خطاب الوحدة الوطنية
بين الشيخ الشيرازي والسيد السيستاني
فتوى الدفاع (نموذجا)
الدور الوطني لعلماء الامامية
عندما نتفصح تاريخ علماء الإمامية ولا سيّما في العراق نجد أن لهم أدواراً مهمة جداً، يبرز أمامنا دورهم الوطني المهم الذي حفظ العباد والبلاد من الأشرار، ولهم الدور الأكبر في الإسهام في استقلال العراق من أي تبعية الأجنبي، ولم يفتروا عن أي مساعدة في هذا المجال، وصفحات التاريخ تسطر لنا تلك الأدوار بوضوح على الرغم من عدم إشباع هذا الموضوع من قبل الباحثين. ولا يمكن لنا في هذا البحث المقتضب أن نقدم فيه جميع تلك الإسهامات، لذا سنورد شذرات منها:
١. المجدد الشيرازي
السيد محمد حسن الشيرازي الملقب بـ(الميرزا): بعض أنواع الخطاب لا يكون بصورة شفهية ولفظية بل يأخذ الطابع العملي أكثر من الصوري والشكلي وهذا ديدن علماء الإمامية، ويتجلى ذلك بوضوح عالٍ في موضوع مقتل نجل المرجع الديني الأعلى في زمانه الميرزا محمد حسن الشيرازي، إذ كان يقطن في أيام مرجعيته في مدينة سامراء ذات المكون السني، إذ يندر في وقته الوجود الشيعي، وقد حشد من قبل بعض النقشبندية بعض الجهلة الذين قتلوا نجل الميرزا، بدافع طائفي مريض، لكن الميرزا الشيرازي واجه هذا الافتتان بهدوء عجيب وبليغ. فسرعان ما أغلق الملف وكأن شيئاً لم يحدث خشية وقوع فتنة طائفية وتصدير الاتهامات وما يعقبها من شحن العصبيات المفرطة وضياع الحق بالباطل. وقد وجد الإنجليز هذه الحادثة فرصة للتقرب من الميرزا بر وإبداء المعاونة ضد السنة الذين كانت ترعاهم الدولة العثمانية حسب ما يتصورون، فجاء على أثر الحادثة السفير البريطاني آنذاك وعرض على الميرزا حمايته ومن يتعلق به محتجين على التصرف السيء تجاه المرجعية. فردّهم الميرزا بقوة قائلاً: (أرجو أن تفهموا جيداً أنه لا دخل لكم ببلادنا مطلقاً وما هذه القضية إلّا حادث بسيط بين أخوين!) .
إن هذا التصرف من قبل المرجع الشيرازي في زمانه يعد تطبيقاً هائلاً لخطاب الوحدة الوطنية والانصهار بمبدأ التعايش السلمي بعيداً التفرق والتحزب المضر بأبناء الوطن الواحد.
٢. الشيخ الاكبر
الشيخ كاشف الغطاء ت ١٩٥٤م له مواقف وطنية كثيرة ومهمة جداً، نذكر منها: في عام ۱۹٣٥ حدث هياج عام في منطقة الفرات، واستمر عدة شهور للمطالبة بحقوقهم. وقد وقعوا على مطالب من الحكومة سميت بـ(ميثاق الشعب)، وسعى الإمام كاشف الغطاء في إلزامهم بحفظ الأمن، وتأمين الطرق، وحقن الدماء، وسلامة الأموال، وعدم العبث والإفساد... وفي سنة ١٩٥٢ حدثت مظاهرات شديدة في بغداد مطالبة بالانتخاب المباشر وإسقاط وزارة مصطفى العمري.. وكان له دور مهم في تهدئة الأوضاع والدعوة إلى الخلود إلى السكينة والاستمرار بالمطالبة بالطرق السلمية.
هذه شذرة من شذرات العلامة الاكبر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وإسهاماته في مسيرته الوطنية وخطاباته ومواقفه وما لم نوثقه في هذا البحث كثير وكبير وغير خاف على المتتبع والنص الذي وفرناه في البحث يمثل دور الشيخ الكبير في حفظ الأمن واهتمامه بحياة الناس أجمعين مما يوضح اهتمامه بالوطن والنظام الذي ينبغي أن يتوافر في جميع أرجاء البلد وإسهامات الشيخ الوطنية كثيرة جداً. ولم يقتصر مفهوم الوطن عنده على الحدود الجغرافية، بل إن بلاد العرب والمسلمين تمثل لديه الوطن الأكبر، فهو الذي وصف العدوان الإسرائيلي على فلسطين: ( إنها من أعظم البوائق وأعظم البلاء جمعية أقوام متفرقة).
3. سيد المستمسك
الحديث عن الإمام الحكيم قدس سره مؤلف هذا الكتاب حديث واسع الأطراف متعدد الجوانب، لأن الإمام الحكيم بالإضافة إلى شخصيته العلمية، كان أحد المراجع العامين النادرين في القرن الماضي الهجري.
من حسن الحظ أن هذه الأيام ظهرت مخطوطة لأول مرة تحوي زيارة رئيس الوزراء العراقي طاهر يحيى للمرجع الديني الراحل السيد محسن الحكيم وبين طيات هذه الزيارة سجلت كلمة السيد الحكيم و التي دارت بينه وبين الوفد الحكومي في داره بالكوفة المعظمة، ونحن هنا نقتطف من الحوار النص الذي يهم البحث، وهذا عينه:
تعرض سماحة الامام الحكيم إلى أنه من واجب الحكومة أن تنظر مختلف أبناء الشعب بنظرة واحدة، دون تمييز أو تفريق بين قومياتهم أو مذاهبهم، حتى يشعر الجميع بأنهم يعيشون في ظل حكومة تسهر على مصالحهم وتحفظ لهم كراماتهم وتعمل على تحقيق مطاليبهم. وأردف سماحته قائلاً:
إنني أشعر بمدى أهمية هذا الطلب وصعوبة تحقيقه، وأوضح ذلك ببيان أنّ الحكومة تشتمل على آلاف من الموظفين يوجد بينهم من لا يشعر إلّا بمنافعه الخاصة وميوله الشخصية، فيعمل على بعث الحزازات والطائفيات بين أبناء البلد، ومن واجب الحكومة الضرب على أيدي هذه الفئة المعينة من الموظفين لتسدّ بذلك أوسع الثغرات التي ينفذ منها الهدامون والمخربون ...
ثم أردف سماحته قائلاً إن الشعب منذ أن ذاق الأمرين في السنوات التي مضت، لم يعد يطيق حياة البلبلة والاضطراب والحكومة إن عملت بهذه النصائح سوف تحقق للأمة هدفها السامي في الحياة المستقرة الهادئة، وإنني ليسعدني أن أرى الناس على اختلاف مذاهبهم وقومياتهم مطمئنون آمنون، ينظرون إلى حكومتهم كما ينظر الأولاد لأبيهم).
إن ما ورد أعلاه من الكلام المنقول عن مرجع الطائفة السيد محسن الحكيم يمثل العقلية الحكيمة لدى الشيعة الإمامية في واحدة من أهم الموضوعات المعاصرة، كما إن فكرة المواطنة لم تكن خافية أو غائبة عن أعلام الإمامية، وإن هذا الوعي ليس وعياً سياسياً أو دينياً فحسب بل وعياً اجتماعياً عظيماً وتنبه الإمام الحكيم لمثل هذا الموضوع فيه إشارة واضحة على مدى أصالة الحوزة العلمية ودقتها في مواكبة ما تمر به الأمة. وكان الأجدر أن يتناول الضيوف مثل هذه الموضوعات إلّا أنهم وجدوا مرجعية الإمام الحكيم منتبهة ومتيقظة.
لما نتأمل في هذا شكلية هذه النص وتحليله نجد أن كمية المشافهة الوطنية عالية لأكبر مستوى، وأن منسوبها مرتفع مقارنة بأي خطاب محدود، فنلاحظ أن السيد الحكيم قد استعمل في خطابه كلمات الوحدة ذات المضمون الوطني الرفيع من قبيل أبناء الشعب أبناء البلد، إضافة لتوصيته المباركة للحكومة بالعمل بهذا المضمون وتلك رسالة أرسلها السيد الحكيم و عبر أثير التاريخ لتصل إلينا وللأجيال اللاحقة أن الجميع لو التزموا بوحدتهم الوطنية وابتعدوا عن مثيرات الفتنة الطائفية وما يلحقها من ويلات ومحن لأصبحوا في مراتب الرقى والتقدم والازدهار، حتى أنه جعل ذلك أمنيته لاحظ آخر النص المنقول: (وإنني ليسعدني أن أرى الناس على اختلاف مذاهبهم وقومياتهم مطمئنون آمنون).
إنّ هذا النص الواعي لمن الجدير أن تحمله أكتاف الورق عبر تاريخ العراق ليمثل الصورة الناصعة عن مدى اهتمام الحوزة العلمية بالخطاب الوطني الواعي الوحدوي الذي يمثل اهتمام السادة العلماء عبر تسلسل قياداتهم للواقع العراقي وإننا وإن مررنا بفترات مظلمة كادت أن تلغي هذا الصوت الوطني الهادر إلا إننا ما زلنا نملك الفرصة الكبيرة لإعادة مجرى هذه التغريدات التي تمثل القاعدة الأمثل والأهم في المشهد العراقي.
ما ورد في خطبة الجمعة لممثل المرجعية الدينية العليا في كربلاء المقدسة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في (14/ شعبان /1435هـ) الموافق ( 13/6/2014م )
قال الشيخ الكربلائي في خطبة صلاة الجمعة الثانية من الصحن الحسيني الشريف ما يأتي :
إن العراق وشعبه يواجه تحدياً كبيراً وخطراً عظيماً وإن الارهابيين لا يهدفون إلى السيطرة على بعض المحافظات كنينوى وصلاح الدين فقط بل صرحوا بأنهم يستهدفون جميع المحافظات ولا سيما بغداد وكربلاء المقدسة والنجف الأشرف ، فهم يستهدفون كل العراقيين وفي جميع مناطقهم ، ومن هنا فإن مسؤولية التصدي لهم ومقاتلتهم هي مسؤولية الجميع ولا يختص بطائفةٍ دون أخرى أو بطرفٍ دون آخر.
وأكد الكربلائي : إن التحدي وإن كان كبيراً إلاّ أن الشعب العراقي الذي عرف عنه الشجاعة والإقدام وتحمّل المسؤولية الوطنية والشرعية في الظروف الصعبة أكبر من هذه التحديات والمخاطر .
المزيد