لا يمكن دراسة الثورة العراقية الكبرى بمعزل عن الوجود البريطاني الذي بدأ باحتلال العراق خلال الحرب العالمية الأولى. وقد اقترن الاحتلال البريطاني من اليوم الأول بحركة الجهاد التي قادها علماء الشيعة بكثافة حتى لتكاد تشمل كل مراجع الحوزات العلمية في النجف وسامراء والكاظمية ومجتهديها وبدرجة أقل كربلاء، إذ يظهر في فتاوى الجهاد اثنان وعشرون عالماً من الطبقة الأولى من المراجع والمجتهدين في مقدمتهم مَنْ تسنّموا سدة المرجعية العليا في حينها، أي السيد كاظم اليزدي والميرزا محمد تقي الشيرازي وشيخ الشريعة الأصفهاني، ناهيك عن العشرات إن لم يكن المئات من أتباعهم وطلبتهم ووكلائهم ممن يظهرون في البرقيات والمراسلات والأحداث التي تنظم حركة الجهاد وإدارة العشائر والتنسيق السلطات والقادة العثمانيين.
كان الخطاب السياسي في حركة الجهاد قبل خمس سنوات لا أكثر من الثورة العراقية) خطاباً دينياً محضاً. ففي فتاوى الجهاد يصوّر السيد اليزدي هجوم الدول الأوروبية الذين يصمهم بـ (الكفار) و (أعداء (الدين كحرب دينية مستمرة لغصب الممالك الإسلامية بهدف محو (الدين بالهجوم على ممالك الدولة العلية العثمانية) و (بلاد المسلمين) و (الأوطان الإسلامية) و (سكانها وأعراضهم وأموالهم الذي سيمتد إلى الحرمين الشريفين ومشاهد الأئمة، لذلك يجب على العشائر التي تقطن الثغور وعامة المسلمين المتمكنين إذا لم يكن من فيه الكفاية لحفظ الحدود أن يحفظوا حدودهم، ويدافعوا عن بيضة المسلمين حسب قدرتهم) (بأي نحو يتمكنون) و (بأي طور يتمكنون إذ إن من أهم الواجبات الدينية حفظ بيضة الإسلام ومدافعة الكفار من الهجوم على بلاد المسلمين) وهذا (حكم شرعي وواجب ديني). ويخاطب الميرزا الشيرازي في فتاويه (أيها المسلمون.. معاشر المسلمين.. إخوانكم في الدين... عموم المسلمين) باستثارتهم حول المقدسات حرم الله وحرم رسوله) و (مشاهد الأئمة) والشعائر الدينية وهتك حرمة الدين وبيضة (الإسلام بالإضافة إلى هجوم الكفار على الإسلام وبلاد المسلمين) و(البلاد الإسلامية) و (سفك دماء المسلمين) والخطر على نفوسهم من قبل أعداء الدين) فيجب على جميع العشائر القاطنين في الثغور وعموم المسلمين حفظ ثغورهم وحدودهم والدفاع عن حوزة الإسلام كيف ما يتمكنون منه). ويوجه شيخ الشريعة الأصفهاني خطابه في فتاويه لـ (الأخوة المؤمنون و (معاشر المسلمين) و(المسلمين كافة لدفع الكفار والمشركين المهاجمين على بلاد) (الإسلام) بلاد المسلمين) (واشتغالهم بقتل رجالهم ونهب أموالهم وإعلاء كلمة الكفر وخذلان كلمة الإسلام والحق فيوجب الدفاع كـ ( فريضة دينية) لا يجوز التكاسل عنها لأن ذلك حرام من المعاصي العظام ومن الآثام، ويجب على كل مسلم قادر أن يبذل جهده وما في وسعه لدفع الكفار والمشركين المهاجمين على بلاد الإسلام ويفصل بلهجة دينية وجوب الدفاع عن كلمة الإسلام و (بلاد الإسلام) و (بلاد المسلمين للحفاظ على شرف المسلمين واستقلالهم ضد (الكفار) واستبدال كلمة التوحيد بالتثليث والآذان بالناقوس).
فالوطن في منظور فتاوى الجهاد هو البلاد الإسلامية (وليس العراق)، والمواطنون هم المسلمون (وليس كافة السكان والدولة هي إحدى الدول (الإسلامية) والقضية هي هجوم الكفار وأعداء الدين (وليس دولة أجنبية أو أعداء الوطن والاستنفار لحماية حرمة الإسلام (وليس) (الوطن) والمشاهد المشرفة والشعائر الدينية ثم بعد ذلك الاستنفار (الغريزي) لحماية الأنفس والأعراض والأموال.
ومع ذلك فالمقصود أعراض المسلمين وأموالهم والفتاوى أصلاً جاءت لبيان الأحكام الشرعية حول الجهاد (الديني) ووجوبه من منظور أخروي وهي موجهة للمسلمين والمؤمنين حصراً.
وفي الواقع ينبغي الالتفات للدقة في التعبير ببلاد المسلمين وتعددها السياسي والمذهبي، ولم تستخدم تعبير (دولة الإسلام) مثلاً الذي قد يمنح الخلافة العثمانية) وخصوصاً بعد الانقلاب العثماني شرعية دينية لا تمتلكها خصوصاً والكلام مع شيعة العراق.
وقد التفتت الاستفتاءات والبرقيات لوحدة المسلمين الجامعة الإسلامية) وتوحيد الخطاب بلغة تتوجه فعلاً لا إنشاءً للمسلمين بفرقهم وطوائفهم كافة في الدفاع عن بيضة الإسلام، لتنتقل من توحيد كلمة العشائر إلى الاتحاد (مع بقية المسلمين) إلى (الاتحاد والاتفاق مع الدولة العلية العثمانية).
وقد بذل السيد اليزدي خصوصاً جهوداً جبارة تكللت بالنجاح لتطويع العشائر الخارجين على الدولة العثمانية للتوسط بينهم وبينها والعودة لكنفها لمحاربة الكفار، كما ضغط العلماء على حاكم المحمرة بشدة وإن كان من دون جدوى فهذا الواجب الديني لا يفرق بين عثماني وإيراني).
وقد امتدت البرقيات إلى (وزراء ورؤساء (إيران) التي هي في حالة عداء تاريخي ولو بارد مع الدولة العثمانية، كما إنها كانت تخضع في حينها للاحتلالين أو النفوذين البريطاني والروسي، وكلاهما من دول الحلفاء الذين أعلنوا الحرب على الدولة العثمانية.
نعم ورد من بين مئات الوثائق من فتاوى واستفتاءات وبيانات ورسائل وبرقيات وفي نص نادر لشيخ الشريعة الأصفهاني نداء لـ (الأمة العراقية التي لم تألف بعد في تاريخ العراق الحديث مثل هذا الخطاب بهذه الصفة وإن جاء النداء في الواقع ليصف العراقيين كقوم وجماعة من دون مضمون سیاسی وليس كقومية أو شعب والذي جاء أيضاً ضمن بيان مطول مشحون بحثّ (المسلمين) على الاستمرار ومطاولة بجهاد الكفار وإلى آخر مفردات الخطاب التقليدي الذي طبع مرحلة حركة الجهاد ولكن المصطلح الأمة العراقية) - وليس أهل العراق مثلاً- يثير الانتباه، ففيه إيماءات سياسية ضمنية حتى لو لم يقصدها الشيخ مباشرةً، فهو يخاطب جماعة محددة وهذا بدوره يستلزم تحديد مفهوم (العراق) الذي يبدو واضحاً لا لبس فيه عند الشيخ ومخاطبيه معاً. لذا يمكن عدّ هذا النداء بين نصوص المرجعية الشيعية - ضمن إرهاصات رائدة لبلورة هوية وطنية تشير ل (الشعب العراقي) بهوية واضحة متميزة. ولكن بالطبع لا يمكن تحميل هذه المفردة - الإرهاصة على خطورتها أكثر مما تحتمل فقد كان المنظور - وانطلاقاً من المسؤولية الدينية لموقع المرجعية الشيعية ما يزال دينياً بحتاً ضمن إطار دولة إسلامية و(أمة) إسلامية. وسنرى في نهاية عام ١٩١٦ بعد عامين من حركة الجهاد وانطفائها إصراراً على الدولة الإسلامية، ورفضاً للخروج عليها ولو طلباً لاستقلال العرب، كما تبنّته حركة الشريف حسين في الحجاز. وهذا يعني بلا ريب أن استقلال العراق ما يزال غير مسموح به على الأقل في فترة الحرب للدرجة التي لا تكتفي بعدم تبني أو دعم حركة الشريف حسين، بل تصدر بياناتها بشجب تبني هذه الحركة من قبلها. وإن كان لا بد من التوقف عند صيغ هذه البيانات فشيخ الشريعة الاصفهاني يصفها بالخارجة عن الدولة، وهو وصف لا يخلو من غمز وإدانة بالعرف الديني، بينما يشجب بيان السيد اليزدي بشدة الحركة من قبل علماء النجف دون شجب الحركة نفسها.
ومع الأخذ بنظر الاعتبار دقة السيد اليزدي البالغة في مواقفه وبياناته، فهذا يعني أن مسألة الاستقلال قد تكون منظورةً في أفق المرجعية الشيعية في المرحلة اللاحقة اعتماداً على نتائج الحرب، وأن المرجعية الشيعية وإن تبنّت بكل قوة من موقعها الديني (الجهاد) والدفاع عن الدولة العثمانية كدولة إسلامية ضد الاحتلال (الكافر) واتخذت موقفاً صارماً ضد الاحتلال البريطاني، إلا أنها لم تغفل عن احتمالات المتغيرات الدولية التي ستسفر عنها الحرب.
وبالفعل، فبعد احتلال بغداد بقليل وانقلاب موازين الحرب إثرها بصورة حاسمة لصالح بريطانيا ولكن قبل طي صفحة الحرب العالمية الأولى والاحتلال العثماني للعراق بالكامل وصفحة الدولة والخلافة العثمانية نجد المرجعية الشيعية تتواصل مع إدارة الاحتلال مباشرةً باعتبارها السلطة الفعلية كأمر واقع، وتمهد لمدّ الجسور بكل واقعية مع أنها ولغاية قبل عام واحد فقط كانت تحشد ضدها بكل فاعلية وتبذل كل ما بوسعها لمسك زمام العشائر بصف الدولة العثمانية وشدّ العزيمة بعد الهزيمة والتحشيد لحركة الجهاد الثانية حتى بعد ارتكاب الجيش العثماني المجازر في الحلة (دكة عاكف) والنجف وكربلاء. وهذا يعني أن المرجعية الشيعية لم تتعامل مع الدولة العثمانية بصورة عقائدية عمياء أي إنها ليست عقائدية مؤدلجة، بل ومع التزامها التام بمبادئها التي تفرضها وظيفتها الدينية فإنها تصرّفت بواقعية نابعة من مسؤوليتها كزعامة اجتماعية للموازنة بين عقائدها الدينية وبين المصالح الواقعية.
ومع انتقال السلطة الفعلية من الاحتلال العثماني (المسلم إلى الاحتلال البريطاني (غير المسلم طرح الأخير (رسالة) الحلفاء بتحرير الشعوب ومنحها الاستقلال على أساس دول وطنية كتبرير لاحتلاله. بيد أن هذا الشعار (الاستقلال)، الذي كان لا بد منه لاستمالة بعض الولاة والأمراء المسلمين ولتسكين أو امتصاص مقاومة الشعوب الإسلامية، سيثير بدوره غريزة وطنية) تصبح أساساً للمقاومة بديلاً عن الجهاد الديني دون التنازل عن الأخير الذي سيتراجع إلى مرتبة تالية للاستقلال والحرية مع أن العراق لم يذق طعم الاستقلال ولم يحلم به منذ سقوط الدولة العباسية قبل ثمانية قرون ومع تعذر المواجهة وتعذر استمرار المقاومة بانهزام الجيش العثماني وانسحابه، اضطر (العراقيون) كأمر واقع للمناورة بالمقاومة السياسية تحت شعار الاستقلال الوطني الذي لا تستطيع سلطات الاحتلال رفضه، وهكذا ستتبدّل فوراً مع احتلال بغداد وخلال سنة واحدة فقط شعارات الجهاد الديني لحفظ المقدسات إلى شعارات المقاومة لنيل الاستقلال، وسيظهر هذا التغيير بوضوح في لغة المرجعية الشيعية التي ستنهض بدور القيادة السياسية بسبب غياب الزعامات السياسية.
فمع انتهاء الحرب العالمية الأولى بدأت حمى الاستقلال بالتصاعد تدريجياً وستفور الثورة العراقية الكبرى مع مماطلة الإنكليز في التملص من وعود الاستقلال. وقد أعقبت الهدنة الباردة بين المرجعية الشيعية وسلطات الاحتلال التي صاغها السيد اليزدي بعد احتلال بغداد في السنة الأخيرة من الحرب، محاولات المرجعية الشيعية استنجاز سلطات الاحتلال لوعودها وإعادة تحريك الوعي العام بعد التقاط الأنفاس من حركة الجهاد عقب اندحار الجيش العثماني من أجل البدء بحركة سياسية واسعة وطنية وإقليمية ودولية لانتزاع استقلال العراق. وهذه في الواقع نقطة مثيرة للغاية. فخلال سنتين فقط انتقل خطاب المرجعية الشيعية من الجهاد الديني للدفاع عن البلاد الإسلامية والدولة الإسلامية إلى الجهاد من أجل استقلال ،العراق، وهو ما يبدو للوهلة الأولى تعبيراً عن منظومتين فكريتين مختلفتين تماماً بالانتقال من دولة دينية (حتى وإن لم يعترف الشيعة بثيوقراطية الخلافة إلى دولة قومية ،وضعية، بيد أن التمعن في الفكر السياسي لمدرسة النجف الذي انبثق فجأة في الثورة الدستورية بعد أن كان محكوماً بالكتمان سيجد أن الدولة في الفكر الشيعي - في زمن الغيبة - دولة وضعية بالفعل فقط بشرط الحفاظ على الهوية الإسلامية ولذلك لن تختلف الدولة العثمانية كثيراً عن الدولة العراقية، بينما سيكون الوضع مختلفاً جداً إذا ما كانت السلطة «غير مسلمة» الحال هو مع الاحتلال البريطاني. المرجعية الشيعية التي انتقلت من ضد الاحتلال البريطاني إلى الهدنة معه ستنتقل الآن بعد نهاية الحرب من إلى المقاومة السياسية بعد أن أدركت فرق موازين القوة العسكرية لصالح الاحتلال دون أن تترك في الوقت نفسه التحضير المتأني والمبكر لحركة جهاد جديدة إذا ما نكث الحلفاء بوعودهم، وهو ما سيحصل بشكل ثورة مسلحة.
أصبحت الهوية الوطنية محور الخطاب السياسي للمرجعية الشيعية في الحملة قادتها لبلورة هوية عراقية قبال الاستفتاء الذي طرحته سلطة الاحتلال عن شكل النظام السياسي فقد طالبت مضبطة أهالي كربلاء التي كان من أبرز الموقعين عليها نجلا الميرزا الشيرازي نفسه وبالطبع فهي صدى مباشر لرأيه، بالاستظلال براية عربية إسلامية بإمارة أحد أنجال الشريف ، وكذلك جاءت مضبطة الكاظمية التى وقعها جُلّ مراجعها ومجتهديها للمطالبة بالتعبير عن (أمة عراقية عربية من خلال دولة عربية إسلامية، يكون أحد أنجال الشريف حسين ملكاً عليها مقيداً بمجلس وطني.
ومن المثير أن مضبطة الكاظمية كانت بهذه الدقة والالتفات للأمة العراقية بينما اكتفت مضبطة بغداد التي يفترض أن تكون الانضج سياسياً بالإشارة إلى (أمة عربية إسلامية). كما إن مضبطة الكاظمية التفتت لقضية الانتداب وطالبت بإيكالها للمجلس الوطني، ولما بعد مؤتمر الصلح.
إن عروبة العراق التي تؤكدها كل المضابط والنصوص في تلك المرحلة لم تكن محل جدل بالطبع مع تأكيدها على حدود العراق التي تشمل ولاية الموصل رغم أن قضية تقرير مصير الأكراد كانت مثارة بين الأخيرين وبين بريطانيا، بيد أن الحركة الوطنية سواء المرجعية الشيعية أو أفندية بغداد النخبة) لم يبذلوا أي جهد للتواصل والتنسيق مع الزعماء الأكراد الذين شاركوهم بالأمس القريب في حركة الجهاد. وفي الواقع لم ترسم المضابط طبيعة العلاقة مع حكومة الشريف نفسه، وهل أن الإشارة له فقط لتعليل ترشيح أحد أنجاله باعتباره رمزاً قومياً يصعب على بريطانيا أن تعترض عليه وهو حليفها، أم أن المقصود التمهيد لدولة عربية يلتئم فيها الشريف مع أنجاله كما كان يرسمها لنفسه ولو بشكل كونفدرالي كما يبدو من وثائق أخرى.
ثم أصدر الميرزا الشيرازي بعد توجيه الرأي العام عبر حركة المضابط فتواه الشهيرة (ليس لأحدٍ من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين). وبالطبع فإن أول ما يلفت الانتباه لهذه الفتوى أنها عادت لاستخدام اللغة الدينية رغم أن المضابط تجادل بحجج وطنية ما يشير بوضوح إلى العلة الحقيقية لمقاومة المرجعية الشيعية للاحتلال البريطاني.
وكالعادة وعلى امتداد تاريخ الدولة الوطنية في العراق كانت لا بد لدعوات الجهاد والتضحية أن تعتمد على المعتقدات والمشاعر الدينية لعدم تغلغل - بل عدم تبلور - الهوية الوطنية، وهكذا عندما أزفت لحظة الثورة العراقية عادت الفتاوى إلى فتاوى مرحلة الجهاد الدينية (على عموم المسلمين فريضة الدفاع عن حوزة الدين المبين صيانة المشاهد المشرفة عن لوث الكافرين إخوانكم المسلمين، (حكومة إسلامية)، على جميع المسلمين، مقاصدكم الإسلامية بعد أن انتقلت طيلة السنتين أو الثلاث الماضية إلى اللغة الوطنية. ويظهر أن المرجعية الشيعية احترفت الخطاب باللهجتين الدينية مع الجمهور، والوطنية مع سلطات الاحتلال والمحافل الدولية. ففي رسالة الميرزا الشيرازي إلى الرئيس الأمريكي ودرو ولسن، بعد اسبوعين فقط من فتواه بشأن استفتاء الكولونيل ولسن يحاجج الميرزا الشيرازي مجدداً وفق القانون الدولي بحرية الرأي في التعبير عن حق تقرير المصير، وهو ما نجده أيضاً في رسالة ناعمة غير مؤرخة لشيخ الشريعة موجهة لسلطات الاحتلال، وفي رسائلهما للرئيس الأمريكي ولسن التي تكشف عن احتجاج قانوني متين وإن كان مبسطاً حول مبادئ الأخير والمطالبة بمملكة دستورية مستقلة وحول صلاحية البت بالانتداب كما في مضبطة الكاظمية، والرسائل على جزالتها تفصح عن مجمل شكل الدولة بالإضافة عن نظامها فتطالب بـدولة جديدة عربية مستقلة إسلامية)، نظراً لأن العراقيين أمة مسلمة، أي دولة وطنية بهوية إسلامية تبعاً لهوية العراقيين أو الغالبية العظمى منهم، والتأكيد على ملك مسلم استناداً لهذه الهوية وما يستلزمه ضمناً من الاستقلال عن الاحتلال البريطاني، وهذا ما يختزل خلاصة الفكر السياسي لمدرسة النجف. منطق القانون الدولي يتضح أيضاً في رسائل ومضابط العلماء الشيعة إلى الأمير فيصل بإقرار تمثيلهم لمجتمعاتهم ثم وبناءً على هذا التمثيل - تفويض الأمير للمطالبة باستقلال العراق في مؤتمر الصلح بباريس؛ وهنا والكلام مع وكيلهم) - يشترط (استقلالاً تاماً عارياً عن شائبة الحماية والوصاية) بينما كانت المطالبة مع الطرف المقابل تسويف البتّ بالانتداب دون رفضه المطلق ما يرسم صورةً عن إدراك المرجعية الشيعية لمناورات التفاوض بين المطلوب والممكن النقطة الأهم هنا هي تفاوت التمثيل المعبّر عن التفاوت في الانتماءات فرسالة الميرزا الشيرازي تعبّر عن تمثيلها للطائفة الجعفرية) بثقة مطلقة في رسالته المنفردة بينما اقتصرت مضبطة كبار علماء النجف ومجتهديهم بزعامة شيخ الشريعة على تمثيل أصناف محددة من المجتمع الشيعي بل النجفي. وهذا يشير إلى أن مرجعية الشيرازي قد أضحت العليا بلا منازع، وهو عرف لم يكن مألوفاً في تلك الفترة، ولكن ما يلفت النظر أن الميرزا يضيق دائرة تأثيره السياسي فلا يدعي تمثيله للعراقيين، بينما يعبّر زعماء الفرات الأوسط عن أنفسهم برؤساء العراق) ويعبّرون عن (مطالب العراق بثقة مفرطة تكاد تختزل العراق بهم، ويؤكد شيخ الشريعة مطالبتهم بـ (حقوق العراقيين).
مضبطة علماء الكاظمية التي استوعبت بعد الاحتلال البريطاني حوزة سامراء أيضاً كانت كالعادة الأنضج في التعبير عن تمثيلها ل (الأمة العراقية) التي أصبحت الآن شعباً سياسياً محدداً يطالب بدولته وليس مجرد جماعة تستوطن إقليماً جغرافياً ما . وستصبح (الأمة العراقية) في مفاوضات المندوبين بعد سنة من مضابط الاستفتاء وبعد احتراف المفاوضات السياسية، مصطلحاً مفروغاً منه للدلالة على الشعب العربي (العراقي الذي يعبر مندوبوه عن (الرأي العراقي (العام) المطالب بالاستقلال وبتشكيل (مؤتمر عراقي) في عاصمة البلاد بغداد)؛ أي أن هناك دولة متكاملة الأركان من إقليم وشعب وحتى اعتراف دولي، وما ينقصها هو السيادة التي ينتهكها الاحتلال.
وقد أضفت مضبطة بغداد والكاظمية بالإضافة لذلك بُعداً آخر أشارت له مضابط الزعماء والرؤساء هو الانتماء العربي الذي ساقته ضمن الاستدلال القانوني لتوكيل الأمير فيصل، وهو ما فرضته التيارات السائدة حسب مبادئ ولسن وتعهدات الحلفاء بتأسيس دول وطنية على أسس قومية Nation States ، وهو الاتفاق الذي تشبّث به الشريف حسين لولا تعقيدات المصالح الإستعمارية وتقاطعاتها التي اقتضت بتقسيم البلاد العربية في الجزيرة والعراق والشام إلى مناطق انتداب ونفوذ حدّدت ملامحها الأولية اتفاقية سايكس بيكو. ومع ذلك فقد كان الانتماء العربي قومياً محضاً ولم يكن آيديولوجياً أبداً، كما إنه لم يكن سياسياً، وقد كانت الهوية السياسية عراقية واضحة تطالب بدولة وطنية محددة من شمال الموصل إلى الخليج ؛ وبالكاد كان المفهوم ضمناً نوع من التضامن القومي بين الدول العربية المفترض استقلالها كما مرّ، غير أن المحتوى العروبي (الثقافي) في وعي شيعة العراق حيث البيئة عربية خالصة كان طاغياً بحيث لم يلتفتوا بتاتاً لوجود القوميات الأخرى في ولاية الموصل التي تمثل جزءاً من العراق الذي يطالبون باستقلاله الهوية العراقية بهذا التعبير الصريح وبهذه الحدود الجغرافية المحددة بدقة كانت ناضجة ومتكاملة بدرجة عالية كهوية سياسية للدولة مع إقرارها بهوية المجتمع (الأمة الإسلامية والعربية، كما جاءت المطالبة بها بالإجماع فلم تظهر أي إشارات لانتماءات أو حدود أخرى بتاتاً من (الأقلية) الشيعية المضطهدة في العهد العثماني كالإلتحاق بالمملكة الفارسية، أو استقلال المناطق الشيعية أو المطالبة بحكم ذاتي أو وضع خاص لها، وكذلك لم يطالب السنة العرب مثلاً بالإلحاق بدولة قومية كبرى سواء مع الشام أو مع حكومة الشريف في الحجاز، ولم تظهر منهم إلا قلة لا يعتد بها من موظفي أو متنفذي العهد السابق نادت بالعودة إلى أحضان دولة الخلافة العثمانية، وحتى الأكراد على ما يبدو من مضابط الكثير من زعمائهم لم تتبلور عندهم هوية قومية متميزة عن الهوية العراقية إلا في مطالب الشيخ محمود الحفيد. إذن الدولة التي كانت الثورة العراقية الكبرى تسعى لتأسيسها هي دولة وطنية (من حيث نظامها السياسي (العلماني))، عراقية (حسب الإقليم الجيوسياسي وحسب الشعب السياسي (الأمة))، لكنها ذات هوية إسلامية ثم عربية صارخة وهذا النموذج في الواقع استمر وبدرجة كبيرة هو نموذج الدولة في الوعي العام للشعب طيلة الدولة العراقية الأولى (۱۹۲۱- ۲۰۰۳) والدولة العراقية الثانية بعد ٢٠٠٣.
الهوية العربية التي كانت مفروغاً منها كهوية ثقافية اقترنت عند البعض بترشيح أحد أنجال الشريف حسين، بيد أن تلك القضية لم تكن محط إجماع المرجعية الشيعية بالرغم من نشاط الجمعيات السرية (للمثقفين الشيعة) الذي تمكن من خلق رأي عام ضاغط بين العلماء والزعماء بهذا الاتجاه خصوصاً مرجعية الميرزا الشيرازي العائدة من سامراء والتي تبنت الموضوع لحد التراسل المباشر والمتبادل مع الشريف نفسه، إذ يبدو ورغم شحة النصوص التاريخية أن السيد اليزدي كان بالضد منها وكذا بعض مجتهدي النجف ممن سيتصدرون المرجعية في المرحلة اللاحقة كالسيد أبي الحسن الإصفهاني والميرزا النائيني، إلا أن أرشيف السيد اليزدي لا يفصح عن شيء من ذلك رغم استيعابه للكثير من تفصيلات الوقائع التي عاصرتها ،مرجعيته، لا سيما في دورها الأخير بعد تفرده بالزعامة المطلقة. ولم يرد في سياق الأحداث سوى استقبال السيد اليزدي لولسن الذي راوغه عن موضوع الاستفتاء ودعوة السيد اليزدي للاجتماع العام، إذ (إن الأمر الخطير جداً، ولكل أحد حق إبداء الرأي، سواء كان تاجراً أم بقالاً، زعيماً أم (حمالاً وهو ما ينم عن بعد نظر عال للغاية امتاز به السيد اليزدي، بيد أن الاجتماع أسفر عن خلاف شديد لم تذكر المصادر التاريخية عن كنهه، وإن كان شخص المرشح هو القضية الأكثر احتمالاً لإثارة الاختلاف. ومن الواضح أن مجريات الاجتماع الذي عقد في دار الشيخ جواد الجواهري وحضره العاملون بالجمعيات السياسية ومعظمهم من المناصرين لحركة الشريف حسين لم تتماش مع قناعات السيد اليزدي مما جعله ينأى بنفسه عن الخوض بمعركة خاسرة أصبح زمامها بيد الميرزا الشيرازي.
وموضوع ترشيح أحد أنجال الشريف يستحق كثيراً من البحث فحركة الشريف ضد الدولة العثمانية جوبهت بالاستياء والتخوين في العالم الإسلامي، وليس في العراق أو من قبل المرجعية الشيعية فقط، فكيف انقلب الأمر خلال سنتين لتتبناه المرجعية والزعامات والنخب الشيعية ليصبح عندها مرشحاً أوحد لعرش العراق الذي هو بعيد عنه تماماً، ناهيك عن اختلافه المذهبي، مع وجود من هو أقرب منه بكثير من شتى النواحي المحلية والعشائرية والمذهبية كالشيخ خزعل الكعبي شيخ المحمرة الذي سيدعم لاحقاً بعض المجتهدين ترشيحه بالفعل. وقد يكون ذلك بفعل الدعاية الحزبية للضباط العراقيين الشريفيين في سوريا وجمعياتهم الحزبية كما يستشف من أوراق الشيخ محمد رضا الشبيبي الذي تبنّى ترشيح الأمير عبد الله تحديداً، وكاد أن يستحصل توقيع شيخ الشريعة على ذلك تناغماً العراقي في الشام.
وفي الحقيقة لا أجد تعليلاً سوى أن المبادرة بطرح الحليف البريطاني كان عربوناً للمقايضة بالاستقلال أي تقديراً واقعياً للممكن بالتلويح لبريطانيا بحليفها مقابل موافقتها على منح الاستقلال بدلاً من الإصرار على استقلال حقيقي مطلق لا يمكن أن تتنازل عنه بريطانيا وهي في أوج انتصار الحلفاء، خصوصاً إذا ما التفتنا إلى الانتقال إلى التسويف في مسألة الانتداب بدلاً من رفضها المبدئي عند المفاوضات مع سلطات الاحتلال أو الجهات الدولية؛ وهذا ما يعضد الواقعية التي تتسم بها المرجعية الشيعية، وهو ما يكون قد يقصده السيد هبة الدين الشهرستاني بأن العراق قد استفاد وجود واسطة مثل المرحوم فيصل لحسن التفاهم مع البريطانيين وتأسيس مملكة عربية بمعنى الكلمة تدرجت في سبيل استقلالها كما يمكن أن يضاف إلى ذلك سبب آخر وهو الثقل السياسي الذي تمتع به الشريف حسين في ميزان القوى الدولية باعتباره حليف الحلفاء المنتصرين في الحرب والقضية العربية التي كانت هوية مملكته المزمعة، وهو ما وجد فيه شيعة العراق عمقاً جيوسياسياً حقيقياً لهم فهم بالفعل يعيشون غربةً حقيقية عن إيران بالرغم من عمق الصلات الثقافية معها التي تبدو أنها باتجاه أحادي وليس متبادلاً، وقد تجلّى العمق العربي في موجة الاستنجاد الأولى بالأمير فيصل في مؤتمر الصلح ثم بموجة الاستنجاد الثانية بالملك حسين قبيل الثورة لكسر الحصار الإعلامي ومحاولة استصراخ الرأي العام الدولي.
ومن الغريب اللافت للانتباه سرعة التحول من الانتماء الإسلامي المحض المتمثل بدولة الخلافة العثمانية حيث أدينت حركة الشريف حسين قبيل سنوات قليلة، إلى الانتماء الإسلامي العربي حيث التبجيل والثناء على نفس نهضة الشريف المطالبة باستقلال العرب التي كانت في أساسها استقلالاً عن العثمانيين ثم أصبحت استقلالاً عن الحلفاء ،ووصايتهم، بل إن هناك إشارات إلى أن الانتقال في تقييم حركة الشريف حسين كان بعد أشهر قليلة وفور احتلال بغداد خصوصاً من محور حوزات كربلاء - الكاظمية - سامراء الذي كان فيما يبدو مؤيداً منذ وقت مبكر - ولعلّه لأسباب قومية بسبب التعصب والاضطهاد التركي - للنهضة العربية ثم تسابق في الترحيب بالأمير فيصل عند استقباله مرشحاً لعرش العراق بصورة غير مسبوقة مقابل محور حوزة النجف – وليس جمعياتها السياسية - الذي استمر رافضاً للشريف وأنجاله لوقت متأخر حتى بعد ترشيح فيصل وانعكس في الاستقبال الفاتر أو الإعراض الذي لاقاه، وإذا ما كان رفضهم في البداية نابعاً لأسباب دينية محضة، فإن استمرار معارضتهم له لا يفسرها سوى رفضهم لطبيعة علاقة الشريف حسين ثم الملك فيصل مع الإنكليز.
ما ورد في خطبة الجمعة لممثل المرجعية الدينية العليا في كربلاء المقدسة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في (14/ شعبان /1435هـ) الموافق ( 13/6/2014م )
قال الشيخ الكربلائي في خطبة صلاة الجمعة الثانية من الصحن الحسيني الشريف ما يأتي :
إن العراق وشعبه يواجه تحدياً كبيراً وخطراً عظيماً وإن الارهابيين لا يهدفون إلى السيطرة على بعض المحافظات كنينوى وصلاح الدين فقط بل صرحوا بأنهم يستهدفون جميع المحافظات ولا سيما بغداد وكربلاء المقدسة والنجف الأشرف ، فهم يستهدفون كل العراقيين وفي جميع مناطقهم ، ومن هنا فإن مسؤولية التصدي لهم ومقاتلتهم هي مسؤولية الجميع ولا يختص بطائفةٍ دون أخرى أو بطرفٍ دون آخر.
وأكد الكربلائي : إن التحدي وإن كان كبيراً إلاّ أن الشعب العراقي الذي عرف عنه الشجاعة والإقدام وتحمّل المسؤولية الوطنية والشرعية في الظروف الصعبة أكبر من هذه التحديات والمخاطر .
المزيد