توجّه النبيُّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) في السنة الأخيرة من حياته المباركة إلى الحجّ؛ ليؤدّي حجّة الوداع كما عُرفت بعد ذلك، وفي وقتها شاع الخبرُ فتوافد الناسُ إلى المدينة ليلتحقوا بالركب النبويّ، حتّى بلغ عددُهُم (120) مائةً وعشرين ألفاً، عدا الذين انضمّوا إليه في الطريق، والتحقوا به من اليمن وفي مكّة المكرّمة.
وتمّ أداء فريضة الحجّ ومناسكها المقدّسة، بعد ذلك عاد النبيّ المصطفى(صلّى الله عليه وآله) إلى المدينة، وفي طريق عودته هبط الأمين جبرئيل(عليه السّلام) هاتفاً بنداء الحقّ: (يا أيُّها الرّسُولُ بلِّغْ ما أُنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وإنْ لمْ تَفعلْ فما بلّغتَ رسالتَه واللهُ يَعصِمُكَ مِن الناسِ إنّ اللهَ لا يَهدي القومَ الكافرين).
فكان الأمر الإلهيّ أن ينصّب رسولُ الله(صلّى الله عليه وآله) عليّاً(سلام الله عليه) إماماً للناس مِن بعده وخليفةً ووصيّاً له، وأن يبلّغ الملأ ما نزل فيه من الولاية وفرضِ الطاعة على كلّ أحد.
وقف النبيّ الأعظم(صلّى الله عليه وآله) ممتثلاً لأمر الله تبارك وتعالى، ليلتحق به مَن تأخّر، ويرجع إليه مَن تقدّم، فقد حلّت واقعةٌ عُظمى في حياة الرسالة، وكان لابدّ أن يكون لها صداها في واقع الأمّة وفي التاريخ.
المكان: غدير خمّ، وهي المنطقة التي تتشعّب منها الطرق إلى المدينة والعراق ومصر واليمن.
الزمان: اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجّة الحرام، السنة العاشرة من الهجرة النبويّة المباركة.
الأمر: تنصيب الإمام عليّ(عليه السّلام) أميراً للمؤمنين، وخليفةً لرسول ربّ العالمين.
المبلِّغ: أشرف الأنبياء والرسل الأكرمين صلوات الله عليه وآله وعليهم أجمعين.
المدعوّ: هو سيّد الأوصياء والصدّيقين علي بن أبي طالب(سلام الله عليه).
الحضور: حشودٌ بشريّة هائلة من المسلمين، من بلدانٍ شتّى.
الجوّ: حرّ شديد، بعد عناء الحجّ وأداء مناسكه المتنوّعة حيث لا تُنسى وقائعه.
فمُدّت الظلال على الأشجار، ووُضعت أحداج الإبل حتّى صارت كالمنبر، ليرتقي رسول الله(صلّى الله عليه وآله) يرفع صوته الإلهيّ إلى الأسماع، يفاجئها ليقول:
(أيّها الناس، إنّي أُوشِك أن أُدعى فأجيب، وإنّي مسؤولٌ وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟!).
فتعالت الأصوات من كلّ جهةٍ ومكان: نشهد أنّك قد بلّغتَ ونصحتَ وجاهدتَ، فجزاك الله خيراً.
فقال(صلّى الله عليه وآله): (ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ، وناره حقّ، وأنّ الموت حقّ، وأنّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها وأنّ الله يبعث مَن في القبور؟!).
قالوا: بلى، نشهد بذلك. فقال: (اللهمّ اشهَدْ).
ثمّ نادى: (أيّها الناس.. ألا تسمعون؟) فقالوا: بلى.. بلى.
قال: (انظروا كيف تخلّفونني في الثقلَين؟!) فنادى مُنادٍ: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: (الثقْل الأكبر: كتاب الله، طَرَف بيد الله عزّوجلّ وطرف بأيديكم، فتمسّكوا به ولا تَضِلّوا. والآخر الأصغر: عِترتي أهل بيتي، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يَرِدا علَيّ الحوض، فسألتُ ذلك لهما ربّي، فلا تَقَدّموهما فتهلكوا، ولا تُقصّروا عنهما فتهلكوا!).
وهنا تمّ أمران -على أقلّ الفروض-:
الأمر الأوّل: إقرار الناس بحقائق الإسلام ومبادئه الأُولى.
الأمر الثاني: التبليغ بالثقلَيْن المتلازمَيْن.
وبقي البيان الكاشف، والحقيقة الساطعة، والنصّ الجليّ الحجّة، والمشهد الذي يكون ماثلاً في أُصول الدين أمام ضمائر المسلمين.. حقّاً لا شائبة فيه، ولا تأويل له ولا تحريف.
يأخذ رسول الله(صلّى الله عليه وآله) بيد ابن عمّه ووصيّه عليّ بن أبي طالب(عليه السّلام) فيرفع تلك اليد المجاهدة النقيّة الكريمة، وينادي(صلّى الله عليه وآله) حتّى يُسمِعَ الأصمّ: (أيّها الناس.. مَنْ أولى الناسِ بالمؤمنين من أنفسهم؟).
ويأتي جوابهم: اللهُ ورسوله. فينادي هذه المرّة: (إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم. فمن كنتُ مولاه، فعليٌّ مولاه، مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه -ثلاث مرّات-).
عندئذٍ انطلق الدعاء النبويّ الجليل:
(اللهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وأحِبَّ مَن أحبَّه وأبغِضْ مَن أبغضَه، وانصُرْ مَن نَصرَه، واخذُلْ من خذله..).
ولم ينتهِ الدعاءُ النبويّ بعد، بل جاء آخرُهُ تسديداً للوصيّ الحقّ وهو دعاءٌ مستجابٌ لا ريب فيه ولا خاطرة شكّ أبداً: (وأدِرِ الحقَّ معه حيث دار).
ثمّ كان التكليف النبويّ واضحاً: (ألا فلْيبلّغ الشاهدُ الغائبَ. معاشرَ الناس، إنّ الله قد نصّبه لكم وليّاً وإماماً، وفَرضَ طاعته على كلّ أحدٍ، ماضٍ حُكمُه، جائزٌ قولُه، ملعونٌ مَن خالفه، مرحومٌ مَنْ صدّقه. اِسمعوا وأطيعوا فإنّ اللهَ مولاكم، وعليٌّ إمامُكم، ثمّ الإمامةُ في وُلْدي من صُلبه إلى يوم القيامة.. معاشرَ الناس، هذا أخي ووصيّي، وواعي علمي، وخليفتي على مَن آمن بي، وعلى تفسير كتاب ربّي.
معاشر الناس، آمِنوا بالله ورسوله والنور الذي أُنزل معه.. النورُ مِن الله فِيّ، ثمّ في عليّ، ثمّ في النسل منه إلى القائم المهديّ.
معاشر الناس، سيكون بعدي أئمّةٌ يدعون إلى النار، ويوم القيامة لا يُنصَرون، وإنّ الله وأنا بريئان مِنهم، إنّهم وأنصارَهم وأتباعهم في الدَّرْك الأسفل من النار، وسيجعلونها مُلكاً اغتصاباً..).