أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-1-2017
2594
التاريخ: 13-9-2019
2130
التاريخ: 27-8-2018
4927
التاريخ: 7-11-2016
1701
|
لم يكن العرب يعيشون في الجاهلية معيشة واحدة؛ فقد عرفت الزراعة في الجنوب والشرق وواحات الحجاز مثل يثرب وخيبر والطائف ووادي القُرى. وعاش أهل مكة على التجارة؛ إذ كانوا يحملون عروضها وسلعها بين حوضي المحيط الهندي والبحر الأبيض. وكانت قوافلهم تجوب الصحراء شمالًا وجنوبًا في طرق معلومة، كما كانت تجوبها شرقًا في طريقين معروفين: طريق إلى الخليج الفارسي من شرقي مكة وكان يمر بمدينة الرياض الحالية، وطريق ثان كانوا يذهبون فيه شمالًا إلى خيبر، ثم يخترقون الصحراء في وادي الرمة، ويظن أنه كان مجرى نهر في عصور ما قبل التاريخ، ومنه يهبطون إلى الحيرة. وكان يصحبهم في هذه القوافل أدلاء يحمونهم الضلال في مجال الصحراء (1)، ومن أشهرهم فرات بن حيان، كما كان يصحبهم خفراء يحمون قوافلهم من ذؤبان البادية وقراصنتها أو صعاليكها الذين تعودوا النهب والسلب(2)، وقد يبلغون ثلاثمائة عدا، ومن أهم القبائل التي كانوا يخشون ذؤبانها قبيلتا هذيل وفهم. وكانوا ينقلون من الجنوب: من اليمن وحوض المحيط الهندي وإفريقية والصمغ والعاج، كما كانوا ينقلون من الطائف الزبيب ومن مناجم بني سليم الذهب؛ كل ذلك كانوا ينقلونه إلى حوض البحر الأبيض ويعودون محملين بالأسلحة والقمح والزيوت والخمر والثياب القطنية والكتانية والحريرية(3).
فمكة في الجاهلية كانت مدينة تجارية عظيمة، وكان بها الكعبة أكبر معابد العرب حينئذ؛ فكانوا يحجون إلى أصنامهم وأوثانهم فيها، وتقيم لهم قريش الأعياد والأسواق كسوق عكاظ(4)، وكانت أكبر أسواقهم، وكانوا يقيمونها في نجد بالقرب من عرفات منذ منتصف ذي القعدة إلى نهايته، ولم تكن سوق تجارة فحسب؛ بل كانت سوقًا للخطابة والشعر أيضًا، .... وقالوا: إنه كانت تقام للنابغة فيها قبة، ويفد عليها الشعراء يعرضون شعرهم؛ فمن أشاد به طار اسمه. وكثيرًا ما كانوا يفتدون الأسرى فيها وتدفع الديات، وأيضًا كثيرًا ما كانت تقوم المفاخرات والمنافرات. وعُرف غير واحد بأن الناس كانوا يحتكمون إليه فيها، ويذكر في هذا الصدد أناس من تميم مثل الأقرع بن حابس. ومعنى ذلك كله أن عكاظًا كانت أشبه بمؤتمر كبير للعرب، فيه يجتمعون وينظرون في خصوماتهم ومنازعاتهم، وكل ما يتصل بهم من شئون. ومن أسواق قريش أيضًا ذو المجاز بالقرب من عكاظ، وكانت تظل هذه السوق منعقدة إلى نهاية الحج.
وبجانب هاتين السوقين الكبيرتين كان للعرب أسواق أخرى كثيرة يمترون فيها ما يريدون ويشترون ويبيعون، ومن أهمها سوق دومة الجندل في شمالي نجد وسوق خيبر وسوق الحيرة وسوق الحجر باليمامة، وسوق صحار ودبَا بعمان، وسوق المشقر بهجر وسوق الشحر، وسوق حضرموت، وسوق صنعاء وعدن ونجران. وكان لكل سوق من هذه الأسواق وقت معلوم تعقد فيه(5).
ولم يكن عرب نجد يفيدون من هذه الأسواق فقط البيع والشراء؛ فإن قوافل عروضها القرشية وغيرها كانت تجعل لكثيرين منهم جُعلًا نظير حمايتها، وكانت تتخذ منهم الخفراء والأدلاء، فتنفحهم بأموالها. على أنه ينبغي أن لا نظن أن أهل مكة جميعًا كانوا أثرياء؛ فقد كان بجانب الأثرياء فقراء وصعاليك كثيرون، وكان الفرق شاسعًا بين ثراء السيد الشريف وفقر المعوز البائس، كما كان بها رقيق كثير.
ووراء المجتمع المكي كان يعيش البدو في تهامة ونجد وصحراء النفود وبوادي الشام والدهناء والبحرين معيشة بدوية تعتمد على رعي الأغنام والأنعام، وكانوا لا يفضلون شيئًا على حياتهم الرعوية البدوية، لا يفضلون الزراعة ولا الصناعة؛ بل يحتقرونهما ويزدرونهما، فلا حياة مثل حياتهم حياة البساطة والحرية التي لا تُحدّ. ووقفت الصحراء تحميهم وتحرس تقاليدهم ولغتهم وتقيم أسورًا من دونهم ودون هذه الحياة الصحراوية، وهي حياة كان غذاؤهم فيها بسيطًا، فقليل من الشعير يكفيهم، وإذا أضيف التمر واللبن؛ فذلك غذاء رافه، وكان لباسهم بسيطًا كغذائهم، وهو ليس أكثر من ثوب طويل يضمه في وسطه منطقة، وقد تلفه عباءة، وغطاء للرأس يمسكه عقال.
ولكن لا تظن أن هذه الحياة البسيطة كانت سهلة، فقد كانت الصحراء مليئة بالمخاوف والمخاطر؛ إذ فيها غير قليل من الوحوش والسباع والحشرات والحيات، وفيها القفار الجرداء الزاخرة بالخنادق والمهاوي ورياح السموم، وفيها حنادس الليل المظلم المخيف التي كانت تلقي في روعهم بالخيالات والأوهام وما تمثل لهم من السعالي والجن والغيلان. وفي تضاعيف ذلك كان العرب يتربص بعضهم ببعض؛ إذ كانت حياتهم كما قدمنا حياة حربية دامية، وكاد أن لا يكون هناك حي أو عشيرة بل أسرة إلا وهي واترة موتورة.
وقد تحولت هذه الحياة الحربية من بعض وجوهها إلى مصدر من مصادر رزقهم؛ إذا كانوا يتخذون الغزو وسيلة من وسائل عيشهم، وهو عيش مشوب بالضنك والشظف وهذا الصراع العنيف الذي كانوا يخوضونه ضد مخاطر الصحراء ومن يترصدهم من الأعداء، وصوَّر ذلك تصويرًا طريفًا تأبط شرًّا في كلمة له(6) فقال:
يظل بموماة ويُمسي بغيرها جحيشًا ويعــــروري ظهــــور المهــــالـك(7)
ويسبق وفد الريح من حيث نتحــــي بمنخـــــرق من شــــدة المتـــدارك(8)
إذا خاط عينيه كرى النوم لم يــــزل له كالئ من قلـــب شيحــان فاتــك(9)
ويجعـــل عينيه ربيئــــة قلبـــه إلــى سلـــة من حــــد أخضــر بـــاتك(10)
إذا هـــزَّه في عَظْــــمِ قِـــرْن تهلـلت نَواجِذُ أفواه المنايا الضواحِـــــكِ(11)
يرى الوحشةَ الأُنس الأَنيس ويهتدي بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك(12)
وتلك كانت حياة أكثرهم؛ فهم يقطعون مفازة في النهار، فإذا جَنَّهم الليل وجدتهم في مفازة أخرى وقد ركبوا ظهور المهالك والمعاطب؛ لا يستصحبون رفيقًا غالبًا سوى أرجلهم التي تعودت العدو السريع. وهم دائمًا مفزعون حتى في النوم؛ فإذا ناموا لم ينم قلبهم بل ظل يكلؤهم ويرعاهم خيفة عدو راصد من وحش أو إنسان؛ بل إن النوم لا يكاد يلم بعيونهم إلا غرارًا، فهي معلقة بسيوفهم التي لا تلبث أن تستقر في صدور من يهجمون عليهم، فيضحك الموت، ويكشر عن أنيابه الغلاظ.
وعلى هذه الشاكلة هم دائمًا مستوحشون؛ بل إنهم ليؤثرون الوحشة ويستحبونها إذ يرون فيها الأُنس، فأنسهم في التفرد بالفلوات والقفار التي تمرسوا بها وعرفوا مسالكها ودروبها معرفة تجعلهم لا يضلون قصدهم كما لا تضل الشمس قصدها؛ بل يهتدون دائمًا إليه.
وهذه الحياة القاسية المخوفة هي التي دفعتهم إلى الإشادة باحتمال الشدائد والجرأة والشجاعة، فإن القبيلة إن لم يكن لها حماة يذودون عنها تخطفتها القبائل من حولها وفنيت فيها. وكان أهم حيوان أعانهم على احتمال هذه الحياة المجهدة البعير الذي يتحمل -مثلهم- مشاق الصحراء ولا يرهقه عطش ولا جوع ولا ما يحمله من أثقال؛ فهو رفيقهم المفضل الذي يوافقهم؛ ولذلك طالما أشادوا به في شعرهم وكثيرًا ما يصفون معه الحيوانات التي تصادفهم من مثل أُتن الوحش وحمارها وبقر الوحش وثورها والنعام والظباء. وكان فرسانهم ينفقون أيامهم على صهوات الجياد يرتادون بها مجاهل الصحراء ويلقون عليها الأعداء، وقد يتخذونها لصيد الوحش على نحو ما يصور لنا ذلك امرؤ القيس في معلقته وزهير في لاميته(13).
وكان صيد الحيوان الشغل الشاغل لكثيرين منهم؛ فكانوا يدربون الكلاب عليه ويضرُّونها تضرية، حتى تصبح من الجوارح الفاتكة، وفي شعرهم قطع كثيرة تصف المعارك التي كانت تنشب بينها وبين الأتن وحمارها أو البقر وثورها. وفي معلقة لبيد وصف بارع لأتن وحمارها، ثم لبقرة وحشية تعقبها الرماة بنبلهم، ولما يئسوا أن يصيبوا منها مقتلًا أرسلوا في إثرها جوارح الكلاب فنشبت معركة حامية قتلت فيها البقرة كلبتين هما كساب وسخام، يقول:
حتي إذا يئس الرماة وأرســــلوا غُضْفًا دواجنَ قافلًا أعصامها(14)
فلحقن واعتكرت لـــها مدريـــة كالسمهرية حدها وتمـــامهــــا(15)
لتذودهن وأيقنت إن لـــم تذد أن قد أحم مع الحتـوف حمامهـــا(16)
فتقصدت منها كساب فضرجت بدم وغودر في المكر سخامها(17)
ولأوس بن حجر قصيدة فائية(18) وصف فيها حمار الوحش وصفًا بديعًا، ثم وصف الصائد وصفًا مسهبًا، أرانا فيه ناموسه وكيف كان يختبئ للوحش على عين؛ حتى إذا ورد الحمار ختله بسهمه؛ غير أنه أخطأه.
ويظهر أن صيد الوحش لم يكن هم شجعانهم وفرسانهم؛ إنما كان هم فقرائهم ومعوزيهم، ولذلك كان يأتي في المرتبة الثانية من غزوهم ونهبهم اللذين يدلان على بطولتهم واستبسالهم، ولعل ذلك ما جعل عمرو بن معد يكرب يهجو قومًا بأنهم يعيشون على الصيد، إذ يقول(19):
أبني زياد أنتم في قومكم ذنـــب ونحن فــــروع أصــل طيـــب
نَصِلُ الخميس إلـــى الخميـــس وأنتم بالقهر بين مربق ومكلب(20)
حيد عن المعروف سعى أبيهـم طلب الوعول بوفضة وبأكلــب(21)
وكما كانوا يصيدون الوعول أو الماعز الجبلي كانوا يصيدون الوحش، ويتردد وصفهم له في أشعارهم ترددًا واسعًا، وهو تردد أتاح للجاحظ في حيوانه سيولًا من هذه الأشعار.
وتلك كانت معيشتهم بين صيد للوحش وصيد للإنسان ورعي للأنعام والأغنام؛ فتلك موارد رزقهم، وليس معنى ذلك أنهم كانوا متساوين في هذا الرزق؛ فقد كان في كل قبيلة السادة الذين يملكون مئات الإبل والفقراء الذين لا يملكون شيئًا. وتحول كثير من هؤلاء الفقراء إلى قطاع للطرق يسلبون وينهبون ويقتلون على نحو ما هو معروف عن تأبط شرًّا والشنفري وأضرابهما. وما كان يقوم به هؤلاء الذؤبان أو الصعاليك كانت تقوم به القبائل برمتها أحيانًا حين تكفّ السماء عنهم غيثها وتجدب ديارهم وتُمحل؛ فلا يكون أمامهم سوى الغزو وشن الغارات، ولعل ذلك هو الذي دفعهم دفعًا إلى الإشادة بالكرم والكرماء، وقد أشادوا طويلًا بهذه الفضيلة كما أسلفنا، وهي إشادة طبيعية في هذه الصحراء المقفرة المهلكة، التي يحفُّ بها المحل والجدب من كل جانب.
___________
(1) المغازي للواقدي "طبع كلكتا" ص 36، 196، والمحبر ص 189.
(2) المحبر ص264.
(3) انظر مكة في دائرة المعارف الإسلامية.
(4) راجع في تحقيق عكاظ رسالة بعنوان موقع عكاظ لعبد الوهاب عزام "طبع دار المعارف".
(5) انظر في أسواق الجاهلية كتاب المحبر ص 263. واليعقوبي 1/ 313 وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 4/ 223.
(6) المزروقي 1/ 95 وأمالي القالي 2/ 138 وزهر الآداب 2/ 18.
(7) يظل هنا: يغدو، الموماة: الفلاة، جحيشًا: منفردًا، يعروري: يركب
(8) وفد الريح: أولها، ينتحي: يقصد.
منخرق: سريع يقصد العدو السريع الشد: العدو، المتدارك: المتلاحق.
(9) خاط عينيه كرى النوم: نام، الكالئ، الرقيب، الشيحان: الجاد في الأمر.
(10) الربيئة: الرقيب والديدبان، والسلة: الواحدة من سل السيف، والأخضر: السيف، والباتك: القاطع.
(11) القرن: الكفء والنظير، تهللت: تلألأت وأشرقت
(12) أم النجوم: الشمس
(13) انظر ديوان زهير ص124 وما بعدها.
(14) الغضف: الكلاب المسترخية الآذان، الدواجن: الضاريات وقيل المعلمات وقافلًا: يابسًا، والأعصام: قلائد من أدم تجعل في أعناق الكلاب
(15) اعتكرت: رجعت وعطفت، والمدرية القرون الحادة، والسمهرية: الرماح.
(16) الحمام: الموت، وأحم: حان.
(17) تقصدت: قتلت من قولهم رماه فأقصده.
(18) انظر ديوانه بتحقيق محمد يوسف نجم "طبع دار صادر ببيروت" رقم 30
(19) حيوان 2/ 309.
(20) الخميس: الجيش. المربق: الصائد بالربقة وهي العروة في الحبل، والمكلب: الصائد بالكلاب.
(21) الوفضة: جعبة للسهام من أدم.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|