أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-10-2017
4894
التاريخ: 20-10-2017
6716
التاريخ: 16-10-2017
14998
التاريخ: 19-10-2017
10968
|
قال تعالى : {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة : 17- 19] .
قال تعالى : {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [المائدة : 17-18] .
حكى سبحانه عن النصارى ما قالوا في المسيح : {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} كفرهم الله سبحانه بهذا القول ، لأنهم قالوه على وجه التدين به والاعتقاد لا على وجه (2) الإنكار ، وإنما كفروا بذلك لوجهين أحدهما أنهم كفروا بالنعمة من حيث أضافوها إلى غير الله ممن ادعوا إلهيته . والآخر أنهم كفروا بأنهم وصفوا المسيح ، وهو محدث ، بصفات الله سبحانه ، فقالوا : هو إله ، وكل جاهل بالله كافر ، لأنه لما ضيع نعمة الله تعالى ، كان بمنزلة من أضافها إلى غيره {قُلْ} يا محمد {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي : من يقدر أن يدفع من أمر الله شيئا ، من قولهم : ملكت على فلان أمره إذا اقتدرت عليه ، حتى لا يمكنه إنفاذ شيء من أمره إلا بك ، وتقديره : من يملك من أمر الله شيئا {إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) عنى بذلك أنه لو كان المسيح إلها ، لقدر على دفع أمر الله تعالى ، إذا أراد إهلاكه ، وإهلاك غيره ، وليس بقادر عليه ، لاستحالة القدرة على مغالبة القديم ، أي : فكيف يجوز اعتقاد الربوبية فيه ، مع أنه مسخر مربوب مقهور ؟ وقيل : معناه إن من قدر على هذا ، لم يجز أن يكون معه إله ، ولا أن يشبهه شيء {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ومن كان بهذه الصفة ، فلا ثاني له ، وذلك يدلك على أن المسيح ملك له ، وإذا كان ملكا له ، لم يكن إلها ، ولا ابنا له ، لان المملوك لا يجوز أن يكون مالكا ، فكيف يكون إلها .
وقوله {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي : يخلق ما يشاء أن يخلقه ، فإن شاء خلق من ذكر وأنثى ، وإن شاء خلق من أنثى بغير ذكر ، فدل بها على أنه ليس في كون المسيح من أنثى بغير ذكر دلالة على كونه إلها . وقوله {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي : يقدر على كل شيء يريد أن يخلقه .
وفي هذه الآية رد على النصارى القائلين بأن الله جل جلاله اتحد بالمسيح ، فصار الناسوت لاهوتا ، يجب أن يعبد ، ويتخذ إلها ، فاحتج عليهم بأن من جاز عليه الهلاك ، لا يجوز أن يكون إلها ، وكذلك من كان مولودا مربوبا ، لا يكون ربا ، ثم حكى عن الفريقين من أهل الكتاب فقال {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} قيل : إن اليهود قالوا نحن في القرب من الله بمنزلة الابن من أبيه ، والنصارى لما قالوا للمسيح ابن الله ، جعلوا نفوسهم أبناء الله وأحباؤه ، لأنهم تأولوا ما في الإنجيل من قول المسيح : " أذهب إلى أبي وأبيكم " عن الحسن . وقيل : إن جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، وزيد بن التابوه ، وغيرهم ، قالوا لنبي الله حين حذرهم بنقمات الله وعقوباته : لا تخوفنا فإنا أبناء الله وأحباؤه ، فإن غضب علينا ، فإنما يغضب كغضب الرجل على ولده ، يعني أنه يزول عن قريب ، عن ابن عباس . وقيل : إنه لما قال قوم إن المسيح ابن الله ، أجرى ذلك على جميعهم ، كما تقول العرب هذيل شعراء أي : فيهم شعراء ، وكما قالوا في رهط مسيلمة : قالوا نحن أنبياء أي : قال قائلهم ، وكما قال جرير (ندسنا أبا مندوسة القين بالقنا) (3) فقال ندسنا ، وإنما كان الناس رجل من قوم جرير ، ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم {قل} لهؤلاء المفترين على ربهم { فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ } أي : فلأي شيء يعذبكم بذنوبكم إن كان الأمر على ما زعمتم ، فإن الأب يشفق على ولده ، والحبيب على حبيبه ، فلا يعذبه ، وهم يقرون بأنهم يعذبون ، لو لم يقولوا به كذبوا بكتابهم ، وقد أقرت اليهود بأنهم يعذبون أربعين يوما ، عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل .
وقيل : إن معناه الماضي ، وإن كان لفظه المستقبل ، أي : فلم عذبكم الله ، وقد أقررتم بأنه عذبكم عند عبادتكم العجل ، وعذبكم بأن جعل منكم القردة والخنازير ، وخلى بينكم وبين بخت نصر ، حتى فعل بكم ما فعل ، والحبيب لا يعذب حبيبه ، فلو كنتم أحباءه لما عذبكم {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} أي ليس الأمر على ما قلت ، إنكم أبناء الله ، وأحباؤه ، بل أنتم خلق من بني آدم ، إن أحسنتم جوزيتم على إحسانكم ، وإن أسأتم جوزيتم على إساءتكم كما يجازى غيركم ، وليس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خلقه .
{يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} : وإنما علق العذاب بالمشيئة ، مع أنه سبحانه لا يشاء العقوبة ، إلا لمن كان عاصيا ، لما في ذلك من البلاغة والإيجاز ، برد الأمور إلى العالم الحكيم ، الذي يجريها على وجه الحكمة {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يملك ذلك وحده ، لا شريك له يعارضه {وَمَا بَيْنَهُمَا} أي : ما بين الصنفين ، ودل بذلك على أنه لا ولد له ، لان الولد يكون من جنس الوالد ، فلا يكون مملوكا له {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} معناه : ويؤول إليه أمر العباد ، فلا يملك ضرهم ونفعهم غيره ، لأنه يبطل تمليكه لغيره ذلك اليوم ، كما يقال صار أمرنا إلى القاضي ، وإنما يراد بذلك أنه المتصرف فينا ، والأمر لنا ، لا على معنى قرب المكان .
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة : 19] .
ثم عاد سبحانه إلى خطاب أهل الكتاب ، وحجاجهم ، واستعطافهم ، وإلزامهم الحجة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم {يُبَيِّنُ لَكُمْ} أي : يوضح لكم أعلام الدين ، وفيه دلالة على أنه سبحانه اختصه من العلم بما ليس مع غيره { عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ } أي على انقطاع من الرسل ، ودروس من الدين والكتب ، وفيه دلالة على أن زمان الفترة لم يكن فيه نبي ، وكان الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكانت النبوة متصلة قبل ذلك في بني إسرائيل .
وروي عن ابن عباس أنه لم يكن بينهما إلا أربعة من الرسل ، واختلفوا في مدة الفترة بينهما ، فقيل : ستمائة سنة ، عن الحسن ، وقتادة . وقيل : خمسمائة سنة وستون عن قتادة في رواية أخرى . وقيل : أربعمائة وبضع وستون سنة ، عن الضحاك . وقيل : خمسمائة وشيء ، عن ابن عباس . وقيل : كان بين ميلاد عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم خمسمائة وتسع وستون سنة ، وكان بعد عيسى أربعة من الرسل وهو قوله تعالى { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} ولا أدري من الرابع ، فكان من تلك المدة مائة وأربع وثلاثون سنة نبوة ، وسائرها فترة عن الكلبي .
{أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} معناه : قد جاءكم رسولنا كراهة أن تقولوا أو لأن لا تقولوا محتجين يوم القيامة : ما جاءنا بشير بالثواب على الطاعة ، ولا نذير بالعقاب على المعصية . ثم بين سبحانه أنه قد قطع عنهم عذرهم ، وأزاح علتهم بإرسال رسوله ، فقال : {فقد جاءكم بشير ونذير} وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، يبشر كل مطيع بالثواب ، ويخوف كل عاص بالعقاب . { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ظاهر المعنى .
وفي هذه الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة ، لان الحجة بمنع القدرة أوكد من الحجة بمنع اللطف ، وتكون الحجة في ذلك لمن يعلم الله تعالى أن بعثة الأنبياء مصلحة لهم ، فإذا لم تبعث ، تكون لهم الحجة ، فأما من لا يعلم ذلك منهم فلا حجة لهم ، وإن تبعث إليهم الرسل .
_____________________________
1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 303-306 .
2. [الحكاية] .
3. وبعده " وما ردم من جاربيبة ناقع " ، الندس : الطعن ، القين العبد . الحداد ويطلق أيضا على كل صانع .
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهً هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } . قد نفهم ان أحكام الشرائع الوضعية تتغير بتغير الأزمان ، أما ان تتغير أصول العقيدة الدينية بتغير الظروف والأوقات فبعيد عن فهم كل عاقل . . ولكن هذا ما حدث بالفعل للعقيدة المسيحية ، فقد ابتدأت هذه العقيدة بالتوحيد الخالص في عيسى ( عليه السلام ) ، وبقيت على التوحيد أمدا غير قصير فرق من المسيحيين ، منها فرقة أبيون ، وفرقة بولس الشمشاطي ، وفرقة أريوس ، وقد نص القرآن صراحة على أن عيسى ( عليه السلام ) أتى بعقيدة التوحيد :
{ وإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ * قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ * إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ولا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهً رَبِّي ورَبَّكُمْ وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } [المائدة : 115] .
وظلت عقيدة التوحيد عند كثير من المسيحيين ، ولم تعلن عقيدة التثليث مدعومة بالقوة إلى سنة 325 م حيث أصدر مجمع نيقية قرارا بإثبات ألوهية المسيح ، وتكفير من يقول : انه إنسان ، وحرق جميع الكتب التي تصفه بغير الألوهية ، ونفذ قسطنطين إمبراطور الرومان هذا القرار ، وأصبح المسيح إلها عندهم بعد أن كان بشرا ، وصدق عليهم قول الفيلسوف الصيني ( لين يوتانغ ) :
ان الإغريق جعلوا آلهتهم مثل الرجال ، أما المسيحيون فقد جعلوا الرجال مثل الآلهة (2) .
وبهذا يتبين معنا ان الاعتقاد بألوهية عيسى ( عليه السلام ) كان قبل نزول القرآن بحوالي ثلاثة قرون - إذن - يكون المعنى المراد من قوله تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهً هُوَ الْمَسِيحُ } المعنى الظاهر من اللفظ ، ولا داعي للتأويل بالحلول والاتحاد ، كما فعل كثير من المفسرين القدامى زاعمين ان أكثر النصارى لا يقولون بربوبية عيسى ، بل يقولون : ان اللَّه حل به ، أو اتحد معه ، وعليه فلا تعدد . . وقال صاحب تفسير المنار : « ان أمثال الزمخشري والبيضاوي والرازي لا يعتد بما يعرفون عن النصارى ، لأنهم لم يقرؤا كتبهم ، ولم يناظروهم فيها » . وصدق صاحب المنار ، فان من يرجع إلى كتبهم يجدها صريحة في التثليث ، ونقل الشيخ أبو زهرة الكثير منها في كتاب « محاضرات في النصرانية » وعقد في هذا الكتاب فصلا خاصا بعنوان « النصرانية كما هي عند النصارى وفي كتبهم » ، ومما جاء فيه ان القس بوطر ألَّف رسالة أسماها « الأصول والفروع » قال فيها : « ان في اللاهوت ثلاثة أقانيم ، ولكل منهم عمل خاص في البشر » .
وتقدم الكلام عن الأقانيم الثلاثة عند تفسير الآية 50 من النساء .
الأشاعرة والنصارى :
وتسأل : ان النصارى يؤمنون بالتثليث والوحدانية في آن واحد ، لأنهم يقولون « بسم الأب والابن والروح القدس إلها واحدا » ، فكيف يمكن الجمع بين الوحدانية والتثليث ، كيف يكون الواحد ثلاثة ، والثلاثة واحدا ؟
وأجاب المسيحيون أنفسهم عن ذلك بأن العقيدة فوق العقل ، وهم يربون صغارهم على ذلك ، ويقولون لهم : إذا لم تفهموا هذه الحقيقة الآن فإنكم سوف تفهمونها يوم القيامة .
وبهذه المناسبة نشير إلى أن الأشاعرة من المسلمين قالوا : ان اللَّه قد أراد الكفر به من العبد ، ومع ذلك يعاقبه عليه . . فإذا كان قول النصارى : الثلاثة واحد غير معقول فان قول الأشاعرة : اللَّه يفعل الشيء ثم يعاقب عبده عليه غير معقول أيضا .
أما المسلمون فيؤمنون إيمانا جازما بأن كل ما يقره العقل يقره الدين ، وما يرفضه العقل يرفضه الدين ، ويروون عن نبيهم انه قال : أصل ديني العقل . .
وان رجلا سأله عن معنى البر والإثم ؟ فقال له : استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس ، وتردد في الصدر ، وان أفتاك الناس وأفتوك .
{ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وأُمَّهُ ومَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } . هذه الآية من أقوى الردود على المسيحيين ، وأصدق الأدلة على عدم ألوهية المسيح ، لأن اللَّه سبحانه إذا ملك القدرة على هلاك المسيح فلا يكون المسيح ، والحال هذه ، إلها ، وان لم يملك اللَّه القدرة على هلاكه فلا يكون اللَّه إلها ، والمفروض انه إله ، فيكون قادرا على هلاك المسيح .
ورب قائل يقول : ان هذه الآية لا تصلح ردا على النصارى فضلا عن أنها من أصدق الأدلة ، لأنها دعوى مجردة عن الدليل . . فللنصارى أن يقولوا :
ان اللَّه لا يقدر على هلاك المسيح ، ولا المسيح يقدر على هلاك اللَّه ، لأن كلا منهما إله ؟ .
الجواب : ان المسيحيين متفقون قولا واحدا على أن اليهود قد صلبوا المسيح وآذوه وأماتوه وقبروه تحت الأرض ، وعلى ذلك نصت أناجيلهم ، منها ما جاء في إنجيل متى إصحاح 27 رقم 50 : « وصرخ أيضا يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح » . وما جاء في إنجيل لوقا إصحاح 23 رقم 46 : « ونادى يسوع بصوت عظيم قائلا يا أبت في يدك استودع روحي ولما قال هذا أسلم الروح » . وما جاء في إنجيل يوحنا إصحاح 19 رقم 33 و 34 « وأما اليسوع فلما انتهوا إليه ورأوه قد مات لم يكسروا ساقيه ، ولكن واحدا من الجند فتح جنبه بحربة ، فخرج للوقت دم وماء » أي خرج من جنب المسيح بعد موته . . وإذا كان اليهود قد أهلكوا المسيح فبالأولى أن يقدر اللَّه على هلاكه وهلاك أمه .
{ وقالَتِ الْيَهُودُ والنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وأَحِبَّاؤُهُ } . ان قولهم هذا تماما كقولهم الذي حكاه اللَّه عنهم في الآية 111 من سورة البقرة : { وقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى } . وتجد تفسير هذه الآية في ج 1 من هذا التفسير ص 177 و 178 . . وتجدر الإشارة إلى عقيدة الإسلام التي تقول : لا فضل لإنسان على إنسان إلا بالتقوى ، وان النطق بكلمة الإسلام من حيث هو ليس بشيء إلا مع العمل الصالح .
{ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ } . وتسأل : ان هذا لا يصلح جوابا لليهود والنصارى عن زعمهم بأنهم أبناء اللَّه وأحباؤه ، لأن لهم أن يقولوا : ان اللَّه لا يعذبنا في الآخرة ، وإذا لم يكن لديهم دليل محسوس على عدم عذابهم في الآخرة فلا دليل محسوس أيضا على عذابهم في ذلك اليوم ؟ .
الجواب : ان المراد بالعذاب ما يعم عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . . واللَّه سبحانه قد عذب اليهود في الدنيا على يد الفراعنة ، وبختنصر والرومان وغيرهم .
( انظر ج 1 من هذا التفسير ص 91 ) . أما عذاب النصارى فهو أدهى وأمر ، لأنه في الدنيا كان بمحاربة بعضهم بعضا ، وتنكيل بعضهم ببعض . . وبديهة ان الأب لا يعذب أبناءه ، والمحب لا يعذب أحباءه .
أما الدليل على عذابهم في الآخرة فقد أشار إليه سبحانه بقوله : { بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ } لا تمتازون عن غيركم في شيء . . كل الناس من آدم ، وآدم من تراب كما قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه وآله ) . { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ } ممن يراه أهلا لمغفرته { ويُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ } ممن يراه مستحقا لعذابه ، وليس لأحد أن يفرض عليه الغفران ، أو يمنعه من العذاب .
{ ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأَرْضِ وما بَيْنَهُما } . لأنه خالق الكون ، ومن كان كذلك فهو غني عن الأبناء والأحباء . { وإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } . وهناك يعلم اليهود والنصارى انهم أبغض عباد اللَّه للَّه ، وأكثرهم عذابا على افترائهم الكذب بأنهم أبناء اللَّه وأحباؤه .
{ يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ } . أي بعد انقطاع الوحي أمدا من الزمن ، واحتياج الناس إلى الأنبياء والمرشدين ، قال الإمام علي ( عليه السلام ) : « بعثه والناس ضلَّال في حيرة ، وخابطون في فتنة ، قد استهوتهم الأهواء ، واستزلتهم الكبرياء ، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء ، حيارى من زلزال في الأمر ، وبلاء من الجهل ، فبالغ ( صلى الله عليه وآله ) في النصيحة ، ومضى على الطريقة ، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة » .
{ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ ولا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ ونَذِيرٌ } ولم يترك اللَّه لكم حجة ولا معذرة ، وهذه الآية بمعنى الآية 165 من سورة النساء :
{ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } ومر تفسيرها . { واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . يقدر على نصرة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وإعلاء كلمة الإسلام ، وان جحده اليهود والنصارى .
________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 36-40 .
2. المجامع عند النصارى تنقسم إلى ثلاثة أقسام : مجامع مسكونية ، أي تجمع رحال الكنيسة في جميع أنحاء المعمورة ، وهذه حكمها لا يرد ، ومجامع ملية ، أي تختص بملة دون ملة ، ومجامع إقليمية ، أي خاصة بإقليم دون إقليم . . وتجدر الإشارة إلى ان أبا حنيفة يقول : ليس للَّه أحكام واقعية ، وان حكمه ما يراه المجتهد بالذات ، أي ان حكم اللَّه واقعا ما حكم به الفرد فضلا عن الجماعة والمجامع .
قوله تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } هؤلاء إحدى الطوائف الثلاثة التي تقدم نقل أقوالهم في سورة آل عمران ، وهي القائلة باتحاد الله سبحانه بالمسيح فهو إله وبشر بعينه ، ويمكن تطبيق الجملة أعني قولهم : { إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } على القول بالبنوة وعلى القول بثالث ثلاثة أيضا غير أن ظاهر الجملة هو حصول العينية بالاتحاد .
قوله تعالى : { قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً } (الآية) هذا برهان على إبطال قولهم : من جهة مناقضة بعضه بعضا لأنهم لما وضعوا أن المسيح مع كونه إلها بشر كما وصفوه بأنه ابن مريم جوزوا له ما يجوز على أي بشر مفروض من سكان هذه الأرض ، وهم جميعا كسائر أجزاء السماوات والأرض وما بينهما مملوكون لله تعالى مسخرون تحت ملكه وسلطانه ، فله تعالى أن يتصرف فيهم بما أراد ، وأن يحكم لهم أو عليهم كيفما شاء ، فله أن يهلك المسيح كما له أن يهلك أمه ومن في الأرض على حد سواء من غير مزية للمسيح على غيره ، وكيف يجوز الهلاك على الله سبحانه؟! فوضعهم أن المسيح بشر يبطل وضعهم أنه هو الله سبحانه للمناقضة .
فقوله : { فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً } كناية عن نفي المانع مطلقا فملك شيء من الله هو السلطنة عليه تعالى في بعض ما يرجع إليه ، ولازمها انقطاع سلطنته عن ذلك الشيء ، وهو أن يكون سبب من الأسباب يستقل في التأثير في شيء بحيث يمانع تأثيره تعالى أو يغلب عليه فيه ، ولا ملك إلا لله وحده لا شريك له إلا ما ملك غيره تمليكا لا يبطل ملكه وسلطانه .
وقوله : { إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً } إنما قيد المسيح بقوله : { ابْنُ مَرْيَمَ } للدلالة على كونه بشرا تاما واقعا تحت التأثير الربوبي كسائر البشر ، ولذلك بعينه عطف عليه { أُمَّهُ } لكونها مسانخة له من دون ريب ، وعطف عليه { مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً } لكون الحكم في الجميع على حد سواء .
ومن هنا يظهر أن في هذا التقييد والعطف تلويحا إلى برهان الإمكان ، ومحصله أن المسيح يماثل غيره من أفراد البشر كأمه وسائر من في الأرض فيجوز عليه ما يجوز عليهم لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، ويجوز على غيره أن يقع تحت حكم الهلاك فيجوز عليه ذلك ولا مانع هناك يمنع ، ولو كان هو الله سبحانه لما جاز عليه ذلك .
وقوله : { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما } في مقام التعليل للجملة السابقة ، والتصريح بقوله : { وَما بَيْنَهُما } مع أن القرآن كثيرا ما يعبر عن عالم الخلقة بالسماوات والأرض فقط إنما هو ليكون الكلام أقرب من التصريح ، وأسلم من ورود التوهمات والشبهات فليس لمتوهم أن يتوهم أنه إنما ذكر السماوات والأرض ولم يذكر ما بينهما ، ومورد الكلام مما بينهما .
وتقديم الخبر أعني قوله : { وَلِلَّهِ } للدلالة على الحصر ، وبذلك يتم البيان ، والمعنى : كيف يمكن أن يمنع مانع من إرادته تعالى إهلاك المسيح وغيره ووقوع ما أراده من ذلك ، والملك والسلطنة المطلقة في السماوات والأرض وما بينهما لله تعالى لا ملك لأحد سواه؟ فلا مانع من نفوذ حكمه ومضي أمره .
وقوله : { يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } في مقام التعليل للجملة السابقة عليه أعني قوله : { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما } فإن الملك ـ بضم الميم ـ وهو نوع سلطنة ومالكية على سلطنة الناس وما يملكونه إنما يتقوم بشمول القدرة ونفوذ المشيئة ، ولله سبحانه ذلك في جميع السماوات والأرض وما بينهما ، فله القدرة على كل شيء وهو يخلق ما يشاء من الأشياء فله الملك المطلق في السماوات والأرض وما بينهما فخلقه ما يشاء وقدرته على كل شيء هو البرهان على ملكه كما أن ملكه هو البرهان على أن له أن يريد إهلاك الجميع ثم يمضي إرادته لو أراد ، وهو البرهان على أنه لا يشاركه أحد منهم في ألوهيته .
وأما البرهان على نفوذ مشيته وشمول قدرته فهو أنه الله عز اسمه ، ولعله لذلك كرر لفظ الجلالة في الآية مرات فقد آل فرض الألوهية في شيء إلى أنه لا شريك له في ألوهيته .
قوله تعالى : { وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } لا ريب أنهم لم يكونوا يدعون النبوة الحقيقية كما يدعيه معظم النصارى للمسيح عليه السلام فلا اليهود كانت تدعي ذلك حقيقة ولا النصارى ، وإنما كانوا يطلقونها على أنفسهم إطلاقا تشريفيا بنوع من التجوز ، وقد ورد في كتبهم المقدسة هذا الإطلاق كثيرا كما في حق آدم (2) ويعقوب (3) وداود (4) وإقرام (5) وعيسى (6) وأطلق (7) أيضا على صلحاء المؤمنين .
وكيف كان فإنما أريد بالأبناء أنهم من الله سبحانه بمنزلة الأبناء من الأب ، فهم بمنزلة أبناء الملك بالنسبة إليه المنحازين عن الرعية المخصوصين بخصيصة القرب المقتضية أن لا يعامل معهم معاملة الرعية كأنهم مستثنون عن إجراء القوانين والأحكام المجراة بين الناس لأن تعلقهم بعرش الملك لا يلائم مجازاتهم بما يجازي به غيرهم ولا إيقافهم موقفا توقف فيه سائر الرعية ، فلا يستهان بهم كما يستهان بغيرهم فكل ذلك لما تتعقبه علقة النسب من علقة الحب والكرامة .
فالمراد بهذه النبوة الاختصاص والتقرب ، ويكون عطف قوله : { وَأَحِبَّاؤُهُ } على قوله : { أَبْناءُ اللهِ } كعطف التفسير وليس به حقيقة ، وغرضهم من دعوى هذا الاختصاص والمحبوبية إثبات لازمه وهو أنه لا سبيل إلى تعذيبهم وعقوبتهم فلن يصيروا إلا إلى النعمة والكرامة لأن تعذيبه تعالى إياهم يناقض ما خصهم به من المزية ، وحباهم به من الكرامة .
والدليل عليه ما ورد في الرد عليهم من قوله تعالى : { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ } ، إذ لو لا أنهم كانوا يريدون بقولهم : { نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } أنه لا سبيل إلى عذابهم وإن لم يستجيبوا الدعوة الحقة لم يكن وجه لذكر هذه الجملة : { يَغْفِرُ } ، ردا عليهم ولا لقوله : { بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } موقع حسن مناسب فمعنى قولهم : { نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } أنا خاصة الله ومحبوبوه لا سبيل له تعالى إلى تعذيبنا وإن فعلنا ، ما فعلنا وتركنا ما تركنا لأن انتفاء السبيل ووقوع الأمن التام من كل مكروه ومحذور هو لازم معنى الاختصاص والحب .
قوله تعالى : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ } أمر نبيه بالاحتجاج عليهم ورد دعواهم بالحجة ، وتلك حجتان : إحداهما : النقض عليهم بالتعذيب الواقع عليهم ، وثانيتهما : معارضتهم بحجة تنتج نقيض دعواهم .
ومحصل الحجة الأولى التي يشتمل عليها قوله : { فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ } أنه لو صحت دعواكم أنكم أبناء الله وأحباؤه مأمونون من التعذيب الإلهي لا سبيل إليه فيكم لكنتم مأمونين من كل عذاب أخروي أو دنيوي فما هذا العذاب الواقع عليكم المستمر فيكم بسبب ذنوبكم؟ فأما اليهود فلم تزل تذنب ذنوبا كقتلهم أنبياءهم والصالحين من شعبهم وتفجر بنقض المواثيق الإلهية المأخوذة منهم ، وتحريف الكلم عن مواضعه وكتمان آيات الله والكفر بها وكل طغيان واعتداء ، وتذوق وبال أمرها نكالا عليها من مسخ بعضهم وضرب الذلة والمسكنة على آخرين ، وتسلط الظالمين عليهم يقتلون أنفسهم ويهتكون أعراضهم ويخربون بلادهم ، وما لهم من العيش إلا عيشة الحرض الذي لا هو حي فيرجى ولا ميت فينسى .
وأما النصارى فلا فساد المعاصي والذنوب الواقعة في أممهم يقل مما كان من اليهود ، ولا أنواع العذاب النازل عليهم قبل البعثة وفي زمانها وبعدها حتى اليوم ، فهو ذا التاريخ يحفظ عليهم جميع ذلك أو أكثرها ، والقرآن يقص من ذلك شيئا كثيرا كما في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأعراف وغيرها .
وليس لهؤلاء أن يقول : هذه المصائب والبلايا والفتن النازلة بنا إنما هي من قبيل { البلاء للولاء } ولا دليل على كونها عن سخط إلهي يسحب نكالا ووبالا وقد نزل أمثالها على صالحي عباد الله من الأنبياء والرسل كإبراهيم وإسماعيل ويعقوب ويوسف وزكريا ويحيى وغيرهم ، ونزل عليكم معاشر المسلمين نظائرها كما في غزوة أحد ومؤتة وغيرهما ، فما بال هذه المكاره إذا حلت بنا عدت أعذبة إلهية وإذا حلت بكم عادت نعما وكرامات ؟
وذلك أنه لا ريب لأحد أن هذه المكاره الجسمانية والمصائب والبلايا الدنيوية توجد عند المؤمنين كما توجد عند الكافرين ، وتأخذ الصالحين والطالحين معا ، سنة الله التي قد خلت في عباده إلا أنها تختلف عنوانا وأثرا باختلاف موقف الإنسان من الصلاح ، والطلاح مقام العبد من ربه .
فلا ريب أن من استقر الصلاح في نفسه وتمكنت الفضيلة الإنسانية من جوهره كالأنبياء الكرام ومن يتلوهم لا تؤثر المصائب والمحن الدنيوية النازلة عليه إلا فعلية الفضائل الكامنة في نفسه مما ينتفع به وبآثاره الحسنة هو وغيره فهذا النوع من المحن المشتملة على ما يستكرهه الطبع ليس إلا تربية إلهية وإن شئت فقل ترفيعا للدرجة .
ومن لم يثبت على سعادة أو شقاوة ولم يركب طريق السعادة اللازمة بعد إذا نزلت به النوازل ودارت عليه الدوائر عقبت تعين طريقه وتميز موقفه من كفر أو إيمان ، وصلاح أو طلاح ، ولا ينبغي أن يسمى هذا النوع من البلايا والمحن إلا امتحانات وابتلاءات إلهية تخد للإنسان خده إلى الجنة أو إلى النار .
ومن لم يعتمد في حياته إلا على هوى النفس ولم يألف إلا الفساد والإفساد والانغمار في لجج الشهوة والغضب ، ولم يزل يختار الرذيلة على الفضيلة ، والاستعلاء على الله على الخضوع للحق كما يقصه القرآن من عاقبة أمر الأمم الظالمة كقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون وأصحاب مدين وقوم لوط ، إثر ما فرطوا في جنب الله . فالنوائب المنصبة عليهم المبيدة لجمعهم لا يستقيم إلا أن تعد تعذيبات إلهية ونكالات ووبالات عليهم لا غير .
وقد جمع الله تعالى هذه المعاني في قوله عز من قائل : { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ } : ( آل عمران : 141 ) .
وتاريخ اليهود من لدن بعثة موسى عليه السلام إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله ـ فيما يزيد على ألفي سنة ـ وكذا تاريخ النصارى من لدن رفع المسيح إلى ظهور الإسلام ـ فيما يقرب من ستة قرون على ما يقال ـ مملوء من أنواع الذنوب التي أذنبوها ، وجرائم ارتكبوها ، ولم يبقوا منها باقية ثم أصروا واستكبروا من غير ندم ، فالنوائب الحالة بساحتهم لا تستحق إلا اسم العذاب والنكال .
وأما أن المسلمين ابتلوا بأمثال ما ابتليت به هؤلاء الأمم فهذه الابتلاءات بالنظر إلى طبيعتها الكونية ليست إلا حوادث ساقتها يد التدبير الإلهي سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ، وبالنظر إلى حال المسلمين المبتلين بها فيما كانوا على طريق الحق لم تكن إلا امتحانات إلهية ، وفيما انحرفوا عنه من قبيل النكال والعذاب ، وليس لأحد على الله كرامة ، ولا لمتحكم عليه حق ولم يثبت القرآن لهم على ربهم كرامة ، ولا عدهم أبناء الله وأحباءه ، ولا اعتنى بما تسموا به من أسماء أو ألقاب .
قال تعالى مخاطبا لهم : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ـ إلى أن قال ـ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ } : ( آل عمران : 144 ) وقال تعالى : { لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً } : ( النساء : 123 ) .
وفي الآية أعني قوله : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ } وجه آخر وهو أن يكون المراد بالعذاب الأخروي ، والمضارع ( يُعَذِّبُكُمْ ) بمعنى الاستقبال دون الاستمرار كما في الوجه السابق فإن أهل الكتاب معترفون بالعذاب بحذاء ذنوبهم في الجملة : أما اليهود فقد نقل القرآن عنهم قولهم : { لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً } : ( البقرة : 80 ) وأما النصارى فإنهم وإن قالوا بالفداء لمغفرة الذنوب لكنه إثبات في نفسه للذنوب والعذاب الذي أصاب المسيح بالصلب والأناجيل مع ذلك تثبت ذنوبا كالزنا ونحوه ، والكنيسة كانت تثبته عملا بما كانت تصدره من صكوك المغفرة . هذا . لكن الوجه هو الأول .
قوله تعالى : { بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } حجة ثانية مسوقة على نحو المعارضة محصلها : أن النظر في حقيقتكم يؤدي إلى بطلان دعواكم أنكم أبناء الله وأحباؤه ، فإنكم بشر من جملة من خلقه الله من بشر أو غيره لا تمتازون عن سائر من خلقه الله منهم ، ولا يزيد أحد من الخليقة من السماوات والأرض وما بينهما على أنه مخلوق لله الذي هو المليك الحاكم فيه وفي غيره بما شاء وكيفما شاء وسيصير إلى ربه المليك الحاكم فيه وفي غيره ، وإذا كان كذلك كان لله سبحانه أن يغفر لمن شاء منهم ، ويعذب من شاء منهم من غير أن تمانعه مزية أو كرامة أو غير ذلك من أن يريد في شيء ما يريده من مغفرة أو عذاب أو يقطع سبيله قاطع أو يضرب دونه حجاب يحجبه عن نفوذ المشيئة ومضي الحكم .
فقوله : { بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } بمنزلة إحدى مقدمات الحجة ، وقوله : { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما } مقدمة أخرى وقوله : { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } مقدمة ثالثة ، وقوله : { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ } بمنزلة نتيجة البيان التي تناقض دعواهم : أنه لا سبيل إلى تعذيبهم .
قوله تعالى : { يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ } قال الراغب : الفتور سكون بعد حدة ولين بعد شدة ، وضعف بعد قوة قال تعالى : { يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ } أي سكون خال عن مجيء رسول الله .
والآية خطاب ثان لأهل الكتاب متمم للخطاب السابق فإن الآية الأولى بينت لهم أن الله أرسل إليهم رسولا أيده بكتاب مبين يهدي بإذن الله إلى كل خير وسعادة ، وهذه الآية تبين أن ذلك البيان الإلهي أنما هو لإتمام الحجة عليهم أن يقولوا : ما جاءنا من بشير ولا نذير .
وبهذا البيان يتأيد أن يكون متعلق الفعل ( يُبَيِّنُ لَكُمْ ) في هذه الآية هو الذي في الآية السابقة ، والتقدير : يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب أي إن هذا الدين الذي تدعون إليه هو بعينه دينكم الذي كنتم تدينون به مصدقا لما معكم والذي يرى فيه من موارد الاختلاف فإنما هو بيان لما أخفيتموه من معارف الدين التي بينته الكتب الإلهية ، ولازم هذا الوجه أن يكون قوله : { يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ ) من قبيل إعادة عين الخطاب السابق لضم بعض الكلام المفصول عن الخطاب السابق المتعلق به وهو قوله : { أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا } (إلخ) إليه وإنما جوز ذلك وقوع الفصل الطويل بين المتعلق والمتعلق به وهو شائع في اللسان ، قال :
قربا مربط النعامة مني لقحت حرب وائل عن حيال
قربا مربط النعامة مني إن بيع الكريم بالشسع غال
ويمكن أن يكون خطابا مستأنفا والفعل ( يُبَيِّنُ لَكُمْ ) إنما حذف متعلقه .
للدلالة على العموم أي يبين لكم جميع ما يحتاج إلى البيان ، أو لتفخيم أمره أي يبين لكم أمرا عظيما تحتاجون إلى بيانه ، وقوله : { عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ } لا يخلو عن إشعار أو دلالة على هذه الحاجة فإن المعنى : يبين لكم ما مست حاجتكم إلى بيانه والزمان خال من الرسل حتى يبينوا لكم ذلك .
وقوله : { أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ } ، متعلق بقوله : { قَدْ جاءَكُمْ } بتقدير : حذر أن تقولوا ، أو لئلا تقولوا .
وقوله : { وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } كأنه لدفع الدخل فإن اليهود كانت لا ترى جواز تشريع شريعة بعد شريعة التوراة لذهابهم إلى امتناع النسخ والبداء فرد الله سبحانه مزعمتهم بأنها تنافي عموم القدرة ، وقد تقدم الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى : { ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } الآية : ( البقرة : 106 ) في الجزء الأول من الكتاب .
____________________________
1 . تفسير الميزان ، ج5 ، ص 211-217 .
2 . آية 38 من الإصحاح الثالث من إنجيل لوقا .
3 . آية 22 من الإصحاح الرابع من سفر الخروج من التوراة .
4 . آية 7 من المزمور 2 من مزامير داود .
5 . آية 9 من الإصحاح 31 من نبوة إرميا .
6 . موارد كثيرة من الأناجيل وملحقاتها .
7 . آية 9 من الإصحاح 5 إنجيل متى ، وفي غيره من الأناجيل .
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [المائدة : 17] .
كيف يمكن للمسيح أن يكون هو الله ؟!
جاءت هذه الآية الكريمة لتكمل بحثا تطرقت إليه آيات سابقة ، فحملت بعنف على دعوى ربوبية المسيح عليه السلام ، وبيّنت أنّ هذه الدعوى ما هي إلّا الكفر الصريح ، حيث قالت : {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ . . .} .
ولكي يتّضح لنا مفهوم هذه الجملة ، يجب أن نعرف أنّ للمسيحيين عدّة دعاوي باطلة بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى .
فهم أوّلا : يعتقدون بالآلهة الثلاث {أي الثالوث) وقد أشارت الآية (١٧١) من سورة النساء إلى هذا الأمر حيث قالت : {لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ . . .} (2) .
وثانيا : إنّهم يقولون : إنّ خالق الكون والوجود هو واحد من هؤلاء الآلهة الثلاث ويسمونه بالإله الأب (3) والقرآن الكريم يبطل هذا الإعتقاد ـ أيضا ـ في الآية (٧٣) من سورة المائدة حيث يقول : {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ . . .} وسيأتي بإذن الله تفسير هذه الآية قريبا في نفس هذا الجزء .
وثالثا : إنّ المسيحيين يقولون : إنّ الآلهة الثلاث مع تعددهم الحقيقي هم واحد ، حيث يعبرون عن ذلك أحيانا بـ «الوحدة في التثليث» ، وهذا الأمر أشارت إليه الآية الأخيرة حيث قالت حكاية عن دعوى المسيحيين : {إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ . . .} وقالوا : إنّ المسيح ابن مريم هو الله! وإن هذين الإثنين يشكلان مع روح القدس حقيقة واحدة في ذوات ثلاثة متعددة!
وقد ورد كل جانب من جوانب عقيدة التثليث ، الذي يعتبر من أكبر انحرافات المسيحيين في واحدة من الآيات القرآنية ، ونفي نفيا شديدا (راجع تفسير الآية ١٧١ ـ من سورة النساء من تفسيرنا هذا وفيه التوضيح اللازم في بيان بطلان عقيدة التثليث) .
ويتبيّن ـ ممّا سلف ـ أنّ بعض المفسّرين مثل «الفخر الرازي» قد توهّموا في قولهم بعدم وجود أحد من النصارى ممن يصرح باعتقاده في اتحاد المسيح بالله ، وذلك لعدم إلمام هؤلاء المفسّرين بالكتب المسيحية ، مع أنّ المصادر المسيحية المتداولة تصرح بقضية «الوحدة في التثليث» ومن المحتمل أن مثل هذه الكتب لم تكن متداولة في زمن الرازي ، أو أنّها لم تصل إليه وإلى أمثاله الذين شاركوه في هذا الرأي .
بعد ذلك ولكي تبطل الآية الكريمة عقيدة ألوهية المسيح عليه السلام تقول : {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً . . .} وهذه إشارة إلى أنّ المسيح عليه السلام إنّما هو بشر كأمه وكسائر أفراد البشر ، وعلى هذا الأساس فهو يعتبر ـ لكونه مخلوقا ـ في مصاف المخلوقات الأخرى يشاركها في الفناء والعدم ، ومن حاله كهذا كيف يمكنه أن يكون إلها أزليا أبديا؟! وبتعبير آخر : لو كان المسيح عليه السلام إلها لاستحال على خالق الكون أن يهلكه ، وتكون نتيجة ذلك أن تتحدد قدرة هذا الخالق ، ومن كانت قدرته محدودة لا يمكن أن يكون إلها ، لأنّ قدرة الله كذاته لا تحدّها حدود مطلقا (تدبّر جيدا) .
إنّ ذكر عبارة «المسيح بن مريم» بصورة متكررة في الآية ، قد يكون إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي اعتراف المسيحيين ببنوّة المسيح عليه السلام لمريم ، أي أنّه ولد من أم وأنّه كان جنينا في بطن أمّه قبل أن يولد ، وحين ولد طفلا احتاج إلى النموّ ليصبح كبيرا ، فهل يمكن أن يستقر الإله في محيط صغير كرحم الأمّ ، ويتعرض لجميع تحولات الوجود والولادة ويحتاج للأمّ حين كان جنيا وحين الرضاعة ؟!
والجدير بالانتباه أنّ الآية الأخيرة تذكر بالإضافة إلى اسم المسيح عليه السلام اسم أمّه وتذكرها بكلمة «أمه» وبهذه الصورة تميز الآية أمّ المسيح عليه السلام عن سائر أفراد البشر ، ويحتمل أن يكون هذا التعبير بسبب أنّ المسيحيين أثناء ممارستهم للعبادة ، يعبدون أمّ المسيح أيضا ، والكنائس الموجودة اليوم تشتمل على تماثيل لأم المسيح ، حيث يقف المسيحيون أمامها تعظيما وتعبدا .
وإلى هذا الأمر تشير الآية (١١٦) من سورة المائدة فتقول : {وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ . . .} وهذا الخطاب حكاية عمّا يحصل من حوار في يوم القيامة .
وفي الختام ترد الآية الكريمة على أقوال أولئك الذين اعتبروا ولادة المسيح من غير أب دليلا على ألوهيته فتقول : {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
فالله قادر على أن يخلق إنسانا من غير أب ومن غير أم كما خلق آدم عليه السلام ، وهو قادر أيضا على أن يخلق إنسانا من غير أب كما خلق عيسى المسيح عليه السلام ، وقدرة الله هذه كقدرته في خلق البشر من آبائهم وأمّهاتهم ، وهذا التنوع في الخلق دليل على قدرته ، وليس دليلا على أي شيء آخر سوى هذه القدرة .
{ وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [المائدة : 18] .
استكمالا للبحوث السابقة التي تناولت بعض انحرافات اليهود والنصارى ، تشير الآية الأخيرة إلى أحد الدعاوى الباطلة التي تمسك بها هؤلاء ، فتقول : {وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} .
ولم يكن هذا الامتياز الوهمي الذي ادعاه اليهود والنصارى لأنفسهم هو الوحيد من نوعه ، إذ أن القرآن الكريم قد أشار في آيات عديدة إلى أمثال هذه الادعاء .
ففي الآية (١١١) من سورة البقرة ، أشار القرآن إلى ادعائهم الذي زعموا فيه أن أحدا غيرهم لا يدخل الجنّة ، وزعموا أن الجنّة هي حكر على اليهود والنصارى ، وقد فند القرآن هذه الادعاء .
كما جاء الآية (٨٠) من سورة البقرة ادعاء آخر لليهود ، وهو زعمهم أن نار جهنم لن تمسهم إلا في أيّام معدودة ، وقد وبخهم القرآن على زعمهم هذا .
وفي الآية الأخيرة يشير القرآن الكرم إلى ادعائهم البنوة لله ، وزعمهم أنّهم أحباء لله ، ولا شك أن هؤلاء لم يعرّفوا أنفسهم كأبناء حقيقيين لله ، بل إنّ المسيحيين وحدهم يدّعون أن المسيح هو الابن الحقيقي لله ، وقد صرحوا بهذا الأمر (4) وأنّهم حين اختاروا لأنفسهم صفة البنوة لله وأدعوا بأنّهم الله إنما ليظهروا بأن لهم علاقة خاصّة بالله سبحانه ، وكأنّهم أرادوا كل من ينتمي إليهم انتماء قوميا أو عقائديا يصبح من أبناء الله وأحبائه حتى لو لم يقم بأي عمل صالح . (5)
وواضح لدينا أنّ القرآن الكريم حارب كل هذه الامتيازات والدعاوى الوهمية ، فهو لا يرى للإنسان امتيازا إلّا بالإيمان والعمل الصالح والتقوى ، ولذلك تقول الآية الأخيرة في تفنيد وإبطال الادعاء الأخير : {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فهؤلاء ـ بحسب اعترافهم أنفسهم ـ يشملهم العذاب الإلهي حيث قالوا بأن العذاب يمسّهم لأيّام معدودة ، فكيف يتلاءم ذلك الادعاء وهذا الاعتراف ؟ وكيف يمكن أن يشمل عذاب الله أبناءه وأحباءه؟! ومن هنا يثبت أن لا أساس ولا صحة لهذا الادعاء ، وقد شهد تاريخ هؤلاء على أنّهم حتى في هذه الدنيا ابتلوا بسلسلة من العقوبات الإلهية ، ويعتبر هذا دليلا آخر على زيف وبطلان دعواهم تلك .
ولكي تؤكد الآية الكريمة زيف وبطلان الدعوى المذكورة استطردت تقول : {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ . . .} والقانون الإلهي عام ، فإن الله {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ . . .} .
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ كل البشر هم من خلق الله ، وهم عباده وأرقاؤه ، وعلى هذا الأساس ليس من المنطق إطلاق اسم «ابن الله» على أي منهم ، حيث تقول الآية : {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما . . .} .
وفي النهاية تعود المخلوقات كلها إلى الله ، حيث تؤكد الآية هنا بقولها : {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} .
وقد يسأل البعض : أين ومتى ادعى اليهود والنصارى أنّهم أبناء الله حتى لو كان معنى البنوة في هذه الآية هو معنى مجازي وغير حقيقي) .
الجواب هو أنّ الأناجيل المتداولة قد ذكرت هذه العبارة ، ويلاحظ ذلك فيها بصورة متكررة ، من ذلك ما جاء في إنجيل يوحنا في الإصحاح ٨ ـ الآية ٤١ وما بعدها ، حيث نقرأ على لسان عيسى في خطابه لليهود قوله : «إنّكم تمارسون أعمال أبيكم ، فقال له اليهود : نحن لم نولد من الزنا وإن أبانا واحد وهو الله! فقال لهم عيسى : لو كان أبوكم هو الله لكنتم احببتموني . . .» .
وقد ورد في الروايات الإسلامية ـ أيضا ـ في حديث عن ابن عباس مضمونه أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا جمعا من اليهود إلى دين الإسلام وحذّرهم من عذاب الله ، فقال له اليهود : كيف تخوفنا من عذاب الله ونحن أبناؤه وأحباؤه (6) !
وورد في تفسير مجمع البيان ، في تفسير الآية موضوع البحث ، حديث على غرار الحديث المذكور أعلاه ، مضمونه أنّ جمعا من اليهود حين هددهم النّبي صلى الله عليه وآله وسلم بعذاب الله قالوا : لا تهددنا فنحن أبناء الله وأحباؤه ، وهو إن غضب علينا يكون غضبة كغضب الإنسان على ولده ، وهو غضب سريع الزوال .
* * *
{يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [المائدة : 19] .
تكرر هذه الآية الخطاب إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فتبيّن لهم أنّ النّبي المرسل إليهم مرسل من عند الله ، أرسله في عصر ظلت البشرية قبله فترة دون أن يكون لها نبيّ ، فبيّن لهم هذا النّبي الحقائق ، لكي لا يقولوا بعد هذا إنّ الله لم يرسل إليهم من يهديهم إلى الصراط السوي ويبشرهم بلطف الله ورحمته ويحذرهم من الانحراف والاعوجاج ، وينذرهم بعذاب الله ، حيث تقول الآية : {يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ . . .} .
نعم ، فالبشير والنذير هو نبيّ الإسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات برحمة الله وثوابه ، وينذر الذين كفروا والعاصين بعذاب الله وعقابه ، وقد جاء ليبشر ولينذر أهل الكتاب والبشرية جمعاء ، حيث تؤكّد الآية هذا بقوله تعالى : {فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} .
أمّا كلمة «فترة» الواردة في الآية فهي تعني في الأصل الهدوء والسكينة كما تطلق على الفاصلة الزمنية بين حركتين أو جهدين أو نهضتين أو ثورتين .
وقد شهدت الفاصلة الزمنية بين موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام عددا من الأنبياء والرسل ، بينما لم يكن الأمر كذلك في الفاصلة الزمنية بين عيسى عليه السلام والنّبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولذلك أطلق القرآن الكريم على هذه الفاصلة الأخيرة اصطلاح {فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} والمعروف أن هذه الفترة دامت ستمائة عام تقريبا (7) .
أمّا ما جاء في القرآن ـ في سورة يس الآية ١٤ ـ وما ذكره المفسّرون ، فيدلان على أنّ ثلاثة من الرسل ـ على الأقل ـ قد بعثوا في الفاصلة الزمنية بين النّبي عيسى عليه السلام ونبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ذكر البعض أنّ أربعة من الرسل بعثوا في تلك المدة ، وعلى أي حال لا بدّ أن تكون هناك فترة خلت من الرسل بين وفاة أولئك الرسل والنّبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولذلك عبّر القرآن عن تلك الفترة الخالية من الرسل بقوله : {عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} .
سؤال :
وقد يعترض البعض بأنّه كيف يمكن القول بوجود مثل تلك الفترة مع أنّ الإعتقاد السائد لدينا يقضي بأن المجتمع البشري لا يمكن أن يخلو ولو للحظة من رسول أو إمام معين من قبل الله سبحانه وتعالى؟
الجواب :
إنّ القرآن الكريم حين يقول : {عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} إنّما ينفي وجود الرسل في تلك المدّة ، ولا يتنافى هذا الأمر مع القول بوجود أوصياء للرسل في ذلك الوقت .
وبعبارة أخرى ، فإنّ الرسل هم أشخاص كانوا يمارسون الدعوة على نطاق واسع ، وكانوا يبشرون وينذرون الناس ، ويثيرون الحركة والنشاط في المجتمعات ، ويوقظونها من سباتها بهدف إيصال ندائهم الى الجميع ، بينما لم يكن جميع أوصياء الرسل ليحملوا مثل تلك المهمّة ، بل يحتمل ـ أيضا ـ إنهم لظروف وعوامل اجتماعية خاصّة ، كانوا يعيشون بين الناس أحيانا متخفين متنكرين .
ويقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في إحدى خطبه الواردة في كتاب «نهج البلاغة» في هذا المجال ما يلي : «اللهم بلى ، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إمّا ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلا تبطل حجج الله وبيناته ، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم» (8) .
وواضح أن المجتمع البشري لو خلى من الرسل الثوريين والدعاة العالمين ، لعمت هذه المجتمع الخرافات والوساوس الشيطانية والانحرافات والجهل بالتعاليم الإلهية ، وتكون مثل هذه الحالة خير حجة بأيدي أولئك الذين يريدون الفرار والتخلي عن المسؤوليات ، لذلك فإن الله يبطل هذه الحجة عن طريق الرجال الرساليين المرتبطين به والموجودين دائما بين أبناء البشر .
وفي الختام تؤكد الآية على شمولية قدرة الله عزوجل فتقول : {وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذا بيان بأنّ إرسال الأنبياء والرسل وتعيين أوصيائهم أمر يسير بالنسبة لقدرة الله العزيز المطلقة .
* * *
_________________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 467-475 .
2. لقد مضى تفسير هذه الآية في بداية هذا الجزء من تفسيرنا .
3. نقرأ في المصادر المسيحية أنّ «الإله الأب» هو خالق جميع الكائنات (قاموس الكتاب المقدس ، الصفحة ٣٤٥) كما نقرأ أنّ الرّب هو الموجود بنفسه ، وإن هذا هو اسم خالق جميع المخلوقات وحاكم كلّ الكائنات ، وإنّه هو الروح اللامتناهية الأزلية الأبدية . . . (قاموس الكتاب المقدس ، ص ٣٤٤) .
4. تقول المصادر المسيحية بأنّ عبارة «ابن الله» هي فقط من ألقاب منقذ المسيحيين وفاديهم ، وإنّ هذا اللقب لا يطلق على أحد غيره إلّا إذا دلت القرينة على أنّ المراد ليس البنوة الحقيقة لله (قاموس الكتاب المقدس ، ص ٣٤٥) .
5. ظهرت في الآونة الأخيرة لدينا مجموعة تبشر للمسيحية وتسمّي نفسها جماعة «ابن الله» .
6. تفسير الرازي ، ج ١١ ، ص ١٩٢ .
7. ويرى البعض أنّ هذه الفترة تبلغ أكثر من ستمائة عام ، وآخرون يرون أنّها أقل من هذه المدّة واستنادا على قول البعض فإنّ الفاصلة الزمنية بين ولادة المسيح عليه السلام وهجرة نبي الإسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ووفق التاريخ الميلادي تبلغ ٦٢١ عاما و ٩٥ يوما (تفسير ابن الفتوح الرازي ، ج ٤ ، هامش الصفحة ١٥٤) .
8. نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ١٤٧ .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|