المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16333 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
الإمام عليٌ (عليه السلام) حجّة الله يوم القيامة
2024-04-26
امساك الاوز
2024-04-26
محتويات المعبد المجازي.
2024-04-26
سني مس مربي الأمير وزمس.
2024-04-26
الموظف نفرحبو طحان آمون.
2024-04-26
الموظف نب وعي مدير بيت الإله أوزير
2024-04-26

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تفسير آية (48-50) من سورة المائدة  
  
24779   04:02 مساءً   التاريخ: 16-10-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الميم / سورة المائدة /

قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة : 48-50] .

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [المائدة : 48] .

لما بين تعالى نبوة موسى وعيسى ، عقب ذلك ببيان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم احتجاجا على اليهود والنصارى ، بأن طريقته كطريقتهم في الوحي والمعجز ، فقال :

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} يا محمد {الْكِتَابَ} يعني : القرآن {بِالْحَقِّ} أي : بالعدل {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} : يعني التوراة والإنجيل ، وما فيهما من توحيد الله ، وعدله ، والدلالة على نبوته ، والحكم بالرجم والقود على ما تقدم ذكره . وقيل : المراد بالكتاب الكتب المنزلة على الأنبياء ، ومعنى الكتاب : المكتوب ، كقولهم هذه الدراهم ضرب الأمير أي : مضروبه ، عن أبي مسلم .

{وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} : معناه وأمينا عليه ، شاهدا بأنه الحق ، عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد . وقيل : مؤتمنا عن سعيد بن جبير ، وأبي عبيدة ، وابن جريج ، وهو قريب من الأول . قال ابن جريج : أمانة القرآن أن ما أخبر به الكتب إن كان موافقا للقرآن يجب التصديق به ، وإلا فلا . وقيل : معناه وحافظا ورقيبا عليه ، عن الحسن ، وأبي عبيدة ، قالوا : وفيه دلالة على أن ما حكى الله أنه كتبه عليهم في التوراة ، يلزمنا العمل به لأنه جعل القرآن مصدقا لذلك ، وشاهدا به {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} يعني بين اليهود بالقرآن في الرجم على الزانين ، عن ابن عباس ، قال : إذا ترافع أهل الكتاب إلى الحكام ، يجب أن يحكموا بينهم بحكم القرآن ، وشريعة الإسلام ، لأنه أمر من الله بالحكم بينهم ، والأمر يقتضي الإيجاب ، وبه قال الحسن ، ومسروق ، وقال الجبائي : وهذا ناسخ للتخيير في الحكم بين أهل الكتاب ، أو الأعراض عنهم والترك .

{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} يريد : فيما حرفوا وبدلوا من أمر الرجم ، عن ابن عباس {عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} ويجوز أن يكون عن من صلة معنى لا تتبع أهواءهم ، لان معناه لا تزغ ، فكأنه قال لا تزغ عما جاءك باتباع أهوائهم .

ومتى قيل : كيف يجوز أن يتبع النبي أهواءهم مع كونه معصوما ؟ فالجواب : إن النبي يجوز أن يرد عما يعلم أنه لا يفعله ، ويجوز أن يكون الخطاب له والمراد جميع الحكام . {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} الخطاب للأمم الثلاث : أمة موسى ، وأمة عيسى ، وأمة محمد ، ولا يعني به قوم كل نبي ، ألا ترى أن ذكر هؤلاء قد تقدم في قوله {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} الآية . ثم قال : {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} قال {أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} ، ثم قال (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً) فغلب المخاطب على الغائب شرعة : أي شريعة ، فللتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ، عن قتادة ، وجماعة من المفسرين . وفي هذا دلالة على جواز النسخ . على أن نبينا كان متعبدا بشريعته فقط ، وكذلك أمته . وقيل : الخطاب لامة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، عن مجاهد ، والأول أقوى ، لأنه سبحانه بين أن لكل نبي شريعة ومنهاجا أي : سبيلا واضحا غير شريعة صاحبه وطريقته ، ويقوي ذلك قوله {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ومعناه ولو شاء الله لجمعكم على ملة واحدة في دعوة جميع الأنبياء لا تبدل شريعة منها ، ولا تنسخ ، عن ابن عباس . وقيل : أراد به مشيئة القدرة أي : لو شاء الله لجمعكم على الحق ، كما قال : {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } ، عن الحسن ، وقتادة .

{وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ} أي : ولكن جعلكم على شرائع مختلفة ، ليمتحنكم {فيمَا آتَاكُمْ} أي : فيما فرضه عليكم ، وشرعه لكم . وقيل : فيما أعطاكم من السنن ، والكتاب . وقال الحسين بن علي المغربي : " المعنى لو شاء الله لم يبعث إليكم نبيا فتكونون متعبدين بما في العقل ، وتكونون أمة واحدة ، ولكن ليختبركم فيما كلفكم من العبادات ، وهو عالم بما يؤول إليه أمركم " {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} أي : بادروا فوت الحظ بالتقدم في الخير . وقيل : معناه بادروا الفوت بالموت ، أو العجز ، وبادروا إلى ما أمرتكم به ، فإني لا آمركم إلا بالصلاح ، عن الجبائي . وقيل : معناه سابقوا الأمم الماضية إلى الطاعات والأعمال الصالحة ، عن الكلبي . وفي هذا دلالة على وجوب المبادرة إلى أفعال الخيرات ، ويكون محمولا على الواجبات . ومن قال : إن الأمر على الندب ، حمله على جميع الطاعات ، {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} أي : مصيركم {جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ} : فيخبركم . {بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمر دينكم ، ثم يجازيكم على حسب استحقاقكم .

{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة : 49-50] .

{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} إنما كرر سبحانه الأمر بالحكم بينهم لأمرين أحدهما : انهما حكمان أمر بهما جميعا ، لأنهم احتكموا إليه في الزنا لمحصن ، ثم احتكموا إليه في قتيل كان بينهم ، عن الجبائي ، وجماعة من المفسرين ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام . والثاني : إن الأمر الأول مطلق ، والثاني يدل على أنه منزل ، {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} قيل فيه قولان : أحدهما : إن معناه احذرهم أن يضلوك عن ذلك إلى ما يهوون من الأحكام ، بأن يطمعوك منهم في الإجابة إلى الإسلام ، عن ابن عباس والثاني : إن معناه احذرهم أن يضلوك بالكذب على التوراة ، لأنه ليس كذلك الحكم فيها ، فإني قد بينت لك حكمها ، عن ابن زيد . وفي هذه الآية دلالة على وجوب مجانبة أهل البدع والضلال ، وذوي الأهواء ، وترك مخالطتهم {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي : فإن أعرضوا عن حكمك بما أنزل الله {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} : قيل في معناه أقوال أحدها : إن معناه ، فاعلم يا محمد إنما يريد الله أن يعاقبهم ببعض إجرامهم ، ذكر البعض والمراد به الكل ، كما يذكر العموم ، ويراد به الخصوص ، عن الجبائي ، والثاني : إنه ذكر البعض تغليظا للعقاب ، والمراد أنه يكفي أن يؤاخذوا ببعض ذنوبهم في إهلاكهم ، والتدمير عليهم والثالث : إنه أراد تعجيل بعض العقاب بما كان من التمرد في الإجرام ، لان عذاب الدنيا يختص ببعض الذنوب ، دون بعض ، وعذاب الآخرة يعم . وقيل : المراد بذلك إجلاء بني النضير لان علماءهم لما كفروا وكتموا الحق ، عوقبوا بالجلاء ، عن الحسن . وقيل : المراد بنو قريظة لما نقضوا العهد يوم الأحزاب ، عوقبوا بالقتل .

{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن امتناع القوم من الإقرار بنبوته ، والإسراع إلى إجابته ، بأن أهل الإيمان قليل ، وأهل الفسق كثير ، فلا ينبغي أن يعظم عليك ذلك . ثم أنكر عليهم فعلهم فقال : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} والمراد به اليهود ، عن مجاهد ، واختاره الجبائي قال : لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه ، وإذا وجب على أقويائهم وأشرافهم لم يؤاخذوهم به ، فقيل لهم : أفحكم الجاهلية أي : عبدة الأوثان تطلبون ، وأنتم أهل الكتاب . وقيل : المراد به كل من طلب غير حكم الله ، فإنه يخرج منه إلى حكم الجاهلية ، وكفى بذلك (2) أن يحكم بما يوجبه الجهل دون ما يوجبه العلم {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} أي : لا أحد حكمه أحسن من حكم الله {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي : عند قوم أقيمت اللام مقام عند ، عن الجبائي . وهذا جائز إذا تقاربت المعاني ، وارتفع اللبس ، فإذا قيل : الحكم لهم ، فلأنهم يستحسنونه ، وإذا قيل : عندهم فلان عندهم العلم بصحته .

_____________________________

1 . تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 349-353 .

2 . [خزيا] .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1) :

{وأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ ومُهَيْمِناً عَلَيْهِ} .

المراد بالكتاب الأول القرآن ، لأن الخطاب موجه لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) ، والمراد بالكتاب الثاني جنس الكتاب الشامل لجميع الكتب السماوية ، ومنها التوراة والإنجيل . .

بعد أن ذكر سبحانه التوراة والإنجيل وموسى وعيسى ( عليه السلام ) عقب بذكر القرآن ومحمد ( صلى الله عليه وآله ) ، ووصف القرآن بوصفين : الأول : انه يصدّق كل كتاب نزل على نبي من الأنبياء . الثاني : انه مهيمن على ما سبقه من الكتب السماوية ، ومعنى هيمنة القرآن على التوراة والإنجيل انه يشهد لهما بالحق والصدق ، ويخبر عن الأصول والأحكام المحرفة فيهما ليميز الناس الأصيل من الدخيل الذي نسبه رؤساء الأديان إلى اللَّه كذبا وافتراء .

{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} - أي بين اليهود - { بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ } . وبديهة أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لا يحكم إلا بالحق ، ولا يتساهل فيه كبيرا كان أو صغيرا ، ومحال أن يتبع هوى مخلوق . . كيف وأقواله وأفعاله الميزان الذي يقاس به الحق والعدل ؟ . . ولو افترض أن مخادعا حاول أن يخدع الرسول بمظهره وريائه ، وأوشك الرسول أن يخدع به باعتباره بشرا فإن اللَّه سبحانه يرعاه بعنايته ، ويعلمه بالواقع قبل أن تبدر منه أية بادرة يريدها منه المخادع المحتال : {ولَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا} [الإسراء : 74] .

وتسأل : ما دام الأمر كذلك ، فلما ذا خاطب اللَّه نبيه المعصوم بهذا الخطاب ؟

الجواب : أولا بيّنا فيما تقدم ان الخطاب إذا صدر من الأعلى لا يلحظ فيه حال المخاطب ، مهما كانت منزلته ، وإنما يعتبر ذلك إذا صدر الخطاب من المساوي أو الأدنى .

ثانيا : إن اللَّه سبحانه يعلم ان علماء السوء من أمة محمد ( صلى الله عليه وآله ) سيبررون الانحراف عن حكمه ، بمعاذير شيطانية ، فخاطب نبيه الأكرم بهذا الخطاب تحذيرا لهم من التلاعب بالدين مسايرة لأهواء الحاكمين والمترفين .

{لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهاجاً} . المضاف إليه محذوف ، أي لكل أمة .

ومنكم خطاب لجميع الناس ، أو للأمم الثلاث : اليهود والنصارى والمسلمين ، وشرعة الشريعة ، وهي الأحكام العملية التي يمتثلها الإنسان طاعة للَّه ، وابتغاء مرضاته وثوابه ، وتجدر الإشارة إلى أن كلمة الشريعة أخص من كلمة الدين ، لأن الدين يشمل الشريعة ، وأصول العقيدة . والمنهاج السبيل الواضح ، أي أن اللَّه جعل لكل أمة شريعة واضحة لا التباس فيها ولا غموض .

وهذه الآية نص في أن شريعة اللَّه لم تكن واحدة لكل الناس في كل العصور وأنها كانت فيما مضى مؤقتة بأمد محدود ، وإن الأديان تتفق وتتحد في أصول العقيدة فقط ، لا في الشريعة .

وتسأل : إذا كان الأمر كذلك ، فلما ذا اختصت الشريعة الإسلامية بالدوام والاستمرار من بين الشرائع ؟

ولن يعرف الجواب عن هذا السؤال إلا من درس الشريعة الإسلامية ، حيث يرى أنها تقوم على قواعد ثابتة محال أن تتغير بتغير الأزمان والأحوال ، لأنها تلائم الإنسان ، من حيث هو إنسان ، لا من حيث انه قديم أو حديث ، من ذلك على سبيل المثال : لا يكلف اللَّه نفسا إلا وسعها . . كل إنسان بريء ، حتى تثبت إدانته . . الصلح خير . . إقرار العقلاء على أنفسهم جائز . . الناس عند شروطهم . . الحدود تدرأ بالشبهات . . لا ضرر ولا ضرار . . الضرورات تبيح المحظورات . . اليقين لا ينقضه إلا يقين مثله . . درأ المفسدة أولى من جلب المصلحة . . الضرر لا يزال بضرر مثله . . الغائب على حجته حتى يحضر ، وما إلى ذلك مما أفرد له الفقهاء المجلدات . . إن هذه المبادئ محال أن تتغير إلا إذا تغيرت طبيعة الإنسان .

{ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} . ميّز اللَّه سبحانه الإنسان عن غيره من المخلوقات بأن جعل فيه استعدادا للجهل والعلم ، والتخلف والتقدم ، ولعمل الخير والشر ، ثم نهاه عن هذا ، وأمره بذاك ، وكان من نتيجة هذا الاستعداد والأمر والنهي أن تفاوت الناس في استغلال هذا الاستعداد ، وفي طاعة اللَّه ومعصيته ، ولو شاء اللَّه أن لا يمنح الإنسان هذه الموهبة لفعل ، ولو فعل لكان الناس جميعا في مستوى واحد ، تماما كالحيوانات والطيور والحشرات ، يتصرفون ولا يعرفون خيرا ولا شرا ، ولا نجاحا ولا فشلا .

{ولكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ} . أي أن اللَّه منحنا هذه الموهبة ، وأمرنا ونهانا ليعاملنا معاملة السيد المختبر لعبيده أيهم أحسن عملا ، مع العلم بأنه يعلم السرائر والضمائر ، ولكنه لا يثيب إلا بالعمل ، ولا يعاقب إلا بعد الإنذار والإعذار .

{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} .

أي إذا كان اللَّه قد منح الإنسان هذه الموهبة ، وشرّع الشرائع للأمم لتظهر الأفعال التي يستحق بها الإنسان الثواب فعلينا جميعا أن نسارع إلى عمل الخيرات لأنها المقصود الأول من الشرائع ، ومن يتخذ من اختلاف الشرائع وسيلة للشحناء والبغضاء فإن اللَّه سبحانه يحاسبه غدا ، ويجازيه بما يستحق .

{وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ واحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} . هذه الآية تكرار للآية التي قبلها بلا فاصل ، وقال بعض المفسرين : تلك نزلت في تحاكم اليهود في الزنا ، وهذه في تحاكمهم في القتل ، ولا دليل على هذا التوجيه ، ولا على غيره مما في كتب التفسير ، وقد بينا في ج 1 ص 96 ان القرآن الكريم يستعمل التكرار لأنه عامل قوي في تكوين الآراء وانتشارها .

هذا ، إلى أن ضمير أهوائهم يعود إلى اليهود ، ومن طريقة القرآن أن يكرر ويؤكد ما يتصل بهم أكثر من تأكيده وتكراره لأي شيء آخر ، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن اليهود شر الأمم على الإطلاق ، وبذلك شهد تاريخهم القديم والحديث ، وما من أحد رآهم أهلا لغير الشر إلا أهل الشر ، وقد ظهرت هذه الحقيقة للرأي العام بأجلى معانيها بعد 5 حزيران من سنة 1967 .

{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } . أي إن أعرضوا عن حكم اللَّه فسيعود عليهم هذا الأعراض بالخزي والوبال ، وتسأل : لما ذا قال ببعض ذنوبهم ، ولم يقل بذنوبهم ، وهل معنى هذا ان اللَّه يعذبهم على بعض الذنوب ، ويعفو عن بعض ؟

الجواب : ان قوله تعالى : { بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } إشارة إلى إعراضهم عن الحكم الذي حكم به رسول اللَّه ( صلى الله عليه وآله ) ، والمعنى : لا يرعك أيها الرسول إعراض اليهود عن حكمك ، فإن اللَّه سيعاقبهم على هذا الأعراض والتمرد .

{ وإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ } . الفاسق من عصى اللَّه في حكم واحد من أحكامه . . وعلى هذا فأكثر الناس ، بل كل الناس ، فاسقون إلا من ندر ، ولكن كلمة كثير تستعمل في الأكثرية ، ولا عكس . { أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } .

وكل حكم يخالف حكم اللَّه فهو حكم الجاهلية ، سواء أ كان في عصر الجاهلية ، أم بعده .

{ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } . وليس من شك ان كل حكم فيه صلاح للناس بجهة من الجهات فهو حكم اللَّه ، سواء أورد فيه نص خاص من الكتاب والسنة ، أم لم يرد ، وكل ما فيه ضرر للناس بجهة من الجهات فمحال أن يرضى اللَّه به ، حتى الحق الإلهي يسقط إذا تولد منه الضرر . . وكفى دليلا على أن كل حكم ينتفع الناس به فهو حكم اللَّه ، كفى دليلا على هذه الحقيقة الآية 23 من سورة الأنفال : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ } لأن معناها ان كل دعوة إلى الحياة فهي دعوة للَّه ولرسول اللَّه ( صلى الله عليه وآله ) .

واختلف المفسرون في معنى اللام في قوله تعالى : { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فقال بعضهم : إنها بمعنى عند مثل كتبته لخمس خلون من شهر كذا ، أي عند خمس . وقال آخر : هي للبيان . والصحيح إنها للاختصاص مثل الجنة للمتقين ، لأن المؤمنين الموقنين هم وحدهم الذين يحكمون ويعملون بحكم اللَّه .

________________________

1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص67-71 .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

قوله تعالى : { وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } هيمنة الشيء على الشيء ـ على ما يتحصل من معناها ـ كون الشيء ذا سلطة على الشيء في حفظه ومراقبته وأنواع التصرف فيه ، وهذا حال القرآن الذي وصفه الله تعالى بأنه تبيان كل شيء بالنسبة إلى ما بين يديه من الكتب السماوية : يحفظ منها الأصول الثابتة غير المتغيرة وينسخ منها ما ينبغي أن ينسخ من الفروع التي يمكن أن يتطرق إليها التغير والتبدل حتى يناسب حال الإنسان بحسب سلوكه صراط الترقي والتكامل بمرور الزمان قال تعالى : { إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } : ( إسراء : 9 ) وقال : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها } : ( البقرة : 106 ) وقال : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } : ( الأعراف : 157 ) .

فهذه الجملة أعني قوله : { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } متممة لقول : { مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ } تتميم إيضاح إذ لولاها لأمكن أن يتوهم من تصديق القرآن للتوراة والإنجيل أنه يصدق ما فيهما من الشرائع والأحكام تصديق إبقاء من غير تغيير وتبديل لكن توصيفه بالهيمنة يبين أن تصديقه لها تصديق أنها معارف وشرائع حقة من عند الله ولله أن يتصرف منها فيما يشاء بالنسخ والتكميل كما يشير إليه قوله ذيلا : { وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ } .

فقول : { مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ } معناه تقرير ما فيها من المعارف والأحكام بما يناسب حال هذه الأمة فلا ينافيه ما تطرق إليها من النسخ والتكميل والزيادة كما كان المسيح عليه ‌السلام أو إنجيله مصدقا للتوراة مع إحلاله بعض ما فيها من المحرمات كما حكاه الله عنه في قوله : { وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } : ( آل عمران : 50 ) .

قوله تعالى : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ } أي إذا كانت الشريعة النازلة إليك المودعة في الكتاب حقا وهو حق فيما وافق ما بين يديه من الكتب وحق فيما خالفه لكونه مهيمنا عليه فليس لك إلا أن تحكم بين أهل الكتاب ـ كما يؤيده ظاهر الآيات السابقة ـ أو بين الناس ـ كما تؤيده الآيات اللاحقة ـ بما أنزل الله إليك ولا تتبع أهواءهم بالإعراض والعدول عما جاءك من الحق .

ومن هنا يظهر جواز أن يراد بقوله : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ } الحكم بين أهل الكتاب أو الحكم بين الناس لكن تبعد المعنى الأول حاجته إلى تقدير كقولنا فاحكم بينهم إن حكمت ، فإن الله سبحانه لم يوجب عليه صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله الحكم بينهم بل خيره بين الحكم والإعراض بقوله : { فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } (الآية) على أن الله سبحانه ذكر المنافقين مع اليهود في أول الآيات فلا موجب لاختصاص اليهود برجوع الضمير إليهم لسبق الذكر وقد ذكر معهم غيرهم ، فالأنسب أن يرجع الضمير إلى الناس لدلالة المقام .

ويظهر أيضا أن قوله : { عَمَّا جاءَكَ } متعلق بقوله : { وَلا تَتَّبِعْ } بإشرابه معنى العدول أو الإعراض .

قوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً } قال الراغب في المفردات : الشرع نهج الطريق الواضح يقال : شرعت له طريقا والشرع مصدر ثم جعل اسما للطريق النهج فقيل له : شرع وشرع وشريعة ، وأستعير ذلك للطريقة الإلهية قال : { شِرْعَةً وَمِنْهاجاً } ـ إلى أن قال ـ قال بعضهم : سميت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء انتهى .

ولعل الشريعة بالمعنى الثاني مأخوذ من المعنى الأول لوضوح طريق الماء عندهم بكثرة الورود والصدور وقال : النهج ( بالفتح فالسكون ) : الطريق الواضح ، ونهج الأمر وأنهج وضح ، ومنهج الطريق ومنهاجه .

__________________________

1 . تفسير الميزان ، ج5 ، ص 298-299 .

 

تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة : 48] .

تشير هذه الآية إلى موقع القرآن بعد أن ذكرت الآيات السابقة الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء السابقين.

وكلمة «مهيمن» تطلق في الأصل على كل شيء يحفظ ويراقب أو يؤتمن على شيء آخر ويصونه ، ولمّا كان القرآن الكريم يشرف في الحفاظ على الكتب السماوية السابقة وصيانتها من التحريف إشرافا كاملا ، ويكمل تلك الكتب ، لذلك أطلق عليه لفظ «المهيمن» حيث تقول الآية : {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ...}.

فالقرآن بالإضافة إلى تصديقه الكتب السماوية السابقة ، اشتمل ـ أيضا ـ على دلائل تتطابق ، مع ما ورد في تلك الكتب ، فكان بذلك حافظا وصائنا لها.

إنّ الكتب السماوية جاءت كلها متناسقة في المبادئ والهدف الواحد الذي تبنى تربية الإنسان والسمو به إلى مراتب الكمال المعنوي والمادي ، على الرغم من الفوارق الموجودة بين هذه الكتب والتي تنبع من مقتضى التكامل التدريجي للإنسان ، حيث أن كل شرعة جديدة ترتقي بالإنسان إلى مرحلة أسمى من مراحل الرقي والكمال الإنساني ، وتشتمل على خطط وبرامج أكثر شمولا وتطورا ، والإتيان بعبارة : {مُهَيْمِناً عَلَيْهِ} بعد جملة {مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} يدل على هذه الحقيقة ، أي أنّ القرآن في الوقت الذي  يصدّق الكتب السابقة ، يأتي في نفس الوقت ببرامج وخطط أكثر شمولا للحياة.

ثمّ تؤكّد على النّبي صلى الله عليه وآله وسلم انطلاقا من الحقيقة المذكورة ـ ضرورة الحكم بتعاليم وقوانين القرآن بين الناس ، حيث تقول {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ...}.

وقد اقترنت هذه الجملة بالفاء التفريعية ، فتدلّ على شمولية أحكام الإسلام بالنسبة لأحكام الشرائع السماوية الأخرى ، ولا تعارض هنا بين هذا الأمر وبين ما سبق من أمر في أية سابقة والتي خيرت النّبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بين الحكم بين اليهود أو تركهم لحالهم ، لأنّ هذه الآية ترشد النّبي صلى الله عليه وآله وسلمـ إن هو أراد أن يحكم بين أهل الكتاب ـ إلى أنّ عليه أن  يحكم بتعاليم وقوانين القرآن بينهم .

ثمّ تؤكّد عليه أن يبتعد عن أهواء وميول أهل الكتاب ، الذين يريدون أن يطوعوا الأحكام الإلهية لميولهم ورغباتهم ، وأن ينفذ ما نزل عليه بالحق ، حيث تقول الآية : {وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ...}.

ولأجل إكمال البحث تشير الآية إلى أن كل ملّة قد أفردت لها شرعة ونظام للحياة يهديها إلى السبيل الواضح ، حيث تقول : {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ...}.

وكلمة «شرع» أو «الشريعة» تعني الطريق الذي يؤدي إلى الماء وينتهي به ، واطلاق كلمة «الشريعة» على الدين لأن الدين ينتهي بحقائق وتعاليم هدفها تطهير النفس الإنسانية وضمان الحياة السليمة للبشرية ، أمّا كلمة «النهج» أو «المنهاج» فتطلقان على الطريق الواضح.

نقل (الراغب) في كتابه (المفردات) عن ابن عباس قوله بأنّ الفرق بين كلمتي «الشرعة» و «المنهاج» هو أنّ الأولى تطلق على كل ما ورد في القرآن ، وأن المنهاج يطلق على ما ورد في سنّة النّبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم (وهذا الفرق مع كونه جميلا ، إلّا أنّنا لا نملك دليلا جازما لتأييده) (2) .

ثمّ تبيّن الآية أنّ الله لو أراد أن يجعل من جميع أبناء البشر أمّة واحدة ، تتبع دينا وشرعة واحدة لقدر على ذلك ، لكن هذا الأمر يتنافى مع قانون التكامل التدريجي ، وحركة مراحل التربية المختلفة ، فتقول : {وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ...}.

وجملة {لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ...} إشارة إلى ما قلناه سابقا من أنّ الله قد أودع لدى أفراد البشر استعدادات وكفاءات تنمو في ظل الاختبارات وفي ضوء تعاليم الأنبياء ، فعند  ما يطوي بنو الإنسان مرحلة معينة ، يجعلهم الله في مرحلة أسمى وحين تنتهي مرحلة تربوية يأتي الله بمرحلة تربوية أخرى على يد نبي آخر ، كما يحصل بالضبط للمراحل التعليمية التي يمرّ بها الشاب في مدرسته .

بعد ذلك تخاطب الآية ـ في الختام ـ جميع الأقوام والملل ، وتدعوهم إلى التسابق في فعل الخيرات بدل تبذير الطاقات في الاختلاف والتناحر ، حيث تقول : {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ} مؤكدة أنّ الجميع يكون مرجعهم وعودتهم إلى الله الذي يخبرهم في يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون : {إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.

{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة : 49-50] .

تكرر هذه الآية تأكيد الباري عزوجل على نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في أن يحكم بين أهل الكتاب طبقا لأحكام الله ، وأن لا يستسلم لأهوائهم ونزواتهم ، فتقول : {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ...}.

والتكرار للأمر هنا إمّا أن يكون بسبب المواضيع التي اشتملت عليها الآية ، وإمّا لأنّ موضوع الحكم في هذه الآية يختلف عن موضوع الحكم في الآيات السابقة ، حيث كان موضوع الحكم في الآيات السابقة هو الزنا مع المحصنة ، وموضوع الحكم في هذه الآية هو القتل أو شيء آخر.

ثمّ تحذر الآية النّبي صلى الله عليه وآله وسلم من مؤامرة هؤلاء الذين أرادوا عدول النّبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شرعة الحقّ والعدل ، وطالبته بأن يراقب تحركاتهم ، حيث تقول : {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ ...}.

وأكّدت هذه الآية استمرارا لخطابها لنبي الإسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أنّ هؤلاء الكتابيين إن لم يذعنوا لحكمه العادل فإنّ  ذلك يكون دلالة على أن ذنوبهم وآثامهم قد طوقتهم فحرمتهم من التوفيق ، وأنّ الله يريد أن يعاقبهم ويعذبهم بسبب بعض ذنوبهم ، حيث تقول الآية : {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ...}.

وسبب ذكر «بعض الذنوب» لا كلّها ، قد يكون لأنّ عقاب كل الذنوب لا يتم في الحياة الدنيا بل يذوق وبال بعضها ، والباقي منها يوكّل أمرها إلى العالم الثّاني ، أي بعد الموت.

ولم تصرّح هذه الآية بنوع الذنوب التي طوقت وأحاطت بهؤلاء ، ويحتمل أن تكون إشارة إلى المصير الذي أحاط بيهود المدينة ، بسبب الخيانات المتوالية التي مارسوها ، ممّا اضطرهم إلى ترك بيوتهم ومغادرة المدينة المنورة ، أو أن يكون فشل هؤلاء وحرمانهم من التوفيق نوعا من العقاب لهم على ذنوبهم السابقة ، لأنّ الحرمان من التوفيق يعتبر ـ بحد ذاته ـ نوعا من العقاب ، أي أن الذنوب المتتالية والعناد والإصرار على الذنب ، جزاؤهما الحرمان من الأحكام العادلة ، والتورط بالضّلال والحيرة متاهات الحياة.

وتشير الآية في النهاية إلى أنّ إصرار هؤلاء القوم من أهل الكتاب على باطلهم يجب أن لا يكون باعثا للقلق عند النّبي ، لأنّ الكثير من الناس منحرفون عن طريق الحق ، أي أنّهم فاسقون ، حيث تقول الآية : {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ}.

سؤال :

يمكن أن يعترض البعض بأنّ هذه الآية توحي باحتمال صدور الانحراف عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والعياذ بالله ، وأن الله يحذره من ذلك ، فهل أنّ هذا  الأمر يتلائم ومنزلة العصمة التي يتمتع بها النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟

الجواب :

إنّ العصمة لا تعني مطلقا استحالة صدور الخطأ من المعصوم ، ولو كان كذلك لما بقيت لهم مكرمة أو فضل ، ومعنى العصمة هو أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم ‌السلام مع وجود احتمال صدور الذنب أو الخطأ منهم إلّا أنّهم لا  يرتكبون الذنب أبدا وإن كان عدم ارتكاب الذنب من قبل المعصوم ناشئ عن التنبيه والتحذير والتذكير الإلهي للمعصوم ، أي أن التنبيه الإلهي يعتبر جزءا من عامل العصمة لدى النّبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي يحول دون ارتكاب الخطأ ، وسنبادر إلى توضيح موضوع العصمة لدي الأنبياء ـ بتفصيل أكثر ـ عند تفسير آية التطهير (الآية ٣٣ من سورة  الأحزاب بإذن الله) .

أمّا الآية الأخرى فتساءلت بصيغة استفهام استنكاري ، هل أنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم اتباع الكتب السماوية يتوقعون أن تحكم بينهم (الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم) بأحكام الجاهلية التي فيها أنواع التمايز المقيت ؟ حيث تقول الآية : {أفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ...}.

لكنّ أهل الإيمان لا يرون أي حكم أرفع وأفضل من حكم الله ، حيث تتابع الآية قولها : {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.

ولقد بيّنا ـ عند تفسير الآيات السابقة ـ أن نوعا من التمايز الغريب كان يسود الأوساط اليهودية بحيث لو أن فردا من يهود بني قريظة قتل فردا من يهود بني النضير لتعرض للقصاص ، بينما لو حصل العكس لم يكن ليطبق حكم القصاص في القاتل ، وقد شمل هذا التمايز المقيت ـ أيضا ـ حكم الغرامة والدية عند هؤلاء ، فكانوا يأخذون ضعف الدية من جماعة ، ولا يأخذونها من جماعة أخرى ، أو يأخذون أقل من الحدّ المقرر ، ولذلك استنكر القرآن هذا النوع من التمايز واعتبره من أحكام الجاهلية ، في حين أنّ الأحكام الإلهية تشمل البشر أجمعين وتطبق دون أي تمايز .

وجاء في كتاب «الكافي» عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه ‌السلام أنّه قال : «الحكم حكمان : حكم الله ، وحكم الجاهلية ، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية» (3) .

وهكذا يتّضح أنّ أي مسلم يتبع الأحكام الوضعية ولا يلتزم بالأحكام والقوانين الإلهية السماوية إنّما يسير في الحقيقة في طريق الجاهلية.

____________________________

1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 530 - 535 .

2. يعتقد البعض من كبار المفسّرين بوجود فرق بين «الدّين» و «الشريعة» ويقولون بأنّ الدين هو مبدأ التوحيد والمبادئ الأخرى المشتركة بين جميع الديانات ، لذلك يكون الدين واحدا في كل الأحوال والأزمنة ، والشريعة هي القوانين والأحكام والتعاليم التي تختلف أحيانا بين ديانة وأخرى لكنّنا لا نمتلك ـ أيضا ـ دليلا واضحا يؤيد هذا القول ، لأن هاتين الكلمتين استخدمتا في الكثير من الموارد للدلالة على معنى واحد .

3. نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٦٤٠.

 

 

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .



اللجنة التحضيرية للمؤتمر الحسيني الثاني عشر في جامعة بغداد تعلن مجموعة من التوصيات
السيد الصافي يزور قسم التربية والتعليم ويؤكد على دعم العملية التربوية للارتقاء بها
لمنتسبي العتبة العباسية قسم التطوير ينظم ورشة عن مهارات الاتصال والتواصل الفعال
في جامعة بغداد.. المؤتمر الحسيني الثاني عشر يشهد جلسات بحثية وحوارية