أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-03-13
1506
التاريخ: 23-3-2022
2380
التاريخ: 24/12/2022
1912
التاريخ: 25-3-2021
3321
|
تنويه :
ومن الرذائل الأخلاقية الاخرى في منظومة القيم هي صفة (الجُبن) والخوف غير المنطقي والّذي يورث الإنسان الذلّة والمهانة والسقوط ويحطّ من قدر صاحبه ويتلف طاقاته ما كان منها بالفعل أو بالقوة ويفضي به إلى أن يتسلط عدوه عليه.
والنقطة المقابلة لهذه الصفة الذميمة هي (الشجاعة) والشهامة والجرأة والّتي تُعد مفتاحاً للنصر والفلاح في حركة الإنسان الإجتماعية وعنصر العزّة والعظمة للمجتمع البشري سواءاً في ميدان الحرب والجهاد أو في ميدان السياسة والاجتماع وحتّى في الميادين العلمية فإنّ الشجاعة تُعتبر مفتاحاً للورود إلى هذه الميادين ، ومن هذا المنطلق نجد أنّ علماء الأخلاق أطنبوا في ذكر هاتين الصفتين (الجبن والشجاعة) وبيّنوا أسبابها ونتائجها وآثارها على حياة الفرد والمجتمع.
وورد في كتب القدماء من علماء الأخلاق أنّ الشجاعة هي أحد الأركان للفضائل الأربعة ، وبالمقابل ذكروا الجبن باعتباره أحد الرذائل الأربع أيضاً.
وورد في سيرة الأنبياء العظام واتباعهم الحقيقيين ما يجسد هذه الصفة وأنّ هؤلاء العظماء كانوا مظهراً من مظاهر الشجاعة واسطورة للمقاومة والتصدي للباطل وقوى الانحراف وخير قدوة لجميع الناس في هذا الطريق.
وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي دروساً في هذه الفضيلة الأخلاقية وما يترتب من الآثار السلبية على صفة الجبن أيضاً.
1 ـ نقرأ في قصة إبراهيم (عليه السلام) قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ* قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ* قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ* قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ* وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ* فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ)([1]).
2 ـ وبالنسبة إلى موسى بن عمران (عليه السلام) نقرأ قوله تعالى : «يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنّى لَا يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ» ([2]).
3 ـ ونقرأ عن طالوت وجنوده الشجعان : (... فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ* وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)([3]).
4 ـ وبالنسبة إلى أصحاب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والفئة الشجاعة من المؤمنين معه وكذلك من يدّعي الايمان نقرأ قوله تعالى : (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً * ... وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً)([4]).
5 ـ ونقرأ في مكان آخر قوله تعالى :
(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)([5]).
6 ـ وحول جماعة من انصار النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول تعالى :
(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * ... إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)([6]).
7 ـ (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)([7]).
تفسير واستنتاج :
الأنبياء والشجاعة
تتحدّث «الطائفة الاولى» من الآيات محل البحث عن شجاعة النبي إبراهيم (عليه السلام) بطل التوحيد مقابل عبدة الأصنام من قومه الّذين كانوا يعيشون التعصّب واللجاجة والخشونة ، وتشير الآيات إلى هذا النبي العظيم وكيف انه تصدّى لأقوى سلطة في تلك الفترة لوحده ومن دون أن يكون له ناصر من قومه ، في مقابل كثرة الأعداء الغاضبين والذين كانوا يمثلون خطراً عليه حيث كانوا يتمتعون بدعم الحكومة والسلطة في ذلك الزمان.
وقد عبّرت الآيات الكريمة عن ذلك بقولها : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ)([8]).
وفي الواقع فإنّ الله تعالى قد وهب لإبراهيم مؤهّلات كثيرة تمنحه القدرة على تحمّل تلك المسؤولية العظيمة والاستفادة من هذه المواهب والقابليات في خطّ تقوية دعائم الإيمان والتوحيد والتصدّي للعامل الأساس في شقاء البشرية ، أي عبادة الأصنام والأوثان ، وكما سيأتي في سياق هذه الآيات الشريفة أنّ إبراهيم ابتدأ أوّلاً بدعوة عمّه آزر للإيمان بصراحة اللهجة وتمام القوّة وقال له : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ).
وعند ما أجابه آزر بالقول : (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ).
فأجابه إبراهيم (عليه السلام) : (قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
إنّ آزر لم يكن يصدّق لحدّ الآن أنّ إبراهيم سوف يتصدى بهذه الصراحة والجدّية لمقاومة هذه الأصنام الّتي يعبدها الجميع ولذلك سأله : (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ).
ولكن إبراهيم (عليه السلام) أجابه أنّه جادٌّ في كلامه هذا وقال : (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).
ثمّ أضاف : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ)([9]).
وهكذا ترجم إبراهيم (عليه السلام) قوله في ميدان العمل بعد أن استغلّ الفرصة المناسبة لذلك ، فكسّر الأصنام جميعها إلّا الصنم الأكبر لعلّهم يثوبون إلى رُشدهم أو يرجعون الى الصنم الاكبر المسبب لهذه الحادثة ليسألوه كما تقول الآية : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ)([10]).
وهناك اختلاف بين المفسّرين في مرجع الضمير في قوله (إليه) في ذيل الآية ، وقد أورد
المفسّرون احتمالات عديدة ، فذهب البعض إلى أنّه يعود إلى (كبيرهم) أيّ يرجعون إلى الصنم الكبير ويسألونه عن سبب تحطّم وانهدام هذه الأصنام والسبب في نجاته هو من بينهم ، وطبيعي أنّ هذا الصنم سيعجز عن الجواب ، ومن هنا يتضّح لهم خواء معتقدهم.
والاحتمال الآخر هو أنّ الضمير يعود إلى (إبراهيم) يعني أنّ الوثنيين يرجعون إلى إبراهيم ويسألونه عن الدافع الّذي حمله على هذا التصرّف ، فيوضّح لهم الحقائق (وطبعاً في هذه الآية تكون جملة (إلّا كبيراً لهم) عديمة التأثير في مفهوم الآية بخلاف الاحتمال السابق).
الاحتمال الثالث : أن يعود الضمير إلى الله تعالى ، أي أنّ مشاهدة ضعف هذه الأصنام وذلتها في مقابل إنسان واحد سيؤدي إلى أن يثوب الوثنيون إلى رشدهم ويتركوا عبادة الأصنام ويتجهوا إلى الله تعالى ويسلكوا خطّ العبادة والتوحيد.
(وهذا التفسير أيضاً يرد عليه الإشكال السابق).
ولكن الأنسب من الجميع لسياق الآيات هو التفسير الأوّل.
وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآيات تشير إلى أنّ أحد الفضائل الأخلاقية للأنبياء اولي العزم هو شجاعتهم المنقطعة النظير ، وأنّهم لم يكونوا يشعرون بالخوف إلّا في دائرة الإيمان بالله تعالى وفي مقابل الذات المقدسة ، وفي هذا الطريق لم يكونوا يعيشون التردّد والخوف والضعف بأي شكل من الأشكال ، وبالتالي فهم منزّهون ومطهَّرون عن حالة الجُبن والخوف الّذي يُعد رذيلة أخلاقية كبيرة ، ولهذا نجد إبراهيم (عليه السلام) وهو يتصدّى لجماعات الوثنيين وقوى الانحراف والأعداء الشرسين لوحده وينتصر عليهم أخيراً ، ولا شكّ أنّ الأنبياء العظام لو كانوا يعيشون حالة الخوف والجُبن في حركة الحياة فإنّهم لم يكونوا قادرين على أداء مهمّتهم الرسالية والانتصار على الأعداء.
وتتحرك «الآية الثانية» من موقع توجيه الخطاب للنبي موسى بن عمران ، وذلك لمّا نزل عليه الوحي لأول مرّة وقد صدر له الأمر بأن يُلقي عصاه الّتي تحوّلت بإعجاز إلهي إلى ثعبان عظيم ، فخاف موسى من هذه الظاهرة العجيبة وقرّر الفرار ، إلّا أنّ الخطاب الإلهي جاءه ليعلّمه أوّل درس أخلاقي تجاه الحوادث وقال : (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)([11]).
ونظراً إلى أنّ جميع أنحاء العالم هي في محضر الله تعالى وإن كلّ زاوية من زوايا الكون هي محلّ حضور ذاته المقدسة وعلمه وقدرته ، ولذلك على المؤمنين أن لا يخافوا بأيّة حال وفي كلّ الظروف بل عليهم أن يعيشوا حالة التوكل على الله تعالى ويواجهوا تحديات الواقع بشجاعة وشهامة ، ويسيروا بهذه الروح المعنوية في خطّ الرسالة وتحقيق الأهداف المقدسة.
وطبقاً لما ورد في سورة القصص في الآية (31) أنّه قيل لموسى : (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ).
فشعر موسى بهذا الخطاب الإلهي بالطمأنينة والسكينة تدغدغ أعماق قلبه واستعاد قوته ورباطة جأشه ، وهنا جاءه النداء الإلهي يحمل دستوراً أكبر وأهم ، وهو أنّ لا يكتفي بعدم الخوف من هذا الثعبان العظيم بل يجب أن يتجه إليه ويأخذه بيده حتّى يعود إلى حالته الاولى! (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى)([12]).
ومن المعلوم أنّ هذا العمل كان يمثل لموسى الصعوبة البالغة ، ولكنه نجح أخيراً في الإمتثال والإذعان لهذا الأمر الإلهي.
أجل فإنّ على موسى أن يستوعب التجربة الكبيرة في محضر الذات المقدّسة ليقف أمام ثعبان أكبر وأخطر من هذا ، أي فرعون والملأ من قومه وحكومته الجبارة الّتي يجب أن يأخذها موسى منهم كما يأخذ عصاه.
الكثير من المفسّرين ذهبوا في تفسير كلمة (جان) في الآية أعلاه تعني صغار الحيّات الّتي تهجم على الشخص بسرعة ، في حين أنّه في مكان آخر تتحدّث الآيات عن عصى موسى الّتي ألقاها أمام الفراعنة بكلمة (ثعبان) بمعنى الحيّة العظيمة ، ولهذا السبب فقد احتمل البعض أنّ العصى في بداية أمرها تبدّلت إلى حيّة صغيرة وتدريجياً تحوّلت إلى ثعبان عظيم.
وذهب آخرون إلى أنّ (العصا) تبدلت إلى حيّة عظيمة ، ولكنها من جهة سرعة الحركة فهي كالحية الصغيرة السريعة.
والملفت للنظر أنّ جملة (لا تخف) وردت في القرآن الكريم تسع مرّات ، وفي خمسة موارد كان المخاطب فيها موسى بن عمران ، ولعلّ ذلك بسبب أنّ موسى كان يعيش بين أعداء كثرة وشديدى الخطورة كفرعون وهامان والملأ ، ويجب أن يعد العدّة بمثل هذا الخطاب الإلهي لمواجهة هؤلاء الأعداء.
وتستعرض «الطائفة الثالثة» من الآيات الكريمة قصة (طالوت) وقومه من بني إسرائيل والّذي انتخبه نبيّهم في ذلك الوقت (إشموئيل) بعنوان قائد جيش بني إسرائيل لمواجهة (جالوت) وجيشه الظالم.
وعند ما أراد طالوت مواجهة جالوت وقتاله قام بعملية اختبارية لجيشه ليطهره من الشوائب وضعفاء النفوس والجبناء ، الّذين قد يُفضي وجودهم في جيشه إلى سريان الجبن والضعف في سائر مفاصل جيش بني إسرائيل.
أجل فعند ما كان جيش طالوت يشعر بالعطش الشديد وصلوا إلى نهر ، فأراد طالوت أن يختبر جنوده العطاشى هناك وقال : كلّ من يشرب من هذا الماء فليس منّا ، وامّا من قاوم العطش ولم يشرب إلّا رشفات فهو منّا ، ولكن أغلب أفراد الجيش الّذين كانوا من الجبناء وضعفاء النفوس لم ينجحوا في هذا الامتحان والاختبار وشربوا من الماء إلّا عدة قليلة بقوا أوفياء لطالوت ، فهؤلاء كانوا يعيشون روح الشجاعة والقوّة والبسالة حيث قالوا في دعائهم : (... رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)([13]).
وهكذا أنزل الله تعالى نصره وعنايته ورحمته على هذه الفئة القليلة من المؤمنين ونصرهم على جيش جالوت العظيم ببركة شجاعتهم وثباتهم في مواجهة التحدّيات والاختبارات الصعبة.
ونقرأ في «الآيات التالية» أنّ القرآن الكريم يتحدّث عن جبن طائفة من المنافقين وضعفاء الإيمان في عصر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وفي حرب الأحزاب ، ويتحدّث كذلك عن شجاعة بعض المؤمنين الحقيقيين وثبات قدمهم في مواجهة الأعداء الشرسين حيث تقول الآية : (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً)([14]).
وطبعاً فإنّ ميدان القتال في معركة الأحزاب كان يغص بجيوش الأعداء وكثرة عددهم وعُدتهم بحيث يستوحش من هذا المنظر الرهيب كلّ الأشخاص الّذين يعيشون الاهتزاز في شخصيتهم والخوف والرعب في واقعهم.
ولكن كما تقول الآية (22) من هذه السورة أنّ المؤمنين الحقيقيين الذين كانوا يعيشون الطمأنينة والثقة بوعد الله إزدادوا إيماناً : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً)([15]).
واللطيف انه يُستفاد من بعض الروايات أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أجاز للمنافقين وضعفاء الإيمان والجبناء بأن يعودوا إلى المدينة ، لأن بقائهم في تلك الظروف العصيبة مع جيش الإسلام لا ينفع شيئاً سوى بث الرعب والضعف والتخاذل في قلوب الآخرين.
ولهذا السبب نقرأ في الآية (47) من سورة التوبة في حديثها عن جماعة من هذه الطائفة : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً).
ومعلوم أنّ كلمة (خَبَل) و (خبال) تعني الإضطراب والترديد الناشيء من ضعف العقل وعدم القدرة على اتخاذ الموقف والعزم على شيء ، وكلّ ذلك ناشيء من الخوف والجُبن الّذي يقود الإنسان إلى ارتباك الفكر وعدم التوازن في اتخاذ الموقف.
وفي «الآية الخامسة» نواجه منظراً جديداً من شجاعة أصحاب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، الشجاعة الّتي تنطلق من موقع الإيمان بالله تعالى ، حيث أنّ هؤلاء المؤمنين يرون أنفسهم في ميدان الحرب على مفترق طريقين وكليهما يؤدّيان بهما إلى الجنّة ورضا الله تعالى : طريق يؤدي إلى الشهادة وبالتالي السعادة العظمى في الحياة الآخرة ، والآخر يقودهم إلى النصر على العدو ، وهو أيضاً مبعث الفخر والاعتزاز لهم في الدنيا والآخرة ، في حين أنّ العدو محكوم بالهزيمة والخسران بأيّة حال ، فإما الموت الذليل والمهين في هذه الدنيا ، أو عذاب الله في الآخرة.
وبديهي أنّ الشخص الّذي يعيش هذه الرؤية فإنه سوف لا يدع أيّ خوف وضعف يتسرّب إلى قلبه ، وبذلك يتخلّص الإنسان من هذه الرذيلة الأخلاقية الكبيرة ، وفي ذلك تقول الآية : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)([16]).
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنّ العامل الأساس لانتصار المسلمين في حروبهم الحاسمة في ذلك العصر هو الشجاعة المنطلقة من الإيمان بالله والمنطق الرصين : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ).
وتأتي «الآية السادسة» لتستعرض وجهاً آخر من شجاعة هؤلاء المؤمنين في معركة احد ، ونعلم أنّ المسلمين في معركة احد قد أصابتهم الهزيمة النكراء بسبب غفلة طائفة من المسلمين الطامعين بحطام الدنيا الّذين تركوا مواقعهم الحسّاسة واشتغلوا بجمع الغنائم ، وهكذا اصيب المسلمون في هذه المعركة بخسائر كبيرة ، وطبقاً لما ورد في التواريخ أنّ الأعداء المنتصرين في أثناء عودتهم من ميدان القتال إلى مكّة ندموا على رجوعهم هذا واتفقوا مرّة اخرى أن يعودوا إلى المدينة ليستفيدوا من هذه الفرصة الثمينة ويُجهزوا على الإسلام والمسلمين ويتخلّصوا منهم إلى الأبد.
فعند ما سمع نبي الإسلام بذلك اتخذ موقفاً مهماً جداً ، حيث أمر جيش الإسلام بالخروج لمواجهة جيوش الأعداء ولم يستثن أحداً من المسلمين حتّى من به جراحة بسبب المعركة الدامية الّتي جرت قبل قليل.
هذا الأمر النبوي اثّر أثره بشكل كبير وأحلّ الرعب والخوف والاضطراب في صفوف الأعداء بحيث إنهم رجّحوا الاكتفاء بالانتصار النسبي والعودة إلى مكّة على الهجوم الثاني على المسلمين ، وهكذا تخلّص المسلمون من شرّهم.
والآية محل البحث تشير إلى هذا المعنى وتثني على شجاعة المسلمين وتقول : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ)([17]).
ثمّ تتحدث عن إيمانهم وشجاعتهم واصفة حالتهم المتماسكة في مقابل الارهاب الاعلامي للأعداء الّذي يتحرك من موقع التهويل والتخويف وتقول : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)([18]).
وهذه هي الحادثة الاولى من نوعها في تاريخ الحروب البشرية حيث لم يشاهد في تاريخ البشرية أنّ المجروحين يعودون فوراً إلى ميادين القتال ليساهموا في دفع خطر الأعداء ، أجل إن هذه الشجاعة والشهامة الفريدة هي التي اجهضت مؤامرة العدو ، وهذا الحضور القوي والسريع إلى الميدان هو الّذي زرع اليأس في قلبه.
وعلى أية حال فإنّ واقعة «حمراء الأسد» كانت ظاهرة عجيبة بدّلت حلاوة النصر لدى قريش إلى مرارة ، وبيّنت لهم أنّ المسلمين بالرغم من هزيمتهم بسبب زيغ جماعة منهم ، إلّا أنّهم ما زالوا ثابتين في الميدان وأنّ على العدو أن يتوقع ضربات المسلمين في المستقبل.
وبهذا أثرت هذه الواقعة ليس فقط في التصدي إلى هجوم الأعداء ودفع الخطر ، بل في وضع الأساس لانتصارات لاحقة ، وتطهير ما علق في النفوس من آثار سلبية للانتكاسة في احد ، ومنح المسلمين الأمل في حياتهم الجديدة بالتوكل على الله تعالى.
ويستفاد من الآية الشريفة أعلاه أنّ عملية الارهاب الاعلامي الّذي قام به بعض الشياطين لبث الرعب والخوف في قلوب المسلمين من جيوش قريش ، ليس فقط لم يؤثر في زعزعة إيمانهم وثقتهم بالله تعالى وبالإسلام ، بل إزداد إيمانهم واشتدت ثقتهم بالله وتوكلهم عليه ، كلّ ذلك كان بسبب أنّهم كانوا يعيشون الثقة بوعد الله وصدق النبي الأكرم وأنّهم لو عملوا بارشادات النبي في واقعة احد فإنّ النصر سيكون حليفهم لا محالة.
ومن عجائب هذه الواقعة هو أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أمر المسلمين الّذين اشتركوا في احد فقط بالحضور إلى حمراء الأسد دون غيرهم ، لكي يفهم العدو أنّ جيش المسلمين في احد ما زال قوياً رغم وجود الكثير من الجرحى في صفوفه ، وما زال مستعداً للقتال دون ضعف وفتور رغم استشهاد العديد من ابطاله وأفراده ، وهذا هو الّذي أخاف الأعداء وزرع الخوف والقلق في قلوبهم.
ونقرأ في الآيات اللاحقة وفي الآية 175 من هذه السورة إشارة للتفاوت بين الأفراد الّذين يعيشون الخوف والجبن وبين المؤمنين الّذين يعيشون الشجاعة والتوكل ، حيث تقول الآية : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
ونستوحي من هذه الآية الشريفة أنّ مثل هذا الخوف يتّسم بصفة شيطانية والغرض منه تضعيف روحية المؤمنين واهتزاز معنوياتهم واتخاذ موقف انفعالي أمام تحديات الظروف وبالتالي التهرب من ضغط المسؤولية والتكليف ، والحال أنّ المؤمنين الحقيقيين لا يشعرون بالخوف إلّا من الله تعالى.
وطبقاً لهذه العبارات الواردة في الآية الشريفة فإنّ الجبن يمتد في جذوره إلى عناصر الشر في واقع الإنسان في حين أنّ الشجاعة تسترفد مقوماتها من عنصر الإيمان وتعدّ من معطياته وثماره ، لأن المؤمن وبالتوكل على الله القادر المطلق يرى نفسه منتصراً في جميع الميادين. أما الأشخاص الّذين يعيشون الاهتزاز في إيمانهم ويعتمدون على قدراتهم الذاتية فإنّهم منهزمون على أية حال لما يروا من محدودية قدراتهم وهزال امكاناتهم ، ولذا يستولي عليهم الخوف والاضطراب أمام تحديات الواقع ومشكلاته المتزايدة.
لقد تكاتفت قوى الشر والانحراف في واقعة «حمراء الأسد» لإظهار قوّة جيش قريش وتفخيمها بأكبر حجم لإخافة المؤمنين والقاء الرعب في قلوبهم ، إلّا أنّ القرآن الكريم يقرر أنّ أولياء الشيطان واتباعه هم الّذين يتأثرون بهذه المظاهر الخدّاعة ، بينما يعيش أولياء الله الثبات والاستقامة في خط الحقّ والرسالة ([19]).
وتنطلق «الآية السابعة» والأخيرة من الآيات مورد البحث للتذكير بهذه الحقيقة ، وهي أنّ إحدى صفات المبلّغين الرساليين هي طهارتهم من رذيلة الجبن والخوف من غير الله تعالى ، وتقول : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)([20]).
إن تبليغ الرسالة الإلهية من أهم وظائف الأنبياء والمرسلين ، وهذا لا يتسنى إلّا بخلو النفس من أية شائبة من شوائب الخوف والجبن والتردد.
هذه الآية الشريفة الناظرة إلى الأنبياء الماضين تحذّر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالدرجة الاولى ، واتباعه المخلصين بالدرجة الثانية من مغبة الشعور بالخوف والتردد حين إبلاغ الرسالات السماوية وأنّ عليهم أن لا يخشون أحداً إلّا الله تعالى ، ومفهوم هذا الخطاب القرآني هو أنّ الأشخاص الجبناء والّذين يعيشون الخوف والتخاذل في الموقف غير لائقين لتولي هذه المهمة وأداء هذه الرسالة.
وذهب بعض المفسرين إلى أنّ هذه الآية تدلّ على أنّ الأنبياء الإلهيين لا ينبغي لهم استعمال التقية ، ولكن هذا الرأي إنما يكون صحيحاً إذا فسّرنا التقية بمعناها السلبي من الخوف والخشية من المخالفين ، والحال أنّ التقية لا تستوحي مقوماتها من الخوف دائماً ، بل قد تكون بدافع من الحرص على جذب المخالفين إلى سواء السبيل وإيصال الناس إلى الغايات الإلهيّة بصورة تدريجية ، ولعلّ قول إبراهيم (عليه السلام) «هذا ربي» أمام الوثنيين من قومه كان من هذا القبيل (فتأمل).
النتيجة النهائية :
تبيّن من خلال استعراضنا لجملة من الآيات الكريمة أهمية الشجاعة والشهامة في حركة الإنسان المؤمن ، ودور هذه الفضيلة الأخلاقية في صياغة مصير الإنسانية على المستوى المادي والمعنوي ، وكذلك تبيّن في الجهة المقابلة الآثار السلبية لرذيلة الجبن وعواقبها السيئة على حياة الإنسان.
وصحيح أنّ هذه الآيات الكريمة لم تفصل البحث عن الشجاعة والجبن بصورة مستقلة وبشكل مباشر ، إلّا أنّها أشارت إلى دور هذه المفاهيم الأخلاقية في حياة الإنسان بشكل ضمني وببيان دقيق وجميل.
الجبن والخوف في الروايات الإسلامية :
ونقرأ انعكاساً واسعاً في الأحاديث الشريفة لهذه الرذيلة الأخلاقية من موقع الذم والتحذير الشديد من الاتصاف بها ، من قبيل :
1 ـ يقول الإمام الباقر (عليه السلام) : «لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَاناً وَلَا حَرِيصاً وَلَا شَحِيحاً» ([21]).
ويستفاد جيداً من هذا التعبير أنّ «الخوف» و«الحرص» و«البخل» لا تنسجم مع روح الإيمان ، لأنّ المؤمن يتوكل في جميع اموره على الله تعالى ، ومن كان يملك مثل هذا الأساس المتين في حركة الحياة لا يمكن أن يعيش الخوف ولا البخل ولا الحرص ، لأنّه يعيش الأمل برحمة الله وفضله فلا يتعلق قلبه بشيء من حطام الدنيا.
2 ـ وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «الْجُبْنُ وَالْحِرْصُ وَالْبُخْلُ غَرَائِزُ سُوءٍ يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ سُبْحَانَهُ» ([22]).
وهذا الحديث في الحقيقة بيان آخر لما ورد في الحديث السابق حيث يبيّن الجذور الأصلية لهذه الصفات الرذيلة.
3 ـ وقد نهى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) اتباعه من استشارة الجبناء لأن خوفهم يؤثر في صياغة الرأي ويبعده عن جادة الصواب : «لَا تُشْرِكَنَّ فِي رَأْيِكَ جَبَاناً يُضَعِّفُكَ عَنِ الْامْرِ وَيُعَظِّمُ عَلَيْكَ مَا لَيْسَ بِعَظِيمٍ» ([23]).
ونفس هذا المعنى ورد في عهد الإمام لمالك الاشتر بشكل آخر حيث نهى الإمام علي مالك الاشتر عن مشورة البخلاء والجبناء والحريصين.
4 ـ وهذا الموضوع إلى درجة من الأهمية بحيث إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر بعدم اشتراك الأفراد الجبناء في أي جهاد ضدّ المشركين لئلّا يُضعفوا معنويات الآخرين ، فقال : «مَنْ احَسَّ مِنْ نَفْسِهِ جُبناً فَلَا يَغْزُ».
5 ـ وفي حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يوضّح الحديث أعلاه ويقول بصراحة : «لَا يَحِلُّ لِلْجَبَانِ انْ يَغْزُو ، لِانَّهُ يَنْهَزِمُ سَريِعاً وَلَكِنْ لِيَنْظُرَ مَا كَانَ يُرِيدُ انْ يَغْزُوَ بِهِ فَلْيُجَهِّز بِهِ غَيْرَهُ» ([24]).
1 ـ الخوف المعقول وغير المعقول
لا شكّ أنّ المراد من الجبن والخوف هنا ليس هو الجبن المعقول والخوف المنطقي بل يقع في دائرة اللامعقول واللامنطقي ، وتوضيح ذلك :
إن الخوف من الامور الّتي تتضمن الخطر واقعاً هي أحد الحالات الروحية والطبيعية في الإنسان وأحد المواهب والنعم الإلهية الكبيرة ، وانه لو لا هذه الحالة تجاه الخطر فإنّ الإنسان لا يشعر بالخوف إذا واجهه الخطر حيث يفقد حياته سريعاً ، وهذا هو ما ورد في كلمات علماء الأخلاق باسم (التهوّر) في مقابل الخطر والّتي هي صفة ذميمة من قبيل أن يعبر الشخص الشارع المزدحم بالسيارات بدون أن ينظر يميناً أو يساراً ولا يحاذر من الخطر ، فمثل هذا الشخص سيتعرض للحوادث الخطرة الّتي سرعان ما تؤدي بحياته.
مثل هذا النوع من الخوف في حياة الإنسان اليومية ، وهكذا في موارد الخوف من تناول الأطعمة المشكوكة أو الخوف في دائرة المسائل السياسية والاقتصادية وغيرها ، يُعتبر خوفاً منطقياً ، ويتسبب في نجاة الإنسان من الأخطار الّتي تهدد حياته في حركة الحياة والواقع.
أمّا الخوف المذموم فهو أن يخاف الإنسان من المظاهر والعناصر الّتي لا تستبطن خطراً في حدّ ذاتها ، بل يتصور الخطر الموهوم فيها ، فيخاف من كلّ خطر وهمي وكلّ عدوٍ خيالي ويخاف من كلّ شيء حتّى من خياله ، مثل هذا الإنسان يعيش حالة التردّد في كلّ عمل يريد الاشتراك به مخافة عدم نجاحه في ذلك العمل وبالتالي يمنعه هذا الخوف من تصعيد طاقاته وقابلياته ويعيش التخلف والكسل والفشل والذلّة والمهانة.
إن هذه الحياة الدنيا في حقيقتها ميدان للصراع مع الموانع والمشكلات والأخطار الموجودة دائماً في مفاصل وزوايا هذه الحياة ، وما لم يواجه الإنسان هذه الأخطار والموانع من موقع الجرأة ويستعد بجدّية لمقابلتها فإنه لا يوفَّق في حياته.
والغالب إننا لا يمكننا تحقيق النجاح والنصر في كلّ عمل نعمله أو نضمن عدم وجود الخطر فيه ، فهذا من الخيال المحال وهو من الأوهام الزائفة ، وهنا يتجلّى الدور المهم للشجاعة والشهامة في واقع الإنسان تجاه التحدّيات الصعبة ، وتتجلّى كذلك الآثار السلبية لرذيلة الخوف والجبن أيضاً.
إن كلّ مزارع يحتمل الجفاف والأمراض الزراعية الّتي تصيب مزرعته ، وكلّ تاجر يحتمل تغيّر الأسعار وتحوّل أوضاع السوق ، وكلّ مسافر يحتمل وقوع الحوادث الخطرة في الطريق ، وفي كلّ عملية جراحية يُحتمل وجود الخطر ، فإذا عملت هذه الاحتمالات على منع الإنسان من القيام بشاطاته الحياتية فلا بدّ أن يجلس الإنسان جانباً ولا يقدم على أي عمل من الأعمال بل ينتظر الموت فقط.
ومن المعلوم أنّ الإنسان في مثل هذه الموارد يجب أن يتوقع الأخطار الجدّية ثمّ يضع لها ما يقابلها من العلاجات والحلول ويتجنّب التهوّر وإلقاء نفسه بالتهلكة ، ولكن في نفس الوقت لا ينبغي للاحتمالات الموهومة واللامعقولة الّتي تكتنف العمل دائماً أن تكون مانعة له من الإقدام على سلوك هذا الطريق.
وهذا هو أفضل تعريف لمسألة الشجاعة بعنوانها صفة من الصفات الأخلاقية الفاضلة ، والخوف بعنوانه من الصفات الأخلاقية الرذيلة.
وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) في تعريف الجبن قوله : «الْجُرْأَةُ عَلَى الصَّديِقِ وَالنُّكُولُ عَنِ الْعَدُوّ» ([25]).
ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال في جوابه على سؤال عن الشجاعة : «مُوَافِقَةُ الْاقْرَانِ وَالصَّبْرُ عِنْدَ الطَّعَانِ» ([26]).
القرآن الكريم يقول أيضاً في إحدى آياته : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)([27]).
ويقول في مكان آخر في وصف المؤمنين : (... أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ...)([28]) ولا يخالجهم خوف موهوم في هذا الطريق.
إنّما تقدّم آنفاً يوضح جيداً أنّ الشجاعة هي الفضيلة الّتي تقع في الحدّ الوسط بين (التهوّر) و (الجبن).
2 ـ الآثار السلبية للجُبن في حركة الحياة الفردية والاجتماعية
ويترتب على هذه الصفة الرذيلة آثار سلبية كثيرة في حياة الإنسان والّتي تُعد من الأسباب والعوامل المهمة في فشله وذلّته.
إننا نقرأ الكثير عن حالات الشعوب والامم على طول التاريخ البشري ، ونقرأ أنّ الكثير منها رغم امتلاكها لوسائل القوّة والمنعة من العُدة والعدد ، إلّا أنّها كانت تعيش الذلّة والمهانة والأسر لسنوات طويلة ، ولكن بمجرد أن ينبري من بينها قائد شجاع وشهم يتخطّى بها صفوف التقدّم والنهضة ويُعبّي طاقاتها وأفرادها في سبيل الكرامة والتقدّم فإنّها سرعان ما تنفض عن نفسها رداء الذلّة والمهانة والتخلف وترتقي إلى أوج العزّة والعظمة.
إن شجاعة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) في مختلف موارد سيرته العملية من هجرته إلى المدينة وموقفه في بدر واحد والأحزاب وسائر الغزوات الاخرى يُعد من أهمّ العوامل لانتصار المسلمين وتقدّمهم السريع ، ولهذا ورد في الأحاديث الإسلامية عن الإمام علي قوله : «الشُّجَاعَةُ عِزٌّ حَاضِرٌ وَالْجُبْنُ ذُلٌّ ظَاهِرٌ» ([29]).
ويقول في مكان آخر أيضاً : «الشُّجَاعَةُ نَصْرَةٌ حَاضِرَةٌ وَفَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ» ([30]).
وأحد الآثار السلبية الاخرى لهذه الرذيلة الأخلاقية هو أنّها تمنع الإنسان من التصدي لكثير من الأعمال والنشاطات المهمة ، لأن هذه الأعمال الكبيره تقترن عادة مع مشاكل كبيرة أيضاً وتتطلّب رجالاً يقفون أمام هذه المشكلات والموانع من موقع الشجاعة والجرأة ، فلا يتسنّى للشخص الجبان أن يخوض في اطار هذه الأعمال إطلاقاً.
وعليه فإنّ مثل هؤلاء الأشخاص وعلى فرض حصولهم على بعض الموفقيّة المحدودة والتافهة في الحياة فإنّهم يعجزون عن التصدّي للأعمال المهمة على المستوى الاجتماعي والتغيير الإصلاحي الّذي يحتاجه الناس.
وهذه المسألة من الأهمية إلى درجة أنّ الإسلام نهى عن المشورة مع الجبناء والّذين يعيشون حالة الخوف والرعب الوهمي في دائرة مديرية المجتمع والأعمال المهمة في عملية التغيير والإصلاح الإجتماعي ، لأن هؤلاء من شأنهم أن يقرأوا آية اليأس فقط وبذلك يُحبطوا عزم المدراء الموفَّقين ويثبطوا من إرادتهم القوية.
وكما رأينا أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يوصي مالك الأشتر في عهده المعروف ان لا يستشير أحداً من الجبناء لئلّا يُصاب بالضعف والإحباط ويقول : «لَا تَدْخُلَنَّ فِي مَشْوِرَتِكَ ... جَبَاناً يُضَعِّفُكَ عَنِ الْامُورِ» ([31]).
ويقول في مكان آخر أيضاً : «وَيُعَظِّمُ عَلَيْكَ مَا لَيْسَ بِعَظِيمٍ».
3 ـ دوافع الجُبُن
1 ـ ضعف الإيمان وسوء الظنّ بالله ، لأن الشخص الّذي يعيش الإيمان بالله والثقة به وينطلق في حياته من موقع التوكل والأمل برحمة الله ولطفه والتصديق بوعده ، مثل هذا الشخص سوف لا يذوق طعم الذلّة والمهانة والضعف ولا يتردد أو يخاف أمام الحوادث الصعبة ولا يهتز لتحديات الواقع الثقيلة ، وهذا هو ما ورد في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر حيث يقول : «انَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزٌ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ».
2 ـ الشعور بالحقارة وضعف الشخصية لدى الفرد ، ولهذا نجد انه كلّما كانت شخصية الإنسان نافذة وقوية وشعر الإنسان معها بالكرامة واحترام الذات فإنّ ذلك ممّا يزيد في شجاعته وشهامته ، ولذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «شِدَّةُ الْجُبْنِ مِنْ عَجْزِ النَّفْسِ وَضَعْفِ الْيَقِينِ» ([32]).
3 ـ (الجهل وقلّة المعرفة) حيث تسبب للإنسان غالباً الخوف الموهوم ، كما نرى في خوف الإنسان من الأشخاص أو الحيوانات الّتي لا يعرفها على وجه الدقة ولكن عند ما تتضح له الصورة ويتعرف عليها تذوب حالة الخوف في نفسه تدريجياً.
4 ـ (طلب الراحة والعافية) يُعد أحد الأسباب للخوف المذموم ، لأن الشجاعة تتطلب الخوض في دوّامة المشكلات واللاملائمات لكي يتسنّى للإنسان أن يخرج منها منتصراً ، وهذا المعنى لا يتلائم ولا ينسجم مع مزاج من يطلب الراحة والعافية.
5 ـ إن دروس الحوادث المُرة والمؤلمة قد يتسبّب غالباً في أن يعيش بعض الناس حالة الخوف والرعب ، لأن هذه الحوادث المرة تترسخ في أذهانهم وتمتزج بالخوف الّذي قد يستمر بالإنسان إلى آخر حياته ولا يمكنه التخلّص منه إلّا ببعض العلاجات النفسية.
6 ـ إن الإفراط في سلوك طريق الحذر من شأنه أن يورث الخوف أيضاً أو هو عامل من عوامل ايجاد الخوف في النفس ، لأن مثل هذا الإنسان يتوقى كلّ ما يحتمل فيه الخطر ، وهذا يؤدي به إلى أن يعيش حالة التردد والخوف من الإقدام.
7 ـ وممّا لا ينبغي إنكاره أنّ الحالة الروحية والمزاجية والبدنية للأفراد أيضاً مؤثرة في بروز هذه الحالة السلبية ، فترى بعض الأشخاص وبسبب ابتلائهم بضعف الأعصاب أو ضعف القلب يخافون من كلّ شيء ، في حين يشعرون في نفس الوقت بالتنفر من هذه الحالة والامتعاض لوجودها في واقعهم ولكنهم لا يستطيعون التخلّص منها.
هؤلاء يقولون : أنّ الخوف المتسرب في أعماقنا ليس باختيارنا بل نجده مفروض علينا ، ولكن الصحيح أنّ هذه الحالة قابلة للعلاج أيضاً.
4 ـ طرق العلاج والوقاية
إن أحد الطرق الأصلية لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية ، كما في سائر الرذائل الاخرى ، أن يتفكر الإنسان من جهة في آثارها السلبية وعواقبها الوخيمة على المستوى الفردي والاجتماعي للإنسان ، فعند ما يطالع الشخص الجبان والّذي يعيش حالة الخوف والرعب من كلّ إقدام مثمر ، الآثار السلبية للخوف الموهوم وما يترتب عليه من ذلّة وحقارة وتخلف وحرمان من الكثير من مواهب الحياة في حياته أو حياة الآخرين ، فإنه سيتحرك في الغالب لتجديد فكرته ونظرته عن هذه الحالة ويسعى لتطهير نفسه منها.
ومن الطرق المهمة الاخرى في عملية العلاج هو السعي إلى قطع دوافع وجذور هذه الرذيلة من واقع النفس ، فعند ما تزول السحب المظلمة لسوء الظنّ بالله من سماء القلب ، وتشرق شمس التوكل على الله في أجواء الروح الإنسانية ، فإنّ ظلمات الخوف الموهوم ستزول بسرعة عن النفس البشرية ، ولكن قد يحتاج هذا الأمر إلى مطالعة ودقّة أكثر.
ومن الطرق الاخرى للعلاج هو أن يتورّط الإنسان في الميادين المثيرة للخوف والوحشة ويعمل على إقحام نفسه مرات عديدة في مثل هذه الميادين والأجواء المثيرة ، وعلى سبيل المثال فعند ما يجد الإنسان نفسه يخاف من تناول الدواء أو زرق الابر فعليه أن يقحم نفسه مرّات عديدة في مثل هذه الأعمال كيما تزول حالة الخوف.
والبعض الآخر يستوحش من السفر في السفينة أو الطائرة ، ولكن تكرار مثل هذه السفرات من شأنه أن يزيل الخوف منه.
وبعض الناس يجد حالة التردد والخوف في نفسه عند حضوره أمام الآخرين أو عند إلقائه لمحاضرة أو كلمة أمام الجمع ، ولكن هذا الخوف والتردّد يزول غالباً بتكرار مثل هذه الأعمال.
وأحد أهداف التمرينات العسكرية والمناورات الّتي تُجريها الحكومات لجيوشها وقواها العسكرية هو إزالة آثار الخوف من قلوب أفراد الجيش من الحروب.
ونجد هذا المعنى بصورة جميلة ورائعة في الكلمات القصار لأمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول : «اذَا هَبْتَ امْراً فَقَعْ فِيهِ ، فَانَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ اعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ» ([33]).
ويقول العلّامة المرحوم الخوئي في شرحه لنهج البلاغة عند شرح هذه العبارة : «كثيراً ما يستوحش الإنسان من بعض الامور بسبب جهله وجبنه فيمنعه ذلك الخوف من نيل الموفقية في الحياة ، وهنا الإمام (عليه السلام) يحرضه على خلع حالة الجبن عن نفسه لأن تحمل ضغط هذه الحالة قد يكون في كثير من الحالات أشد على الإنسان من التورط في ذلك الأمر المخوف».
ثمّ يضيف : «إن المخترعين والمكتشفين في العالم نالوا أوسمة الفخر بالعمل بهذه التوصية الحكيمة ، حيث توغلوا إلى أعماق الغابات الاستوائية والصحاري الأفريقية وخاضوا لجج البحار ووصلوا إلى الجزر البعيدة وحصلوا على ثروات طائلة وشهرة عظيمة مضافاً إلى ما قدّموا إلى البشرية من علم ومعرفة لا يستهان بها» ([34]).
وقد ورد في المثل المعروف : «امُّ الْمَقْتُولِ تَنَامُ وَامُّ المُهَدَّدِ لَا تَنَامُ».
وقيل أيضاً : «كُلُّ امْرٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَسِمَاعُهُ اعْظَمُ مِنْ عَيَانِهِ» ([35]).
وأحد الطرق الاخرى لعلاج حالة الجبن والخوف هو أن يعيش الإنسان بطُهر ونقاء من شوائب الرذيلة والأعمال الذميمة ، لأن الأشخاص الملوّثين يخافون غالباً من نتيجة أعمالهم ، وبما أنّ نيتجة هذه الأعمال سوف تتجلّى إلى الملأ يوماً من الأيام فإنّهم يعيشون حالة الخوف في أنفسهم ، ولذلك ورد في الحديث المعروف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : «مَا اشْجَعُ الْبري وَاجْبَنَ الْمُريِبُ» ([36]).
ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله : «لَوْ تَمَيَّزَتِ الْاشْيَاءُ لَكَانَ الصِّدْقُ مَعَ الشَّجَاعَةِ وَكَانَ الْجُبْنُ مَعَ الْكِذْبِ» ([37]).
5 ـ معطيات الشجاعة في حياة الإنسان
والنقطة المقابلة لصفة الجبن الرذيلة ، هي الشجاعة والشهامة والجرأة على الخوف في الأعمال المهمة كما تقدّمت الإشارة إليه ضمن حديثنا عن الجبن والخوف ، فكلّ واحد من هاتين الصفتين المتقابلتين تتضح بدراسة ما يقابلها من الحالات الأخلاقية ، فمعرفة مفهوم الجبن لا تتسنّى بدون معرفة مفهوم الشجاعة ، وكذلك العكس فإنّ من العسير أن ندرك مفهوم الشجاعة بدون أن نُحيط علماً بمفهوم الجبن والخوف.
وبهذا نرى من اللازم ولغرض تكميل الأبحاث السابقة أن نتحدث أكثر عن صفة الشجاعة وآثارها الايجابية ومعطياتها في حركة الحياة وخاصة من وجهة نظر الأخبار والأحاديث الإسلامية :
1 ـ ما ورد في عهد الامام على (عليه السلام) لمالك الأشتر (والّذي يُعدّ أشمل دستور إلهي وسياسي) في عملية إدارة الحكومة في موارد متعددة أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أشار إلى هذه المسألة ، فيحذّر في أحد الموارد مالك الأشتر من المشورة مع الأشخاص الجبناء والّذين يعيشون حالة الخوف والحرص والبخل. ويقول في مكان آخر بالنسبة إلى قادة الجيش (أو المعاونين والموظفين والمسئولين): «ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوآتِ وَالْاحْسَابِ وَاهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمّ اهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخاء وَالسَمَاحَةِ ، فَانَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ» ([38]).
وهنا نجد أنّ الإمام يرى أنّ صفة الشجاعة والشهامة تُعد من الاصول الأساسية والقيم الأخلاقية المهمة للإنسان المدير والمدبّر وخاصة على مستوى قادة الجيش أو المسؤولين الكبار في الحكومة.
2 ـ ويقول هذا الإمام في حديث آخر : «الشَّجَاعَةُ زَيْنٌ ، الْجُبْنُ شَيْنٌ» ([39]).
3 ـ وورد عن هذا الإمام الهُمام قوله في حديث آخر : «السَّخَاءُ وَالشَّجَاعَةُ غَرَائِزٌ شَرِيفَةٌ يَضَعُهَا اللهُ سُبْحَانَهُ فِي مَنْ احَبَّهُ وَامْتَحِنْهُ» ([40]).
4 ـ وورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في ذكره لفضائل أهل بيته أنّه ذكر سبع صفات وأحدها الشجاعة.
وفي حديث آخر ذكر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) فضائله وفضائل أهل بيته في كلمتين ، وأحد هاتين الفضيلتين هي الشجاعة.
5 ـ ونقرأ في حديث ليلة المبيت (وهي الليلة الّتي بات فيها الإمام علي (عليه السلام) على فراش النبي (صلى الله عليه وآله) في ليلة الهجرة إلى المدينة) أنّه عند ما حاصر المشركون بيت النبي (صلى الله عليه وآله) ليلاً ، ثم هجموا في الصباح الباكر إلى داخل الدار رأوا علياً نائم في فراش النبي ، فقال أبو جهل : أما ترون محمداً كيف أبات هذا ونجا بنفسه لتشتغلوا به وينجو محمد ، لا تشتغلوا بعلي المخدوع لينجو بهلاكه محمد ....
فقال علي (عليه السلام) : «أَلِي تَقُولُ هذا يا أَبا جَهل؟ بَلِ اللهُ قَدْ أَعطانِي مِنَ العَقلِ ما لُو قُسِّمَ عَلى جَميعِ حُمَقاء الدُّنيا وَمَجانِينِها لَصارُوا بِهِ عُقلاء ، وَمِنَ القُوَّةِ ما لَو قُسِّمَ عَلى جَمِيعِ ضُعَفاءِ الدُّنيا لَصارُوا بهِ أَقوياء ، وَمِنَ الشَّجَاعَةِ مَا لَوْ قُسِّمَ عَلَى جَمِيعِ جُبَنَاءِ الدُّنْيَا لَصَارُوا بِهِ شَجْعَاناً» ([41]).
6 ـ ونقرأ في الخطبة المعروفة للإمام زين العابدين في الشام أنّ هذا الإمام ابتدأ خطبته التاريخية بقوله : «ايُّهَا النَّاسُ : اعْطِينَا سِتأً وَفُضِّلْنَا بِسَبْعٍ اعْطِينَا الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ وَالسَّمَاحَةَ وَالْفَصَاحَةَ وَالشَّجَاعَةَ وَالْمَحَبَّةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» ([42]).
7 ـ ونختم هذا البحث بحديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) (رغم وجود أحاديث كثيرة في هذا الباب) قال : «الْغِيرَةُ الشَّدِيدَةُ عَلَى حَرَمِكَ ، وَالسَّخَاءُ ، وَحُسْنُ الْخُلْقِ ، وَصِدْقُ اللِّسَانِ وَالشَّجَاعَةُ».
ويتبين من الأحاديث المذكورة آنفاً وكذلك الآيات والروايات الكثيرة في هذا الباب أهمية هذه الفضيلة الأخلاقية وقيمتها من بين القيم الإنسانية الرفيعة الّتي يراها الإسلام في مجمل تعاليمه الأخلاقية والإنسانية.
وممّا يجدر ذكره هو أنّ (الشجاعة) لها معنىً واسع وتمتد لمساحات شاسعة من السلوكيات الإنسانية ، والشجاعة في ميدان الحرب والقتال هو أحد فروعها ومصاديقها ، ومنها الشجاعة في ميدان السياسة ، وفي المسائل العلمية وإبداع النظريات الجديدة المنطقية والاختراعات العلمية ، والشجاعة في مقام القضاء والحكم وأمثال ذلك ، فكلّ واحدٍ منها يعد من فروع هذه الشجرة الأخلاقية والصفة الكريمة للإنسان ، ولذلك نقرأ في بعض الروايات «الصَّبْرُ شَجَاعَةٌ» ([43]).
وورد في حديث آخر عن الإمام علي (عليه السلام) قوله : «اشْجَعَ النَّاسِ اسْخَاهُمْ» ([44]).
ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله : «لَوْ تَمَيَّزَتِ الْاشْيَاءُ لَكَانَ الصِّدْقُ مَعَ الشَّجَاعَةِ وَكَانَ الْجُبْنُ مَعَ الْكِذْبِ» ([45]).
فهذه الأحاديث الشريفة تقرر في كلّ واحد منهما فرعاً من فروع الشجاعة الّتي تندرج تحت المفهوم العام لهذه الكلمة.
[1] سورة الأنبياء ، الآية 51 ـ 58.
[2] سورة النمل ، الآية 10.
[3] سورة البقرة ، الآية 249 و 250.
[4] سورة الأحزاب ، الآيات 13 و 22.
[5] سورة التوبة ، الآية 52.
[6] سورة آل عمران ، الآية 173 و 175.
[7] سورة الأحزاب ، الآية 39.
[8] سورة الأنبياء ، الآية 51.
[9] سورة الأنبياء ، الآية 57.
[10] سورة الأنبياء ، الآية 58.
[11] سورة النمل ، الآية 10.
[12] سورة طه ، الآية 21.
[13] سورة البقرة ، الآية 250.
[14] سورة الأحزاب ، الآية 13.
[15] سورة الأحزاب ، الآية 22.
[16] سورة التوبة ، الآية 52.
[17] سورة آل عمران ، الآية 172.
[18] سورة آل عمران ، الآية 173.
[19] هناك تفسيران لجملة «إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه» بين المفسرين ، فبعضهم ذهب إلى أنّ «أولياء» فاعل ـ أو بمنزلة الفاعل على تقدير من أوليائه ـ وطبقاً لهذا التفسير فإنّ أولياء الشيطان هم الّذين يقومون بعملية التخويف والتهديد للناس ، في حين أنّ التفسير الآخر يرى أنّ «أولياء» مفعول به كما هو الظاهر من جو الآية الشريفة والمطابق للقراءة المشهورة ، حيث يكون معنى الآية ، «إن الشيطان قادر على تخويف اتباعه فقط من المنافقين وأمثالهم وليس له قدرة على تخويف المؤمنين».
[20] سورة الأحزاب ، الآية 39.
[21] بحار الأنوار ، ج 72 ، ص 301.
[22] غرر الحكم ، ح 10090.
[23] غرر الحكم ، ح 10349.
[24] بحار الأنوار ، ج 97 ، ص 49.
[25] ميزان الحكمة ، ج 1 ، ص 370 ؛ تحف العقول ، كلمات الإمام المجتبى (عليه السلام) ، ح 1.
[26] ميزان الحكمة ، ج 2 ، ص 1412.
[27] سورة البقرة ، الآية 195.
[28] سورة الفتح ، الآية 29.
[29] الآمدي ـ الغرر والدرر ، ج 7 ، ص 171.
[30] المصدر السابق.
[31] نهج البلاغة ، الرسالة 53.
[32] شرح غرر الحكم ، ج 4 ، ص 185.
[33] الكلمات القصار ، الجملة 175.
[34] منهاج البراعة ، ج 12 ، ص 252.
[35] شرح نهج البلاغة ، ج 18 ، ص 177.
[36] غرر الحكم ، ح 9626.
[37] شرح غرر الحكم ، ج 7 ص 172. (بالفارسية)
[38] نهج البلاغة ، الرسالة 53.
[39] شرح غرر الحكم ، ج 7 ص 171. (بالفارسية)
[40] غرر الحكم ، ح 1820.
[41] بحار الأنوار ، ج 19 ، ص 83.
[42] بحار الأنوار ، ج 45 ، ص 138.
[43] نهج البلاغة ، الحكمة 4.
[44] غرر الحكم ، ح 2899.
[45] شرح غرر الحكم ، ج 5 ، ص 118 ، ح 7597.
|
|
كل ما تود معرفته عن أهم فيتامين لسلامة الدماغ والأعصاب
|
|
|
|
|
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
|
|
|
|
|
بالتعاون مع العتبة العباسية مهرجان الشهادة الرابع عشر يشهد انعقاد مؤتمر العشائر في واسط
|
|
|