المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

التاريخ
عدد المواضيع في هذا القسم 6767 موضوعاً
التاريخ والحضارة
اقوام وادي الرافدين
العصور الحجرية
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
العهود الاجنبية القديمة في العراق
احوال العرب قبل الاسلام
التاريخ الاسلامي
التاريخ الحديث والمعاصر
تاريخ الحضارة الأوربية

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24

زكريا أبو يحيى الدعاء
3-9-2017
من قتل في بدر على يده(عليه السلام)
10-02-2015
أنواع الكاكي والوصف النباتي
2023-11-29
[أكبر الخطر]
28-5-2017
حكم الإيلاء
28-5-2017
الوصف النباتي للكمثرى «الاجاص»
2023-09-21


فتنة عثمان ومقتله  
  
2827   09:52 صباحاً   التاريخ: 16-11-2016
المؤلف : الشيخ الدكتور محمد حسين علي الصغير
الكتاب أو المصدر : الإمام علي عليه السلام سيرته و قيادته
الجزء والصفحة : ص192-229
القسم : التاريخ / التاريخ الاسلامي / الخلفاء الاربعة / عثمان بن عفان /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-11-2016 1883
التاريخ: 3-9-2019 2502
التاريخ: 16-11-2016 1881
التاريخ: 3-7-2019 2199

أطلق عثمان العنان للملكية أن تتضخم ، وللثروة أن تتكاثر ، وللإستقراطية القرشية أن تتحكم في المال ، وقد مهدّ لهذا الحدث بقرارين مهمين ما كانا من ذي قبل :

الأول: سماحه لكبار الصحابة من المهاجرين والأنصار أن يتنقلوا بين الأقاليم والبلدان، وألغى الحضر السياسي الذي اتخذه الشيخان عليهم من ذي قبل في مغادرة المدينة.

الثاني: وسع عثمان على ذوي الثروة بأن لهم الحق المشروع بنقل فيئهم إلى حيث يقيمون من البلاد ، وكان أثر هذا أن تم استبدال مال بمال ، وضياع بضياع ، وعقار بعقار ، وتنافس الصحابة في ذلك ، فمن أراد بيع أرض في الحجاز تم له ذلك بشراء أرض في العراق ، ومن رغب بتضخم ماله في الحجاز ، باع سهمه من فيئه في الأقاليم واستثمره فيما يشاء ، وكان هذا يستدعي الأيدي العاملة والطبقة الناهضة بالمهمات الجديدة ، وما إن وضع هذا القرار موضع التنفيذ حتى رأينا الصحابة يسارعون باستبدال ما كان لهم من أراضٍ في الأقاليم المفتوحة ، بالأراضي في الحجاز والعراق واليمامة ، وكانت مهمة استصلاحها زراعياً تلقى على عاتق أولئك النفر من الموالي والرقيق والأسارى ، فانتشروا في بلاد العرب ، وحققوا لأمراء العرب ما أرادوا حرثاً واستثماراً وعائدية أملاك عريضة ، ونجم عن ذلك تسرب تقاليد لم تكن ، وحضارات لم تعرف ، إلى هذه البلاد وتلك ، وكثر العبيد والموالى فافسدوا ذائقة العرب في عاداتهم فانتثر الترف و البذخ وشاع الغناء والمجون ، فانتقل المسلمون من مناخ الدعة إلى الإضطراب ، ومن حياة الكفاف إلى الإسراف ، ومن الإعتماد على النفس ولأبناء في إدارة الأعمال إلى التوكل على الرقيق الذي أضحى يدير شؤونهم ، ويشرف على حياتهم ، ويتولى زراعة أرضهم ، وخدمة نسائهم ، وتصريف أموالهم .

كان من شأن القرار الأول لعثمان أن تفتحت عيون المسلمين على حياة جديدة في الأمصار المفتوحة ، وما كان كل المسلمين يستطيع أن يتطلع لهذه الحياة ، بل كان أكثرهم قدرة على السياحة والاستثمار والتجارة أن يتمتع بها ناعماً فارهاً ، وكان جملة من الصحابة قد بارك هذا المناخ الجديد ، ونقل معه رؤوس الأموال فأبتاع بها ما شاء من متاع في الأرض والعمارة ، وألحق بذلك ما شاء من الرقيق القائم بهذا العمل أو ذاك ، فتحرك في النفوس ما كان هادئاً من الترف والرخاء ، وتماشى الزهو والبطر في الإستزادة من الذهب والفضة والعقار ، وإذا بالأموال تنمي الأموال ، وإذا بالثراء يضاف إلى الثراء ، فإزداد الشر وإزداد النكر ، ووقف فقراء المسلمين ينظرون إلى كل هذا ولا يملكون شيئاً منه ، ويتابعون هذا التحول الخطير ولا يزودون بلماضة فيه ، فيسارعون إلى النقمة ، ويتحولون إلى الإنكار ، فتنطوي الصدور على الاحقاد والأوغار ، وتشتمل الأفكار على ابتداع الخطط والمؤامرات ، عسى أن ينعموا بالمساواة ، أو يهتبلوا الفرصة بالمواساة ، ولم يكن هذا ولا ذاك .

وكان من شأن القرار الثاني أن يدعم القرار الأول في كل جزئياته المتناثرة هنا وهناك ، فالمال في الحجاز غير الأرض في العراق ، والإستثمار بخيبر غير الإستثمار بالطائف ، والتقوقع في مكان واحد غير الإنتشار في الأقاليم المفتوحة ، والسبق إلى التنافس غير الجمود والقناعة ، إتسعت الملكية الخاصة ، وتطورت الثروة المشروعة وغير المشروعة ، وتهامس الناس هنا وهناك عن مصادر هذا الثراء الفاحش ، وموارد هذا الإستئثار القائم ، وهناك الطبقات المحرومة من الأعراب وصغار الملاكين ، وهناك المستضعفون من المسلمين الزاهدين ، وهناك من لا نصيب له بتجارة ، ولا عهد له بزراعة ، وهناك أكثر من هذا كله ، من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص ، وكان من شأن هذا أن يألب الناس على صاحب القرارين ، وأن يوجه عنايتهم إلى التغيير ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً .

ولم يكن المجتمع ليغفر هذا التفاوت الطبقي ، فقد عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحقق العدل الاجتماعي ، كما عهد صحابته زاهدين في حطام الدنيا ، ونظر في أهل بيته فوجدهم مواسين بما لديهم من فضول أموالهم البؤساء والفقراء، أما هذا التمحض للمال ، والتفرغ التام للدنيا ، فلم يخطر على بال أحد منهم ، وعسى أن يكون مظهر إرتداد عن منهج الشرع المستقيم ، وأن يبدو مظهر جزع وفزع لدى السواد الأعظم من الناس ، ككان صغار المسلمين يتهافتون على الحروف ، ويتنافسون على الفتوح ، وكان كبارهم يتنافسون على تشييد القصور ، وإحتجان الأرباح ، ومن أمثلة مظاهر هذا الترف المسرف ، وهذا الإسراف المترف ما يذكره المؤرخون مجمعين عليه قالوا :

فلما بنى عثمان قصره ( طمار والزوراء ) صنع طعاماً نفيساً ، ودعا إليه الناس ، وكان فيهم عبد الرحمن بن عوف الذي صفق على يديه مبايعاً له على كتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين ؛ فلما نظر عبد الرحمن إلى عظمة البناء ، وألوان الطعام ، قال : يا ابن عفان : لقد صدقنا عليك ، ما كنا نكذب فيك ، وإني أستعيذ بالله من بيعتك ، فغضب عثمان ، وقال : أخرجه عني يا غلام ، فأخرجوه ، وأمر الناس ألا يجالسوه ، فلم يكن يأتيه أحد إلا ابن عباس ، كان يأتيه فيتعلم منه القرآن والفرائض ، ومرض عبد الرحمن فعاده عثمان ، وكلّمه فلم يكلّمه حتى مات .

وعبد الرحمن هذا المنكر على عثمان بذخه في القصور ، لم ينكر على نفسه تلك الثروة الهائلة التي تمتع فيها بما شاء في الحياة ، وترك منها ميراثاً عظيماً ، فكان له ألف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، وكان يزدرع في الجرف على عشرين ناضحاً وترك أربع زوجات ، كان نصيب كل واحد منهن من الثمن يقوّم ما بين ثمانين ألف دينار إلى مائة ألف دينار . وذهب بعض المؤرخين أن عبد الرحمن بن عوف ترك من الذهب ما يقطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك من الضياع والأراضي ما لا يقدر بثمن ، ومن جياد الخيل مائة فرس لا نظير لها عند العرب .

 وطلحة بن عبيد الله كان أول من استنبت القمح في الحجاز ، ولم مات كانت تركته ثلاثين مليون من الدراهم ، وكان النقد السائل منها مائتي ألف دينار ، ومليونين من الدراهم الفضية ، وكان سائرها عروضاً وعقاراً كما يرى ذلك أبن سعد في الطبقات ، ومع هذا الثراء الفاحش فإنه اقترض من عثمان خمسين ألفاً ، فقال لعثمان : قد حضر مالك ، فأرسل من يقبضه . قال عثمان : هو لك معونة على مروءتك ، ووصله أيضاً بمائتي ألف ، ولعل ذلك أول البداية في الثروة الهائلة التي عززّها عثمان بكثير من العقود والصفقات التجارية ، فقد ذكر المؤرخون أن بين عثمان وطلحة مبايعات على مستوى رفيع ، يبيع طلحة ويشتري عثمان في الحجاز ، ويبيع عثمان ويشتري طلحة في العراق .

والزبير بن العوام ذو السيف الذي طالما جلى الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ذا ثروة طائلة ، وغنى مستفيض ، فله ضياع في البصرة ، وضياع في السواد من أرض العراق ، وخطط في الفسطاط وخطط في الاسكندرية ، وكانت له عروض ضخمة ، وغلاّت متزايدة ، وكانت تركة الزبير تركة جبّارة تتراوح بين خمسة وثلاثين مليوناً ، واثنين وخمسين مليوناً ، وهي أرقام خيالية يذكرها المؤرخون بكثير من التأكيد ، فمن قائل إنها خمسة وثلاثون مليوناً ، ومن قائل إنها أربعون مليوناً، ومن قائل إنها اثنان وخمسون مليوناً، ولا ندري أكان ذلك الميراث دراهم أو دنانير .

وهذا الذي قد اعتزل الفتنة فيما زعم ، ولم ينصر الحق وهو الأمثل به ، ولم يخذل الباطل وهو من واجبه ، أعني به : سعد بن أبي وقاص ، فقد رثى لحاله المؤرخون ، واعتبروه ذا ثروة متواضعة إذ ترك ما بين مائتي ألف وثلاثمائة ألف ، وهو شيء يسير بالنسبة لما ترك أصحاب الشورى كما رأيت قريباً .

كان رأي الناس أن المسؤول عن هذا الثراء المقيت هو عثمان ، لأنه فتح له الأبواب ، وخص به طبقة دون طبقة ، فأضيف ذلك إلى ما نُقم عليه به من ذي قبل .

سياسة عثمان من الصحابة والمعارضة:

لم تكن السياسة المالية التي انتهجها عثمان وحدها مما نقم بها عليه الناس ، ولم تكن الأثرة في السلطان وإدارة التولية والعزل وحدها مما أخذ به المسلمون عثمان ، ولم يكن ضعف السلطان أيضاً ، ولا التفاوت الطبقي وتضخم الملكية الخاصة مما أجلب على عثمان فحسب ، فهناك عامل مهم نشأ في ظلال ذلك ، وترعرع في أحضان هذه السياسة بمجموعها ، هو عامل الإنتقام من الخصوم تارة ، والنفي والتشريد لمعارضيه تارة أخرى ، ولست أدري هل يجوز للحاكم الانتقام والثأر لنفسه بمجرد نصحه والإنكار عليه ؟ وما هو الحد الذي يباح للسلطان في تغريب معارضيه ؟ ونفي المنكرين عليه عن ديارهم وأوطانهم ؛ وما هو حق الولاة في خنق الأنفاس وكبت الحريات ، ومؤاخذة الناقمين بآرائهم ؟ هذا إذا كان الحاكم حاكماً بتفويض من الشعب ، وكيف به إذا كان ـ فيما يزعم ـ متجلبباً برداء ألبسه الله إياه ؟ وقد كان عثمان يقترف كل ذلك ، وولاة عثمان يقترفون ذلك وأكثر من ذلك ، فالبصري ينفى إلى الشام ، والكوفي ينفى إلى الحجاز ، والمكي ينفى إلى الربذة ، ولستُ بإزاء إحصاء ذلك فقد يطول ذكره ، ولكني بسبيل متابعة ما نقمه المسلمون على عثمان تجاه ثلاثة من كبار الصحابة إنشقوا على حكمه ، ونعوا عليه تصرفاته بكثير من الإصرار ، وهؤلاء الثلاثة هم : أبو ذر الغفاري ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، ولكل حديثه الخاص به ، ولكل عقابه الذي إبتكره عثمان .

أولاً : أبو ذر الغفاري :

هو جندب بن جنادة ، ممن سبق إلى الإسلام ، وكان في بداية نشأته بأرض كنانة يلفحهُ حرّها ومناخها الجاف ، ويعصره زمهريرها وبردها القارس ، عاش في شظف من القوت لا يكاد يسد رمقه ، وتقلب في مكاره الدهر حتى ألفها ، أسلم في مكة طائعاً ، وهاجر إلى المدينة راغباً و شهد مع رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم المشاهد كلها وكان الى جنب علي عليه السلام في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته ، ومن السابقين إلى موالاته والقول بإمامته ، وكان حبيباً لرسول الله ، مقدماً عنده ، مشهوراً بصدقه وصراحته ، معروفاً باستقامة الفطرة ، وصفاء السجية ، حتى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

« ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء رجلاً أصدق لهجة من أبي ذر ».

وما ذلك إلا لصرامته في الحق ، وجديته في الصدق ، فهو لا يخشى أحداً ، ولا يجامل أحداً ، ولا تأخذه في الله لومة لائم . هذا البدويُّ الذي عركته الصحراء بمناخها ، ووهبته البادية صلابة طبيعتها ؛ اصطرع أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع حياة التقشف والزهد فألفها ، وذاق مرارة العسر فأساغها ، ورأى النبي صلى الله عليه و اله و سلم يشدّ حجر المجاعة على بطنه فيستن بسنته ، ويرى من سياسة أبي  بكر وعمر في المال ما يعجبه حيناً ، أو يناقشه حيناً آخر ، ولكن ما يراه كان ملائماً لفطرته النقية بضم بعضه إلى بعضه الآخر ، وإذا به يفجأ في عصر عثمان بالممتلكات العريضة لطلحة والزبير في الحجاز والعراقيين ومصر ، وينظر بذخ معاوية وسرفه في المال والبناء في الشام ، ويشاهد مروان بن الحكم يحتجز من الفيء ما لا يوفيه الحساب ، ويلفي ابن أبي سرح يتمتع بخمس إفريقيا كله ، وينظر عثمان بجزل العطاء دون بصيرة ، فيعطي الحارث بن الحكم طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثمائة ألف درهم ، ويعطي زيد بن ثابت مائة ألف درهم ، ويعطي هذا وذاك مئات الألوف بغير مقياس يقيده ، ولا ميزان يزن به حقائق الأشياء ، وينظر ثروة ابن عوف ذهباً وفضة وكراعاً وماشية وعقاراً ، ويلاحظ ترف طلحة في التأنق والعبيد والإماء وعائدات خيبر ، ويستمع لأنباء ممتلكات الزبير في العراق والفسطاط ضياعاً وإقطاعاً ، فيبهت لهذا كله ، وينكره أشد الإنكار ، ويتلو قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [التوبة: 34] (1) .

ويشكو مروان نكير أبي ذر لعثمان ، وينهاه عثمان عن ذلك فيحتج قائلاً : أي أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ،لأن أرضي الله بسخط عثمان ، أحب إليّ من أن أرضي عثمان بسخط الله.

وتشيع هذه المقالة في الآفاق، وتتوتر العلاقة ببين أبي ذر وعثمان، ويكثر نقد أبي ذر ويزداد غضب عثمان، ويقول أبو ذر ويجيب عثمان، وتتعالى صيحات أبي ذر فيجزع عثمان، ويحاول إليه السبيل فيجده مغلقاً.

فقد كان كعب الأحبار يحتل الصدارة من مجلس عثمان ، فيقول أبو ذر لعثمان وكعب حاضر : لا ينبغي لمن أدى الزكاة أن يقنع حتى يطعم الجائع ، ويعطي السائل ، ويبّر الجيران ؛ فيقول كعب : من أدى الفريضة فحسبه ؛ فغضب أبو ذر ، وقال لكعب : أتعلمنا ديننا يا ابن اليهودية . فأثار ذلك عثمان ، وأمره أن يلحق بالشام ، وألتحق أبو ذر بالشام برقابة مشددة من معاوية ، وأنكر على معاوية في الشام ، ما أنكره على عثمان في المدينة ، وكان معاوية يقول : المال مال الله ، ونحن أمناء الله على ماله . وما أراد أبو ذر أن يجبهه بأنه قد خان الأمانة ، ولكنه جبهه بأنه قال : إنما هو مال المسلمين .

وكان الناس يجتمعون في الشام إلى هذا الصحابي الجليل ، فيقول : ويلٌ للأغنياء من الفقراء . وكثرت تصريحات أبي ذر في هذا المجال ، حتى إذا بنى معاوية قصر الخضراء ، قال له أبو ذر : « إن كنت إنما بنيتها من مال المسلمين فهي الخيانة ، وإن كنت إنما بنيتها من مالك فإنما هو السرف » .

وأدرك معاوية أن أبا ذر بإشاعته المفاهيم الإسلامية في المال وسواه سيفسد عليه الشام فيما يزعم ، فكتب إلى عثمان : إن كانت لك حاجة في الشام فسير عنها أبا ذر ، فما كان من عثمان إلا أن استجاب لهذا النداء ، وكتب إلى معاوية :

أن أحمل إليّ جندباً على أغلظ مركب وأوعره ، فحمله على أشد مركب ، ووصل المدينة أبو ذر ، وقد تساقط لحم فخذيه كما يقول المؤرخون ، وأدخل على عثمان فقال له : لا أنعم الله بك علينا يا جنيدب ؛ فقال أبو ذر : أنا جندب وسماني رسول الله عبد الله ، فاخترت اسم رسول الله الذي سماني به على اسمي ، فقال له عثمان ، أنت الذي تزعم أنا نقول : يد الله مغلولة ، وأن الله فقير ونحن أغنياء ، فقال أبو ذر : لو كنتم لا تقولون ذلك لأنفقتم مال الله على عباده ؛ وأنا أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :

« إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً ، جعلوا مال الله دولاً ، وعباده خولاً ، ودينه دخلاً » .

فقال عثمان لمن كان حاضراً: أسمعتم ذلك من رسول الله ؟ فأنكروا سماعه ، فاستدعى عثمان علياً وسأله ، فقال الإمام علي عليه السلام إني لم أسمع ذلك من رسول الله ، ولكن أبا ذرّ صادق فيما يقول ، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه :

« ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ».

فقال كل من حضر: أما هذا فقد سمعناه من رسول الله.

ولم يجد عثمان في هذا سبيلاً على أبي ذر ، فعمد إلى سياسته في النفي والتغريب ، فأمر أبا ذر بالرحيل إلى الربذة منقطعاً عن الناس ، ومنع الناس من توديعه ، وأشرف مروان بن الحكم على تنفيذ الأمر ، فلم يخرج إلى توديعه إلا الإمام علي عليه السلام وأخوه عقيل ، وابناه الحسن والحسين عليه السلام وعمار بن ياسر ، وكان مشهد الوداع مثيراً ، إذ تكلم كل واحد من المودعين بما يناسبه ، وقال علي أمير المؤمنين :

« يا أبا ذر ، إنك غضبت لله فارجُ من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب منهم بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عما منعوك ، لا يؤنسك إلا الحق ، ولا يوحشك إلا الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبوك ، ولو قرضت منها لآمنوك » .

وانتهى المطاف بمعارضة أبي ذر أن عاش ما بقي من حياته شريداً في الربذة ، حتى أدركه الموت غريباً لا يجد كفناً ، وشهدت وفاته عصابة

من المؤمنين من أهل الكوفة فيهم مالك الأشتر ، وحجر بن عدي الكندي وسواهما ، تولى هؤلاء غسله وكفنه والصلاة عليه ودفنه في تلك المفازة ، وحملوا زوجته وابنته إلى المدينة ، فتذكر الناس قول الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم :

« يا أبا ذر؛ تعيش وحدك، وتدفن وحدك، وتحشر وحدك، ويسعد فيك ناس من أهل العراق يتولون غسلك، ومواراتك في قبرك ».

وكان نفي أبي ذر وموته وحيداً في غربته ، أول شرارة حقيقية كبرى اندلعت فيها الثورة على عثمان ، وإن لم تكن أول شرارة ، فهي أورى شرارة قدحاً .

وكان توديع الإمام علي عليه السلام لأبي ذر أول ما نجم بين علي وعثمان من نقمة وسخط وغضب ؛ فحينما عاد أمير المؤمنين من تشييع أبي ذر ، وزجره لمروان زجراً عنيفاً ، قيل له : إن عثمان عليك غضبان لتشييعك أبا ذر ، فأجاب علي بسخرية لاذعة : « غضب الخيل على اللجم » .

واستدعاه عثمان فقال له : « ما حملك على ما صنعت بمروان ، واجترأت عليّ ، ورددت رسولي وأمري » .

فقال عليّ : « أما مروان فاستقبلني يردّني فرددتّه عن ردّي » .

فقال عثمان: « أو لم يبلغك أنني نهيت الناس عن أبي ذر وعن تشييعه ؟ » فاستنكر الإمام عليه السلام هذا ، وقال مصرّحاً :

« أو كل ما أمرتنا به من شيء يرى طاعة الله ورسوله الحق بخلافه ، إتبعنا فيه أمرك » . فأبان علي عليه السلام: أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن تشييع المؤمن أمر مندوب إليه في الشريعة، وإن غضب لذلك السلطان.

وتطورت المحاورة فيما بينهما ، ولوّح عثمان بمشروعية شتم مروان للإمام ، فقال علي عليه السلام : « وأما أنا فوالله : لئن شتمني ، لأشتمنك أنت مثلها بما لا أكذب فيه ، ولا أقول إلا حقاً » .

وهنا بَدَهُ عليّ عثمان بالمجابهة له ، لأن مروان ليس في عداده ، فلو شتمه مروان لشتم عثمان بالحق لا يتزيد عليه ، فضاق صدر عثمان وقال :

« ولم لا يشتمك إذا شتمته فوالله ما أنت عندي بأفضل منه ». فنهره عليّ وزجره عن هذا التسرع في الرد ، وقال : « ألي تقول هذا القول ، وبمروان تعدلني ، فأنا والله أفضل منك ، وأبي أفضل من أبيك ، وأمي أفضل من أمك » .

فصعق عثمان ، وما حار جواباً ، وغص بريقه على مضض .

هذه الشرارة التي إنقدحت بين علي وعثمان ، كان بنو أمية وراء إذكائها ، يغذون الفرقة ، ويزدرعون الإحن والأحقاد ، حتى كادت الأمور تتعقد إلى غاية قصوى ، لولا أن يتداركها أبو الحسن بحلمه المعهود ، وقد أنكر المسلمون هذا وغيره على عثمان .

ثانياً: عبد الله بن مسعود:

وهو صحابي قديم من هذيل ، التقى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في شعاب مكة ، وكان يرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط ، فاستسقاه النبي وصاحبه لبناً ، فأبى ذلك لأنه مؤتمن على مال غيره ، قال له النبي : فهل عندك شاة لم ينزُ عليها الفحل ؟ فدفع إليه عبد الله شاة عجفاء ، فمسح النبي على ضرعها ، فاحتفل لبناً ، فاحتلب منه وشرب ، وشرب أبو بكر ، فأعجب النبي بأمانته ، وأعجب عبد الله بكرامته ، واستيقظ من غفوته ، وأسرع فيمن أسرع للإسلام ، ونزع إلى القرآن فحفظ منه الكثير ، وجهر به في مكة ، وأوذي في سبيل الله ، وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، وشهد المشاهد كلها مع النبي ، وهو الذي أجهز على أبي جهل فاحتز رأسه وأتى به النبي في بدر ، ولازم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ملازمة جادّة ، وأخذ عنه القرآن ، واشتهر بتفسيره ، وورد عن النبي أنه قال : « من أحب أن يأخذ القرآن غضاً طرياً فليأخذه من ابن أم عبد » .

وتولى خدمة النبي في سفره وحضره ، وكانت منزلته لديه جليلة ، ورآه الصحابة يتسلق شجرة فضحكوا من دقة ساقيه ، فامتعظ النبي من ذلك ، وقال :

« إنهما لأثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد ».

واستعمل عمر عمار بن ياسر أميراً على الكوفة ، وبعث معه عبد الله معلماً ووزيراً ، وقال إنه آثرهم به على نفسه ، وتولى بيت المال في ولاية سعد وظل عليه حتى ولاية الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، فاستقرضه الوليد من بيت المال شيئاً فأقرضه ، وطالبه بالمال فمطل له ، وألح عليه ابن مسعود ، فشكاه الوليد إلى عثمان ، فكتب له عثمان :

« إنما أنت خازن لنا، فلا تعرض للوليد فيما أخذ من بيت المال ».

فألقى ابن مسعود المفاتيح، واعتزل في داره، وبدأت معارضته لعثمان منكراً ما يشاهد من أحداث، ومعرضاً بما رآه من بدع، فقد كان يخطب كل خميس فيقول: « إن أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ».

وكان الوليد يرى في قوله تعريضاً بعثمان ، فيزود عثمان بما يطعنه به ، ويستزيد من عنده ما يشاء ، لا يتحرج من ذلك ولا يتأثم ، حتى أوغر صدر عثمان منه ، فأشخصه إلى المدينة ، ودخلها وعثمان يخطب ، فقال عند دخوله المسجد : « ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقيء ويسلح » .

وكان هذا من عثمان استهزاء أي استهزاء، وإهانة ما بعدها إهانة، واستخفاف بمكانة الرجل، فرّد عليه ابن مسعود: لست كذلك، ولكني صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ويوم بيعة الرضوان. وكان موقف عبد الله فيهما عظيماً ؛ وأنكرت عائشة تهجم عثمان على عبد الله وقالت : « أي عثمان : أتقول هذا لصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » .

وأمر عثمان بإخراجه، فأخرج من المسجد بعنف وقسوة، وضربت به الأرض، فانكسر بعض أضلاعه. فعظم ذلك على المسلمين، واستنكر الإمام علي ذلك، والتفت إلى عثمان قائلاً: « تفعل هذا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الوليد ». فقال عثمان : ما من قول الوليد فعلت هذا ، ولكن أرسلت زبيد بن كثير ، فسمعه يحل دمي . فقال علي عليه السلام : زبيد غير ثقة .

ثم أمر عليٌّ بحمل ابن مسعود إلى منزله ، وهو يعالج أضلاعه ، حتى إذا برئ ، رغب أن يخرج إلى الشام غازياً ، فمنعه عثمان بإشارة مروان قائلاً : إنه أفسد عليك الكوفة ، فلا تدعه يفسد عليك الشام .

وما اكتفى عثمان بهذا الحجز بل قطع عن الرجل عطاءه من بيت المال ، فعاش متكففاً فقيراً ، وازدادت الحال سوءاً بينه وبين عثمان ، فجاهر بالمعارضة حتى لزم فراش المرض الطويل ، فلما دنا أجله خفّ عثمان لعيادته متطلباً عفوه ورضاه ، ولكن الرجل ظل حانقاً محتجاً متبرماً حتى آخر لحظة من حياته ، وجرت بينهما المحاورة الآتية :

قال عثمان له : يا أبا عبد الرحمن ما تشتكي ؟

قال ابن مسعود: ذنوبي.

قال عثمان : فما تشتهي ؟

قال ابن مسعود : رحمة ربي .

قال عثمان : ألا أدعو لك طبيباً ؟

فقال ابن مسعود : الطبيب أمرضني .

وحاول عثمان استرضاءه، وقال له: أفلا آمر لك بعطائك ؟

فقال ابن مسعود : منعتنيه وأنا محتاج له ، وتعطينيه وأنا مستغنٍ عنه .

قال عثمان : يكون لولدك .

فقال ابن مسعود : رزقهم على الله .

واستعطفه عثمان فقال : « فاستغفر لي يا أبا عبد الرحمن » .

فردّه ابن مسعود بداهة : أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي .

فظل عثمان باهتاً، وتولى عنه مسرعاً.

وأوصى ابن مسعود أن لا يحضر جنازته عثمان ، ولا يصلي عليه ، ومات ابن مسعود فلم يؤذن أحد عثمان بموته ، وصلى عليه عمار بن ياسر ، ودفن في كثير من الكتمان ، ومرّ عثمان من الغد بقبر جديد ، فسأل عنه ، فقيل إنه قبر ابن مسعود ، فقال : سبقتموني به ، فقال عمار : إنه عهد إلي بذلك وأوصى أن لا تصلي عليه ، فحقدها عثمان على عمار ، والتفت إلى الحاضرين قائلاً : رفعتم والله أيديكم عن خير من بقي . فلذعه الزبير منشداً :

لا ألفينّكَ بعدَ الموتِ تندبُني ... وفي حياتِي ما زودتَني زادا

ثالثاً: عمار بن ياسر

حليف بني مخزوم ، كان من أوائل المسلمين ، وهو أحد المستضعفين في الأرض مع أبويه : ياسر وسمية ، عذبوا جميعاً في ذات الله ، حرًقوا بالنار ، وعرضوا لشمس مكة المحرقة ، وضربوا بالسياط ، فمات أبوه تعذيباً ، ورميت أمه بحربة كانت فيها روحها الطاهرة ، وكان عذابهم يستدر عطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويستنزل رحمته حتى قال : « اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت » . هاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلى الى القبلتين ، وله فضيلة كبرى ، فهو من القلائل الذين اتخذوا من بيوتهم في مكة مساجد ، فكان له مسجد في بيته يصلي فيه ، وهو الذي فاق أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بناء مسجده في المدينة ، فكان المسلمون يحمل كل منهم لبنة لبنة ، وكان عمار يحمل لبنتين لبنتين ، وشهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبلى في اليمامة بلاءً حسناً ، وولاه عمر أميراً على الكوفة ، فكان مثال الوالي النزيه ، وكان من السابقين إلى أمير المؤمنين ، ينفّذ أمره ، ويتبع خطاه ، وقد نقم على عثمان فيمن نقم : تصرفه اللامحدود في بيت المال ، وأنكر عليه سياسة التولية لقرابته وأسرته ، بلا كفاية في الإدارة ، ولا أمانة على المال ، ولا وازع من تقوى الله تعالى ، وجاهر عمّار في معارضة عثمان بتغيير السنن ، ووضع الأمور في غير مواضعها ، وأنكر التصرف الكيفي في الأموال ؛ فقد أخذ عثمان عقد جوهر نفيساً من بيت المال وحلّى به ابنته ، فغضب المسلمون ونالوا من عثمان ، واستهجنوا استطالته لذلك حتى أحرج ، فخطب ثائراً وقال :

« لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف قوم » . فقال أمير المؤمنين عَليهِ السَّلام : « إذن تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه » .

وقال عمّار : أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك . فقال عثمان : أعليّ يا ابن المتكاء تجترئ ؟ خذوه ، فأخذ وأدخل على عثمان في داره ، فضربه ضرباً موجعاً حتى غشي عليه ، وحمل إلى منزل أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مغشي عليه ، ففاتته صلاة الظهر والعصر والمغرب ، فلما أفاق صلى قضاءً وقال :

الحمد لله ليست هذه أول مرة أوذينا فيها في الله .

واحتجت عائشة على هذا العقاب العرفي ، وأنكرت هذا الإجراء التعسفي ، وأخرجت شيئاً من شعر رسول الله وثوباً من ثيابه ، ونعلاً من نعاله ، وقالت :

هذا شعر النبي وثوبه ونعله لم يبل، وعثمان أبلى سنتّه.

فضج الناس بالبكاء، وارتج على عثمان حتى لا يدري ما يقول.

وكتب المسلمون كتاباً لعثمان ، استعرضوا فيه أعمال عثمان ، وسوء حالة الرعية ، وظلم الولاة ، واحتجان بيت المال، واختاروا عمّاراً أن يوصله لعثمان ، فأوصله إليه ، ففضّه وقرأ شطراً منه ، وقال له : أين أصحاب الكتاب ؟ فقال عمار : تفرقوا خوفاً منك ، فقال عثمان : أعليّ تقدم من بينهم ؟ فقال عمار :

لأني أنصحهم لك ، فجبهه عثمان : كذبت يا ابن سمية !!

فقال عمّار : والله أنا ابن سمية وأبي ياسر ، فغضب عثمان ، وألبه عليه مروان ، وقال لعثمان : إن هذا العبد الأسود قد جرأ عليك الناس، ولو قتلته هابك من وراءه ، فتناول عثمان عصا فضرب بها عماراً ، وأمر غلمانه فطرحوه أرضاً ، وقام عثمان فرفسه برجليه ، على مذاكيره ، وركله ركلاً شديداً ، فأصيب بفتق ورضوض وغشي عليه ، وأخرجوه من الدار وألقوه طريحاً في الطريق العام .

وأنكر المسلمون ذلك ، وعظم عليهم ، وثار هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي ، وقال لعثمان: أما والله لئن مات لأقتلن به رجلاً من بني أمية عظيم الشأن. وكأنه يقصد عثمان بذلك وأفاق عمار، فجاشت نفسه بذكرياتها المريرة، فتذكر ما كان يلقاه على يد طواغيت قريش، فصبر على ذلك، ولكنه أذكى شرارة في نفوس المسلمين لم تخبُ حتى حين.

ولم يكن أبو ذر وابن مسعود وعمار زعماء للمعارضة وحدهم فلست بصددها ، ولكني بصدد موقف الإمام علي عَليهِ السّلام من عثمان وسنأتي علية ، بل أضف إليهم عائشة أم المؤمنين التي نادت : اقتلوا نعثلاً قتله الله ، اقتلوا نعثلاً فقد كفر ؛ وطلحة والزبير أيضاً كانا يترصدان به دائرة السوء ، وحتى البيت الأموي كان به من يمثل هذه المعارضة ، فهذا محمد بن أبي حذيفة ، جده لأبيه عتبة فارس المشركين ببدر ، وهو ابن خال معاوية ، وهو ربيب عثمان في بيته ، وقد وجد نفسه صفر الكف من ولايات عثمان ، وقد غضب لذلك وهاجر إلى مصر ، فكان يحرض الناس على عثمان تحريضاً مرّاً ، يلقى الرجل عائداً من غزو الروم فيسأله : أمن الجهاد قدمت ؟ فيقول : نعم ، فيشير ابن أبي حذيفة إلى جهة الحجاز قائلاً : « أما والله لقد تركنا خلفنا الجهاد حقاً » ويتساءل المسؤول : فأي جهاد تعني ؟ فيقول : جهاد عثمان .

وكان المصريون والكوفيون والبصريون أشد الناس معارضة لعثمان ، وكان جملة من المهاجرين والأنصار في المدينة يقعون بعثمان ، وتألب الجميع على عثمان ، فكانت النهاية المفجعة التي تنبأ بها عمر لعثمان .

المسلمون ينقمون على عثمان ...

والأمصار تتجمع ورأى المسلمون أن عثمان قد عطل حداً من حدود الله عند ما لم يقتص من عبيد الله بن عمر بن الخطاب للهرمزان ، وكان قد أسلم وقتله بأبيه فيما زعم ، ورأوه وقد حمى الحمى لإبل بني أمية ، ورأوه يستخلف أبناء الطلقاء الإمارات الضخمة ، ورأوه يسرف على نفسه وعلى أسرته من بيت المال ، ورأوه يشرّد من يشاء ويبعد من يشاء من صحابة الرسول ، ورأوه غيّر سنة الله في كثير من المواطن ، فقد أقبل السعاة بإبل للصدقة فوهبها عثمان لبعض أبناء الحكم بن العاص ، فسمع عبد الرحمن بن عوف بذلك فاسترّدها وقسمّها بين المسلمين ، فكان أول من اجترأ على عثمان ، وتلقى الأمر عثمان واجماً كاظماً غيظه لا يدري ما يفعل .

كان المسلمون يرون هذا كله ، فتزداد النقمة ، ويستولي الغضب ، ويتعالى الإحتجاج ، وعثمان ساهٍ لاهٍ لا يستجيب لأحد ، ولا يغيّر ما يجب تغييره ، نعم استجاب لأبناء عمومته فألقى الحبل على الغارب ، وفي ذلك إصرار على التجاوز ، وإستهانة بأقدار الناس .

وكان الطامعون في الخلافة يباركون هذا المنحنى في سرائرهم ، وينكرونه في علانيتهم ، وكلٌ يجرّ النار إلى قرصه .

وكان في طليعة هؤلاء طلحة والزبير فهما أشد الناس على عثمان ما في ذلك شك ؛ حتى قال عثمان في طلحة : ويلي على ابن الحضرمية لقد أعطيته كذا وكذا ذهباً ، وهو اليوم يروم دمي ، اللهم لا تمتعه بذلك . وأستتر طلحة بثوب صفيق عن أعين الناس حينما اشتد الحصار بعثمان ، وأخذ يرمي السهام على دار عثمان ، وحينما وقف الحسن والحسين عليهما السلام في باب الدار يمنعون الثوار عن عثمان ، ويحولون بينهم وبين دخول الدار عليه ، أخذ طلحة المهاجمين إلى دار بعض الأنصار فأصعدهم سطحها ، وتسوروا الدار على عثمان وقتلوه .

وكان الزبير يحرض على قتل عثمان مجاهراً فيقول : اقتلوا عثمان فقد بدل سنتكم ، فقيل له : إن ابنك يحامي عنه بالباب ، فقال : ما أكره أن يقتل عثمان ولو بُدئ بابني ؛ إن عثمان لجيفة على الصراط غداً . ولقد مهد الشيخان ـ طلحة والزبير ـ لقتل عثمان في كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة ، حتى أسقطا هيبة الخليفة ، فلقد استولى طلحة على بيت المال ، وعمل له مفاتيح وأمسك بها ، واشتد الناس على عثمان ، فذهب علىٌّ عليه السلام فكسر باب البيت المالي ، ووزع المال على المسلمين ، فتفرق كثير منهم عن شأن عثمان ، وبلغ ذلك عثمان فسّر به كثيراً .

وكان الزبير يمشي بين الناس في التأليب على عثمان ، ويأمر بقتله وهو أحد رجال الشورى ، فيستمع منه هذا ، ويستجيب له ذاك ، حتى أدرك ما يريد .

وكانت عائشة أم المؤمنين تمتلك قلوب الناس وعواطفهم، وتروي لهم وتحدثهم، وتجتمع إليهم فتألبهم، وهم يسمعون منها ويستمعون إليها، ويثقون بها، ويعتمدون عليها، فهي زوج رسول الله

وهي ابنة خليفتهم الأول ، وكانت تقول محرضة على عثمان : اقتلوا نعثلاً فقد كفر . ونعثل هذا أحد يهود المدينة ، وقد كان مفسداً فاستعارت اسمه لعثمان .

وحينما اشتد الحصار على عثمان ، وعلمت مصيره تهيأت للخروج إلى الحج ، فأسفر عثمان لها مروان وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فقالا لها : لو أقمت فلعل الله يدفع بك عن هذا الرجل ، فقالت لهما : قد قرنت ، وأوجبت عليّ الحج ، والله لا أفعل ، فقام عنها مروان وصاحبه ، ومروان ينشد :

وحرَّقَ قيسٌ عليَّ البلادَ... فلمَّا أن اضطرمت أَحجمَا

ثم قالت عائشة : يا مروان إني في شك من صاحبك ، والله لوددت أنه في غرائري هذه وأني أطيق حمله حتى ألقيه في البحر .

والتقت عائشة بعبد الله بن عباس فقالت: يا ابن عباس إياك أن ترّد عن هذا الطاغية وأن تشكك الناس في أمره، فقد بانت لهم مصائرهم، وتحلبّوا من البلدان لأمر قد حمّ.

وعبد الرحمن بن عوف رئيس مجلس الشورى الذي صفق على يد عثمان وبايعه نيابة عن المسلمين ، يقاطع عثمان ، ويغضب عليه ، ولا يكلمه حتى الموت ، وينكر عليه ما أنكر المسلمون ، ويتزايد على ذلك شدة وصرامة ، وقد وضحت الرؤية لديه في عثمان ، فيأتي إلى الإمام علي حاملاً سيفه ، وهو يقول :

هلم يا علي أحمل سيفك لنجاهد عثمان فلا يلتفت إليه عليّ.

قال الطبري : كان عمرو بن العاص ممن يحرض على عثمان ويغري به ، ولقد خطب عثمان يوماً في أواخر خلافته ، فصاح به عمرو بن العاص : اتق الله يا عثمان ، فإنك قد ركبت أموراً وركبناها معك ، فتب إلى الله نتب ؛ فناداه عثمان : وإنك ها هنا يا ابن النابغة ، قملَت والله جبتك منذ نزعتُكَ عن العمل .

ولم يكن عمرو بن العاص صاحب دين ، ولا رجل ورع وتقوى ، ولكنه ذو مآراب واطماع ورجل فتنة ، وقد أورد أبو جعفر الطبري ما يؤيد ذلك ؛ قال :

كان عمرو بن العاص شديد التحريض والتأليب على عثمان ، وكان يقول : والله إن كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان ، فضلاً عن الرؤساء والوجوه . فلما سُعّر الشر بالمدينة خرج إلى منزله بفلسطين ، فبينا هو بقصره ومعه ابناه : عبد الله ومحمد ، إذ مر بهم راكب من المدينة فسألوه عن عثمان ، فقال محصور ، فقال ابن العاص : أنا أبو عبد الله : قد يضرط العير والمكواة في النار ، ثم مر بهم راكب آخر ، فسألوه عن عثمان ، فقال : قتل عثمان ، فقال ابن العاص : أنا أبو عبد الله ، إذا نكأتُ قرحةً أدميتها .

وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار بمشهد وبمسمع من الأحداث ، فلم تمتد لعثمان منهم يد مساعدة تذكر ، فما ذبوّا عنه ولا رفعوا كما ينبغي لهم ، بل بقي الأكثر بين معارض كما رأيت ، وناقم كما شهدت ، ومتفرج على الخطوب وهي تندلع كما يندلع اللهيب ، باستثناء جماعة من المهاجرين ينصحون حيناً كالإمام علي عليه السلام ، ويذبون حيناً آخر كالحسن والحسين عليهما السلام وعبد الله بن الزبير ، ومحمد بن طلحة ؛ وقلة من الأنصار كزيد بن ثابت وكعب بن مالك وحسان بن ثابت ، وأبي أسيد الساعدي وهم لم يغنوا شيئاً عن عثمان .

وكان الأدهى والأمر أن يكتب أصحاب النبي في المدينة إلى أصحاب النبي في الثغور يستقدمونهم لجهاد عثمان حتى ورد قولهم : إنكم خرجتم تطلبون الجهاد ، وإنما الجهاد وراءكم ، فارجعوا إلى المدينة لإقامة الدين والسنة .

ولم تكن الأمصار في منأى عن هذه المعارضة داخل المدينة، فقد أسفروا إليها من يمثلهم، وكانت المناظرات بين عثمان وبينهم شديدة.

فقد سمع جبلة بن عمر وبعض قومه يردون السلام على عثمان ، فقال : أتردون على رجل فعل كذا وكذ ، ثم أقبل نحو عثمان وفي يده جامعة من حديد فقال له « والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه » فقال عثمان : أي بطانة ؟ فوالله إني لا أتخير الناس ، فقال جبلة : « مروان تخيرته ، ومعاوية تخيرته ، وابن عامر تخيرته ، وابن أبي سرح تخيرته ، منهم من نزل القرآن بذمّه ، وأباح رسول الله دمه » .

وكانت حجة جبلّة قوية ، وتشخيصه لإنكار الناس دقيقاً ، فسكت عثمان لا يدري ما يقول ، فأردف جبلّة قائلاً : « والله لأقتلنك يا نعثل ، ولأحملنك على قلوص جرباء ، ولأخرجنك إلى حرة الناس » .

وتسامع الناس بالحدث ، فلاقى هوى في نفوسهم ، فازدادوا سخطاً على عثمان ، وتجرأوا عليه ؛ وكان أهل البصرة قد اختاروا رجلاً زاهداً من بني العنبر اسمه عامر بن عبد القيس ، يمثلهم في النكير على عثمان ، فأدخل عليه ، وقال :

« يا أمير المؤمنين: إن أناساً من الصحابة اجتمعوا فنظروا في أعمالك، فوجدوك قد ركبت أموراً عظاماً، فاتقِ الله عز وجل، وتب إليه، وانزع عنها ».

فالتفت عثمان إلى من حوله وقال : انظروا إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارئ ، ثم هو يجيء فيكلمني في المحقرات ، فوالله ما يدري أين الله .

وكانت هذه إستهانة بالرجل أيما إستهانة بالرجل؛ فقال العنبري : أنا لا أدري أين الله ؟

فقال عثمان: نعم والله ما تدري أين الله. فقال الرجل: « بلى والله؛ إني لأدري أن الله بالمرصاد لك يا عثمان » وخرج الرجل من عثمان ساخطاً متبرماً، وانتشر حديثه في الآفاق.

ولم تكن البصرة وحدها قد أنكرت على عثمان أعماله ، فقد شاركتها الكوفة النكير لا سيما في عهد سعيد بن العاص القائل : إن السواد بستان لقريش ، والعامل بخلاف السنة ، والمنتهك لحرمة الإسلام ، فأنكر عليه أقواله وأعماله مالك الأشتر والنخع بعامة ، ومالك بن كعب الأرحبي ، والأسود بن يزيد النخعي ، وعلقمة بن قيس ، وصعصعة بن صوحان ، وزيد بن صوحان ، وثابت بن قيس الهمداني ، وكميل بن زياد النخعي ، وجندب بن زهير الغامدي ، وجندب بن كعب الأزدي ، وعروة بن الجعد ، وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهم ، وهؤلاء شيوخ أهل الكوفة فقهاً ورواية وقراءة وزعامة وزهداً وتقشفاً ، فكتب سعيد بن العاص بهم إلى عثمان ، فأمره بتسييرهم إلى الشام ، وكتب إلى معاوية :

إن نفراً من أهل الكوفة قد هموا بإثارة الفتنة، وقد سيرتهم إليك فانههم، فإن أنست منهم رشداً فأحسن إليهم وارددهم إلى بلادهم.

فقدموا على معاوية، وجرت بينه وبينهم أحداث وخطوب، فكتب لعثمان بإخراجهم من الشام خشية إفسادها ، فسيرهم عثمان إلى حمص ، وواليها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فأغلظ لهم ، وأذاقهم سوء العذاب ، وعنفهم ، حتى ظن أنهم قد أقلعوا عما هم عليه ، أو من أجل أن لا يتحمل جريرتهم ، فكتب إلى عثمان بردهم إلى الكوفة ففعل بعد هن وهن ، وعادوا إلى الكوفة ، فأطلقوا ألسنتهم على عثمان .

وكانت مصر من أشد المعارضين لحكم عثمان وبطانة عثمان ، يؤلبها محمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة ، وقد صحت عزيمتهما في منابذة عثمان ، فسار محمد بن أبي بكر فيمن سار إلى المدينة من المصريين ، وأقام محمد بن أبي حذيفة بمصر ، واستولى عليها ، وخلع ابن أبي سرح منها ، وكانت هذه الحركة منه فيها كثير من الجراءة على عثمان ، والإستهانة بسلطانه .

وكانت الأقطار الثلاثة : البصرة ، الكوفة ، مصر ، قد خلعت طاعة عثمان ، وتوافد فرسانها إلى المدينة ، فاختلطوا بالناقمين على عثمان من المدينة ، وكان هوى أهل البصرة في طلحة وقد توافدوا على المدينة بقيادة حكيم بن جبلة العبدي ، وعلى الجميع حرقوص بن زهير السعدي ، وكان هوى أهل الكوفة منقسماً بين علي والزبير ، وقد خرجوا بألفين من فرسانهم فيهم : مالك الأشتر وزيد بن صوحان ، وزياد بن النضر الحارثي ، وعبد الله بن الأصم الغامدي .

وكان هوى أهل مصر في علي ، وخرجوا بألفين بإمارة أبي حرب الغافقي ، وعبد الرحمن بن عديس البلوي ، وكنانة بن بشر الليثي ، وسودان بن حمران السكوني ، وقتيرة بن وهب السكسكي . فنزل أهل البصرة ذا خشب ، ونزل أهل الكوفة الأعوص ، ونزل أهل مصر المروة ؛ وكلها مواضع قرب المدينة ، فهم قد تجمعوا خارج المدينة ، وهم يتطلعون أخبار المدينة ، وهم يتشاورون مع أهل المدينة .

ورأى جماعة من المهاجرين والأنصار الفتنة تقترب ، فأنكروا أعمال عثمان ، ولاموا عماله ، وقرروا أن ينتزعوا علياً عَليهِ السَّلام من عزلته ، ليكون سفيرهم إلى عثمان ، عسى أن يجعل الله على يديه فرجاً مما نزل بالمسلمين ، وقد أحسنوا بذلك صنعاً ، فما امتنع علي عَليهِ السَّلام عن ذلك ، بل سعى إليه راغباً بالإصلاح بين أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخل عليّ عَليهِ السَّلام على عثمان وبدأ معه الحديث رقيقاً ممتعاً يثير الإعجاب ، وقال لعثمان :

« إن الناس ورائي ، وقد استسفروني بينك وبينهم ، والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلك على أمر لا تعرفه ، إنك تعلم ما نعلم ، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغه ، وما خصصنا بأمر دونك . وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك ؛ ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك ، وإنك أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحماً ، ولقد نلت من صهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم ينالا ، ولا سبقاك إلى شيء . فالله الله في نفسك ؛ فإنك والله ما تبصّر من عمى ، ولا تعلم من جهل ، وإن الطريق لواضح بيّن ، وإن أعلام الدين لقائمة .

تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هُدي وهدى. فأقام سنة معلومة ، وأمات بدعة متروكة . فوالله إن كلاً لبيّن ، وإن السنن القائمة لها أعلام ، وإن البدع القائمة لها أعلام ، وأن شر الناس عند الله إمام جائر ضَلَّ وضُلّ به ، فأمات سنة معلومة ، وأحيا بدعة متروكة . وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :

« يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور كما تدور الرحى، ثم يرتطم في غمرة جهنم ».

وإني أحذرك الله ، وأحذرك سطوته ونقماته ، فإن عذابه شديد أليم . وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فإنه يقال : « يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويلبس أمورها عليها ، ويتركهم شيعاً فلا يبصرون الحق لعلو الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً ، فلا تكونن لمروان سيقة يسوقك حيث شاء » .

وسمع عثمان كلام علي ولم يستمع إلى نصحه، فلفّ ودار في الجواب، فكان حواراً كالآتي:

قال عثمان لعلي : قد والله علمت ليقولن الذي قلت ، أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك ولا أسلمتك ولا عِبتُ عليك ، ولا جئت منكراً أن وصلتُ رحماً ، وسددت خلّة ، وأويتُ ضائعاً ، ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولي ، أنشدك الله يا علي : هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك ؟ قال : نعم . قال فتعلم أن عمر ولاه ؟ قال : نعم . قال عثمان : فلم تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته ؟ قال علي سأخبرك إن عمر بن الخطاب كان كل من وليّ فإنما يطأ على صماخه ، إن بلغه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية ، وأنت لا تفعل ، ضعفت ورققت على أقربائك .

قال عثمان: هم أقرباؤك أيضاً. فقال علي: لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرهم. قال عثمان : تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها فقد وليته ، فقال علي : انشدك الله هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه ؟ قال : نعم . فقال علي : فإن معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها ، فيقول للناس هذا أمر عثمان ، فيبلغك ولا تغيّر على معاوية .

وكانت هذه السفارة جديرة أن يفيد منها عثمان درساً قيماً ، فقد صور له الإمام بإيجاز إنكار المعارضة في الفيء والتولية ، وكان الجواب أنهم رحم وأقرباء ، ولكنه ما أفاد منها شيئاً ، ولا التفت إليها بل وجد في نفسه على الإمام ، ووجد في نفسه ولسانه على الناس ، فخرج إلى المسجد ، وخطب خطبته النارية التي عنف بها كثيراً ، وتطرف كثيراً ، وخالف فيها سجيته في اللين والرّقة ، فاستمع إليها الثائرون ، وتفرقوا عنها مصممين على قتله دون شك ، فقد جلس على المنبر ، وقال بلهجة صارمة وحدة غير متوقعة :

« أما بعد فإن لكل شيء آفة ، ولكل أمر عاهة ، وإن آفة هذه الأمة ، وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون ، يرونكم ما تحبون ، ويسرون ما تكرهون ، يقولون لكم ويقولون ، أمثال النعام يتبعون أول ناعق ، أحب مواردها إليها البعيد ، لا يشربون إلا نغصاً ، ولا يردون إلا عكراً ، لا يقوم لهم رائد ، وقد أعيتهم الأمور ، وتعذرت عليهم المكاسب ، ألا فقد والله عبتم عليّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ، ولكنه وطأكم برجله ، وضربكم بيده ، وقمصكم بلسانه ، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم ، ولنت لكم وأوطأت لكم كنفي ، وكففت يدي ولساني عنكم ، فاجترأتم علي . أما والله لأنا أعز نفراً ، وأقرب ناصراً ، وأكثر عدداً ، وأقمن إن قلت هلم أُتي إلي ، ولقد أعددت لكم أقرانكم وأفضلت عليكم فضولاً ، وكشرت لكم عن نابي ، وأخرجتم مني خلقاً لم أكن أحسنه ، ومنطقاً لم أنطق به . فكفوا عليكم ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم ، فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا ، ألا فما تفقدون من حقكم ، والله ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي ، ولم تكونوا تختلفون عليه ، فَضَل من مال ، فمالي لا أصنع في الفضل ما أريد ؟ فَلِم كنت إماماً » .

وهم مروان بن الحكم أن يتكلم فنهره عثمان قائلاً :

« أسكت لاسَكّتَ ، دعني وأصحابي ، ما منطقك في هذا ؟ ألم أتقدم إليك أن لا تنطق » .

فوجم الإمام علي والصحابة الذين معه من هذا المنطق ، وخرجوا آيسين من إصلاح عثمان وصلاحه ؛ واعتزل عليُّ الفتنة لو استطاع إلى ذلك سبيلاً .

تفاقم الأمر على عثمان ومصرعه:

وتفاقم الأمر على عثمان ، فقد تألبت عليه الأمصار ، وقد أجلب عليه البعيد والقريب ، وقد ملّ الناس وعده الماطل ووعيده النازل ، وقد ترك نصح بقية المهاجرين والأنصار ، وقد نصحه علي عَليهِ السَّلام وبالغ في الجهد فما إنتصح ، فما عليه إلا أن يشاور رجاله الأثيرين عنده والمقربين لديه ، وكان يلتقي عماله وولاته في الموسم من كل عام فيسمع منهم ويسمعون منه ، فلما لقيهم سنة أربع وثلاثين جمعهم للمشورة ؛ وكان في طليعتهم : معاوية ، وعبد الله بن عامر ، وابن أبي سرح ، وسعيد بن العاص ، فقال لهم عثمان :

« إن لكل أمير وزراء ونصحاء ، وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي ، وقد صنع الناس ما قد رأيتم ، وطلبوا إليّ أعزل عمالي ، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون ، فاجتهدوا رأيكم » .

وكان أمر هذا الشيخ عجباً في أوله وآخره ، كيف يترك رأي عليّ وذوي السابقة في الإيمان والهجرة ، ويستند إلى هؤلاء ممن عرف بالغدر والمكر والدخل ، ممن لا يغنون عن الحق شيئاً ، ولا يتألمون من الباطل إقترافاً وإجتراحاً ، وليسوا بأمناء على دنيا ولا دين ، وممن نقم عليه الناس إستهتارهم و استئثارهم ، وهم الداء فكيف يتطلب منهم الدواء . ومهما يكن من أمر ، فقد أشار عليه معاوية أن يكفيه امراءُ الأجنادِ الناس ، وأن يكفيه هو الشام .

وأشار ابن أبي سرح أن يعطي الناس المال ويتألفهم . وأشار سعيد بن العاص عليه أن يقتل قادة المعارضة فإن لكل قوم قادة متى يهلكوا يتفرقوا ، ولا يجتمع لهم أمر. وأشار عبد الله بن عامر : أن يشغل الناس بالجهاد ويوجههم للثغور .

وبهذا الرأي الأخير عمل عثمان ، ورد العمال إلى أمصارهم ، وأمرهم بالشدة وإرسالِ الناس إلى الغزو والحرب ، وأمرهم بتجهيز البعوث ، وحرمان الناس من أُعطياتهم إن عصوا .

فاستقبل المسلمون ذلك بالنقمة ، ورأوا فيه شراً مستطيراً ، فلما دخلت سنة خمس وثلاثين ، تكاتب أعداء عثمان وبني أمية في البلاد ، وحرّض بعضهم بعضاً على خلع عثمان عن الخلافة ، وعزل عماله عن الأمصار على حد تعبير الطبري . وتداعى الناس لذلك فدعا عثمان علياً وطلحة والزبير فحضروا وعنده معاوية فتكلم كلاماً لم يرضِ المجتمعين ، فنهره علي فسكت مغضباً ، ورفق عثمان وهدّأ الموقف بتلبية طلب الجماعة باسترداد ما أعطى لعبد الله بن خالد بن أسيد من مبلغ قدره خمسون ألف دينار لبيت المال ، وما أعطى لمروان من مبلغ قدره خمسة عشر ألف دينار ، كبداية لردّ الظلامات واستصلاح الحال ، فهدأت الخواطر شيئاً ما ، ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة . فقد قدم المدينة ثائرون من الكوفة كما أسلفنا ، وتبعهم ثائرون من البصرة ، وإذا بالمصريين يرسلون وفداً ضخماً في رجب سنة خمس وثلاثين ليناظر عثمان ، والتقوا به في قرية خارج المدينة فناظروه وحكّموا المصحف بينه وبينهم ، فأقنعهم عثمان ظاهراً ، وخرج إلى المسجد الجامع ، وخطب فأثنى على المصريين ، وانصرف المصريون راضين أول الأمر .

واستنجد عثمان بعلي عَليهِ السَّلام ومحمد بن مسلمة ، فأنجداه بالوساطة الكريمة ، ووعدهم برفع المظالم ، وقضاء الحوائج ، والإنتصاف من العمال والولاة ، ولكن مروان أفسد الحال ، ورّد الناس ردّاً عنيفاً ، وكانت هنالك أحداث ومحاججات ، وكان هناك غدر بالعهود والمواثيق ، حتى بلغ السيل الزبى ، فخرج المصريون في ستمائة فارس فأتوا علياً ، فصاح بهم وطردهم ، وأتى البصريون طلحة فشايعهم بذلك ، وأتى الكوفيون الزبير فمالئهم .

وتعقدت الأمور تعقداً عجيباً وسريعاً أيضاً ، فقد تداعى الثائرون من أهل الأمصار بالمدينة ، ونادوا بالأمان لمن كفَ يده ، وحصروا عثمان في الدار ، فاستنجد عثمان بأمراء الأجناد للمنع عنه ، والذب دونه ، فتراخى معاوية ، وتربص ابن أبي سرح ، وتثاقل عبد الله بن عامر ، وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو لنجدة عثمان ، فلما انتهى الخبر إلى الثائرين ، جمعوا أمرهم ، واستقر رأيهم على خلع عثمان وعلى قتل عثمان أيضاً .

وخرج عثمان يوم الجمعة يصلي بالناس ، فوعد وأوعد وهدد وأنذر ، ووعظ وذكر ، فجبهه حكيم بن جبلة ، وقتيرة بن وهب ، وثار القوم بعثمان وحصبوه حتى صُرع مغشياً عليه ، وأدخل داره ، واستقتل نفر دونه ، منهم : الحسن بن علي عليهما السلام ، وسعد بن أبي وقاص ، وزيد بن ثابت كما يقول ابن أبي الحديد .

وأقبل عليّ عَليهِ السَّلام ، وطلحة والزبير ، فدخلوا على عثمان يعودونه من صرعته ، فأساء مروان لعلي فقام مغضباً هو ومن معه .

وتدهورت الحالة ، وساءت الأوضاع جداً ؛ فقد مُنِعَ عثمان من الصلاة ، وأقام الثائرون أبا حرب الغافقي زعيم المصريين للصلاة ، ثم منعوا الماء عن عثمان حتى اشتد به العطش هو واهله ، ثم إن أهل المدينة تفرقوا عنه ، ولزموا بيوتهم ، فكان لا يخرج أحد منهم إلا بسيفه يمتنع به ، واستمر حصار عثمان أربعين يوماً كما يقول الطبري .

وزجر عليّ عَليهِ السَّلام الثائرين فقال : إن الذي تصنعون ليس صنيع المؤمنين ولا صنيع الكافر ، وإن الفرس والروم ليأسرون فيطعمون ويسقون . واستطاع عليّ بالقوة والزجر، ولمكانته في النفوس، أن يدخل الماء على عثمان ومن في الدار. وهي نجدةُ ما بعدها نجدةٌ في عرف القوم.

وتداعى جماعة بني أمية لحماية عثمان ، واستقلت طائفة من أبناء المهاجرين والأنصار في الدفاع عن عثمان ، وكان في طليعتهم الحسن والحسين عليهما السلام ، وعبد الله بن عمر ، وعبد بن الزبير ، ومحمد بن طلحة ، وكان أميرهم ابن الزبير .

وكان علي عَليهِ السَّلام يدفع عن عثمان قدر المستطاع ، ولكن الثورة كانت عارمة ، والمدينة محكومة بالثوار ، والثوار لا يحكمهم أحد ، واستجار به عثمان ، وقال له : لك منزلة عند الناس ، وهم يسمعون منك ، وأحب أن تركب إليهم فتردهم عني ، فإن في دخولهم عليّ وهناً لأمري وجرأة عليّ ، فقال عليهِ السَّلام :

إني كلّمتك مرة بعد أخرى ، فكل ذلك تخرج وتقول ، وتعد ثم ترجع ، وهذا من فعل مروان ومعاوية وابن عامر وعبد الله بن سعد ، فإنك أطعتهم وعصيتني .

فقال عثمان : فإني أعصيهم وأطيعك .

وتدارك عليٌّ ما استطاع من الفتنة، فأمر الناس أن يركبوا معه، فركب ثلاثون من المهاجرين والأنصار، فكلم عليّ الناس، فاستمع إليه أغلبهم، وأمر عثمان: بأن يتكلم بكلام يسمعه الناس، ويعدهم به بالتوبة، وقال له عليّ:

« إن البلاد قد تمخضت عليك ، ولا آمن أن يجيء ركب من جهة أخرى ، فتقول لي يا علي : إركب إليهم ، فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك ، وإستخففت بحقك » .

فاستجاب عثمان لتوجيه علي عَليهِ السَّلام ، وخطب الناس ، ووعد بتنحية مروان وذويه ، وتداعى الناس إلى باب عثمان ، لردّ الظلامات ودفع الحقوق كما وعد ، فنهاه مروان عن ذلك ، واستقبل الناس بالزجر والسباب ، ورجع الناس خائبين .

ووجم الإمام علي لما حدث ، فقال :

« أي عباد الله ، يالله للمسلمين ، إني إن قعدت في بيتي قال لي : تركتني وخذلتني ، وإن تكلمت فبلغت له ما يريد ، جاء مروان فتلعب به ، حتى صار له سيقة ، يسوقه حيث يشاء ، بعد كبر السن وصحبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وقام مغضباً من فوره حتى دخل على عثمان ، وقال له :

« أما يرضى مروان منك إلا أن يحرفك عن دينك وعقلك ، فأنت معه كجمل الضعينة يقاد حيث يسار به ، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا عقله ، وإني لأراه يوردك ولا يصبرك ، وما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أفسدت شرفك ، وغُلبت على رأيك ... ثم نهض .

وكان هذا آخر دخول لعلي على عثمان.

ولقد صح ما توقعه الإمام ، فقد سلّم عثمان الأمر كله إلى مروان ، فَتلعبَ به مروان كما قال الإمام ، وأورده موارد الهلكة ولم يصدره ، فلم يكن ذا دين ، ولم يكن ذا رأي ، ولم يكن ذا منزلة .

وتطورة الأحداث تطوراً سريعاً ، فالمصريون يكتشفون أنبوبة رصاص مع رسول عثمان إلى مصر ، وفي الأنبوبة صحيفة تأمر الوالي بالقتل أو الصلب وبالنفي والتشريد لجملة من المصريين ، وعثمان بين ذلك يثني على المصريين ويعد علياً بأن ينصف الناس من نفسه ومن عماله ، ومروان يفسد الأمر عليه ، وعثمان يقول لعلي : لست آمن الناس على دمي فارددهم عني ، فإني أعطيهم ما يريدون من الحق من نفسي ومن غيري ، فيقول له علي عَليهِ السَّلام :

« إن الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك ، وإنهم لا يرضون إلا بالرضا ، وقد كنت أعطيتهم من قبل عهداً فلم تفِ به ، فلا تغرر في هذه المرة ، فإني معطيهم عنك الحق » .

قال عثمان : إعطهم فوالله لأفين لهم . فما أعطاهم عثمان شيئاً ولا وفى لهم.

وعلم الثائرون أن لا شيء بيد عثمان ، لا عزل ولا منع ، ولا دفع مظلمة ، وإشتدّ الحصار بعثمان ، وإشتدّ الثائرون بمطالبهم ، وإستعجل الأمويون القتال ، واستعجل الثائرون القتال أيضاً ، فقد بلغهم أن الإمداد في طريقه إلى المدينة ، وإذا وصل الإمداد من الأقطار إلى المدينة ، فسيدخلون حرباً مع أنصار عثمان لا مع عثمان .

والحق أنه عمال عثمان قد غدروا بعثمان ، فقد تباطؤوا عنه دون شك ، وقد أسلموه للقتل راغبين ، فكأنهم جميعاً قد تواطؤوا على ذلك ، ويمكن أن تكون تلك خطة مدروسة مبرمجة يترأسها معاوية ، ليتسلم الحكم فيما بعد ، فيُقتل عثمان ويطالب هو بدم عثمان ، فيكون ولي الدم المسفوك ، وهكذا كان ، وإلا فما يدرينا ما مغزى قول معاوية لحبيب بن مسلمة الفهري ، وهو يجهزه للخروج إلى نصرة عثمان ، فيأمره بالمرابطة حول المدينة ، ويعهد إليك مؤكداً أن لا يتقدم عن ذلك شبراً ، ويقول له :

« هذا أمري فلا تتقدم وتقول: يرى الحاضر ما لا يرى الغائب، فأنا الحاضر وأنت الغائب ».

وما بال المسلمين في الموسم لم يهبوا لنجدة عثمان وهو محصور، وكان عثمان قد أمر ابن عباس على الحج على الحج وكتب معه كتاباً يستنجد به الناس، وما بال والي مكة من قبل عثمان لم يسعفه بشيء على قرب المسافة.

لا أشك أن مؤامرة سرية بقيادة معاوية بن أبي سفيان كانت وراء هذا التقاعس الغريب عن نصرة عثمان أو الدفاع عنه ، وكان الأمر يدار بخفاء وكتمان حتى يقتل عثمان ، وينهض من ينهض بطلب ثأره ، وقد كان الأمر هكذا ، فقد علم معاوية أن الناس لا يعدلون بعلي أحداً ، وإذا كان كذلك كان الطلب بثأر عثمان ، وسيلة من الوسائل للإستيلاء على الحكم ، وقد أنطلت هذه اللعبة على المغفّلين ، ورفع معاوية ـ فيما بعد ـ قميص عثمان ، ولكنه بعد إستيلائه على الحكم لم يذكر عثمان بشيء ، ولا طالب بدم عثمان ، بل لم يعرف حتى أبناء عثمان ، واستأثر بالملك وحده .

ومهما يكن من أمر ، فقد تَسَوَرَ الثائرون على عثمان الدار ، وقد دعاه رجل يسمى نيار بن عياض الأسلمي ، وهو صحابي ، دعا عثمان ووعظه ونصحه وأعذر إليه ، وأمره بخلع نفسه ، وإنه لفي ذلك إذ رمي بسهم أو حجر فقتل .

فنادى الثائرون: ادفع لنا يا عثمان قاتل صاحبنا فنقيد منه، فقال عثمان: ما أعرف له قاتلاً فأدفعه إليكم، أأدفع إليكم رجلاً ذبّ عني وأنتم تريدون قتلي.

فاستشاط الثائرون غضباً ، واقتحموا الدار اقتحاماً مروعاً من غير بابها ، لأن الإمام الحسن بن علي عليهما السَّلام كان مرابطاً في باب الدار يحامي عن عثمان ، وهجم الثائرون هجوماً جنونياً على الدار ، ينهبون ما فيها ، ويحرقون أبوابها ، وخرج أهل الدار يقاتلون ، فجرح عبد الله بن الزبير جراحات بليغة ، وصرع مروان حتى ظن به الموت ، وقتل آخرون وهم يدافعون عن عثمان ، وانتهى الأمر بقتل عثمان بصورة شنيعة لا أسيغ تفصيلها .

وبقتل عثمان فتح على المسلمين باب شر عظيم ، فقد أنقسم المسلمون شِيّعاً وأحزاباً ، وتضعضعت هيبة الحكم ، ووهن سلطان الإسلام ، وأصبح حكم المدينة بيد الثائرين لا طول لأحد فيها ولا حول .

وقد أوجز عليّ عَليهِ السَّلام أمر عثمان والناس بقوله:

« استأثر فأساء الأثرة ، وجزعتم فأسأتم الجزع ، ولله حكم واقع في المستأثِر والجازع » (2) .

وهذا من أبلغ الكلام وأفصحه في تصوير الحال.

_________________

(1) سورة التوبة ، الآية : 34 .

(2) ظ : في نصوص هذا الفصل ووقائعه التأريخية والسياسية كلاً من :

ابن الأثير | الكامل في التأريخ + الأمين الحسيني العاملي الشقرائي | أعيان الشيعة + البلاذري | أنساب الأشراف + الجاحظ | البيان والتبيين + إبن حجر | الصواعق المحرقة + ابن أبي الحديد | شرح نهج البلاغة + هاشم معروف | سيرة الأئمة الأثني عشر + ابن خلدون | تأريخ ابن خلدون + إبن سعد | الطبقات + الطبراني | المعجم الكبير + الصدوق | الخصال + الطبرسي | مجمع البيان + الطبري | تأريخ الرسل والملوك + طه حسين | الفتنة الكبرى + إبن أبي طيفور | بلاغات النساء + عبد الفتاح عبد المقصود | الإمام علي + أبو الفدا | المختصر في أخبار البشر + ابن قتيبة | الإمامة والسياسة + قدامة بن جعفر | الخراج وصنعة الكتابة + القندوزي | ينابيع المودة + الدسوقي | أيام طه حسين + المسعودي | التنبيه والأشراف + المفيد | الإرشاد + المفيد | الافصاح في إقامة علي بن أبي طالب + أبو نعيم | حلية الأولياء + الواقدي | المغازي | اليعقوبي | التأريخ .




العرب امة من الناس سامية الاصل(نسبة الى ولد سام بن نوح), منشؤوها جزيرة العرب وكلمة عرب لغويا تعني فصح واعرب الكلام بينه ومنها عرب الاسم العجمي نطق به على منهاج العرب وتعرب اي تشبه بالعرب , والعاربة هم صرحاء خلص.يطلق لفظة العرب على قوم جمعوا عدة اوصاف لعل اهمها ان لسانهم كان اللغة العربية, وانهم كانوا من اولاد العرب وان مساكنهم كانت ارض العرب وهي جزيرة العرب.يختلف العرب عن الاعراب فالعرب هم الامصار والقرى , والاعراب هم سكان البادية.



مر العراق بسسلسلة من الهجمات الاستعمارية وذلك لعدة اسباب منها موقعه الجغرافي المهم الذي يربط دول العالم القديمة اضافة الى المساحة المترامية الاطراف التي وصلت اليها الامبراطوريات التي حكمت وادي الرافدين, وكان اول احتلال اجنبي لبلاد وادي الرافدين هو الاحتلال الفارسي الاخميني والذي بدأ من سنة 539ق.م وينتهي بفتح الاسكندر سنة 331ق.م، ليستمر الحكم المقدوني لفترة ليست بالطويلة ليحل محله الاحتلال السلوقي في سنة 311ق.م ليستمر حكمهم لاكثر من قرنين أي بحدود 139ق.م،حيث انتزع الفرس الفرثيون العراق من السلوقين،وذلك في منتصف القرن الثاني ق.م, ودام حكمهم الى سنة 227ق.م، أي حوالي استمر الحكم الفرثي لثلاثة قرون في العراق,وجاء بعده الحكم الفارسي الساساني (227ق.م- 637م) الذي استمر لحين ظهور الاسلام .



يطلق اسم العصر البابلي القديم على الفترة الزمنية الواقعة ما بين نهاية سلالة أور الثالثة (في حدود 2004 ق.م) وبين نهاية سلالة بابل الأولى (في حدود 1595) وتأسيس الدولة الكشية أو سلالة بابل الثالثة. و أبرز ما يميز هذه الفترة الطويلة من تأريخ العراق القديم (وقد دامت زهاء أربعة قرون) من الناحية السياسية والسكانية تدفق هجرات الآموريين من بوادي الشام والجهات العليا من الفرات وتحطيم الكيان السياسي في وادي الرافدين وقيام عدة دويلات متعاصرة ومتحاربة ظلت حتى قيام الملك البابلي الشهير "حمورابي" (سادس سلالة بابل الأولى) وفرضه الوحدة السياسية (في حدود 1763ق.م. وهو العام الذي قضى فيه على سلالة لارسة).