهر رمضان.

كيفية دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة اندفع للدعوة بصورة سرية مدة ثلاث سنوات، وفيما بعد أظهر دعوته بأمر الله تعالى في الآية التالية:

﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾  (الحجر/ 94 ـ 95).

بعد البعثة نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحدود ثلث القرآن في مدة ثلاث عشرة سنة في مكة، في السنة العاشرة للبعثة هاجر إلى الطائف، وفي السنة الحادية عشرة جاء الأمر بالمعراج، وفي السنة الثالثة عشرة هاجر إلى المدينة، وبعد حدود عشر سنوات من الإقامة في المدينة في يوم 28 صفر السنة الحادية عشرة الهجرية لبّى دعوة الحق.

تدوين الفقه والشريعة

النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر كتبته أن يكتبوا بحضوره ما يوحى إليه من قبل الله تعالى وكانوا يفعلون ذلك.

كل آية من القرآن الكريم كانت تنزل على حضرته في ظرف مناسب، حتى نزل كل الكتاب الإلهي في طول ثلاث وعشرين سنة. وفي ذلك الوقت نصَّب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصيه وخليفته بأمر الله (عزّ وجلّ) في آية التبليغ:  (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين)  (المائدة/ 67).

وبنزول الآية: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ (المائدة/ 3) وصل الدين الإلهي إلى مرحلة كماله، ثم بعد ذلك انتهى نزول الوحي، هذه الآية نزلت قبل ثلاثة أشهر من رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع، ولم ينزل بعدها آية أخرى في مورد الأحكام الإلهية.

كلمة الفقه والفقيه في مرحلة التشريع

في هذه المرحلة كانوا يطلقون كلمة الفقه على جميع تقسيمات الأحكام الشرعية، أعم من الأصولية والفرعية والأخلاقية وغيرها، ولكن لم يكونوا يقولون لمن كان لديه علم بالأحكام الشرعية فقيهاً، في هذه الفترة إذا كان شخص حفظ آيات من القرآن وكان يعلم معانيها ويميز ناسخها ومنسوخها محكمها ومتشابهها وخاصها وعامها، كانوا يسمونه قارئاً. وهذه التسمية كانت بسبب أن القراءة كانت تعد امتيازاً مهماً بنظر العوام، لأن الأمية كانت منتشرة. وعندما نما علم الفقه في أبعاده وجوانبه المختلفة واستقامت قواعده الكاملة، عندها وجدت كلمة "فقيه" وسمّوا بعد ذلك "القرّاء" "فقهاء".

انتشار واتساع الفقه

بنزول حدود ثلث القرآن في المدينة، استمر انتشار الفقه والأحكام الدينية والأخلاقية وغيرها مدة عشر سنوات في هذه الأرض، في طول هذه المدة كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبين الحلال والحرام للمسلمين، ويرشدهم إلى المعارف الإلهية والأحكام الدينية والآداب والعادات الإسلامية، وكان يستجيب لكل حاجات أمة الإسلام، في هذه المرحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحرك مسألة صغيرة أو كبيرة بدون بيان حكمها، حتى أنه لم يتوان عن بيان حكم "أرش الخدش" أيضاً.

في هذه الفترة كان الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام يكتب كل ما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أعم من تفسير آيات القرآن والأحاديث النبوية، وبتعبير آخر كان شخص النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يملي جميع القوانين والأحكام على علي عليه السلام ويأمر بكتابتها وتسجيلها ويوصيه أن يسلمها للأمة من بعده بناءً على هذا الأمر كتب علي عليه السلام أيضاً بخطه واستودعها عند أهلها، وروت في هذا المجال أخبار وروايات كثيرة.

ويستفاد من هذه الأحاديث والروايات أن ما كان عند علي عليه السلام من بيان الحلال والحرام والقوانين كان من قبل جبرائيل أخذه علي عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك أمر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أمته أن يمسكوا به وأن يتعلموا علومهم من أهل البيت عليهم السلام، وأن يتبعوا سيرتهم وأن يجعلوا من أحاديثهم طريقة حياتهم. لأن ما عندهم أكثر وثاقة واطمئناناً من علوم الآخرين، ولا شك أن اللازم على جميع المسلمين في تعلم الفقه واكتساب الأحكام الدينية والمعارف المذهبية. أن يولّوا وجوههم إلى الأئمة عليهم السلام منبع العلوم الزلال فقط. لكن ما يدعو للأسف أن من بين جميع الفرق الإسلامية، فرقة واحدة فقط جعلت هذا العمل طريقتها، ومالت إلى مذهب أهل البيت عليه السلام وتعلموا الأصول والفروع من الأئمة عليهم السلام، وتركوها بالتواتر ميراثاً للخلف وهكذا بقي هذا الرأسمال الخالد ثابتاً من نسلٍ إلى نسل.

الأصول والفروع التي يعتقد الشيعة الإمامية أنها المستند لفقههم هي ممّا قاله الأئمة عليهم السلام وقد حفظ الشيعة هذا المشعل مشرقاً بالاعتماد فقط على منبع علم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفيّاض، وبحر علومهم المحيط، وقد بنى الشيعة أصول وفروع فقههم على أساس الأحاديث التي سمعوها من الأئمة عليه السلام، وما يؤسف ويحزن أنه عمل مؤخراً عدد من الأشخاص على تضعيف هذه الأحاديث بالاستدلال على أن رواة أحاديث الشيعة ضعاف، مع أن حدود مائة شخص من محدثي ورواة أخبار الشيعة نظير "إبان بن تغلب" وغيره من الموثقين ومورد للاعتماد لدى أهل السُنَّة.

لا بأس من الإشارة هنا إلى عدة مسائل:

أ ـ أن الكتاب الذي جمعه الإمام علي عليه السلام بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمى "الجامعة" وطوله سبعون ذراعاً بدليل رواية أبي عبيدة أنه قال: سأل أبا عبد الله عليه السلام بعض أصحابنا عن الجفر فقال: هو جلد ثور مملوء علماً يقال له "الجامعة"، قال: تلك صحيفة طولها سبعون ذراعاً عرض الأديم مثل فخذ الفالج فيها كل ما يحتاج إليه الناس وليس من قضية إلا وهي فيها حتى أرش الخدش... (أصول الكافي، ج1، ص 241).

ب ـ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أملى هذه العلوم على علي عليه السلام فقط، وفي زمانه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعلمها أحد غير علي عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصاه أن يكون هذا الكتاب من بعده عند الأئمة الأحد عشر، فعمل علي عليه السلام بوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجعله بعده عند الأئمة عليهم السلام، وكان كل منهم يحفظه حتى يسلمه إلى الإمام الآخر.

ج ـ هذا الكتاب كان موجوداً عند الأئمة عليهم السلام، وقد أراه الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام إلى جمع من الأصحاب وجمع من الناس ليطمئنوا من وجوده، أو كانوا يفعلون ذلك ليستطيعوا أن يحتجوا ويستدلوا على ما كانوا يعزونه من آرائهم ونظرياتهم، وكانوا يقسمون أن هذا الكتاب هو من إملاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي عليه السلام.

د ـ هذا الكتاب كان مشهوراً في ذلك الزمان بـ"كتاب علي"، والبخاري في صحيحه روى عنه في بابي "كتابة الحديث" "وأثم من تبرأ من مواليه".

هـ- لم يكن هذا الكتاب مشهوراً عند الشيعة فقط، بل كان يتمتع بشهرة خاصة عند العامة في عصر الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام لأن هذين الإمامين كانا يستدلان به في الجواب على استفتاءات الناس، ويبينون في الجواب أنه جاء في كتاب علي، كما في جواب استفتاءات غياث بن إبراهيم، طلحة بن زيد السكوني، سفيان بن عيينة، حكم بن عتيبة ويحيـى بن سعيد، وكذلك في جواب أسئلة كبار الشيعة نظير زرارة، محمد بن مسلم، عبد الله بن سنان، ابن بكير وأبي حمزة وغيرهم.

مرحلة التبيين والتدوين

بناءً على عقيدة الشيعة الإمامية، هذه المرحلة ابتدأت بعد زمان التشريع، واستمرت حتى نهاية الغيبة الصغرى ومقداراً من زمان غيبة صاحب الزمان الإمام المهدي (عجل الله فرجه) الكبرى سنة 328هـ، من أساطين هذه المرحلة العلماء النجوم أمثال علي بن الحسين بن بابويه (والد الشيخ الصدوق الكبير) المتوفى سنة 328هـ، الشيخ الكليني المتوفى سنة 328هـ وابن قولويه المتوفى سنة 368هـ.

أما طبقاً لما يقول أهل السُنَّة في مجال هذه المرحلة، فهم يعتقدون أن الفقه والحديث لم يتم تدوينهما حتى أواسط هذه المرحلة أي نصف القرن الثاني الهجري. وقد دامت هذه المرحلة أكثر من 300 سنة.

إن تبيين وتدوين الفقه والحديث في هذه المرحلة كانا من مسؤوليات الصحابة والتابعين المهمة. لأن المسلمين في هذه المرحلة كانوا في حاجة مبرمة لجمع مسائل الفقه المتفرقة وأحكام الدين من منبعيهما القرآن والسُنَّة النبوية لكي يُرجع إليها عند مواجهة مسألة ما دينية، علمية، اجتماعية أو فردية وغيرها. فالمرحلة الأولى التي هي مرحلة التشريع والتقنين انتهت برحيل نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمون بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يقومون بأعمالهم على أساس القرآن والسُنَّة، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله وتقريره. وعندما كانوا يواجهون مشكلة علمية أو دينية واجتماعية أو مسألة مستحدثة، كانوا يرجعون لأجل حلها إلى الإمام علي عليه السلام. الذي هو باب العلم النبوي. أو الصحابة الآخرين، الذين كانوا قد تعلموا من علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلال صحبتهم له.

في هذه المرحلة، كان حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسُنَّته أهم أساس للتشريع بعد القرآن الكريم، وقد جاء في القرآن الكريم: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب﴾ِ (سورة الحشر/7).

وفي هذه المرحلة قام علي عليه السلام وأتباعه وأوصلوا سُنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأجيال القادمة بأفضل صورة ممكنة، وطبقاً لمصلحة الأمة الإسلامية وبصدقٍ وإخلاص. وقد كان هذا الجهد مهماً ويستحق التقدير لدرجة أن أحد علماء أهل السُنَّة نظير "الذهبي" في كتاب "ميزان الاعتدال"، يقول: يظهر الميل للتشيع بين التابعين والجيل الذي يليهم بكثرة، وقد امتزج التشيع بينهم بالتدين والتقوى والصدق. وعليه فإذا ضعفت أحاديث هؤلاء الأشخاص فسيرمى جزء عظيم من روايات النبي صلى الله عليه وآله وسلم" (ميزان الاعتدال/ ج1، ص5).

امتيازات فقه الشيعة

يتضح من الأبحاث السابقة أن فقه الشيعة يمتلك امتيازات منها:

1- فقه الإمامية فيه فروع كثيرة، والشمولية والتحقيق والعمق والدقة في الاستدلال الذي يرى فيه لا يوجد في أي فقه آخر. وهذا كله من ثمار وبركة "الاجتهاد" الذي تُرجع على أسسه المسائل الفرعية الجديدة إلى الأصول، وتطبق القواعد الكلية على المصاديق الخارجية. وهكذا يتسع مجال التشريع من جهة المصاديق الخارجية والمسائل المستحدثة، ولكن الأصول الأساسية تبقى سالمة دائماً.

2- فقه الشيعة لديه منابع ومصادر كثيرة هي حاصل سعي وجهد الإمام علي عليه السلام وشيعته الصادقين، هذا الجهد الذي استمر 250 سنة بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

3- فقه الشيعة يستند بعد القرآن الكريم إلى السُنَّة النبوية. ويستمد المسائل الفقهية والأحكام الدينية منها، وقد قام الإمام علي عليه السلام وأولاده وأصحابه الصادقون بهذا العمل بشكل جيد، وهذا أحد امتيازات فقه الشيعة طوال أكثر من قرن. وهذا الامتياز يفتقده غيرهم، لذلك توجهوا في استنباط الأحكام الشرعية والمسائل الفرعية الفقهية إلى القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وقانون السلف وغيره من المباني الوضعية غير الشرعية، والسبب في هذا عدم إمكان الوصول إلى منابع روائية كافية.

4- الشيعة لديهم منابع صافية ومستقيمة يستخرج منها الفقه والحديث، وهي بعد الكتاب الإلهي القواعد الأساسية لتفكيرهم الفقهي، طهارة واستقامة مصادر الشيعة الفقهية نشأت من الاعتقاد بعصمة الأئمة عليهم السلام الذين هم مبينو الأحكام الأصليون ورواة سُنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والشيعة فقط هم الذين يعتقدون أن أئمتهم معصومون من الخطأ والنسيان والغفلة والمعصية.

الاختلاف في تدوين الفقه والحديث

بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برز اختلاف بين الأصحاب والتابعين في جواز وكراهة ضبط الأحاديث، وعلى هذا الأساس كان الإمام علي عليه السلام، وابنه الإمام الحسن عليه السلام وجمع من الصحابة نظير "أنس" و"عبد الله بن عمرو بن العاص" من القائلين بجواز وحلية بل بلزوم. كتابة الحديث، وبعض مثل عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأبو سعيد الخدري كانوا معتقدين بأن كتابة حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراً مكروهاً ومبغوضاً.

أهل السُنَّة أيضاً حتى نصف القرن الثاني الهجري، أي أواخر عصر التابعين، كانوا يمتنعون عن كتابة الحديث طبقاً للنظرية الثانية. ولكن في ذلك الزمان اتفق علماء السُنَّة على لزوم تدوين الحديث لحمايته من الضياع والتلف. ويمكن الحصول على علّة تأخير ضبط الأحاديث والحكم بلزوم كتابة الحديث أيضاً بالرجوع إلى أقوال محدثي أهل السُنَّة.

الإمام علي عليه السلام كان كما في المرحلة الأولى الممسك بزمام مسؤولية ضبط سُنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي المرحلة الثانية أيضاً تصدى مع عدة من أصحابه لتدوين الفقه والحديث، وما تم جمعه بواسطته عليه السلام هو التالي:

1- القرآن الكريم:

أول مجموعة جمعها الإمام علي عليه السلام هي القرآن. الذي هو أول مستند فقهي. الإمام علي عليه السلام بعد الفراغ من تكفين ودفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، آلى على نفسه أن لا يضع لباساً على بدنه إلا لأداء الفريضة أو جمع القرآن الكريم.

الإمام عليه السلام جمع القرآن بحسب نزول الآيات، وقد أشار فيه إلى عامه وخاصه، مطلقه ومقيده، محكمه ومتشابهه، ناسخه ومنسوخه، وواجباته ومستحباته وآدابه وأخلاقه. وذكر أيضاً شأن نزول بعض الآيات وفسر بعض الآيات المشكلة. ينقل ابن حجر في الصواعق أن ابن سيرين يقول: لو حصلت على هذا الكتاب لأدركت العلم كله. وقد اهتم جمع آخرون من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً بجمع القرآن، لكن لم يوفقوا لجمعه بحسب النزول، وما جمعوه ليس فيه أي ميزة من ميزات عمل الإمام علي عليه السلام. بناءً عليه، الإمام علي عليه السلام هو أول شخص جمع القرآن وفسره.

يروي ابن عباس أن الله ضمن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن علياً عليه السلام سيجمع القرآن بعده، لذلك جعل القرآن في قلب علي عليه السلام وجمع القرآن بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووضع بين يدي المسلمين.

ويقول السيوطي في الإتقان أنه روى عن علي عليه السلام تفسير كثير من الآيات، وينقل معمر عن أبي طفيل أنه رأى علياً عليه السلام يخطب ويقول أنه يطلب من الناس أن يسألوه وأنه سيجيب عن كل أسئلتهم، وأن يسألوه عن كتاب الله ويقسم أنه يعلم كل آية أفي ليل نزلت أم في نهار وفي جبل أم صحراء.

وروى أبو النعيم في "حلية الأولياء" عن أبي السعود: أن القرآن نزل على سبعة أحرف، وأن كل حرف له ظهر وبطن وإن ظاهر وباطن كل آية عند علي.

عن طريق أبي بن عباس أيضاً عن نصير بن سليمان الأحمس عن ولده أن علياً عليه السلام يقسم بالله أن ما من آية نزلت إلا ويعلم شأن نزولها ومحله، ويطلب من الله أن يهبه قلباً عارفاً ولساناً سائلاً.

2- مصحف فاطمة "سلام الله عليها":

ألَّف علي عليه السلام كتاباً لزوجته حضرة فاطمة الزهراء "سلام الله عليها" اشتهر عند أولاده باسم "مصحف لفاطمة"، ويحتوي هذا الكتاب على أمثال، حكم، نصائح، تاريخ، روايات وأبواب أخرى نادرة لتعزية فاطمة الزهراء سلام الله عليها في عزاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

3- كتاب الصحيفة:

ألَّف الإمام عليه السلام كتاباً في باب الآيات وسماه الصحيفة، ذكره البخاري ومسلم، ونقلاً عنه في عدة مواضع من صحيحهما. كما أن أحمد بن حنبل أيضاً روى عنه في "المسند".

تدوين الكتاب عند أصحاب علي عليه السلام

في هذه المرحلة اقتدى بعض أصحاب علي عليه السلام به وقاموا في زمانه بتأليف كتب لا يخلو ذكرها من فائدة.

1- يقول الشيخ الطوسي في "الفهرست" أن سلمان الفارسي ألَّف كتاب "حديث الجاثليق الرومي" فبعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل ملك الروم رجلاً اسمه "الجاثليق" إلى الخليفة في ذلك الوقت، ليجد جواباً عن بعض أسئلته. عجز للخليفة عن الجواب، حينذاك أسرع سلمان الفارسي إلى علي عليه السلام وطلب منه أن يدرك أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فذهب الإمام عليه السلام إلى المسجد وأجاب عن أسئلة "الجاثليق"، فكتب سلمان مجريات هذه الحادثة.

2- وينقل أيضاً المرحوم الشيخ في كتاب "الفهرست" أن أبا ذر الغفاري ألَّف كتاباً يشتمل على خطبة تبين الحوادث التي تلي وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه دون كتاباً باسم "وصايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم" وقد شرحه وفسره المرحوم العلام المجلسي وسماه "عين الحياة".

مرحلة اتساع مسائل الفقه

هذه المرحلة بدأت من زمان المجتهد الكبير شيخ الطائفة محمد بن حسن الطوسي (قدس سره) (385 – 460 ه) واستمرّت مدّة تزيد على مائة سنة إلى زمان الفقيه المجدّد المرحوم إبن إدريس، مؤلف كتاب "السرائر" المولود في سنة (555 أو 558 ه) والمتوفي يوم (الجمعة 18 شوال 598).

في هذه المرحلة، اتسع الفقه الإسلامي بشكل عظيم، ودخلت فيه فروع جديدة. لأنّ قواعد الفقه الاجتهادية كانت قد تأسّست في هذا الوقت، وكانت الفروع الفقهية ترجع إلى الأصول الخارجية بالاستفادة من تجارب المراحل السابقة، لذلك ظهرت فروع جديدة وأبواب حديثة بين هذه المسائل.

الفقهاء في هذه المرحلة لم يرضوا ببيان الأصول والكليات في الأبحاث الفقهية والأحكام الدينية من الروايات فقط، بل اهتموا أيضاً بذكر الفروع والتفاصيل التي تستفاد من الأدلة، لذلك دخلت في الفقه مسائل جديدة لم تكن مورداً للبحث قبل ذلك الوقت ووضعت أدلّتها في معرض الدراسة.

في مقدمة علماء هذه المرحلة وحامل لواء هذه الطريقة الفقهية الشيخ الطوسي (قدس سره) الذي ألّف كتباً كثيرة في الأبحاث الفقهية، وراعى في جميعها الخصوصية المذكورة بشكل لم يسبق له نظير.

من كتبه "المبسوط" الذي يذكر فيه بشكل مفصّل ومبسوط أصول جميع مسائله واستنباطاته من الأحاديث، ثمّ ينطلق لذكر فروع المسائل، ثمّ ينطلق لذكر فروع المسائل، يفتح لها أبواباً، يقسم المسائل إلى عدّة أقسام، ويأتي بالمسائل المتناسقة في مكانٍ واحد ويحقّق في فروع كلّ مسألة بشكل وافٍ ويشير إلى أدلّة كلّ مسألة وينقحها بشكل نسبي.

ومن كتبه "الخلاف" الذي كتبه على طريقة كتبه الأخرى، ولكنّه يمتاز بأنّه دقّق فيه في الفروع والمسائل التي اختلف فيها بين الشيعة، الحنفية، الشافعية، المالكية والحنبلية وبين النظرية الصحيحة طبقاً لمذهب الشيعة مع ذكر الدليل.

قد يكون من أفضل المستندات التاريخية التي تبين كيفية الزمان السابق للشيخ الطوسي الذي لم يكن يحقّق فيه في الفروع، والشيخ هو الذي بدأ بهذا العمل. الكلام الذي سطّره في مقدمة كتاب "المبسوط".

هذا الكلام كما يعبر الشهيد آية الله الصدر (تغمده الله برحمته وأسكنه الفسيح من جنّته) أحد المستندات التاريخية المهمّة التي تحكي مراحل نشوء التفكير الفقهي، التي تركتها شريعة الإسلام وراءها ونمت خلالها، فربّت نوابغ مثل الشيخ الطوسي ليطرحوا فقه الشيعة بصورة واسعة وعميقة.

يفهم من كلام الشهيد الصدر أن البحث الفقهي الرائج في زمان الشيخ والذي كان في ضيق منه، كان يكتفي عادةً بعرض الاستنباطات المباشرة من ظواهر روايات الأئمة (عليهم السلام) التي يسميها الشيخ الطوسي أصول المسائل، هؤلاء كانوا مقيدين بنقل عين ألفاظ الحديث، ومن هذه الجهة كانوا يقدّمون بحثاً سريعاً ومستعجلاً، ولم يكن هناك مجال للإبداع والعمق الفكري، كان كتاب المبسوط سعياً موفقاً وكبيراً ساق أساليب البحث الفقهي من مجال نقل أصول المسائل إلى مجال واسع يستطيع الفقيه أن ينطلق نحو التفريع والتفصيل والمقارنة بين الأحكام وتطبيق القواعد الكلية، وأن يعترف في ظلّ استنباطاته المباشرة من الروايات إلى أحكام المسائل المختلفة.

على كلّ حال خطا التفكير الفقهي خطوة من مرحلة الاكتفاء بأصول المسائل والتركيز على نقل متن الأحاديث إلى مرحلة التفريع، أي إرجاع الفروع إلى الأصول، وتطبيق القواعد الكلية على المصاديق، وقد تمّ إنجاز هذا الأمر المهم على يد الشيخ المجدّد محمد بن حسن الطوسي (قدس سره).

من المناسب هنا الإشارة إلى أمر وهو أنّ تطوّر وتكامل البحث الفقهي على يد الشيخ الطوسي (قدس سره) لم يكن مسألة فجائية وبدون تمهيد وتحضير الأرضية، بل تمّ بذر بذوره في المرحلة الثانية بواسطة الأئمة المعصومين عليهم السلام، وقبل ذلك كلّه تمّ تمهيد الأرضية في مرحلة التشريع بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّه شوهد في كتب الأحاديث والروايات أخبار سأل فيها الرواة الإمام الصادق عليه السلام أسئلة في مجال العناصر المشتركة للاجتهاد والاستنباط وأخذوا أجوبتها، هذه المجريات تدلّ على أنّ جذور الاجتهاد والتفريع كانت موجودة عندهم، سنبين ونفصّل هذه المسألة في بحث مستقل تحت عنوان "مراحل الاجتهاد".

وبأيّ وجه كان، إنّ ما تمّ القيام به في زمان ابن أبي عقيل، وابن الجنيد تطوّر بواسطة الشيخ المفيد والسيد المرتضى (قدس سرهما) واستمرّ بتطوّره بعدهما، حتّى حطّت المرحلة الرابعة رحالها على يد الشيخ الطوسي القوية في كتاب المبسوط.

كتاب المبسوط – كما يقول الشهيد الصدر – هو تبلور واتساع وتكامل البحث الفقهي والتفكير الأصولي، الذي كان ابتداؤه وتوسعته وتطوّره وتفصيله وتفريعه في زمان ابن أبي عقيل وابن الجنيد والسيد المرتضى (علم الهدى).

الركود النسبي للبحث الفقهي في هذه المرحلة

هذه التوسعة المهمة التي حدثت بواسطة الشيخ الطوسي في الأبحاث الفقهية، توقفت عن التكامل بعد وفاته مدّة قرن، وهذه كانت مرحلة ركود الأبحاث الفقهية.

في طول هذه المائة سنة كان العلماء والفقهاء يتبعون طريقة الشيخ بالدقّة في التفريعات وتطبيق القواعد والاستنباط واستخراج الأحكام من المصادر والمراجع، وكانوا لا يأتون حتّى بكلمة على خلاف رأي الشيخ على اللسان أو القلم. في حال أنّه كان ينتظر أن تكون طريقة الشيخ عاملاً في تطوّر الفقه، وأن يفتح أسلوبه الإبداعي آفاقاً جديدة باتجاه الابتكار والتجديد للفقهاء الآتين.

هذا الوقوف والركود له عوامل مختلفة، من جملتها. كما يقول الأستاذ الشهيد الصدر- أنّ الشيخ الطوسي كان يتمتّع بمكانة ومقام خاص عند تلاميذه، وكان تلاميذه يرون أنّه أعلى من أن يجعلوا من نظرياته معرضاً للانتقاد، وكانوا يعطون لآراء الشيخ قداسة بحيث أنّ أحداً لم يكن يسمح لنفسه بالنقد والاعتراض.

ينقل الشيخ حسن بن زين الدين في كتاب "المعالم" عن أبيه أنّ "أكثر الفقهاء بعد الشيخ كانوا يقلدون الشيخ في فتاواه لأنّهم كانوا يحسنون الظن به" وعن "الحمصي" الذي حكى عن تلك المرحلة روي أن "الشيعة في هذه المرحلة لم يكن لديهم مفتٍ، وكانوا جميعاً يروون وينقلون أفكار الآخرين" يعني ذلك أنّ عمل الشيخ العظيم بدل أن يحدث في المجتمع العلمي رد فعل عميقٍ ويكون مؤثراً في دراسة المسائل والمشكلات ويرشد الآخرين إلى تطور التفكير الفقهي، وقع في حالة من الأحاسيس والعواطف، وقدّمت فيه الناحية القدسية على بعده العلمي والثقافي، إلى حد أنّ أحد الأصحاب كان يتكلّم عن منام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام شهد في عالم الرؤيا على صحة جميع أقوال الشيخ في كتاب "النهاية" وهذا دليل عمق النفوذ الفكري للشيخ في ضمير فقهاء تلك المرحلة، ومن الأسانيد الحاكية عن الأحوال الحاكمة على المجتمع العلمي في تلك المرحلة، قول محمد بن إدريس في مقدّمة كتاب "السرائر" إنّه لما رأى أن علماء العصر تخلّوا عن تعلّم الشريعة المحمدية والأحكام الإسلامية ويندفعون إلى مخالفة ما لا يعلمون، ويتركون ما يعلمون، وأنّه لما رأى الشيخ العجوز في هذه المرحلة قد غرق في الغفلة وسلم زمام أمره للجهل وأضاع الأمانات، وتساهل في تعلم العلوم اللازمة والضرورية وكأنّه ولد اليوم... وأنّه لما رأى العلم مبتذلاً وأن ميدان العلم خالٍ من البحث والرد، انطلق بجهد شاق للحفاظ على ما بقي.

ابن إدريس كان فقيهاً مجدداً قام في هذه المرحلة بدور بنّاء في الوقوف مقابل ركود الفقه، وبثّ روحاً جديدة في جسم الفقه الإسلامي، وفي زمانه انتهى الركود الذي عرض على الفقه، وبظهوره اختلفت أساليب البحث وتوجّه الاستدلال في المسائل الفقهية للأسلوب الاستدلالي، وفتحت أبواب جديدة في الفقه لم تكن من قبل كذلك أبداً، وقد حدث هذا التحوّل الأساسي في الأسلوب الفقهي وكيفية الاستنباط بواسطة هذا العالم فقط، وهو الذي أسّس بناء الاستدلال في أبحاثه الفقهية. إنّ كتاب "السرائر" كلّه شاهد على أنّ التفكير العلمي والفكر الفقهي في مذهبه وصل إلى درجة أنّه حمل شعار مواجهة آراء ونظريات الشيخ الطوسي ونقدها، وهكذا كان وابتدأت المرحلة الخامسة من مراحل الفقه.

تنامي مرحلة الاستدلال والاستنباط

تبدأ هذه المرحلة من زمان المرحوم ابن إدريس الحلي (555 - 598) وتستمر حتى زمان المرحوم المحقق الحلي مؤلف كتاب شرائع الإسلام في أحكام الحلال والحرام. المتوفى سنة (680 - 676هـ) وقد طالت في مجموعها أكثر من مائة سنة.

الأسلوب العلمي للفقهاء في هذه المرحلة كان متأثراً بأسلوب ابن إدريس، وكان أتباع هذا الأسلوب في الفقه مورد قبول الجميع. والفقهاء عند مواجهة المسائل التي لم يكن حكمها من الأحكام الضرورية والقطعية كانوا يسعون لعرض المسائل الشرعة والفقهية مع الاستدلالات القوية. بحيث أنهم كانوا يذكرون المسألة، ثم يندفعون لطرح دليلها ومستندها. وإذا كان في المسألة اختلاف ما، كانوا يحضرون الأقوال والأدلة المختلفة، ويرجحون إحدى النظريات بذكر الدليل. وإذا كانت الأقوال متعارضة حول المسألة، ولم يكن هناك ترجيح لأحد الأطراف. كانوا يحكمون إما بالتخيير أو التوقف.

كان الفقيه المجدد المرحوم ابن إدريس الذي بث حياة جديدة في الفقه، في طليعة علماء هذه المرحلة بل حامل لواء هذا النحو من التفكير فقد اندفع نحو البحث الاستدلالي في الفروع الفقهية بشكل لم يسبق له نظير وتبعه الكثير من المتأخرين عنه. لقد ألف كتباً فقهية كثيرة على أساس أسلوبه، ومن جملتها كتاب "السرائر" الذي يحتوي على كل أبواب الفقه، ويفيض بالنكات الاستدلالية الدقيقة في استنباط المسائل الشرعية من أدلتها الأربعة الكتاب والسنة، والإجماع والعقل.

لا بد من التوضيح أن ابن إدريس كان أول شخص فتح باب الاعتراض على الشيخ الطوسي. وهو بعد تأسفه على أهل زمانه في كتابه المذكور يطرح بحثه ويقول: هذا الكتاب بنظري هو أفضل تأليف يوضع في هذا الفن، وهذا الأسلوب هو أحسن طريقة في البيان، وأصدق طريق لطرح البحث وتقديم الدليل، إذ لا سبيل فيه أبداً للروايات والأخبار الضعيفة. لقد بنيت تحقيقي في هذا الكتاب على أساس سبك جديد فكشف الأحكام يكون ممكناً بأحد الطرق التالية فقط: إما عن طريق كتاب الله أو سنة النبي المتواترة، أو إجماع واتفاق العلماء، أو بدليل العقل. فمع عدم إمكان الوصول إلى الحكم الشرعي من الطرق الثلاثة أولى، عندها يعتمد المحققون في المسائل الشرعية على دليل العقل، ويتعرضون من هذا الطريق على جميع الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية. إذاً يجب الاعتماد عليه، وكل من أنكر حجيته فقد ضلّ وسار في الظلمات، وقال بما هو خارج عن حدود المذهب.

ولكن طريقة ابن إدريس لم تكن مقبولة عند فقهاء زمانه، بل أغضبتهم ولذلك قالوا في حقه: "هو رئيس فقهاء الحلة، ويتقن علوماً كثيرة، ولديه تأليفات وتصنيفات كثيرة، ولكنه بشكل عام أعرض عن أخبار وروايات الأئمة (عليهم السلام)".

ولكن الإنصاف أن ابن إدريس لا يستحق هذا الحكم، لأنه لم يغمض عينه أبداً عن الأخبار والروايات المعتبرة والمعتمدة، بل كما صرح هو نفسه أعرض عن الأحاديث الضعيفة فقط وعمل بالروايات الموثقة، وجاء بدليل إعراضه أيضاً في عبارته المذكورة.

على كل حال، بظهور ابن إدريس انتهت مرحلة التمسك المطلق بنصوص الروايات. وكما يظهر من كلامه لقد دعا هو والفقهاء للاستناد إلى الدليل العقلي أيضاً، وهكذا كان فتحت أبواب الاستدلال في الأبحاث الفقهية. من المناسب هنا أن ننقل كلام الشهيد آية الله الصدر في مجال المقايسة بين كتاب السرائر لابن إدريس، والمبسوط للشيخ الطوسي: يقول الشهيد الصدر:

 

من مطالعة كتاب السرائر ومقايسته بالمبسوط نصل إلى النتائج التالية:

1 - أن كتاب المبسوط يبحث في دور العناصر الأصلية للاستنباط في البحث الفقهي، والارتباط بينهما. ولكن كتاب السرائر طرح هذا البحث بشكل أوسع وكمثال على ذلك، ابن إدريس في باب "أحكام المياه" تعرض لثلاث قواعد أصولية وربط بحثه الفقهي بها، في حال أن هذه القواعد لا ترى في كتاب المبسوط للشيخ، وإن كانت هذه الأصول طرحت كنظرية كلية في الكتب الأصولية قبل ابن إدريس.

2 - الاستدلال الفقهي في كتاب السرائر أوسع من كتاب المبسوط، فابن إدريس ذكر المسائل التي يختلف مع الشيخ فيها، وطرحها مع استدلالاتها الكثيرة من باب المثال: مسألة جاءت في كتاب المبسوط في سطر واحد، وفي السرائر استوعبت صفحة كاملة، ومن هذا القبيل يمكن ذكر المسألة التالية:

إذا كان الماء المتنجس أقل من كر ووصل بواسطة مقدار متنجس آخر إلى حد الكرية فهل هو طاهر أم لا؟ الشيخ في المبسوط حكم ببقاء النجاسة في الماء المزبور، ولم يتجاوز في توضيحه عن جملة واحدة، في حال أن ابن إدريس بحث في المسألة بشكل واسع وقال في الخاتمة: لقد ألفنا في هذا الموضوع رسالة منفردة من عشر أوراق، وذكرنا دليلنا وأجبنا على الإشكالات وتمسكنا بأدلة وشواهد من الآيات والروايات.

نحن نرى من ناحية مقدار الاختلاف بين ابن إدريس والشيخ الطوسي، ومن ناحية أخرى نرى همة ابن إدريس العالية ففي كل مسألة يستعرض الأدلة لتأييد رأي الشيخ ثم يقوم بردها وإبطالها واحداً بعد الآخر. في حال أنه هو الذي ابتدع هذه الأدلة وافترضها، ثم أبطلها حتى لا يبقى مجال للترديد في صحة رأيه، أو أن هذه الأدلة تعكس الفكر التقليدي الذي كان حاكماً على ذك الزمان، الذي أثارته نظريات ابن إدريس، الجديدة وقام للدفاع عن آراء الشيخ الطوسي ومواجهة أفكار ابن إدريس.

نرى أن ابن إدريس جاء بكل أدلة واحتجاجات المخالفين ثم ردها، وهذا يعني أن الحوزة العلمية التي دعاها للمواجهة كانت تقوم بردة فعل مقابل نظرياته. ويفهم أيضاً من كتاب السرائر أن ابن إدريس كان يقف في مواجهة معاصريه بآرائه ويباحثهم يناقشهم، ولم يجد نفسه في مجال التأليف والتصنيف، ومن الطبيعي في هذه الصورة أن تحدث أفكاره رد فعل في المجتمع برز بتأييد الكثيرين الشيخ الطوسي. إحدى هذه المواجهات يذكرها ابن إدريس نفسه في باب الزراعة من كتاب السرائر، نقل في البداية نظرية فقهية ثم أشكل عليها وقال: هذا القول هو من السيد العلوي ابن زهرة، ولقد قابلته مرة، ثم تكاتبنا وبينت له أخطاءه في المكاتبات، ولكن المرحوم كان يأتي بأعذار وأدلة لم يكن أي منها واضحاً.

ونشاهد كذلك في أبحاث ابن إدريس كم كان يتألم من المقلدين الذين يتعبدون بآراء الشيخ وكمثال على ذلك، هناك مسألة في الفقه يقول: "إذا مات الكافر في بئر فكم يجب أن ننزح منه كي يطهر"؟.

يقول ابن إدريس في هذا المجال إن جميع الفقهاء متفقون على وجوب نزح البئر كله إذا لمس الكافر ماء البئر. وبناءً على ذلك عندما يموت الكافر في ذلك الماء يكون الحكم كذلك استدلالاً بالأولوية. وبما أن الاستدلال بالأولوية يعتبر ظاهرة عقلية جريئة نسبة للمستوى العليم لزمان ابن إدريس، يتابع كلامه فيقول: "عندما يسمع أي شخص هذا الكلام يستبعده ويفر منه ويقول: من قال بهذا وذكره في كتابه، ومن أشار إلى هذا الأمر من أهل الفن الذين هم المرجع لمسائل كهذه".

نرى أن ابن إدريس حاصر مقلدي الشيخ بمرونة خاصة بحيث أنه يسعى لتأويل كلام الشيخ لإقناعهم بأن الشيخ قال بهذا وأفتى به. مثلاً في مسألة "متمم ماء الكر" التي ذكرت سابقاً وحكم ابن إدريس بطهارته، ويقول: الشيخ أبو جعفر الطوسي أيضاً الذي يستدل على خلاف قولنا ويتم تقليده في هذه المسألة وصار كلامه دليلاً للمقلدين هو نفسه يقوي في كثير من أقواله القول بالطهارة ويفتي به. وأنا سأبين إن شاء الله أنه إذا نظر في كلام الشيخ وبفكر خالٍ من التحكم، يظهر من كلامه أنه يقول بهذه المسألة ويعتقد مثلنا بطهارة الماء المزبور.

3 - "كتاب السرائر" من الناحية التريخية معاصر لحدِّ ما لكتاب "الغنية" لابن زهرة الذي هو دراسة مستقلة في علم الأصول. لأن ابن زهرة توفي قبل ابن إدريس بمدة 19 سنة، عندما نقرأ أصول ابن زهرة ونقايسه مع كتاب السرائر، نرى ظاهرة مشتركة بين هذين الكتابين، فهما يمتازان من تأليفات عصر تقليد الشيخ المطلق، وهذه الظاهرة المشتركة هي الاعتراض على آراء الشيخ والاعتقاد بنظريات مخالفة لفكره الفقهي والأصولي. كما رأينا في كتاب السرائر فابن إدريس يرد على استدلالات الشيخ الفقهية، ونرى ابن زهرة أيضاً في كتاب "الغنية" يقوم بمناقشة أدلة الشيخ الأصولية في كتاب "عدة الأصول" ويستدل على النظريات المخالفة للشيخ، ويطرح أحياناً مشكلات أصولية جديدة لم تكن مطروحة قبل كتاب "الغنية".

هذه المسائل تشير إلى أن الفكر العلمي في ذلك الزمان بجناحيه الأصولي والفقهي قد تطور وتكامل إلى حدِّ وجد الصلاحية لمواجهة أفكار وآراء الشيخ ووضعها تحت السؤال إلى حد ما.

يتابع الأستاذ الشهيد ويقول:

"هذا العلم الذي ظهر في زمان ابن إدريس، تطور أكثر على طول الأجيال، التالية، وازدادت ذخائره العلمية، وظهر في تلك المدة علماء نوابغ وعملوا على التأليف والتصنيف والابتكار والإبداع في مجال علم الأصول والفقه..

ومن شخصيات هذه المرحلة نجم الدين المحقق الحلي (600 - 676هـ) الذي عمل على التحقيق في المباني الفقهية، واهتم في كتابه "المعتبر" بتحكم قواعد الفقه الثابتة، وكان ناجحاً في هذا الميدان.

مرحلتي التدقيق والتلخيص‏

تبدأ هذه المرحلة من زمان شيخ الفقهاء وإمام المدققين الشيخ الأنصاري الدزفولي (قدس سره) (1214- 1281هـ) وتختتم بزمان المعلم الكبير العالم الملا محمد كاظم الخراساني (1255- 1329هـ).

هذه المرحلة من مراحل الفقه شهدت حركة فقهية دقيقة ومهمة، ووصلت الأبحاث الفقهية إلى قمة اتساعها، الفقيه في هذه المرحلة كان يتمتع بأعلى مرتبة من دقة النظر في البحث، وتطور الفقه من ناحية الدقة في الاستدلال بشكل ملحوظ.

رئيس هذه المرحلة ومنشئ هذه الطريقة هو المرحوم الشيخ الأنصاري، الذي بث في الأبحاث الفقهية روحاً جديدة وقدَّم آراء دقيقة وكاملة، وكان بهذا الأسلوب أمير قافلة المحققين الآخرين، كتابه الفقهي "المكاسب" شاهد حي على طرز تفكيره الفياض بالآراء العميقة والمباحث القيمة، ففي كتابه "المكاسب" وكتبه الأخرى استعمل أسلوباً جديداً في الاستدلال على الأحكام الدينية والمسائل الشرعية وخاصاً بها، ولا يتفق مع طريقة أي من أسلافه.

خصوصيات كتاب "المكاسب":

الشيخ الأنصاري في كتاب "المكاسب" لم يستخدم في البداية أسلوب إقناع القارئ‏ بالنظر بمحتوى الأدلة، بل عمل على الاستدلال العميق والدقيق في مجال كل مسألة، وجعل جميع نواحي الأدلة مورد البحث بدقة عالية وجهد في الجمع بينها بآرائه الصائبة كي لا يتعرض مثل الفقهاء الآخرين عند نقد وتحيل الأدلة للنقض والإشكال، فهو يعنون المسألة ثم يجزأها ويحللها علمياً، ويثبت لها حكماً، ثم يبدأ بمناقشتها بذكر مقدمات، ويوردها في الذهن ببيان جميل وقلم سيّال، بحيث يظنها المتعلم خالية من أي شبهة أو إشكال، بعد ذلك يضع المقدمات المذكورة موضع الإشكال ويبطلها جميعاً مع ذكر الدليل. عند ذلك يأتي للمسألة بأدلة أخرى ويثبت حكماً آخر، ويؤيد نظريته الجديدة بذكر أقوال الفقهاء الآخرين، وبعد ذلك كله يجعل مقدمات استدلاله في معرض المناقشة الدقيقة. ويأتي لها بدلائل محكمة لا تقبل النقض، وفي النهاية يبين حكم المسألة بشكل حاسم بالاستشهاد بأدلة من الكتاب والسنة وبتأييد من أقوال الفقهاء وعلماء اللغة.

أسلوب الشيخ الأنصاري المبتكر هذا في المسائل الفقهية أثار عجب معاصريه، وبقوا مدة من بعده عاجزين عن زيادة شي‏ء عليه، واعترف كثير من المتأخرين عنه بنبوغه وتفوقه العلمي بين المتقدمين والمتأخرين. ومن هنا كان كتاب المكاسب مورد اهتمام منذ زمن تأليفه حتى الآن، لقد قام الفقهاء الكبار بتعليمه وتعلمه، وآراؤه الدقيقة مشهودة في جميع مباحثهم، وصارت معرفة جوانب مباحث الشيخ الدقيقة معياراً قيماً لامتحان قدرة الاجتهاد لدى طلاب العلم، من هذه الجهة توجه طلبة العلم في جميع الحوزات العلمية لدراسته وتعليمه وتعمله، حتى قال كثير من الفقهاء أن "كل من عرف آراء الشيخ الدقيقة في كتاب المكاسب فهو مجتهد".

وبما أن كتاب المكاسب يشتمل على معان دقيقة ومحتوى عميق فقد انطلق عدد كبير من الفقهاء لشرحه وتوضيحه وتبيين مسائله ولم يترددوا في هذا السبيل عن أي سعي.

رجال عصر الشيخ الأنصاري:

هذه الحركة والقفزة الفقهية التي انطلقت من فكر الشيخ الصافي ستستمر برشد زائد، وفي هذا المجال ظهر نوابغ علماء، مثل:

1- الإمام المجدد كاظم الخراساني (1329هـ).

2- آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري، مؤسس الحوزة العلمية في قم (1355).

3- آية الله العظمى المجدد الميرزا محمد حسن الشيرازي (1312).

4- آية الله العظمى السيد محمد كاظم اليزدي (1337هـ).

5- آية الله العظمى الميرزا محمد تقي الشيرازي (1338هـ).

وفقهاء آخرون هم محور التحقيق ودقة النظر في المباني الفقهية والأصول والاستنباط.

مرحلة التلخيص:

هذه المرحلة بدأت من زمن المرحوم آية الله العظمى الملا محمد كاظم الخراساني (قدس سره) (1255- 1329هـ)، وما زالت مستمرة حتى الآن، هذه المرحلة شهدت أسلوباً جديداً وطريقة بديعة وازدهاراً كبيراً من جهة التلخيص في الأبحاث الفقهية، وقد لخص الفقهاء الكتب الفقهية واستخرجوا مطالبها الخالصة، وزينوها بتحقيقاتهم المثيرة للإعجاب، وقدموها للمجتمع.

من رجل هذه المرحلة الكبار ومتصدري هذا الأسلوب الشيخ الخراساني الذي سعى لتحقيق المباني الفقهية على أسس متينة عبارات مختصرة وجميلة. وجمع في كتبه بين النظرة العميقة في الاستدلال والتوسعة في التحقيق والإيجاز في العبارة، فأعطى بهذا النحو حياة جديدة للفقه.

ألف الشيخ كتاب "اللمعات المنيرة في شرح تكملة البصيرة"، الذي طرح فيه كل أحكام الشريعة بأفضل وأجمل تقسيم وتنظيم، ولكن مع الأسف لم يمهله الأجل لينهي كتابه وقد حرر منه إلى مسألة "مكان المصلي" فقط.

ومن كتبه حاشية على فصلي البيع وخيارات كتاب مطالب الشيخ الأنصاري الذي عرض فيه أمهات المسائل الفقهية ببيان مختصر ودقة نظر وعمق.

إن حياة هذا الشيخ الكبير تعد بهذا الأسلوب نقطة تحول مهمة في الأبحاث الفقهية والأصولية وإلى جانب كل ذلك طرح أيضاً آراءً ونظريات جديدة في الفقه والأصول، لم تزل حتى الآن محط نظر الفقهاء ولم تقل أهميتها أبداً على مدى السنين.

هذا الشيخ الكبير كان يتمتع بقدرة خاصة في مجلس التدريس، وكان يجري أصول الفقه على فروعها المختلفة بمهارة كبيرة ويطبق القواعد الكلية على المصاديق، كان يجول على مقعد التدريس كالأسد المهاب وربى بجهده الذي لا يطرأ عليه التعب أكثر من ألف مجتهد في الفقه والأصول.

من علماء مرحلة التلخيص آية الله العظمى السيد محمد كاظم اليزدي قدس سره المتوفى (1337ه)، الذي عمل على التنقيح والتحقيق في المباني الفقهية ببيان واضح وقول لطيف، وألَّف كتاباً في شرح المكاسب، وبيَّن فيه آراءه الدقيقة ونظرياته العميقة في قالب من العبارات المختصرة، التي ما زال الفقهاء حتى الآن ينظرون إليها بعين الإعجاب.

ومن علماء هذه المرحلة آية الله العظمى ضياء الدين العراقي المتوفى سنة (1361ه) الذي قام بدوره بتحقيق وتلخيص المباني الفقهية بهذه الطريقة، وكان موفقاً بهذا الميدان، ألف كتاب "شرح تبصرة المتكلمين" وبيَّن تحقيقاته واستدلالاته العميقة بعبارات مضغوطة كالمرحوم الخراساني والمحقق اليزدي.

ومن علماء هذه المرحلة آية الله العظمى الشيخ محمد حسين الأصفهاني (1296- 1361ه) الذي بنى المباني الفقهية على أساس محكم وثابت، وبين تحقيقاته العميقة والواسعة بجمل قصيرة، من جملة الكتب ألف كتاب "الإجازة" و"الحاشية على المكاسب" المشتمل على تحقيق ودقة نظر وقوة استدلال وتلخيص، وابتعد عن فضول الكلام بشكل زائد عن الحد.

من أتباع هذا الأسلوب المرجع الكبير آية الله العظمى السيد محسن الحكيم (1306- 1390ه) مؤلف كتاب "مستمسك العروة الوثقى" المستمسك كتاب فقهي قيم من جهة الترتيب والتنظيم والدقة وقدرة الاستدلال وتلخيص المسائل الفقهية لا نظير له في هذه المرحلة، وهو أول كتاب قدم للمجتمع العلمي بهذا الشكل الكامل، وقد نال المرحوم الحكيم بتأليف هذا الكتاب مقام الريادة لقافلة محققي هذه المرحلة، ن كل تحقيق حول كتاب "العروة الوثقى" مرجعه الأساسي كتاب المستمسك لأن هذا الكتاب مهَّد الطريق للآخرين.

جولة في مراحل الفقه

بقلم: الشيخ محمد إبراهيم الجناتي.

معنى كلمتي الفقه والفقيه

الفقه في اللغة بمعنى الفهم، كما جاء في الآية القرآنية:  ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ . وهذه الكلمة في اصطلاح الفقهاء تعني معرفة الأحكام الفرعية الشرعية، التي نحصل عليها عن طريق أدلتها التفصيلية (القرآن، السنة، الإجماع والعقل) سيأتي البحث فيما بعد في مورد بداية ظهور هذا العنوان والاصطلاح.

تطلق كلمة الفقيه اليوم على من لديه قدرة استنباط الأحكام الفرعية الشرعية عن طريق أدلتها التفصيلية.

تاريخ هاتين الكلمتين

كلمتا الفقه والفقيه ليستا مستحدثتين، وليس استخدامهما جديداً، بل كانتا رائجتين منذ بداية ظهور الإسلام، بناءً عليه لا أساس لما يظنه بعض المستشرقين من أنّ المسلمين أخذوهما من قوانين الفقه الرومية. لأنّهما وردتا في القرآن الكريم والحديث الشريف. يقول الله تعالى في القرآن:  ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾

ويقول الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين".

فالملاحظ أنّ هاتين الكلمتين استعملتا في أول المتون الإسلامية.

الفقه الإسلامي لم يتأثر بالفقه الرومي

يدعي بعض المستشرقين إنّ المسلمين في صدر الإسلام كانوا منهمكين بالفتوحات، والفقه الإسلامي تأثر بقوانين وأحكام الروم، بمعنى أنّه في زمن الصحابة - الذين يروون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وفي زمن تابعيهم -الذين يروون عن الصحابة- أُخذت بعض الأحكام الشرعية المستنبطة من قوانين وأحكام بلاد الروم. جاءت هذه الجماعة بدليلين على مدعاها:

الدليل الأول: كلام لأحد المستشرقين يقول فيه: عندما فتحت بلاد الشام على يد المسلمين، كانت مدارس الفقه الرومي لا تزال قائمة في القيصرة الواقعة على سواحل فلسطين وبيروت وكانت المحاكم القضائية تقضي على أساسه، واستمرت هذه القوانين إلى مدةٍ بعد الفتح. هذا الأمر دليل على أن المسلمين اعتبروا ذلك القانون رسمياً وأقرّوا به.

يتابع دليله فيقول: من الطبيعي أنّ المسلمين الذين لم يتمتعوا بقدر يذكر من المدنية، يجب أن يتبعوا مجتمعاً سبقهم بالثقافة والتمدن، وأن يجعلوا من تصرفاتهم وقوانينهم دستوراً لهم.

الدليل الثاني: إن مقايسة بعض أبواب الفقه الإسلامي، وبعض قوانين الروم تبين التشابه بينهما. بل يدلّ على أنّ متن بعض الأحكام نقل من قوانين الروم مثل القانون الذي يقول: "على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين".

وفي هذين الدليلين إشكالات واضحة:

أولاً: لا أحد من المسلمين حتى نفس المستشرقين يقول أن المسلمين أعم من الفقهاء وغيرهم أشاروا إلى الفقه والقوانين الرومية بنقدٍ أو تأييد وتصديق أو اقتباس واستناد. بناءً على هذا لم يكن يظهر كلام عن الفقه الرومي بين المسلمين فضلاً عن جعله مورداً للبحث والدراسة وإن ترجم بعض المسلمين فلسفة اليونان إلى العربية، ولكن لم يترجم كتاب واحد بل كلمة واحدة من الفقه الرومي إلى العربية.

بالنظر لهذا الأمر نحصل اليقين أن جميع الأحكام الرومية ألغيت بمجرد فتح تلك البلدان.

ثانياً: كان المستشرق المذكور يدعي أنّ مدارس الفقه الرومي كانت موجودة في بلاد الشام في ذلك الوقت، وأنّ المحاكم والقضاة كانوا يحكمون طبقاً له، ولكن يجب الانتباه إلى أنّه كان يوجد في الشام فقهاء وقضاة وولاة كبار، وفي هذه الحال لو كان هناك تأثير من ناحية القوانين الرومية لكان على هذه المجموعة من الفقهاء والقضاة لا على مجموع الفقه الإسلامي.

ثالثاً: المسلمون حاملوا رسالة سماوية عظيمة وقد كانوا يقومون بالفتوحات لتطبيق أحكام دينهم. بناء على هذا كيف يتصور أنّهم يفتتحون أرضاً ثم يخضعون لقوانين قاموا هم أنفسهم للقضاء عليها وسحقها وإقامة حكم الإسلام مكانها؟

رابعاً: ليس بالإمكان أبداً الإتيان بدليل على الادعاء بأنّ المسلمين في عصر الفتوحات يتمتعون بمستوى أقل من التمدن والثقافة نسبة لأهل تلك الأراضي. ولو كان الأمر كذلك لترك المسلمون ثقافتهم ورضخوا لثقافة وآداب تلك الأرض، لأنّ الفكرة العليا هي التي تتمتع بتأثير ونفوذ لا تلك التي تكون ضعيفة ودون مميزات، إضافةً إلى أنّ الإسلام رفض الإكراه في الدين ومنعه.

خامساً: إن جملة "على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين" هي حديث شريف، وجاءت أيضاً في رسالة أرسلها "عمر بن الخطاب" إلى "أبي موسى" في البصرة، بناءً عليه كيف يظن بأنها أُخذت من الأحكام الرومية.

ومما قيل يعلم أنّ دعوى "تأثير الفقه الرومي في الفقه الإسلامي" هي دسيسة من المستشرقين وادعاء لا أساس له، الفقه الإسلامي هو مجموعة أحكام استنبطت من الأدلة الشرعية، وما لم يكن مستنداً إلى دليل فهو ليس من مسائل الفقه الإسلامي.

بداية ظهور عنوان الفقه

لم يكن عنوان الفقه مصطلحاً ورائجاً قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة المنورة، بل ظهر بعد الهجرة، ولكن يستفاد من بعض الأحاديث النبوية أن الفقه كان يستعمل قبل ذلك بمعنى مجموعة القوانين الإلهية. ولكن هذا العنوان لم يصطلح عليه عند الإمامية.

على كلّ حال، هذا العنوان بمعنى الأحكام الشرعية ظهر بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة أقام في مكة ثلاث عشرة سنة ثم بقي في المدينة عشر سنوات وطوال هذه الثلاث وعشرين سنة كانت تنزل آيات القرآن، إلاّ أن الآيات المكية التي تشمل ثلثي القرآن لم تكن في مجموعها تبين الأحكام، بل لبيان مسائل من قبيل الأصول الاعتقادية، الدعوة إلى الإيمان بالله والنبي والقيامة، الأمر بالصلاة، والدعوة للمحاسن الأخلاقية مثل الصدق والأمانة والامتناع عن القبائح والفحشاء مثل الزنا والقتل وغيره، والنهي عن البخس في المكيال وغير ذلك، بناءً عليه، أنّ الجهة الأصلية للتشريع في مكة كانت متوجهة إلى تثبيت العقائد وإصلاح المفاسد العقائدية ومحاربة الشرك والإلحاد ومحوه لا نحو بيان الأحكام والمسائل الفقهية.

أما الآيات المدنية التي نزلت في المدينة بعد الهجرة، وهي ثلث القرآن تقريباً، هي بيان للأحكام والقوانين الشرعية. كانت الآيات تنزل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلوها للناس. الآيات التي تحمل المسائل المرتبطة بوقائع وحوادث المجتمع، والمزيلة للمشكلات الاجتماعية والفردية والسياسية لدى المسلمين، الآيات المتضمنة لمسائل المعاملات نظير البيع والإجارة والرهن والربا. والمسائل الحقوقية مثل حد الزنا والسرقة والجنايات مثل القتل العمد، ومسائل من قبيل الشهادة في الزنا وغيره، والآيات التي ذكرت فيها الأحكام العبادية مثل الصوم والزكاة والحج والجهاد وشرائطها.

فمختصر الكلام هو أنّ جهة التشريع في المدينة المنورة كانت بيان الأحكام الشرعية الفقهية حتى نال الدين كماله النهائي ووصلت رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم السماوية إلى نهايتها.

إذن الفقه الإسلامي من بداية ظهوره في المدينة المنوّرة كان له تطورات كثيرة وتجاوز مراحل متعددة، هذه المراحل والعهود يمكن بيانها بالترتيب التالي:

مرحلة التشريع:

هذه المرحلة تبدأ من أول يوم لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سن الأربعين سنة وتستمر حتى يوم وفاته صلى الله عليه وآله وسلم سنة 11 هـ.ق، بناءً عليه تكون مرحلة التشريع قد استمرت مدة ثلاث وعشرين سنة، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقي في مكة مدة 13 سنة تقريباً بعد البعثة، ثم هاجر إلى المدينة، ودخلها يوم الاثنين 11 ربيع الأول بعد ثلاثة أيام. (بداية الهجرة هي مبدأ التاريخ الهجري). وفيما بعد أقام النبي بحدود عشر سنوات ولبى دعوة الحق بتاريخ يوم الاثنين 28 صفر المظفر السنة الحادية عشرة للهجرة وبرحيله انتهت مرحلة التشريع.

كيفية ظهور الفقه في هذه المرحلة

الفقه الإسلامي في هذه المرحلة لم يظهر دفعة واحدة، بل بصورة تدريجية، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلّغ بالفقه والأحكام الإلهية للمسلمين تدريجاً. وكل مدة كان يؤمر من ناحية الله تعالى بإبلاغ واحدة من مسائل الفقه والأحكام الإلهية، فيعلم الناس بها، وأتباع حضرته صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً عند الضرورة لتعلم الأحكام الدينية والاجتماعية والأخلاقية وغير ذلك كانوا يراجعون شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون أي واسطة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجيب عن السؤال بآية من القرآن، أو بقوله وفعله، أو بتأييد قول السائل، لا بد من توضيح أن قول وعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأييد الشخص من قبل النبي تسمى "السُنَّة" في اصطلاح الفقهاء، والسُنَّة في اللغة بمعنى الطريق والطريقة.

في هذه المرحلة من مراحل الفقه الإسلامي كانت أيدي المسلمين مطلقة في تعلم المسائل الفقهية كاملاً، لأنهم كانوا يأخذونها بشكل مباشر من لسان رسول الإسلام الكريم، وأحياناً كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحيل المسلمين إلى الإمام علي عليه السلام لأجل حل المسائل الشرعية، وكانوا يحصلون على أجوبتهم بمراجعة الإمام عليه السلام، وفي بعض الأوقات كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث بعض أصحابه إلى بعض مناطق المسلمين، ليبينوا المسائل الفقهية والأحكام الشرعية، كإرسال معاذ إلى اليمن، ورُشد الفقه لإسلامي في هذه المرحلة لم يزد عن هذا الحد.

مصدر الفقه والتشريع في هذه المرحلة

الفقه والتشريع في هذه المرحلة كان ينبع من الوحي فقط والقول المنسوب للشافعية والمالكية وبعض الحنفية، من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه كان يجتهد، وكان يعطي رأيه في بعض المسائل النظرية غير صحيح، لأن هناك دلائل عديدة في القرآن الكريم على خلافه منها قوله عزّ وجلّ:  ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3/4).

وأيضاً قوله تعالى:  ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين﴾َ  (الحاقة: 44/45/46).

وكذلك قوله تعالى في الآية الأولى من سورة المجادلة في مسألة الظهار التي لم يبين حكمها حتى مضى أربعين يوماً: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ .

مكان وزمان الوحي

الوحي الإلهي نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكان عبادته الواقع في ضواحي مكة المكرّمة. جبل حراء. وقد بدأ بهذه الآيات: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم﴾ .

الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بسماع هذا النبأ ارتجف واضطرب اضطراباً شديداً، وأسرع إلى زوجته وهو في حالة الاضطراب وقال لها "دثريني" فغطته حتى ابتعد عنه الاضطراب والهلع.

يرى الشيعة أن ابتداء نزول الوحي هو 27 رجب، وأهل العامة يعتقدون أنه في السابع عشر من شهر رمضان.

كيفية دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة اندفع للدعوة بصورة سرية مدة ثلاث سنوات، وفيما بعد أظهر دعوته بأمر الله تعالى في الآية التالية:

﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾  (الحجر/ 94 ـ 95).

بعد البعثة نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحدود ثلث القرآن في مدة ثلاث عشرة سنة في مكة، في السنة العاشرة للبعثة هاجر إلى الطائف، وفي السنة الحادية عشرة جاء الأمر بالمعراج، وفي السنة الثالثة عشرة هاجر إلى المدينة، وبعد حدود عشر سنوات من الإقامة في المدينة في يوم 28 صفر السنة الحادية عشرة الهجرية لبّى دعوة الحق.

تدوين الفقه والشريعة

النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر كتبته أن يكتبوا بحضوره ما يوحى إليه من قبل الله تعالى وكانوا يفعلون ذلك.

كل آية من القرآن الكريم كانت تنزل على حضرته في ظرف مناسب، حتى نزل كل الكتاب الإلهي في طول ثلاث وعشرين سنة. وفي ذلك الوقت نصَّب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصيه وخليفته بأمر الله (عزّ وجلّ) في آية التبليغ:  (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين)  (المائدة/ 67).

وبنزول الآية: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ (المائدة/ 3) وصل الدين الإلهي إلى مرحلة كماله، ثم بعد ذلك انتهى نزول الوحي، هذه الآية نزلت قبل ثلاثة أشهر من رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع، ولم ينزل بعدها آية أخرى في مورد الأحكام الإلهية.

كلمة الفقه والفقيه في مرحلة التشريع

في هذه المرحلة كانوا يطلقون كلمة الفقه على جميع تقسيمات الأحكام الشرعية، أعم من الأصولية والفرعية والأخلاقية وغيرها، ولكن لم يكونوا يقولون لمن كان لديه علم بالأحكام الشرعية فقيهاً، في هذه الفترة إذا كان شخص حفظ آيات من القرآن وكان يعلم معانيها ويميز ناسخها ومنسوخها محكمها ومتشابهها وخاصها وعامها، كانوا يسمونه قارئاً. وهذه التسمية كانت بسبب أن القراءة كانت تعد امتيازاً مهماً بنظر العوام، لأن الأمية كانت منتشرة. وعندما نما علم الفقه في أبعاده وجوانبه المختلفة واستقامت قواعده الكاملة، عندها وجدت كلمة "فقيه" وسمّوا بعد ذلك "القرّاء" "فقهاء".

انتشار واتساع الفقه

بنزول حدود ثلث القرآن في المدينة، استمر انتشار الفقه والأحكام الدينية والأخلاقية وغيرها مدة عشر سنوات في هذه الأرض، في طول هذه المدة كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبين الحلال والحرام للمسلمين، ويرشدهم إلى المعارف الإلهية والأحكام الدينية والآداب والعادات الإسلامية، وكان يستجيب لكل حاجات أمة الإسلام، في هذه المرحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحرك مسألة صغيرة أو كبيرة بدون بيان حكمها، حتى أنه لم يتوان عن بيان حكم "أرش الخدش" أيضاً.

في هذه الفترة كان الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام يكتب كل ما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أعم من تفسير آيات القرآن والأحاديث النبوية، وبتعبير آخر كان شخص النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يملي جميع القوانين والأحكام على علي عليه السلام ويأمر بكتابتها وتسجيلها ويوصيه أن يسلمها للأمة من بعده بناءً على هذا الأمر كتب علي عليه السلام أيضاً بخطه واستودعها عند أهلها، وروت في هذا المجال أخبار وروايات كثيرة.

ويستفاد من هذه الأحاديث والروايات أن ما كان عند علي عليه السلام من بيان الحلال والحرام والقوانين كان من قبل جبرائيل أخذه علي عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك أمر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أمته أن يمسكوا به وأن يتعلموا علومهم من أهل البيت عليهم السلام، وأن يتبعوا سيرتهم وأن يجعلوا من أحاديثهم طريقة حياتهم. لأن ما عندهم أكثر وثاقة واطمئناناً من علوم الآخرين، ولا شك أن اللازم على جميع المسلمين في تعلم الفقه واكتساب الأحكام الدينية والمعارف المذهبية. أن يولّوا وجوههم إلى الأئمة عليهم السلام منبع العلوم الزلال فقط. لكن ما يدعو للأسف أن من بين جميع الفرق الإسلامية، فرقة واحدة فقط جعلت هذا العمل طريقتها، ومالت إلى مذهب أهل البيت عليه السلام وتعلموا الأصول والفروع من الأئمة عليهم السلام، وتركوها بالتواتر ميراثاً للخلف وهكذا بقي هذا الرأسمال الخالد ثابتاً من نسلٍ إلى نسل.

الأصول والفروع التي يعتقد الشيعة الإمامية أنها المستند لفقههم هي ممّا قاله الأئمة عليهم السلام وقد حفظ الشيعة هذا المشعل مشرقاً بالاعتماد فقط على منبع علم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفيّاض، وبحر علومهم المحيط، وقد بنى الشيعة أصول وفروع فقههم على أساس الأحاديث التي سمعوها من الأئمة عليه السلام، وما يؤسف ويحزن أنه عمل مؤخراً عدد من الأشخاص على تضعيف هذه الأحاديث بالاستدلال على أن رواة أحاديث الشيعة ضعاف، مع أن حدود مائة شخص من محدثي ورواة أخبار الشيعة نظير "إبان بن تغلب" وغيره من الموثقين ومورد للاعتماد لدى أهل السُنَّة.

لا بأس من الإشارة هنا إلى عدة مسائل:

أ ـ أن الكتاب الذي جمعه الإمام علي عليه السلام بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمى "الجامعة" وطوله سبعون ذراعاً بدليل رواية أبي عبيدة أنه قال: سأل أبا عبد الله عليه السلام بعض أصحابنا عن الجفر فقال: هو جلد ثور مملوء علماً يقال له "الجامعة"، قال: تلك صحيفة طولها سبعون ذراعاً عرض الأديم مثل فخذ الفالج فيها كل ما يحتاج إليه الناس وليس من قضية إلا وهي فيها حتى أرش الخدش... (أصول الكافي، ج1، ص 241).

ب ـ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أملى هذه العلوم على علي عليه السلام فقط، وفي زمانه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعلمها أحد غير علي عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصاه أن يكون هذا الكتاب من بعده عند الأئمة الأحد عشر، فعمل علي عليه السلام بوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجعله بعده عند الأئمة عليهم السلام، وكان كل منهم يحفظه حتى يسلمه إلى الإمام الآخر.

ج ـ هذا الكتاب كان موجوداً عند الأئمة عليهم السلام، وقد أراه الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام إلى جمع من الأصحاب وجمع من الناس ليطمئنوا من وجوده، أو كانوا يفعلون ذلك ليستطيعوا أن يحتجوا ويستدلوا على ما كانوا يعزونه من آرائهم ونظرياتهم، وكانوا يقسمون أن هذا الكتاب هو من إملاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي عليه السلام.

د ـ هذا الكتاب كان مشهوراً في ذلك الزمان بـ"كتاب علي"، والبخاري في صحيحه روى عنه في بابي "كتابة الحديث" "وأثم من تبرأ من مواليه".

هـ- لم يكن هذا الكتاب مشهوراً عند الشيعة فقط، بل كان يتمتع بشهرة خاصة عند العامة في عصر الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام لأن هذين الإمامين كانا يستدلان به في الجواب على استفتاءات الناس، ويبينون في الجواب أنه جاء في كتاب علي، كما في جواب استفتاءات غياث بن إبراهيم، طلحة بن زيد السكوني، سفيان بن عيينة، حكم بن عتيبة ويحيـى بن سعيد، وكذلك في جواب أسئلة كبار الشيعة نظير زرارة، محمد بن مسلم، عبد الله بن سنان، ابن بكير وأبي حمزة وغيرهم.

مرحلة التبيين والتدوين

بناءً على عقيدة الشيعة الإمامية، هذه المرحلة ابتدأت بعد زمان التشريع، واستمرت حتى نهاية الغيبة الصغرى ومقداراً من زمان غيبة صاحب الزمان الإمام المهدي (عجل الله فرجه) الكبرى سنة 328هـ، من أساطين هذه المرحلة العلماء النجوم أمثال علي بن الحسين بن بابويه (والد الشيخ الصدوق الكبير) المتوفى سنة 328هـ، الشيخ الكليني المتوفى سنة 328هـ وابن قولويه المتوفى سنة 368هـ.

أما طبقاً لما يقول أهل السُنَّة في مجال هذه المرحلة، فهم يعتقدون أن الفقه والحديث لم يتم تدوينهما حتى أواسط هذه المرحلة أي نصف القرن الثاني الهجري. وقد دامت هذه المرحلة أكثر من 300 سنة.

إن تبيين وتدوين الفقه والحديث في هذه المرحلة كانا من مسؤوليات الصحابة والتابعين المهمة. لأن المسلمين في هذه المرحلة كانوا في حاجة مبرمة لجمع مسائل الفقه المتفرقة وأحكام الدين من منبعيهما القرآن والسُنَّة النبوية لكي يُرجع إليها عند مواجهة مسألة ما دينية، علمية، اجتماعية أو فردية وغيرها. فالمرحلة الأولى التي هي مرحلة التشريع والتقنين انتهت برحيل نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمون بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يقومون بأعمالهم على أساس القرآن والسُنَّة، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله وتقريره. وعندما كانوا يواجهون مشكلة علمية أو دينية واجتماعية أو مسألة مستحدثة، كانوا يرجعون لأجل حلها إلى الإمام علي عليه السلام. الذي هو باب العلم النبوي. أو الصحابة الآخرين، الذين كانوا قد تعلموا من علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلال صحبتهم له.

في هذه المرحلة، كان حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسُنَّته أهم أساس للتشريع بعد القرآن الكريم، وقد جاء في القرآن الكريم: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب﴾ِ (سورة الحشر/7).

وفي هذه المرحلة قام علي عليه السلام وأتباعه وأوصلوا سُنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأجيال القادمة بأفضل صورة ممكنة، وطبقاً لمصلحة الأمة الإسلامية وبصدقٍ وإخلاص. وقد كان هذا الجهد مهماً ويستحق التقدير لدرجة أن أحد علماء أهل السُنَّة نظير "الذهبي" في كتاب "ميزان الاعتدال"، يقول: يظهر الميل للتشيع بين التابعين والجيل الذي يليهم بكثرة، وقد امتزج التشيع بينهم بالتدين والتقوى والصدق. وعليه فإذا ضعفت أحاديث هؤلاء الأشخاص فسيرمى جزء عظيم من روايات النبي صلى الله عليه وآله وسلم" (ميزان الاعتدال/ ج1، ص5).

امتيازات فقه الشيعة

يتضح من الأبحاث السابقة أن فقه الشيعة يمتلك امتيازات منها:

1- فقه الإمامية فيه فروع كثيرة، والشمولية والتحقيق والعمق والدقة في الاستدلال الذي يرى فيه لا يوجد في أي فقه آخر. وهذا كله من ثمار وبركة "الاجتهاد" الذي تُرجع على أسسه المسائل الفرعية الجديدة إلى الأصول، وتطبق القواعد الكلية على المصاديق الخارجية. وهكذا يتسع مجال التشريع من جهة المصاديق الخارجية والمسائل المستحدثة، ولكن الأصول الأساسية تبقى سالمة دائماً.

2- فقه الشيعة لديه منابع ومصادر كثيرة هي حاصل سعي وجهد الإمام علي عليه السلام وشيعته الصادقين، هذا الجهد الذي استمر 250 سنة بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

3- فقه الشيعة يستند بعد القرآن الكريم إلى السُنَّة النبوية. ويستمد المسائل الفقهية والأحكام الدينية منها، وقد قام الإمام علي عليه السلام وأولاده وأصحابه الصادقون بهذا العمل بشكل جيد، وهذا أحد امتيازات فقه الشيعة طوال أكثر من قرن. وهذا الامتياز يفتقده غيرهم، لذلك توجهوا في استنباط الأحكام الشرعية والمسائل الفرعية الفقهية إلى القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وقانون السلف وغيره من المباني الوضعية غير الشرعية، والسبب في هذا عدم إمكان الوصول إلى منابع روائية كافية.

4- الشيعة لديهم منابع صافية ومستقيمة يستخرج منها الفقه والحديث، وهي بعد الكتاب الإلهي القواعد الأساسية لتفكيرهم الفقهي، طهارة واستقامة مصادر الشيعة الفقهية نشأت من الاعتقاد بعصمة الأئمة عليهم السلام الذين هم مبينو الأحكام الأصليون ورواة سُنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والشيعة فقط هم الذين يعتقدون أن أئمتهم معصومون من الخطأ والنسيان والغفلة والمعصية.

الاختلاف في تدوين الفقه والحديث

بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برز اختلاف بين الأصحاب والتابعين في جواز وكراهة ضبط الأحاديث، وعلى هذا الأساس كان الإمام علي عليه السلام، وابنه الإمام الحسن عليه السلام وجمع من الصحابة نظير "أنس" و"عبد الله بن عمرو بن العاص" من القائلين بجواز وحلية بل بلزوم. كتابة الحديث، وبعض مثل عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأبو سعيد الخدري كانوا معتقدين بأن كتابة حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراً مكروهاً ومبغوضاً.

أهل السُنَّة أيضاً حتى نصف القرن الثاني الهجري، أي أواخر عصر التابعين، كانوا يمتنعون عن كتابة الحديث طبقاً للنظرية الثانية. ولكن في ذلك الزمان اتفق علماء السُنَّة على لزوم تدوين الحديث لحمايته من الضياع والتلف. ويمكن الحصول على علّة تأخير ضبط الأحاديث والحكم بلزوم كتابة الحديث أيضاً بالرجوع إلى أقوال محدثي أهل السُنَّة.

الإمام علي عليه السلام كان كما في المرحلة الأولى الممسك بزمام مسؤولية ضبط سُنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي المرحلة الثانية أيضاً تصدى مع عدة من أصحابه لتدوين الفقه والحديث، وما تم جمعه بواسطته عليه السلام هو التالي:

1- القرآن الكريم:

أول مجموعة جمعها الإمام علي عليه السلام هي القرآن. الذي هو أول مستند فقهي. الإمام علي عليه السلام بعد الفراغ من تكفين ودفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، آلى على نفسه أن لا يضع لباساً على بدنه إلا لأداء الفريضة أو جمع القرآن الكريم.

الإمام عليه السلام جمع القرآن بحسب نزول الآيات، وقد أشار فيه إلى عامه وخاصه، مطلقه ومقيده، محكمه ومتشابهه، ناسخه ومنسوخه، وواجباته ومستحباته وآدابه وأخلاقه. وذكر أيضاً شأن نزول بعض الآيات وفسر بعض الآيات المشكلة. ينقل ابن حجر في الصواعق أن ابن سيرين يقول: لو حصلت على هذا الكتاب لأدركت العلم كله. وقد اهتم جمع آخرون من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً بجمع القرآن، لكن لم يوفقوا لجمعه بحسب النزول، وما جمعوه ليس فيه أي ميزة من ميزات عمل الإمام علي عليه السلام. بناءً عليه، الإمام علي عليه السلام هو أول شخص جمع القرآن وفسره.

يروي ابن عباس أن الله ضمن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن علياً عليه السلام سيجمع القرآن بعده، لذلك جعل القرآن في قلب علي عليه السلام وجمع القرآن بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووضع بين يدي المسلمين.

ويقول السيوطي في الإتقان أنه روى عن علي عليه السلام تفسير كثير من الآيات، وينقل معمر عن أبي طفيل أنه رأى علياً عليه السلام يخطب ويقول أنه يطلب من الناس أن يسألوه وأنه سيجيب عن كل أسئلتهم، وأن يسألوه عن كتاب الله ويقسم أنه يعلم كل آية أفي ليل نزلت أم في نهار وفي جبل أم صحراء.

وروى أبو النعيم في "حلية الأولياء" عن أبي السعود: أن القرآن نزل على سبعة أحرف، وأن كل حرف له ظهر وبطن وإن ظاهر وباطن كل آية عند علي.

عن طريق أبي بن عباس أيضاً عن نصير بن سليمان الأحمس عن ولده أن علياً عليه السلام يقسم بالله أن ما من آية نزلت إلا ويعلم شأن نزولها ومحله، ويطلب من الله أن يهبه قلباً عارفاً ولساناً سائلاً.

2- مصحف فاطمة "سلام الله عليها":

ألَّف علي عليه السلام كتاباً لزوجته حضرة فاطمة الزهراء "سلام الله عليها" اشتهر عند أولاده باسم "مصحف لفاطمة"، ويحتوي هذا الكتاب على أمثال، حكم، نصائح، تاريخ، روايات وأبواب أخرى نادرة لتعزية فاطمة الزهراء سلام الله عليها في عزاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

3- كتاب الصحيفة:

ألَّف الإمام عليه السلام كتاباً في باب الآيات وسماه الصحيفة، ذكره البخاري ومسلم، ونقلاً عنه في عدة مواضع من صحيحهما. كما أن أحمد بن حنبل أيضاً روى عنه في "المسند".

تدوين الكتاب عند أصحاب علي عليه السلام

في هذه المرحلة اقتدى بعض أصحاب علي عليه السلام به وقاموا في زمانه بتأليف كتب لا يخلو ذكرها من فائدة.

1- يقول الشيخ الطوسي في "الفهرست" أن سلمان الفارسي ألَّف كتاب "حديث الجاثليق الرومي" فبعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل ملك الروم رجلاً اسمه "الجاثليق" إلى الخليفة في ذلك الوقت، ليجد جواباً عن بعض أسئلته. عجز للخليفة عن الجواب، حينذاك أسرع سلمان الفارسي إلى علي عليه السلام وطلب منه أن يدرك أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فذهب الإمام عليه السلام إلى المسجد وأجاب عن أسئلة "الجاثليق"، فكتب سلمان مجريات هذه الحادثة.

2- وينقل أيضاً المرحوم الشيخ في كتاب "الفهرست" أن أبا ذر الغفاري ألَّف كتاباً يشتمل على خطبة تبين الحوادث التي تلي وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه دون كتاباً باسم "وصايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم" وقد شرحه وفسره المرحوم العلام المجلسي وسماه "عين الحياة".

مرحلة اتساع مسائل الفقه

هذه المرحلة بدأت من زمان المجتهد الكبير شيخ الطائفة محمد بن حسن الطوسي (قدس سره) (385 – 460 ه) واستمرّت مدّة تزيد على مائة سنة إلى زمان الفقيه المجدّد المرحوم إبن إدريس، مؤلف كتاب "السرائر" المولود في سنة (555 أو 558 ه) والمتوفي يوم (الجمعة 18 شوال 598).

في هذه المرحلة، اتسع الفقه الإسلامي بشكل عظيم، ودخلت فيه فروع جديدة. لأنّ قواعد الفقه الاجتهادية كانت قد تأسّست في هذا الوقت، وكانت الفروع الفقهية ترجع إلى الأصول الخارجية بالاستفادة من تجارب المراحل السابقة، لذلك ظهرت فروع جديدة وأبواب حديثة بين هذه المسائل.

الفقهاء في هذه المرحلة لم يرضوا ببيان الأصول والكليات في الأبحاث الفقهية والأحكام الدينية من الروايات فقط، بل اهتموا أيضاً بذكر الفروع والتفاصيل التي تستفاد من الأدلة، لذلك دخلت في الفقه مسائل جديدة لم تكن مورداً للبحث قبل ذلك الوقت ووضعت أدلّتها في معرض الدراسة.

في مقدمة علماء هذه المرحلة وحامل لواء هذه الطريقة الفقهية الشيخ الطوسي (قدس سره) الذي ألّف كتباً كثيرة في الأبحاث الفقهية، وراعى في جميعها الخصوصية المذكورة بشكل لم يسبق له نظير.

من كتبه "المبسوط" الذي يذكر فيه بشكل مفصّل ومبسوط أصول جميع مسائله واستنباطاته من الأحاديث، ثمّ ينطلق لذكر فروع المسائل، ثمّ ينطلق لذكر فروع المسائل، يفتح لها أبواباً، يقسم المسائل إلى عدّة أقسام، ويأتي بالمسائل المتناسقة في مكانٍ واحد ويحقّق في فروع كلّ مسألة بشكل وافٍ ويشير إلى أدلّة كلّ مسألة وينقحها بشكل نسبي.

ومن كتبه "الخلاف" الذي كتبه على طريقة كتبه الأخرى، ولكنّه يمتاز بأنّه دقّق فيه في الفروع والمسائل التي اختلف فيها بين الشيعة، الحنفية، الشافعية، المالكية والحنبلية وبين النظرية الصحيحة طبقاً لمذهب الشيعة مع ذكر الدليل.

قد يكون من أفضل المستندات التاريخية التي تبين كيفية الزمان السابق للشيخ الطوسي الذي لم يكن يحقّق فيه في الفروع، والشيخ هو الذي بدأ بهذا العمل. الكلام الذي سطّره في مقدمة كتاب "المبسوط".

هذا الكلام كما يعبر الشهيد آية الله الصدر (تغمده الله برحمته وأسكنه الفسيح من جنّته) أحد المستندات التاريخية المهمّة التي تحكي مراحل نشوء التفكير الفقهي، التي تركتها شريعة الإسلام وراءها ونمت خلالها، فربّت نوابغ مثل الشيخ الطوسي ليطرحوا فقه الشيعة بصورة واسعة وعميقة.

يفهم من كلام الشهيد الصدر أن البحث الفقهي الرائج في زمان الشيخ والذي كان في ضيق منه، كان يكتفي عادةً بعرض الاستنباطات المباشرة من ظواهر روايات الأئمة (عليهم السلام) التي يسميها الشيخ الطوسي أصول المسائل، هؤلاء كانوا مقيدين بنقل عين ألفاظ الحديث، ومن هذه الجهة كانوا يقدّمون بحثاً سريعاً ومستعجلاً، ولم يكن هناك مجال للإبداع والعمق الفكري، كان كتاب المبسوط سعياً موفقاً وكبيراً ساق أساليب البحث الفقهي من مجال نقل أصول المسائل إلى مجال واسع يستطيع الفقيه أن ينطلق نحو التفريع والتفصيل والمقارنة بين الأحكام وتطبيق القواعد الكلية، وأن يعترف في ظلّ استنباطاته المباشرة من الروايات إلى أحكام المسائل المختلفة.

على كلّ حال خطا التفكير الفقهي خطوة من مرحلة الاكتفاء بأصول المسائل والتركيز على نقل متن الأحاديث إلى مرحلة التفريع، أي إرجاع الفروع إلى الأصول، وتطبيق القواعد الكلية على المصاديق، وقد تمّ إنجاز هذا الأمر المهم على يد الشيخ المجدّد محمد بن حسن الطوسي (قدس سره).

من المناسب هنا الإشارة إلى أمر وهو أنّ تطوّر وتكامل البحث الفقهي على يد الشيخ الطوسي (قدس سره) لم يكن مسألة فجائية وبدون تمهيد وتحضير الأرضية، بل تمّ بذر بذوره في المرحلة الثانية بواسطة الأئمة المعصومين عليهم السلام، وقبل ذلك كلّه تمّ تمهيد الأرضية في مرحلة التشريع بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّه شوهد في كتب الأحاديث والروايات أخبار سأل فيها الرواة الإمام الصادق عليه السلام أسئلة في مجال العناصر المشتركة للاجتهاد والاستنباط وأخذوا أجوبتها، هذه المجريات تدلّ على أنّ جذور الاجتهاد والتفريع كانت موجودة عندهم، سنبين ونفصّل هذه المسألة في بحث مستقل تحت عنوان "مراحل الاجتهاد".

وبأيّ وجه كان، إنّ ما تمّ القيام به في زمان ابن أبي عقيل، وابن الجنيد تطوّر بواسطة الشيخ المفيد والسيد المرتضى (قدس سرهما) واستمرّ بتطوّره بعدهما، حتّى حطّت المرحلة الرابعة رحالها على يد الشيخ الطوسي القوية في كتاب المبسوط.

كتاب المبسوط – كما يقول الشهيد الصدر – هو تبلور واتساع وتكامل البحث الفقهي والتفكير الأصولي، الذي كان ابتداؤه وتوسعته وتطوّره وتفصيله وتفريعه في زمان ابن أبي عقيل وابن الجنيد والسيد المرتضى (علم الهدى).

الركود النسبي للبحث الفقهي في هذه المرحلة

هذه التوسعة المهمة التي حدثت بواسطة الشيخ الطوسي في الأبحاث الفقهية، توقفت عن التكامل بعد وفاته مدّة قرن، وهذه كانت مرحلة ركود الأبحاث الفقهية.

في طول هذه المائة سنة كان العلماء والفقهاء يتبعون طريقة الشيخ بالدقّة في التفريعات وتطبيق القواعد والاستنباط واستخراج الأحكام من المصادر والمراجع، وكانوا لا يأتون حتّى بكلمة على خلاف رأي الشيخ على اللسان أو القلم. في حال أنّه كان ينتظر أن تكون طريقة الشيخ عاملاً في تطوّر الفقه، وأن يفتح أسلوبه الإبداعي آفاقاً جديدة باتجاه الابتكار والتجديد للفقهاء الآتين.

هذا الوقوف والركود له عوامل مختلفة، من جملتها. كما يقول الأستاذ الشهيد الصدر- أنّ الشيخ الطوسي كان يتمتّع بمكانة ومقام خاص عند تلاميذه، وكان تلاميذه يرون أنّه أعلى من أن يجعلوا من نظرياته معرضاً للانتقاد، وكانوا يعطون لآراء الشيخ قداسة بحيث أنّ أحداً لم يكن يسمح لنفسه بالنقد والاعتراض.

ينقل الشيخ حسن بن زين الدين في كتاب "المعالم" عن أبيه أنّ "أكثر الفقهاء بعد الشيخ كانوا يقلدون الشيخ في فتاواه لأنّهم كانوا يحسنون الظن به" وعن "الحمصي" الذي حكى عن تلك المرحلة روي أن "الشيعة في هذه المرحلة لم يكن لديهم مفتٍ، وكانوا جميعاً يروون وينقلون أفكار الآخرين" يعني ذلك أنّ عمل الشيخ العظيم بدل أن يحدث في المجتمع العلمي رد فعل عميقٍ ويكون مؤثراً في دراسة المسائل والمشكلات ويرشد الآخرين إلى تطور التفكير الفقهي، وقع في حالة من الأحاسيس والعواطف، وقدّمت فيه الناحية القدسية على بعده العلمي والثقافي، إلى حد أنّ أحد الأصحاب كان يتكلّم عن منام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام شهد في عالم الرؤيا على صحة جميع أقوال الشيخ في كتاب "النهاية" وهذا دليل عمق النفوذ الفكري للشيخ في ضمير فقهاء تلك المرحلة، ومن الأسانيد الحاكية عن الأحوال الحاكمة على المجتمع العلمي في تلك المرحلة، قول محمد بن إدريس في مقدّمة كتاب "السرائر" إنّه لما رأى أن علماء العصر تخلّوا عن تعلّم الشريعة المحمدية والأحكام الإسلامية ويندفعون إلى مخالفة ما لا يعلمون، ويتركون ما يعلمون، وأنّه لما رأى الشيخ العجوز في هذه المرحلة قد غرق في الغفلة وسلم زمام أمره للجهل وأضاع الأمانات، وتساهل في تعلم العلوم اللازمة والضرورية وكأنّه ولد اليوم... وأنّه لما رأى العلم مبتذلاً وأن ميدان العلم خالٍ من البحث والرد، انطلق بجهد شاق للحفاظ على ما بقي.

ابن إدريس كان فقيهاً مجدداً قام في هذه المرحلة بدور بنّاء في الوقوف مقابل ركود الفقه، وبثّ روحاً جديدة في جسم الفقه الإسلامي، وفي زمانه انتهى الركود الذي عرض على الفقه، وبظهوره اختلفت أساليب البحث وتوجّه الاستدلال في المسائل الفقهية للأسلوب الاستدلالي، وفتحت أبواب جديدة في الفقه لم تكن من قبل كذلك أبداً، وقد حدث هذا التحوّل الأساسي في الأسلوب الفقهي وكيفية الاستنباط بواسطة هذا العالم فقط، وهو الذي أسّس بناء الاستدلال في أبحاثه الفقهية. إنّ كتاب "السرائر" كلّه شاهد على أنّ التفكير العلمي والفكر الفقهي في مذهبه وصل إلى درجة أنّه حمل شعار مواجهة آراء ونظريات الشيخ الطوسي ونقدها، وهكذا كان وابتدأت المرحلة الخامسة من مراحل الفقه.

تنامي مرحلة الاستدلال والاستنباط

تبدأ هذه المرحلة من زمان المرحوم ابن إدريس الحلي (555 - 598) وتستمر حتى زمان المرحوم المحقق الحلي مؤلف كتاب شرائع الإسلام في أحكام الحلال والحرام. المتوفى سنة (680 - 676هـ) وقد طالت في مجموعها أكثر من مائة سنة.

الأسلوب العلمي للفقهاء في هذه المرحلة كان متأثراً بأسلوب ابن إدريس، وكان أتباع هذا الأسلوب في الفقه مورد قبول الجميع. والفقهاء عند مواجهة المسائل التي لم يكن حكمها من الأحكام الضرورية والقطعية كانوا يسعون لعرض المسائل الشرعة والفقهية مع الاستدلالات القوية. بحيث أنهم كانوا يذكرون المسألة، ثم يندفعون لطرح دليلها ومستندها. وإذا كان في المسألة اختلاف ما، كانوا يحضرون الأقوال والأدلة المختلفة، ويرجحون إحدى النظريات بذكر الدليل. وإذا كانت الأقوال متعارضة حول المسألة، ولم يكن هناك ترجيح لأحد الأطراف. كانوا يحكمون إما بالتخيير أو التوقف.

كان الفقيه المجدد المرحوم ابن إدريس الذي بث حياة جديدة في الفقه، في طليعة علماء هذه المرحلة بل حامل لواء هذا النحو من التفكير فقد اندفع نحو البحث الاستدلالي في الفروع الفقهية بشكل لم يسبق له نظير وتبعه الكثير من المتأخرين عنه. لقد ألف كتباً فقهية كثيرة على أساس أسلوبه، ومن جملتها كتاب "السرائر" الذي يحتوي على كل أبواب الفقه، ويفيض بالنكات الاستدلالية الدقيقة في استنباط المسائل الشرعية من أدلتها الأربعة الكتاب والسنة، والإجماع والعقل.

لا بد من التوضيح أن ابن إدريس كان أول شخص فتح باب الاعتراض على الشيخ الطوسي. وهو بعد تأسفه على أهل زمانه في كتابه المذكور يطرح بحثه ويقول: هذا الكتاب بنظري هو أفضل تأليف يوضع في هذا الفن، وهذا الأسلوب هو أحسن طريقة في البيان، وأصدق طريق لطرح البحث وتقديم الدليل، إذ لا سبيل فيه أبداً للروايات والأخبار الضعيفة. لقد بنيت تحقيقي في هذا الكتاب على أساس سبك جديد فكشف الأحكام يكون ممكناً بأحد الطرق التالية فقط: إما عن طريق كتاب الله أو سنة النبي المتواترة، أو إجماع واتفاق العلماء، أو بدليل العقل. فمع عدم إمكان الوصول إلى الحكم الشرعي من الطرق الثلاثة أولى، عندها يعتمد المحققون في المسائل الشرعية على دليل العقل، ويتعرضون من هذا الطريق على جميع الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية. إذاً يجب الاعتماد عليه، وكل من أنكر حجيته فقد ضلّ وسار في الظلمات، وقال بما هو خارج عن حدود المذهب.

ولكن طريقة ابن إدريس لم تكن مقبولة عند فقهاء زمانه، بل أغضبتهم ولذلك قالوا في حقه: "هو رئيس فقهاء الحلة، ويتقن علوماً كثيرة، ولديه تأليفات وتصنيفات كثيرة، ولكنه بشكل عام أعرض عن أخبار وروايات الأئمة (عليهم السلام)".

ولكن الإنصاف أن ابن إدريس لا يستحق هذا الحكم، لأنه لم يغمض عينه أبداً عن الأخبار والروايات المعتبرة والمعتمدة، بل كما صرح هو نفسه أعرض عن الأحاديث الضعيفة فقط وعمل بالروايات الموثقة، وجاء بدليل إعراضه أيضاً في عبارته المذكورة.

على كل حال، بظهور ابن إدريس انتهت مرحلة التمسك المطلق بنصوص الروايات. وكما يظهر من كلامه لقد دعا هو والفقهاء للاستناد إلى الدليل العقلي أيضاً، وهكذا كان فتحت أبواب الاستدلال في الأبحاث الفقهية. من المناسب هنا أن ننقل كلام الشهيد آية الله الصدر في مجال المقايسة بين كتاب السرائر لابن إدريس، والمبسوط للشيخ الطوسي: يقول الشهيد الصدر:

 

من مطالعة كتاب السرائر ومقايسته بالمبسوط نصل إلى النتائج التالية:

1 - أن كتاب المبسوط يبحث في دور العناصر الأصلية للاستنباط في البحث الفقهي، والارتباط بينهما. ولكن كتاب السرائر طرح هذا البحث بشكل أوسع وكمثال على ذلك، ابن إدريس في باب "أحكام المياه" تعرض لثلاث قواعد أصولية وربط بحثه الفقهي بها، في حال أن هذه القواعد لا ترى في كتاب المبسوط للشيخ، وإن كانت هذه الأصول طرحت كنظرية كلية في الكتب الأصولية قبل ابن إدريس.

2 - الاستدلال الفقهي في كتاب السرائر أوسع من كتاب المبسوط، فابن إدريس ذكر المسائل التي يختلف مع الشيخ فيها، وطرحها مع استدلالاتها الكثيرة من باب المثال: مسألة جاءت في كتاب المبسوط في سطر واحد، وفي السرائر استوعبت صفحة كاملة، ومن هذا القبيل يمكن ذكر المسألة التالية:

إذا كان الماء المتنجس أقل من كر ووصل بواسطة مقدار متنجس آخر إلى حد الكرية فهل هو طاهر أم لا؟ الشيخ في المبسوط حكم ببقاء النجاسة في الماء المزبور، ولم يتجاوز في توضيحه عن جملة واحدة، في حال أن ابن إدريس بحث في المسألة بشكل واسع وقال في الخاتمة: لقد ألفنا في هذا الموضوع رسالة منفردة من عشر أوراق، وذكرنا دليلنا وأجبنا على الإشكالات وتمسكنا بأدلة وشواهد من الآيات والروايات.

نحن نرى من ناحية مقدار الاختلاف بين ابن إدريس والشيخ الطوسي، ومن ناحية أخرى نرى همة ابن إدريس العالية ففي كل مسألة يستعرض الأدلة لتأييد رأي الشيخ ثم يقوم بردها وإبطالها واحداً بعد الآخر. في حال أنه هو الذي ابتدع هذه الأدلة وافترضها، ثم أبطلها حتى لا يبقى مجال للترديد في صحة رأيه، أو أن هذه الأدلة تعكس الفكر التقليدي الذي كان حاكماً على ذك الزمان، الذي أثارته نظريات ابن إدريس، الجديدة وقام للدفاع عن آراء الشيخ الطوسي ومواجهة أفكار ابن إدريس.

نرى أن ابن إدريس جاء بكل أدلة واحتجاجات المخالفين ثم ردها، وهذا يعني أن الحوزة العلمية التي دعاها للمواجهة كانت تقوم بردة فعل مقابل نظرياته. ويفهم أيضاً من كتاب السرائر أن ابن إدريس كان يقف في مواجهة معاصريه بآرائه ويباحثهم يناقشهم، ولم يجد نفسه في مجال التأليف والتصنيف، ومن الطبيعي في هذه الصورة أن تحدث أفكاره رد فعل في المجتمع برز بتأييد الكثيرين الشيخ الطوسي. إحدى هذه المواجهات يذكرها ابن إدريس نفسه في باب الزراعة من كتاب السرائر، نقل في البداية نظرية فقهية ثم أشكل عليها وقال: هذا القول هو من السيد العلوي ابن زهرة، ولقد قابلته مرة، ثم تكاتبنا وبينت له أخطاءه في المكاتبات، ولكن المرحوم كان يأتي بأعذار وأدلة لم يكن أي منها واضحاً.

ونشاهد كذلك في أبحاث ابن إدريس كم كان يتألم من المقلدين الذين يتعبدون بآراء الشيخ وكمثال على ذلك، هناك مسألة في الفقه يقول: "إذا مات الكافر في بئر فكم يجب أن ننزح منه كي يطهر"؟.

يقول ابن إدريس في هذا المجال إن جميع الفقهاء متفقون على وجوب نزح البئر كله إذا لمس الكافر ماء البئر. وبناءً على ذلك عندما يموت الكافر في ذلك الماء يكون الحكم كذلك استدلالاً بالأولوية. وبما أن الاستدلال بالأولوية يعتبر ظاهرة عقلية جريئة نسبة للمستوى العليم لزمان ابن إدريس، يتابع كلامه فيقول: "عندما يسمع أي شخص هذا الكلام يستبعده ويفر منه ويقول: من قال بهذا وذكره في كتابه، ومن أشار إلى هذا الأمر من أهل الفن الذين هم المرجع لمسائل كهذه".

نرى أن ابن إدريس حاصر مقلدي الشيخ بمرونة خاصة بحيث أنه يسعى لتأويل كلام الشيخ لإقناعهم بأن الشيخ قال بهذا وأفتى به. مثلاً في مسألة "متمم ماء الكر" التي ذكرت سابقاً وحكم ابن إدريس بطهارته، ويقول: الشيخ أبو جعفر الطوسي أيضاً الذي يستدل على خلاف قولنا ويتم تقليده في هذه المسألة وصار كلامه دليلاً للمقلدين هو نفسه يقوي في كثير من أقواله القول بالطهارة ويفتي به. وأنا سأبين إن شاء الله أنه إذا نظر في كلام الشيخ وبفكر خالٍ من التحكم، يظهر من كلامه أنه يقول بهذه المسألة ويعتقد مثلنا بطهارة الماء المزبور.

3 - "كتاب السرائر" من الناحية التريخية معاصر لحدِّ ما لكتاب "الغنية" لابن زهرة الذي هو دراسة مستقلة في علم الأصول. لأن ابن زهرة توفي قبل ابن إدريس بمدة 19 سنة، عندما نقرأ أصول ابن زهرة ونقايسه مع كتاب السرائر، نرى ظاهرة مشتركة بين هذين الكتابين، فهما يمتازان من تأليفات عصر تقليد الشيخ المطلق، وهذه الظاهرة المشتركة هي الاعتراض على آراء الشيخ والاعتقاد بنظريات مخالفة لفكره الفقهي والأصولي. كما رأينا في كتاب السرائر فابن إدريس يرد على استدلالات الشيخ الفقهية، ونرى ابن زهرة أيضاً في كتاب "الغنية" يقوم بمناقشة أدلة الشيخ الأصولية في كتاب "عدة الأصول" ويستدل على النظريات المخالفة للشيخ، ويطرح أحياناً مشكلات أصولية جديدة لم تكن مطروحة قبل كتاب "الغنية".

هذه المسائل تشير إلى أن الفكر العلمي في ذلك الزمان بجناحيه الأصولي والفقهي قد تطور وتكامل إلى حدِّ وجد الصلاحية لمواجهة أفكار وآراء الشيخ ووضعها تحت السؤال إلى حد ما.

يتابع الأستاذ الشهيد ويقول:

"هذا العلم الذي ظهر في زمان ابن إدريس، تطور أكثر على طول الأجيال، التالية، وازدادت ذخائره العلمية، وظهر في تلك المدة علماء نوابغ وعملوا على التأليف والتصنيف والابتكار والإبداع في مجال علم الأصول والفقه..

ومن شخصيات هذه المرحلة نجم الدين المحقق الحلي (600 - 676هـ) الذي عمل على التحقيق في المباني الفقهية، واهتم في كتابه "المعتبر" بتحكم قواعد الفقه الثابتة، وكان ناجحاً في هذا الميدان.

مرحلتي التدقيق والتلخيص‏

تبدأ هذه المرحلة من زمان شيخ الفقهاء وإمام المدققين الشيخ الأنصاري الدزفولي (قدس سره) (1214- 1281هـ) وتختتم بزمان المعلم الكبير العالم الملا محمد كاظم الخراساني (1255- 1329هـ).

هذه المرحلة من مراحل الفقه شهدت حركة فقهية دقيقة ومهمة، ووصلت الأبحاث الفقهية إلى قمة اتساعها، الفقيه في هذه المرحلة كان يتمتع بأعلى مرتبة من دقة النظر في البحث، وتطور الفقه من ناحية الدقة في الاستدلال بشكل ملحوظ.

رئيس هذه المرحلة ومنشئ هذه الطريقة هو المرحوم الشيخ الأنصاري، الذي بث في الأبحاث الفقهية روحاً جديدة وقدَّم آراء دقيقة وكاملة، وكان بهذا الأسلوب أمير قافلة المحققين الآخرين، كتابه الفقهي "المكاسب" شاهد حي على طرز تفكيره الفياض بالآراء العميقة والمباحث القيمة، ففي كتابه "المكاسب" وكتبه الأخرى استعمل أسلوباً جديداً في الاستدلال على الأحكام الدينية والمسائل الشرعية وخاصاً بها، ولا يتفق مع طريقة أي من أسلافه.

خصوصيات كتاب "المكاسب":

الشيخ الأنصاري في كتاب "المكاسب" لم يستخدم في البداية أسلوب إقناع القارئ‏ بالنظر بمحتوى الأدلة، بل عمل على الاستدلال العميق والدقيق في مجال كل مسألة، وجعل جميع نواحي الأدلة مورد البحث بدقة عالية وجهد في الجمع بينها بآرائه الصائبة كي لا يتعرض مثل الفقهاء الآخرين عند نقد وتحيل الأدلة للنقض والإشكال، فهو يعنون المسألة ثم يجزأها ويحللها علمياً، ويثبت لها حكماً، ثم يبدأ بمناقشتها بذكر مقدمات، ويوردها في الذهن ببيان جميل وقلم سيّال، بحيث يظنها المتعلم خالية من أي شبهة أو إشكال، بعد ذلك يضع المقدمات المذكورة موضع الإشكال ويبطلها جميعاً مع ذكر الدليل. عند ذلك يأتي للمسألة بأدلة أخرى ويثبت حكماً آخر، ويؤيد نظريته الجديدة بذكر أقوال الفقهاء الآخرين، وبعد ذلك كله يجعل مقدمات استدلاله في معرض المناقشة الدقيقة. ويأتي لها بدلائل محكمة لا تقبل النقض، وفي النهاية يبين حكم المسألة بشكل حاسم بالاستشهاد بأدلة من الكتاب والسنة وبتأييد من أقوال الفقهاء وعلماء اللغة.

أسلوب الشيخ الأنصاري المبتكر هذا في المسائل الفقهية أثار عجب معاصريه، وبقوا مدة من بعده عاجزين عن زيادة شي‏ء عليه، واعترف كثير من المتأخرين عنه بنبوغه وتفوقه العلمي بين المتقدمين والمتأخرين. ومن هنا كان كتاب المكاسب مورد اهتمام منذ زمن تأليفه حتى الآن، لقد قام الفقهاء الكبار بتعليمه وتعلمه، وآراؤه الدقيقة مشهودة في جميع مباحثهم، وصارت معرفة جوانب مباحث الشيخ الدقيقة معياراً قيماً لامتحان قدرة الاجتهاد لدى طلاب العلم، من هذه الجهة توجه طلبة العلم في جميع الحوزات العلمية لدراسته وتعليمه وتعمله، حتى قال كثير من الفقهاء أن "كل من عرف آراء الشيخ الدقيقة في كتاب المكاسب فهو مجتهد".

وبما أن كتاب المكاسب يشتمل على معان دقيقة ومحتوى عميق فقد انطلق عدد كبير من الفقهاء لشرحه وتوضيحه وتبيين مسائله ولم يترددوا في هذا السبيل عن أي سعي.

رجال عصر الشيخ الأنصاري:

هذه الحركة والقفزة الفقهية التي انطلقت من فكر الشيخ الصافي ستستمر برشد زائد، وفي هذا المجال ظهر نوابغ علماء، مثل:

1- الإمام المجدد كاظم الخراساني (1329هـ).

2- آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري، مؤسس الحوزة العلمية في قم (1355).

3- آية الله العظمى المجدد الميرزا محمد حسن الشيرازي (1312).

4- آية الله العظمى السيد محمد كاظم اليزدي (1337هـ).

5- آية الله العظمى الميرزا محمد تقي الشيرازي (1338هـ).

وفقهاء آخرون هم محور التحقيق ودقة النظر في المباني الفقهية والأصول والاستنباط.

مرحلة التلخيص:

هذه المرحلة بدأت من زمن المرحوم آية الله العظمى الملا محمد كاظم الخراساني (قدس سره) (1255- 1329هـ)، وما زالت مستمرة حتى الآن، هذه المرحلة شهدت أسلوباً جديداً وطريقة بديعة وازدهاراً كبيراً من جهة التلخيص في الأبحاث الفقهية، وقد لخص الفقهاء الكتب الفقهية واستخرجوا مطالبها الخالصة، وزينوها بتحقيقاتهم المثيرة للإعجاب، وقدموها للمجتمع.

من رجل هذه المرحلة الكبار ومتصدري هذا الأسلوب الشيخ الخراساني الذي سعى لتحقيق المباني الفقهية على أسس متينة عبارات مختصرة وجميلة. وجمع في كتبه بين النظرة العميقة في الاستدلال والتوسعة في التحقيق والإيجاز في العبارة، فأعطى بهذا النحو حياة جديدة للفقه.

ألف الشيخ كتاب "اللمعات المنيرة في شرح تكملة البصيرة"، الذي طرح فيه كل أحكام الشريعة بأفضل وأجمل تقسيم وتنظيم، ولكن مع الأسف لم يمهله الأجل لينهي كتابه وقد حرر منه إلى مسألة "مكان المصلي" فقط.

ومن كتبه حاشية على فصلي البيع وخيارات كتاب مطالب الشيخ الأنصاري الذي عرض فيه أمهات المسائل الفقهية ببيان مختصر ودقة نظر وعمق.

إن حياة هذا الشيخ الكبير تعد بهذا الأسلوب نقطة تحول مهمة في الأبحاث الفقهية والأصولية وإلى جانب كل ذلك طرح أيضاً آراءً ونظريات جديدة في الفقه والأصول، لم تزل حتى الآن محط نظر الفقهاء ولم تقل أهميتها أبداً على مدى السنين.

هذا الشيخ الكبير كان يتمتع بقدرة خاصة في مجلس التدريس، وكان يجري أصول الفقه على فروعها المختلفة بمهارة كبيرة ويطبق القواعد الكلية على المصاديق، كان يجول على مقعد التدريس كالأسد المهاب وربى بجهده الذي لا يطرأ عليه التعب أكثر من ألف مجتهد في الفقه والأصول.

من علماء مرحلة التلخيص آية الله العظمى السيد محمد كاظم اليزدي قدس سره المتوفى (1337ه)، الذي عمل على التنقيح والتحقيق في المباني الفقهية ببيان واضح وقول لطيف، وألَّف كتاباً في شرح المكاسب، وبيَّن فيه آراءه الدقيقة ونظرياته العميقة في قالب من العبارات المختصرة، التي ما زال الفقهاء حتى الآن ينظرون إليها بعين الإعجاب.

ومن علماء هذه المرحلة آية الله العظمى ضياء الدين العراقي المتوفى سنة (1361ه) الذي قام بدوره بتحقيق وتلخيص المباني الفقهية بهذه الطريقة، وكان موفقاً بهذا الميدان، ألف كتاب "شرح تبصرة المتكلمين" وبيَّن تحقيقاته واستدلالاته العميقة بعبارات مضغوطة كالمرحوم الخراساني والمحقق اليزدي.

ومن علماء هذه المرحلة آية الله العظمى الشيخ محمد حسين الأصفهاني (1296- 1361ه) الذي بنى المباني الفقهية على أساس محكم وثابت، وبين تحقيقاته العميقة والواسعة بجمل قصيرة، من جملة الكتب ألف كتاب "الإجازة" و"الحاشية على المكاسب" المشتمل على تحقيق ودقة نظر وقوة استدلال وتلخيص، وابتعد عن فضول الكلام بشكل زائد عن الحد.

من أتباع هذا الأسلوب المرجع الكبير آية الله العظمى السيد محسن الحكيم (1306- 1390ه) مؤلف كتاب "مستمسك العروة الوثقى" المستمسك كتاب فقهي قيم من جهة الترتيب والتنظيم والدقة وقدرة الاستدلال وتلخيص المسائل الفقهية لا نظير له في هذه المرحلة، وهو أول كتاب قدم للمجتمع العلمي بهذا الشكل الكامل، وقد نال المرحوم الحكيم بتأليف هذا الكتاب مقام الريادة لقافلة محققي هذه المرحلة، ن كل تحقيق حول كتاب "العروة الوثقى" مرجعه الأساسي كتاب المستمسك لأن هذا الكتاب مهَّد الطريق للآخرين.

من هذه الجهة نال هذا الكتاب إعجاب علماء هذه المرحلة وصارت مطالبه مورد عناية المحققين والمدرسين وقد طبع حتى الآن خمس مرات بسبب الإقبال الكبير عليه.

وما زالت قافلة الفقاهة تسلك الطريق في سبيل التطور والتكامل، وتزدهر على يد العلماء والفقهاء الكفوئين وتنتهي إلى أفق مشرق ومنير، وقد ترك الفقهاء العلماء مجموعات فقهية كبيرة وتأليفات جمة بأساليب وطرق مختلفة، وهي زينة المكتبات والمراكز العلمية المهمة، وهكذا كانت منابعنا الفقهية الحاضرة في المرحلة الأخيرة أكثر فائدة من جميع المنابع الإسلامية القديمة ببركة وجهد وجهاد وسعي فقهاء الإسلام الدائم والمضني على طول التاريخ.

تقبل الله تعالى مساعيهم جميعاً، وأعطاهم عن الإسلام والمسلمين أفضل الثواب إنه سميع مجيب.

من هذه الجهة نال هذا الكتاب إعجاب علماء هذه المرحلة وصارت مطالبه مورد عناية المحققين والمدرسين وقد طبع حتى الآن خمس مرات بسبب الإقبال الكبير عليه.

وما زالت قافلة الفقاهة تسلك الطريق في سبيل التطور والتكامل، وتزدهر على يد العلماء والفقهاء الكفوئين وتنتهي إلى أفق مشرق ومنير، وقد ترك الفقهاء العلماء مجموعات فقهية كبيرة وتأليفات جمة بأساليب وطرق مختلفة، وهي زينة المكتبات والمراكز العلمية المهمة، وهكذا كانت منابعنا الفقهية الحاضرة في المرحلة الأخيرة أكثر فائدة من جميع المنابع الإسلامية القديمة ببركة وجهد وجهاد وسعي فقهاء الإسلام الدائم والمضني على طول التاريخ.

تقبل الله تعالى مساعيهم جميعاً، وأعطاهم عن الإسلام والمسلمين أفضل الثواب إنه سميع مجيب.

ثقة الإسلام الكليني

لماذا تركّز الشيعة على ظلامة الصدّيقة الزهراء (صلوات الله عليها)؟

لماذا نستعيذُ بالله تعالى؟!

هل هناك فرق بين كتاب علي والجامعة والصحيفة؟

أهميّة تراث أهل البيت (عليهم السلام)

شبهة حول عدم زواج السيّدة فاطمة المعصومة (صلوات الله وسلامه عليها)

تعريف بنهج البلاغة

من مصادر مستدرك الوسائل / كتاب (الشهاب) للقاضي القضاعيّ.

لماذا سُمِّيَت الكعبة كعبة؟

المعجزات التي رافقت ولادة الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله)

ما معنى الشاذروان؟

ما الفرق بين المعجزة والسحر؟

هل أرسل الله رسلاً أو بعث أنبياء إلى الصين ومَن هم؟

لماذا يندر وجود أقوال الرسول (صلى الله عليه وآله) في كتب الشيعة؟

لماذا لم يقل الله سبحانه: كل ما عليها فانٍ.. بل قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}؟

حديث الإهليلجة

1

المزيد