أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-10-2019
2225
التاريخ: 6-2-2017
2615
التاريخ: 2024-01-10
1149
التاريخ: 3-12-2019
3544
|
غزوة الخندق (الأحزاب):
وكانت في شوال سنة خمس من الهجرة النبوية المباركة.
وذلك ان نفراً من اليهود منهم: سلام بن أبي الحقيق النضيريّ، وحييّ بن أخطب، وكنانة بن الربيع، وهوذة بن قيس الوالبي، وأبو عمارة الوالبي في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فقالوا لهم: انّ محمداً قد وترنا ووتركم، وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا، وأجلا بني عمنا بني قينقاع، فسيروا في الأرض وأجمعوا حلفاءكم وغيرهم حتى نسير إليهم، فإنه قد بقي من قومنا بيثرب سبعمائة مقاتل وهم بنو قريظة وبينهم وبين محمد عهد وميثاق، وإنّا نحملهم على نقض العهد بينهم وبين محمد ويكونون معنا عليهم، فتأتونه أنتم من فوق، وهم من أسفل، وكان موضع بني قريظة من المدينة على قدر ميلين وهو الموضع الذي يسمىّ ببئر بني المطّلب، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.
فقالت لهم قريش : يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أديننا خير أم دينه؟
قالوا : بل دينكم خير من دينه، وانكم أولى بالحق منه.
فأنزل اللّه تعالى فيهم ـ على رواية ـ: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } [النساء: 51] (1) إلى قوله: (وكفى بجهنّم سعيراً)(2).
فلما قالوا ذلك لقريش سرّهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله).
وجاءهم أبو سفيان فقال لهم: قد مكّنكم اللّه من عدوّكم، هذه اليهود تقاتل معكم ولن تنفك عنكم حتى نأتي على جميعهم، أو نستأصلهم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له.
ثم خرج ذلك النفر من اليهود حتى أتوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأنّ قريشاً قد تابعوهم على ذلك.
فخرجت قريش وقائدهم إذ ذاك أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني قرارة، والحارث بن عوف في بني مرة، ومسعر بن دخيلة فيمن تابعه من قومه من أشجع، وتوجّهوا في عشرة آلاف، وقيل: في ثمانية عشر ألف رجل، نحو المدينة.
المشورة تهدي إلى الظفر:
فلما سمع بهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) استشار أصحابه، فكان رأيهم على المقام في المدينة وحرب القوم إن جاءوا إليهم على أنقابها.
فأشار سلمان الفارسي بالخندق واستحسنه القوم، ونزل جبرئيل على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بصواب رأي سلمان.
فخرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فحدّد حفر الخندق من ناحية اُحد إلى راتج، حيث كان سائر أنحاء المدينة مشبك بالنخيل والبنيان، وخطّ موضع الحفر بخط على الأرض، فضرب الخندق على المدينة فعمل فيه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ترغيباً للمسلمين في الأجر فحفر بنفسه في موضع المهاجرين، وعلي (عليه السلام) ينقل التراب من الحفرة، حتى عرق رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وعيي وقال: (لا عيش إلا عيش الآخرة، اللّهم اغفر للأنصار والمهاجرين).
فقالوا مجيبين له:
(نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا)
وكان سلمان رجلاً قويّاً، فقال المهاجرون: سلمان منّا، وقالت الأنصار: سلمان منّا، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (سلمان منّا أهل البيت).
وكان لكل عشرة منهم أربعون ذراعاً يحفرونها، فبدأ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فعمل فيه وعمل فيه المسلمون، فدأب فيه فدأبوا.
وأبطأ عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورّون بالضعف عن العمل، ويتسلّلون إلى أهليهم بغير علم من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ولا إذن.
وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة من الحاجة التي لابدّ منها ذكرها لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله) واستأذنه بالحوق بحاجته فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبةً في الخير واحتساباً له، فأنزل اللّه في اُولئك المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } [النور: 62] (3).
ثم قال تعالى في المنافقين الذين كانوا يتسلّلون من العمل ويذهبون بغير إذن: { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور: 63] (4).
وكان الذي أشار بالخندق سلمان فقال: يا رسول اللّه، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، ولم تكن تعرفه العرب قبل ذلك، ولذا قال المشركون لما رأوا الخندق: انها مكيدة فارسية ما كانت العرب تكيدها.
النبي (صلى الله عليه وآله) يجوع ليَشبع الآخرون:
قال علي (عليه السلام): كنا مع النبي (صلى الله عليه وآله) في حفر الخندق إذ جاءته فاطمة(عليه السلام) ومعها كسرة من خبز، فدفعتها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا فاطمة ما هذه؟
قالت (صلى الله عليه وآله): قرص خَبَزته للحسن والحسين (عليه السلام) جئتك منه بهذه الكسرة.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أما إنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث.
بوارق الفتح:
وبينا المهاجرون والأنصار يحفرون إذ عرض لهم جبل لم تعمل فيه المعاول، فبعثوا جابر بن عبداللّه الأنصاري إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يعلمه بذلك.
قال جابر: فجئت إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وقد شدّ على بطنه حجر المجاعة، وأخبرته بالخبر.
فأقبل (صلى الله عليه وآله) ودعا بماء في اناء، فشرب منه ثم مجّ ذلك الماء في فيه، ثم صبه على ذلك الحجر، ثم أخذ معولاً فقال: بسم اللّه، فضرب ضربة، فبرقت برقة، فنظرنا فيها إلى قصور الشام، ثم ضرب اُخرى فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور المدائن، ثم ضرب اُخرى فبرقت برقة اُخرى فنظرنا فيها إلى قصور اليمن.
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): أما انه سيفتح اللّه عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرقة، ثم انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل.
في ضيافة جابر:
قال جابر: فلما رأيت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قد شدّ على بطنه حجراً علمتُ بأنه جائع، فقلت له: يا رسول اللّه هل لك في الغداء؟
قال (صلى الله عليه وآله): ما عندك يا جابر؟
قلت: عناق وصاع من شعير.
قال (صلى الله عليه وآله) تقدّم وأصلح ما عندك.
قال جابر : فجئتُ إلى أهلي فأمرتها فطحنت الشعير، وذبحت العنز وسلختها، وأمرتها أن تخبز وتطبخ وتشوّي، فلما فرغت من ذلك، جئت إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فقلت: بأبي واُمّي أنت يا رسول اللّه قد فرغنا، فاحضر مع من أحببت.
فقام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إلى شفير الخندق ثم قال: يا معاشر المهاجرين والأنصار أجيبوا جابراً، وكان في الخندق سبعمائة رجل، فخرجوا كلّهم! ثم لم يمرّ (صلى الله عليه وآله) بأحد من المهاجرين والأنصار إلا قال: أجيبوا جابراً!
قال جابر: فأسرعت إلى البيت وقلت لأهلي: قد واللّه أتاك رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بما لا قبل لك به.
فقالت: هل أنت أعلمته بما عندنا؟
قال : نعم.
قالت : هو أعلم بما أتى.
قال جابر: فدخل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فنظر في القدر، ثم نظر في التنور، ثم دعى بصحفة فثرد فيها وغرف، فقال: يا جابر أدخل عليّ عشرة، فأدخلت عشرة، فأكلوا حتى نهلوا، وما يرى في القصعة إلا آثار أصابعهم.
ثم قال: يا جابر عليّ بالذراع، فأتيته بالذراع فأكلوه.
ثم قال: أدخل عليّ عشرة، فدخلوا فأكلوا حتى نهلوا وما يرى في القصعة إلا آثار أصابعهم.
ثم قال: يا جابر عليّ بالذراع، فأتيته فأكلوا وخرجوا.
ثم قال: أدخل عليّ عشرة، فأدخلتهم فأكلوا حتى نهلوا ولم ير في القصعة إلا آثار أصابعهم.
ثم قال: يا جابر عليّ بالذراع، فأتيته بالذراع فتعجّبت وقلت: يا رسول اللّه كم للشاة من ذراع؟
قال (صلى الله عليه وآله): ذراعان.
قلت : والذي بعثك بالحقّ نبيّاً لقد أتيتك بثلاثة.
فقال: أما لو سكتّ يا جابر لأكلوا كلهم من الذراع.
قال جابر: فأقبلت اُدخل عليه عشرة عشرة فيأكلون حتى أكلوا كلهم، وبقي واللّه لنا من ذلك الطعام ما عشنا به أياماً.
المشركون ومحاصرة المدينة:
قال : وحفر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) الخندق وأتمّه قبل قدوم قريش بثلاثة أيام، وقد طال حفره ما يقارب من شهر واحد، وذلك بعد أن جعل له ثمانية أبواب، وجعل على كل باب رجلاً من المهاجرين ورجلاً من الأنصار مع جماعة يحفظونه.
ثم ضرب (صلى الله عليه وآله) عسكره هناك وكانوا ثلاثة آلاف، فجعل الخندق أمامه، وجعل ظهره إلى سلع وهو جبل بالمدينة، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام، وذلك بعد أن استعمل ابن اُمّ مكتوم على المدينة.
وقدمت الأحزاب وعلى رأسهم قريش ومعهم حييّ بن أخطب، فلما نزلوا العقيق جاء حييّ بن أخطب إلى بني قريظة في جوف الليل، وكانوا في حصنهم وقد تمسّكوا بما عاهدوا عليه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فدقّ باب الحصن، فسمعه كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان هو بنفسه الذي وادع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) على قومه وعاقده على ذلك، فعرف انه حييّ بن أخطب، فأغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له.
فناداه حييّ: ويحك يا كعب افتح لي.
قال : ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم، واني قد عاهدت محمداً، وانك لست بناقض ما بيني وبينه ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً.
قال : ويحك افتح لي اُكلّمك.
فقال : ما أنا بفاعل.
قال حييّ، وقد فكّر في كلام يثير به كعب: واللّه ما أغلقت الباب دوني إلا عن جشيشتك التي في التنور تخاف أن آكل منها.
فأحفظ الرجل ففتح له وقال: لعنك اللّه لقد دخلت عليّ من باب دقيق.
فقال حييّ: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نَقَمى إلى جانب اُحد قد عاهدوني وعاقدوني ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه.
قال كعب : جئتني واللّه بذلّ الدهر وبجهام قد هرق ماؤه، فهو يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً.
فلم يزل حيي يفتله في الذروة والغارب ويقول له: بأن محمداً لا يفلت من هذا الجمع أبداً، وان فاتك هذا الوقت لا تدرك مثله أبداً، حتى سمع له على أن أعطاه عهداً من اللّه وميثاقاً لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك.
وبهذا تمكّن حيي من اقناع كعب، فلما اقتنع كعب بذلك أرسل إلى كل من كان في الحصن من رؤساء اليهود وقال لهم: ما ترون؟
قالوا: أنت سيّدنا وصاحب عهدنا فإن نقضت نقضنا معك، وإن أقمت أو خرجت كنا معك.
فقال لهم (ابن باطا) وكان أحد رؤسائهم: انه قرأ في التوراة وصف هذا النبي وانه لو ناوته الجبال الرواسي لغلبها، فلا يهولنّه هؤلاء وجمعهم، وحذرهم مغبّة نقضهم العهد معه.
وهنا انبرى حيي وقال: ليس هذا ذاك، ذلك النبي من بني إسرائيل، وهذا من العرب، ومازال يقلّبهم عن رأيهم حتى أجابوه، ثم طلب حييّ الكتاب الذي كان بينهم وبين رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فمزّقه وقال: قد وقع الأمر فتجهّزوا للقتال، فنقضوا عهدهم وعزموا على القتال.
وجاء حييّ بن أخطب إلى أبي سفيان والأحزاب فأخبرهم بنقض بني قريظة عهدهم ففرحوا بذلك.
بني قريظة يعلنون خيانتهم:
ثم بدأ بنو قريظة يظهرون خيانتهم ونقضهم للعهد، وحاولوا أن يغيروا على المدينة من منافذها المؤدية إلى مساكن النساء والأطفال فبعثوا أحدهم ليطّلع على المنافذ ويخبرهم بها.
وفي أثناء استطلاعه بصرت به صفية بنت عبدالمطلب وهي مع جماعة من النسوة والأطفال وفيهم حسان بن ثابت كانوا في حصن فارع حصن حسّان بن ثابت، فقالت لحسّان: لو نزلت إلى هذا اليهودي لتقتله، فإنه يريد أن يدلّ بني قريظة على المنافذ المؤدية إلى الحصن.
فقال حسّان: يا بنت عبدالمطلب لقد علمت ما أنا بصاحب هذا.
وهنا تحزّمت صفية ثم نزلت وأخذت عموداً وقتلته به، ثم عادت إلى الحصن وقالت لحسّان: الآن فاخرج واسلبه.
أجابها حسّان: لا حاجة لي في سلبه.
النبي (صلى الله عليه وآله) وأخبار بني قريظة:
ولما نقض بنو قريظة عهدهم، انتهى خبرهم إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فبعث إليهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبداللّه بن رواحة وخوّات بن جُبير وقال: انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه ولا تفتّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس.
فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، ونالوا من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وقالوا: من رسول اللّه؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد.
فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه وكان رجلاً فيه حدة.
فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة.
ثم أقبل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومن معهما إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فسلموا عليه ثم قالوا: عضل والقارة. أي: كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع.
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): اللّه أكبر أبشروا بنصر اللّه يا معشر المسلمين، وكان (صلى الله عليه وآله) يبعث الحرس إلى المدينة خوفاً على الذراري من بني قريظة.
لكن عظم على المسلمين البلاء واشتدّ الخوف عندما أتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم وحاصروهم حول الخندق حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال بعضهم: قد كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب لقضاء حاجته. وأنزل اللّه تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12] (5).
وقال رجال معه: (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا).
وقال بعضهم: يا رسول اللّه ان بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا فنرجع إلى ديارنا فإنها خارج المدينة، فأنزل اللّه سبحانه: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13].
مفاوضات عسكرية:
فلمّا اشتدّ البلاء على المسلمين من كثرة الأحزاب وطول محاصرتهم، بعث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان، ففاوضهما بأن يعطيهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا بمن معهما عنه وعن أصحابه، وذلك ليفتّ في عضد المشركين، فجرى بينه وبينهما مذاكرة الصلح، ولم تقم الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك.
فبعث رسول اللّه إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول اللّه أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك اللّه به لابدّ لنا من العمل به فافعله، أم شيئاً تصنعه لنا؟
قال (صلى الله عليه وآله) : بل شيء أصنعه لكم، وما أصنع ذلك إلا لأنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وجاؤوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر مّا.
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول اللّه قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللّه وعبادة الأوثان ولا نعبد اللّه ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من ثمرنا تمرة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا اللّه بالإسلام وهدانا به نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، واللّه لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم اللّه بيننا وبينهم بحكمه.
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): الآن قد عرفت ما عندكم، فكونوا على ما أنتم عليه، فإن اللّه تعالى لن يخذل نبيّه ولن يسلمه حتى ينجز له ما وعده.
وكان هذا بالإضافة إلى الفتّ في أعضاد المشركين، واستخبار معنويات المسلمين، تعليماً من الرسول (صلى الله عليه وآله) في استشارة الحكام أهل الخبرة أيضاً.
بدء القتال:
ولما علم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) عزم أصحابه وعلوّ معنوياتهم رغم طول المحاصرة حيث دامت بضعاً وعشرين ليلة ولم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى، قام (صلى الله عليه وآله) يشجّع اُولئك الذين أصابهم الضعف والوهن خوفاً من المشركين، ويحرّضهم على جهادهم، ويعدهم النصر من اللّه تعالى، ويحثهم بذلك على المجابهة إذا نشب القتال.
وفي هذه الأثناء انتدبت فوارس من قريش، وعلى رأسهم فارس يليل: عمرو بن عبدود العامري، خرج مُعلماً ليرى مشهده، وكان يعدّ بألف فارس، فأقبلوا على خيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: واللّه إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فضربوا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، وكان عمرو العامري هذا ومن معه أول من عبر الخندق.
فخرج علي بن أبي طالب (عليه السلام) في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ومنعوا من عبور الآخرين، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم.
وكان عمرو بن عبدود ينادي تارة: ألا رجل يبارزني؟
ويصرخ اُخرى: أين جنّتكم التي تزعمون انّ من قتل منكم دخلها؟ ويرتجز ثالثة ويقول:
ولقد بُححت من النداء بجمعكم هل من مبارز؟
ووقفت إذ جبن الشجاع مواقف البطل المناجز
اني كذلك لم أزل متسرّعاً نحو الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى والجود من خير الغرائز
الايمان كله مع الشرك كله:
وفي كل مرة يطلب عمرو المبارزة، كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقول لأصحابه: أيّكم يبرز إلى عمرو؟ وأضمن له على اللّه الجنّة؟
وفي كل مرة يقوم علي بن أبي طالب (عليه السلام) ويقول: أنا له يا رسول اللّه، فيأمره بالجلوس انتظاراً منه ليتحرّك غيره، والمسلمون ناكسوا رؤوسهم كأنّ على رؤوسهم الطير، لمكان عمرو بن عبدود.
فلما طال نداء عمرو بالبراز وتتابع قيام علي (عليه السلام) قال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): يا علي هذا عمرو بن عبدود فارس يليل.
قال: وأنا علي بن أبي طالب.
فقال (صلى الله عليه وآله): إذن اُدن منّي يا علي، فدنى منه، فنزع (صلى الله عليه وآله) عمامته من رأسه وعمّمه بها، وأعطاه سيفه ذا الفقار وقال له: (اذهب وقاتل بهذا).
ثم رفع (صلى الله عليه وآله) يديه نحو السماء وقال: (اللّهمّ انّك أخذت منّي عبيدة بن الحارث يوم بدر، وحمزة بن عبدالمطلب يوم اُحُد، وهذا أخي علي بن أبي طالب، ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين، اللّهمّ أعنه، اللّهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته).
فلما برز علي (عليه السلام) قال (صلى الله عليه وآله): (برز الايمان كله إلى الشرك كله)(6).
ولما برز علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى عمرو، برز وهو يهرول في مشيته ويرتجز ويقول مجيباً لعمرو:
لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نيّة وبصيرة والصدق منجى كلّ فائز
اني لأرجو أن اُقيم عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى ذكرها عند الهزاهز
على أعتاب المصاولة
ولما اقترب علي (عليه السلام) من عمرو، قال له عمرو: من أنت؟
قال: أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وختنه.
قال : واللّه انّ أباك كان لي صديقاً، واني أكره أن أقتلك، ما أمن ابن عمّك حين بعثك إليّ أن اختطفك برمحي هذا، فأتركك بين السماء والأرض لا حيّاً ولا ميّتاً؟
فأجابه علي (عليه السلام) قائلاً: قد علم ابن عمّي انك إن قتلتني دخلتُ الجنّة وأنت في النار، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنّة.
فقال عمرو: كلتاهما لك يا علي، تلك إذن قسمةٌ ضيزى.
فقال علي (عليه السلام): دع هذا يا عمرو، اني سمعتك تقول: لا يعرض عليّ أحد في الحرب ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلى واحدة.
قال عمرو: هات يا علي.
قال (عليه السلام): تشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأنّ محمداً رسول اللّه.
قال: نحّ عني هذا، فأين ما أنفقت فيكم مالاً لبداً؟ وكان قد أنفق مالاً في الصدّ عن سبيل اللّه فأنزل اللّه فيه: (يقول أهلكت مالاً لبداً)(7).
قال (عليه السلام) : فالثانية : أن ترجع من حيث جئت وترد هذا الجيش عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، فإن يك صادقاً فأنتم أعلى به عيناً، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره.
قال : إذن تتحدّث نساء قريش بأني جبنت ورجعت.
قال (عليه السلام): فالثالثة: أن تنزل إليّ وتقاتلني، فإني راجل وأنت راكب.
فنزل عمرو عن فرسه وعرقبه وقال: هذه خصلة ما كنت أظن انّ أحداً من العرب يسومني عليها، واني لأكره أن أقتل رجلاً كريماً مثلك، وقد كان أبوك لي صديقاً.
قال علي (عليه السلام): لكني اُحبّ أن أقتلك.
فغضب عندها عمرو وبدأ بالقتال فضرب علياً (عليه السلام) بالسيف على رأسه، فاتقاه بالدرقة فقطعها، وثبت السيف على رأسه (عليه السلام).
ثم بدره علي (عليه السلام) فضربه على ساقيه فقطعهما جميعاً، وارتفعت بينهما عجاجة، وكبّر علي (عليه السلام).
فانكشف من كان مع عمرو حتى عبروا الخندق منهزمين، فوقع نوفل بن عبد العزّى في الخندق، فطعنه علي (عليه السلام) في ترقوته فمات في الخندق.
ضربة علي (عليه السلام) يوم الخندق:
ولما انكشفت العجاجة نظروا فإذا بعلي (عليه السلام) على صدر عمرو قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه، فلمّا همّ أن يذبحه تركه وقام فخطا خطوات ثم رجع إليه وأخذ بلحيته ثانية ليذبحه وهو يكبّر اللّه ويمجّده، فقال له عمرو: يا علي إذا قتلتني فلا تسلبني حلّتي.
فقال (عليه السلام): هي أهون عليّ من ذلك، فذبحه وتركه، ثم أخذ رأسه وأقبل نحو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) والدماء تسيل على رأس علي (عليه السلام) من ضربة عمرو، وسيفه يقطر منه الدم، وهو يقول والرأس بيده:
أنا علي وابن عبدالمطلب الموت خير للفتى من الهرب
يقول ذلك وهو يخطر في مشيته.
فقال بعض: ألا ترى يا رسول اللّه إلى عليّ كيف يتبختر في مشيه؟
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): انها لمشية لا يمقتها اللّه في هذا المقام.
ثم استقبله رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ومسح الغبار عن عينيه وقال له: أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل اُمّة محمد لرجح عملك بعملهم، وذاك انه لم يبق بيت من المشركين إلاّ وقد دخله ذلّ بقتل عمرو، ولم يبق بيت من المسلمين إلاّ وقد دخله عزّ بقتل عمرو.
ثم قال (صلى الله عليه وآله): ضربة علي (عليه السلام) يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين.
وسُمع منادياً ينادي ـ ولا يرى شخصه ـ يقول:
قتل علي عمرا قصم علي ظهراً
ابرم علي أمراً
ووقعت الهزيمة بالمشركين وتفرّقت الأحزاب خائفين مرعوبين.
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): الآن نغزوهم ولا يغزونا، فكان كما قال (صلى الله عليه وآله) فلم يغزهم قريش بعد ذلك، وكان هو يغزوهم حتى فتح اللّه عليهم مكّة.
ولما سألوا علياً (عليه السلام) عن سبب قيامه عن صدر عمرو ثم العود إليه ثانية، وعن تركه سلبه؟
قال (عليه السلام) : ان عمرواً تجاسر عليه مما أثار غضبه، فقام يخطو خطوات يطفئ بها غضبه ليكون قتله إيّاه خالصاً لوجه اللّه تعالى لا يشوبه شيء من التشفي والإنتقام لنفسه، كما انه ترك سلبه، لأن عمرواً قد سأله ذلك وطلب منه أن لا يسلبه بعد قتله.
ضربتان: أعزّ وأشأم
روى الأودي قال : سمعت ابن عياش يقول: لقد ضَرب عليّ (عليه السلام) ضربة ما كان في الإسلام ضربة أعزّ منها، يعني بها ضربة عمرو بن عبدود العامري، ولقد ضُرب علي (عليه السلام) ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها، يعني بها ضربة ابن ملجم المرادي، وفي قتل عمرو بن عبدود يقول حسّان بن ثابت:
أمسى الفتى عمرو بن عبد يبتغي بجنوب يثرب غارة لم تنظر
ولقد وجدت سيوفنا مشهورة ولقد وجدت جيادنا لم تقصر
ولقد رأيت غداة بدر عصبة ضربوك ضرباً غير ضرب المخسر
أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة يا عمرو أو لجسيم أمر منكر
فسمعه أحد بني عامر فأجابه وهو يرد عليه افتخاره بالأنصار قائلاً:
كذبتم وبيت اللّه لم تقتلوننا ولكن بسيف الهاشميين فافخروا
بسيف ابن عبداللّه أحمد في الوغا بكف عليّ نلتمُ ذاك فاقصروا
فلم تقتلوا عمرو بن عبد ببأسكم ولكنه الكفو الهزبر الغضنفر
عليّ الذي في الفخر طال بناؤه ولا تكثتروا الدعوى علينا فتحقروا
مع ابنة عبدود:
وروي انه لما قتل علي (عليه السلام) عمرو بن عبدودّ نعي إلى اُخته عمرة بنت عبدود، فلما جاءت إليه ورأته على حلّته لم يسلبه قاتله، قالت: من ذا الذي اجترأ عليه؟
قالوا لها: علي بن أبي طالب.
قالت : لم يعد موته إلا على يد كفو كريم، لا رقأت دمعتي ان هرقتها عليه، قتل الأبطال، وبارز الأقران، وكانت منيته على يد كفو كريم من قومه، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر، ثم أنشأت تقول:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله لكنتُ أبكي عليه آخر الأبد
لكن قاتل عمرو لا يعاب به من كان يدعى قديماً بيضة البلد
ثم قالت : واللّه لا ثأرت قريش بأخي ما حنّت النيب ـ والنيب جمع ناب وهي المسنّة من النوق ـ كناية عن انها لا تستطيع ذلك أبداً.
في الحرب ومع المشركين فقط:
كان نعيم بن مسعود الأشجعي ممن يجيد فنّ الشغب والفتنة، فأتى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في جوف الليل وكان قد أسلم قبل قدوم قريش بثلاثة أيام، فقال: يا رسول اللّه اني قد آمنتُ باللّه وصدقتك، وكتمتُ ايماني عن الكفرة، فإن أمرتني أن آتيك وأنصرك بنفسي فعلت، وإن أمرتني ان اُخذّل بين اليهود وبين قريش فعلت حتى لا يخرجوا من حصنهم.
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): خذّل بين اليهود وبين قريش، فإنه أوقع عندي.
فجاء إلى أبي سفيان وقال له: انك تعرف مودّتي لكم ونصحي، وقد بلغني انّ محمداً قد وافق اليهود على أن يأخذوا رهائن من أشرافكم ليسلّموهم إلى محمد يضرب أعناقهم، ثم يدخلوا بين عسكركم ويميلوا عليكم، ووعدهم إذا فعلوا ذلك أن يردّ عليهم جناحهم الذي قطعه بني النضير وقينقاع، فلا أرى أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتى تأخذوا منهم رهناً تبعثوا بهم إلى مكّة، فتأمنوا مكرهم وغدرهم.
فقال له أبو سفيان: وفّقك اللّه وأحسن جزاءك، مثلك من أهدى النصائح.
ثم جاء نعيم من فوره ذلك إلى بني قريظة وقال لكعب وكان نديماً له في الجاهلية: يا كعب انّك تعلم مودّتي لكم ونصحي، وقد بلغني انّ أبا سفيان قال: نخرج هؤلاء اليهود فنضعهم في نحر محمّد، فإن ظفروا كان الفخر لنا، وإن خسروا كانوا هؤلاء مقاديم الحرب، فلا أرى لكم أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتى تأخذوا منهم عشرة من أشرافهم يكونون في حصنكم، فإنهم إن لم يظفروا بمحمد رجعوا إلى مكة وغزاكم محمد فقتلكم، لكن إن أخذتم رهائن منهم، لم يذهبوا حتّى يردّوا عليكم عهدكم الذي جعلتموه بينكم وبين محمد.
فقال له كعب: أحسنت وأبلغت في النصيحة لا نخرج من حصننا حتى نأخذ منهم رهناً يكونون في حصننا.
وكان كذلك، فإنهم طلبوا رهناً حينما طلب منهم أبو سفيان أن يبدأوا القتال، فقال أبو سفيان: صدق نعيم، فاختلفت كلمتهم.
الأحزاب ينهزمون:
لما قَتل علي (عليه السلام) عمرو بن عبدود دخل الوهن والذلّ معسكر الأحزاب، واضطربوا أشدّ اضطراب، فلما جنّ اللّيل قام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) على التلّ الذي عليه مسجد الفتح، وكانت ليلة ظلماء قرّة فقال: من يذهب فيأتينا بخبرهم وله الجنّة؟ أعادها فلم يقم أحد، ثم قال: من هذا؟ وكان حذيفة قريباً منه، فقال : أنا حذيفة يا رسول اللّه.
فقال : اقترب يا حذيفة أما تسمع كلامي؟
فقام حذيفة وهو يقول: القرّ والضرّ جعلني اللّه فداك منعاني أن اُجيبك.
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): انطلق حتى تسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم.
فقال حذيفة : نعم يا رسول اللّه، ثم قام فأخذ سيفه وقوسه وترسه، وليس به ضرّ ولا قرّ واتّجه نحوهم.
فقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بعد أن دعا له: يا حذيفة لا تحدث شيئاً حتى تأتيني، فلما ذهب حذيفة رفع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يديه إلى السماء ودعا قائلاً: (يا صريخ المكروبين، ويا مجيب دعوة المضطرّين، ويا مغيث المهمومين، اكشف همّي وغمّي وكربي، فقد ترى حالي وحال أصحابي) وما أن تمّ دعاؤه حتى نزل جبرئيل وهو يقول: يا رسول اللّه انّ اللّه عزّ ذكره قد سمع مقالتك ودعاءك وقد أجابك وكفاك هول عدوّك، فجثا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) على ركبتيه، وبسط يديه، وأرسل عينيه، ثم قال: (شكراً شكراً، كما رحمتني ورحمت أصحابي).
ثم قال : ان اللّه عزّ وجل قد بعث عليهم ريحاً من السماء الدنيا فيها حصى وأرسل عليهم ريحاً من السماء الرابعة فيها جندل.
حذيفة ودعاء الرسول (صلى الله عليه وآله):
قال حذيفة : خرجت فلما وصلت إليهم، أقبل جند اللّه الأول ريح فيها حصى، فما تركت لهم ناراً إلاّ أذرّتها، ولا خباءاً إلاّ طرحته، ولا رمحاً إلا ألقته، حتى جعلوا يتترّسون من الحصى.
فجلست بين رجلين من المشركين، فقام أبو سفيان وقال: إن كنّا نقاتل أهل الأرض فنحن بالقدرة عليه، وإن كنّا نقاتل أهل السماء كما يقول محمد فلا طاقة لنا بأهل السماء، انظروا بينكم لا يكون لمحمد عين بيننا، فليسأل بعضكم بعضاً.
قال حذيفة : فبادرتُ إلى الذي عن يميني وقلت له: من أنت؟
قال معاوية.
وقلت للذي عن يساري: من أنت؟
فقال : عمرو بن سهيل، ولم يسألاني عن اسمي.
ثم أقبل جند اللّه الأعظم. ريح فيها جندل، فقام أبو سفيان إلى راحلته، ثم صاح في قريش: النجاء النجاء، ولما أراد أن يركب راحلته أمكنني قتله، فلما هممت بذلك تذكرت قول رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): (لا تحدثن حدثاً حتى ترجع إليّ) فكففت ورجعت بعد أن انهزم المشركون وذهب الأحزاب.
فأخبرتُ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) الخبر وقد طلع الفجر، فتهيّأ وتهيّئنا معه للصلاة، فصلّى بنا الفجر ثم نادى مناديه: لا يبرحنّ أحد مكانه إلى أن تطلع الشمس، فلما طلعت الشمس انصرفنا مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إلى داخل المدينة وهو يقول على رواية: (لا إله إلاّ اللّه وحده وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فله الملك وله الحمد، يحيي ويميت، ويميت ويحيي، وهو حيّ لا يموت بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير).
القرآن وغزوة الأحزاب:
ثم انّ اللّه تعالى أوحى إلى نبيّه (صلى الله عليه وآله) سورة الأحزاب يذكّر المسلمين فيها بما أصابهم ذلك اليوم من ضرّ، وبما منّ عليهم من الفتح وبما أنزل عليهم من النصر، اضافة إلى ما في تسمية السورة بالأحزاب من اشارة إلى أهمية الأمر وعظم الواقعة حيث يقول تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 9 - 11] (8) إلى قوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } [الأحزاب: 25] (9).
ثمّ بشّرهم بفتح حصون اليهود حيث يقول تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 26، 27] (10).
___________
(1) النساء : 51.
(2) النساء : 55.
(3) النور : 62.
(4) النور : 63.
(5) الأحزاب : 12.
(6) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ج 13 ص 261 ط دار إحياء التراث العربي.
(7) البلد : 6.
(8) الأحزاب : 9 ـ 11.
(9) الأحزاب : 25.
(10) الأحزاب : 26 ـ 27.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|