المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

سيرة الرسول وآله
عدد المواضيع في هذا القسم 9111 موضوعاً
النبي الأعظم محمد بن عبد الله
الإمام علي بن أبي طالب
السيدة فاطمة الزهراء
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الإمام محمد بن علي الباقر
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الإمام علي بن موسى الرّضا
الإمام محمد بن علي الجواد
الإمام علي بن محمد الهادي
الإمام الحسن بن علي العسكري
الإمام محمد بن الحسن المهدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
من هم المحسنين؟
2024-11-23
ما هي المغفرة؟
2024-11-23
{ليس لك من الامر شيء}
2024-11-23
سبب غزوة أحد
2024-11-23
خير أئمة
2024-11-23
يجوز ان يشترك في الاضحية اكثر من واحد
2024-11-23

طريقـة خطـوط تسـاوي توزيـع المطـر method Isohyetal
26-1-2023
Simply Connected
28-7-2021
ما معنى إحكامه سبحانه آياته ؟
24-11-2014
حكم الفريضة على ظهر الكعبة.
18-1-2016
شراحيل بن مرة الهمداني
23-11-2017
أشهر الكوارث البيئية المختلفة - كارثة سيانو
5-12-2017


فلسفة ثورة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام‏  
  
342   11:56 مساءً   التاريخ: 2024-08-22
المؤلف : السيد محمد محسن الطهراني
الكتاب أو المصدر : الأربعين في التراث الشيعية
الجزء والصفحة : ص57-90
القسم : سيرة الرسول وآله / الإمام الحسين بن علي الشهيد / الأحداث ما بعد عاشوراء /

بسم الله الرحمن الرحيم‏

حفظ حريم مقام الولاية و الإمامة و حراسة حدّها و حدودها هو أحد اصول التشيع‏

إنّ إحدى الشعائر البارزة و الواضحة لدى الشيعة، بل و بعبارة أصحّ ينبغي أن يقال: إنّ أصل جميع الأصول و المباني الشيعيّة و ركيزتها هو محبّة أولياء الدين الحنيف و تولّيهم، أي الأئمّة المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين، كما جاء في الرواية المعروفة:

بني الإسلام على خمس: على الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ و الولاية؛ و لم يناد بشي‏ء كما نودي بالولاية[1].

أي: بني الإسلام على خمسة أركان ثابتة محكمة:

الصلاة، الصوم، الزكاة، الحجّ، و ولاية أهل بيت رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم، و الحال أنّ الله المتعال لم يوص‏ بشي‏ء كما أوصى بالولاية و أكّد عليها. و في مضمون هذه الرواية ما يفوق التواتر.

إنّ حقيقة مدرسة التشيّع منحصرة في ولاية الأئمّة المعصومين عليهم الصلاة و السلام دون سؤال و جواب، و الانقياد و الإطاعة المطلقة لهم، و تجلّي هذه المدرسة و تبلور مبانيها إنّما يتحقّق بواسطة إحياء ذكرهم، و إبراز ألوان المودّة و مراتب المحبّة لأهل بيت الرسالة.

ففي مدرسة التشيّع يجب أن يكون حريم مقام الولاية و حدود منصب الإمامة مورد توجّه و اهتمام بشكل كامل، و ليس لأحد آخر -من أيّة طبقة كان و مهما كانت رتبته- أن يدخل في هذا الحريم و يرد فيه. فالتعاريف و التعابير التي تستعمل في بيان و شرح أحوال العلماء و زعماء الدين يجب أن تتغاير و تتمايز عن الكلمات و التعاريف التي نستعملها في مورد أئمّة الهدى عليهم السلام، تمايزا و تغايرا ماهويّا و بشكل كلّي، و التساهل و التسامح في هذه المسألة -لا قدّر الله- سوف يوجب سخط وليّ نعمتنا و غضبه، و يحلل علينا نقمة الله المتعال.

إنّ تبيين مسألة إمامة المعصوم عليه السلام، و تميّزه عن‏ سائر الأفراد يجب أن يكون العنوان الرئيسيّ لشعائر التشيّع و أسسه، و يجب أن يبرهن على هذه المسألة بشكل واضح للجميع -سواء المسلمين أم غيرهم- بحيث يكون مقام الإمام المعصوم عليه السلام و مكانته أرقى من التفكّرات، و أعمق من سائر التصوّرات و التوهّمات البشريّة، و ليس لأحد أن يقاس به، فالوصول إلى مرتبة الإمام عليه السلام و درجته خارج عن طاقة البشر و قدرتهم، اللهمّ إلّا العدّة القليلة الذين أزاحوا الحجب الأنفسيّة الظلمانيّة و النورانيّة، و اجتازوها بقدم راسخة و همّة عالية، و عزم متين و مجاهدات مضنية، فسلكوا الطريق إلى الله، و وصلوا إلى مرتبة الولاية و التجرّد و الفناء، و الاندكاك في نفس الإمام عليه السلام، و هؤلاء هم الذين يطلق عليهم اسم العرفاء بالله و أصحاب الولاية و المهيمنين عليها، و الحائزين على رتبة التجرّد المطلق و الفناء في الله، و أمّا باقي الأفراد فإنّهم ماكثون في المراتب الأدون، و ذلك حسب سعتهم الوجوديّة و الإدراكيّة.

ففي مدرسة التشيّع كلّ شي‏ء هو الإمام المعصوم، و فقط لا غير! و الحديث الشريف النبويّ: إنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب الله و عترتي، و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، ناظر إلى هذه الإشارة اللطيفة.

فكتاب الله الناطق -و الذي يمثل تلك النفس المقدّسة و الملكوتيّة للإمام المعصوم- مشير إلى بعدي القرآن الكريم، التعليميّ و التربويّ، و بدونهما سوف لا ينتج التمسّك بالقرآن إلا الضياع و الضلالة. و المشكلة التي يواجهها إخواننا من أهل السنّة هي الغفلة عن هذا الركن الحياتيّ، و إرخاء زمام أمور دينهم و دنياهم و إهماله، و إيداع مركبهم المتعثّر وسط العواصف و تحت نير أمواج الفتن العاتية، وسط دوّامة الدهر المرعبة. فتسليم زمام الدين و إيكاله إلى أمثال أبي حنيفة و غيره، و بالتالي إقصاء أئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين، الذين جعلهم الله الهداة و الأدلّاء للخلق دون غيرهم، سوف لن يثمر إلا العمة و الحيرة في أمور الدين و الدنيا، و هذه القاعدة منطبقة على الشيعة أيضا، فإذا انحرفنا عن هذا المسار ذرّة واحدة، و تكلّفنا وضع دستور من تلقاء أنفسنا، و تبرّعنا بجعله تاركين مسير أهل بيت العصمة و الطهارة و معرضين عنهم، و نقضنا دستوراتهم و أوامرهم، و هجرنا تعاليمهم النورانيّة، و استبدلناها بالرغبات الشخصيّة و السليقة الذاتيّة، و رعاية المصالح الدنيويّة، حينئذ نتورّط و نسقط في الهلكة و الخسران الذي ابتليت به سائر الفرق الإسلاميّة.

ثورة سيّد الشهداء عليه السلام أكثر الأمور حيويّة لتمييز الحقّ عن الباطل‏

فقضية ثورة سيّد الشهداء عليه السلام، و شهادة هذا الرجل العظيم، قد أقيمت في الثقافة الشيعيّة بعنوانها الشعار الأبرز و الأكثر حيويّة لفرز الحقّ عن الباطل و تمييزهما، و ذلك في جميع المراتب و المراحل التكامليّة للإنسان، و لا مناص لأيّ شخص من الانقياد لهذا الإمام و اتّباع حركته في جميع مستوياتها و أنحائها، سواء قبل عاشوراء أم بعدها، لأنّ هذه الواقعة مع خصوصيّاتها و ظروفها المحيطة بها، لهي حدث استثنائيّ على امتداد تاريخ البشريّة، حيث صدرت و تحقّقت بواسطة أحد الأئمّة المعصومين عليه السلام، لا على يد أحد الأفراد العاديّين أو العلماء العاديّين.

فوجهة نظر الثقافة الشيعيّة بالنسبة إلى عاشوراء، تختلف عن جميع الرؤى الأخرى اختلافا ماهويّا و أساسيّا، و على حدّ قول مولانا:

فمن منطلق الثقافة الشيعيّة، ليست مظلوميّة سيّد الشهداء عليه السلام كامنة في أنّ جماعة ممّن لا يمتّون إلى الله بصلة، أغاروا على عدّة من ذراري النبيّ و أولاده، و قضوا عليهم بحدّ السيف؛ كبارهم و صغارهم، و حتّى الطفل الرضيع لم يتركوه، ثمّ بعد استشهادهم أخذوا أهل بيت رسول اللّه و هم في حالة مفجعة، و طافوا بهم البلاد و الشوارع أمام الملأ العام، و هم أسارى مكبّلون بالأغلال و السلاسل، و فعلوا ما أخجل صفحات التاريخ من ذكره!

بل إنّ مظلوميّة سيّد الشهداء في أنّه لم يطّلع أحد على حقيقة هذه الحادثة و روحها و قلبها، فالجاهل العامّي أو العالم الخبير -جميعهم و دون استثناء- إنّما درسوا هذه الحادثة من خلال نفس معكّرة و روح غير صافية، و بيّنوها بواسطة أفكارهم الطفوليّة؛ فالعاميّ ينظر إلى هذه الحادثة على أنّها تقرح القلب و تفتّته، فيلطم على رأسه و صدره، و يقيم مأتم الأسى و يذرف الدمع لأجل هذه المصيبة.

و بشكل عامّ، تراه يثير النكات العاطفيّة و الإحساسيّة لهذه الحادثة، و يستجلب عينه و أذنه و حواسّه نحوها، إلى الحدّ الذي لا يعود هناك مجال آخر للتأمّل و التفكّر في الجهة الحيويّة و الأساسيّة لهذه الواقعة، و على هذا الأساس لا يبقى أيّ مجال لتبلور هويّة واقعة كربلاء، و بروز أهدافها التي كانت من أجلها.

إنّ تحليل تاريخ عاشوراء و دراسته بعنوان أنّه حقبة تاريخية تحاكي واقعة عاطفيّة محزنة، و مؤلمة ألما ظاهريّا، بحيث يكون في هذا الجانب ابن رسول اللّه مع أهله و عياله الغرباء، و قليل من أصحابه و أنصاره المخلصين، و من الجانب الآخر هناك يزيد الخبيث و جيشه المتكاثرون .. عبيد الدنيا، الغادرون الآثمون، و لم يكتفوا بمحو دين رسول اللّه و إطفاء مدرسة الولاية فحسب، و إنّما جاءوا لقتل شخص الإمام و أهل بيته و سلبهم ظلما و عدوانا، دون أيّة مسامحة و لا صفح اتجاه ذاك المعتدى عليه البري‏ء و المنزّه عن اقتراف أيّ ذنب في كلّ وجوده.

فمهما كانت واقعة عاشوراء فظيعة، و مهما بلغت جنايتها و وقاحتها؛ فقد مضت و انصرمت على كلّ حال، و أيّة فائدة و أيّ نفع في إقامة المآتم و البكاء على أمر قد مضى على زمن وقوعه مئات السنين، و أيّ حاجة تبتغى جرّاء هذه المآتم؟ و هل كانت جميع هذه التأكيدات المتواترة و الأوامر الكثيرة، الصادرة من الأئمّة المعصومين عليهم السلام في إقامة مجالس العزاء و ذكر مصيبة سيّد الشهداء و أميرهم، و البكاء عليه و على أهل بيته المظلومين، هل كان كلّ ذلك لمجرّد البكاء على أمر مضى؟! أو أنّ المقصود هو شي‏ء آخر؟

مجالس عزاء سيّد الشهداء قد انحرفت عن مسارها الأصيل‏

و لذا و مع كامل الأسف، نشاهد كيف جرت عليه العادة في هذه الأيّام من الرثاء و العزاء، و ذكر مصيبة أبي عبد الله الحسين أرواحنا له الفداء، حيث أنّها خرجت عن صورتها المنطقيّة و العباديّة، و انحرفت صوب الأغراض الاعتباريّة و الوهميّة الدنيويّة. فهدف القرّاء و النادبين و غايتهم متمركزة حول إيجاد المؤثّرات و الإثارة، و إحداث البريق و جلب التوجّه الظاهريّين لهذه المصائب، و تهييج عواطف الناس و خاصّة طبقة الشباب، بأيّة وسيلة و بأيّ تعبير و بأيّ نحو من أنحاء لفت النظر و استجلاب الطرف الآخر، و كلّما كان القارئ موفّقا في ذلك بشكل أكبر كان مرغوبا به أكثر! و لو تجرّأنا قليلا على أنفسنا، و قارنّا بين هذه المجالس و سائر المجالس العاديّة، فينبغي أن نقول: إنّها أشبه بالأعمال المسرحيّة و الفنونيّة! و لا تليق بمجالس معقودة لبيان منزلة إمام معصوم عليه السلام، و لا تتناسب مع شأنه، فالهدف من هذه الأمور مجرّد البكاء بشكل أكثر و اللّطم على الرأس و الصراخ و العويل بشكل أزيد .. لا غير!

أبعاد ثورة سيّد الشهداء عليه السلام لا تنحصر بخصوص مقارعة الظلم‏

و كأنّ صاحب العزاء و المصيبة محتاج إلى بكائنا و عويلنا بهذا الشكل و بهذه الكيفيّة! و كأنّنا بذلك نخرجه من غربته، و نضفي على قامته لباس العزّ و الاقتدار! و نمحو مظلوميّته و نجلوها، و نعلن له أن: يا حسين! إن كنت وحيدا في كربلاء دون ناصر و لا معين يدافع عنك و عن حرمك أمام ذئاب الفلوات، فتعال و انظر إلى هذا الجمع من العشّاق و الوالهين كيف يصرخون في عزائك و يلطمون على رءوسهم و يذرفون الدموع و قلوبهم تحترق عزاء لك!

فسيّد الشهداء عليه السلام بناء على هذه الرؤية، هو شخص مظلوم و مغلوب عليه، لأنّ جيش يزيد واجهه بقسوة و شدّة، و لو قابله جيش يزيد بنحو آخر مثلا: (كأن لم يمنعوه من شرب الماء العذب، و لم يرموا طفله الرضيع بالسهم ظلما و لم يقتلوه، أو أنّه بعد شهادته لم يغيروا على حريمه و خيامه و لم يحرقوها بالنار، أو أنّهم لم يكبّلوا أهل بيته بالأغلال و السلاسل، و لم يسوقوهم في الصحاري بتلك‏ الصورة الفجيعة و ...) فلم يكن هناك أيّ مسوّغ أو سبب لهكذا نحو من العزاء و الرزيّة؛ تماما كما أنّه لا يقام هكذا عزاء لأجل بقية أئمّة الهدى عليهم السلام كالإمام الحسن المجتبى و حضرة السجّاد و غيرهما، حيث ينتهي المجلس في مناسباتهم بشكل عاديّ و لا يتعدّى التعزية العاديّة. لأجل ذلك يتّضح جليّا أن كلّ هذه الحماسة و العواطف، و إبراز الغمّ و الحداد على سيّد الشهداء عليه السلام إنّما هو لأجل ملاحظة كيفيّة استثنائيّة ترجع إلى طبيعة شهادته، دون ملاحظة أصل مراتب الإمامة، و الظلم الواقع على الإمام عليه السلام من حيثيّة نفس إمامته و ولايته، كسائر أئمّتنا عليهم السلام.

نعم بالطّبع، لا يمكننا تحميل هذه الحقيقة على العوامّ و مواجهتهم بها، لأنّهم غير محصّنين بالمعارف و الأصول الاعتقاديّة للإسلام بشكل عميق، و من الطبيعي أنّهم يواجهون هذه المسائل و هذه الحوادث التاريخيّة من خلال أحاسيسهم و عواطفهم المنسجمة مع رؤيتهم.

و في مقابل النظرة العامّية، هناك الرؤية التنويريّة -حسب الاصطلاح الشائع و الخاطئ- بالنسبة لأبي عبد الله‏ عليه السلام، و هي وجهة النظر التي تحصر جميع استعداد الإمام عليه السلام و قابليّته و شخصيّته، و حالاته و مراتبه الكماليّة، و فعليّاته في خصوص المبارزة مع الظلم و مقارعة الجور لدى البلاط الملكيّ و الإمبراطوريّ لبني أميّة، و بالخصوص يزيد الآثم؛ و على هذه الرؤية تتوجّه الأنظار إلى خصوص شخصيّة الإمام عليه السلام و حاله فحسب. و لو أردنا أن نقيّم هذه النظرة من جهة ملاحظة سائر جوانب الإمام عليه السلام و كمالاته، فيجب أن نعطي لجميع أبعاده الوجوديّة عشرة بالمائة فقط، و نترك لحيثية مبارزة الإمام و مواجهته للحكومة الأمويّة الجائرة التسعين بالمائة، و علينا أن نتعامل مع شخصيّة هذا الإمام على أنّه شخص مناضل و مكافح، و معارض للظلم و الفساد، تماما كسائر الأفراد الذين جاءوا و جاهدوا طوال التاريخ، مثل: كاوه آهنگر و يعقوب ليث و جاندارك و إقبال و غاندي و غيرهم .. ممّن غلب عليهم صفة الكفاح ضدّ الفساد، و النضال لقلع ظلم الحكّام و اقتلاع جبابرة زمانهم.

و من وجهة نظر هؤلاء، سوف يكون الإمام عليه السلام -سواء سيّد الشهداء أم أيّ إمام آخر- مجرّد مجاهد ضدّ النظم الجائرة لا أكثر، و عليهم أن يستقرءوا و يتتبّعوا مواقفه الجهاديّة و النضاليّة، لمعرفة مواقف الإمام المشرقة، و إذا ما قصّرت صفحات التاريخ في سردها لهذا الجانب أثناء تأريخ حياة الإمام، أو أنّه لم يصر إلى إبرازها بشكل جليّ و واضح، فسيتمحّلون لصقلها و صياغتها، و يتعبون أنفسهم ليثبتوا للعوامّ أنّ شخصيّة الإمام شخصيّة ثوروية، و ذلك كي لا يتأتّى الإشكال و لا يتوجّه الإيراد -لا قدّر الله- على أصل إمامته و ولايته و زعامته فيما لو خلت من حيثيّة المبارزة!

بناء على هذه النظرة، سوف يكون هناك فارق شاسع بين الأئمّة عليهم السلام من هذه الجهة شدّة و ضعفا، و ستختلف شخصيّة سيّد الشهداء عليه السلام مع أخيه الأكبر الإمام الحسن المجتبى عليه السلام اختلافا ملحوظا، و نعوذ بالله، بناء على هذا سوف يتوجّه النقص إلى سبط رسول اللّه الأكبر، بل من الممكن أن تقع إمامته تحت السؤال و الاستفهام!!

الاعتراض على الإمام المجتبى عليه السلام بسبب عدم قيامه ناشئ من الجهل‏

و هذه النظرة كانت موجودة حتّى في زمان نفس الإمام المجتبى عليه السلام، و قد تعرّض إلى سهام الاعتراض و التعابير القبيحة و المدهشة بعد صلحه مع معاوية، و ذلك من أقرب أصحابه.

لاحظوا مظلوميّة هذا الإمام! كيف أنّه كان مضطرّا للدفاع عن هدفه و منهجه إلى الاستعانة بالحديث النبويّ القائل: الحسن و الحسين إمامان، قاما أو قعدا! ليردّ عن نفسه، و يخلّصها من رميهم بسهام التهمة، و ليبعد نفسه عن دائرة السبّ و التشنيع، و هو ما قد صدر من أصحابه و أتباعه القريبين‏[2].

و لو تجاوزنا عن كلّ ذلك، فحيث أنّ هذه المسألة جارية و منطبقه على آخر قائد و إمام لنا، بقيّة الله الأعظم أرواحنا فداه، و مندرجة عليه طوال ما يزيد على الألف سنة من عدم المواجهة و المبارزة، فيجب أن يدّعى بأنّ الإشكال و الاعتراض متوجّه عليه أكثر من باقي الأئمّة؛ و ينبغي أن يقال: إنّه لم يقم -نعوذ بالله- بمهام الإمامة و القيادة طوال هذه القرون المتمادية و العصور المترامية!

هذه الرؤية نظير الرؤية الأولى ناشئة من الجهل و عدم‏ معرفة حقيقة الإمامة، فهم ينظرون إلى أمر هامّ بهذه الخطورة بالعين الحولاء و العليلة، و كأنّ الإمام شخص عاديّ، فهم يقيسون الإمام على أنفسهم، و ينزّلون مشاعر الإمام و مدركاته على حدّ مدركاتهم الشخصيّة و مشاعرهم ... نعوذ بالله من الجهل و الضلالة و البعد و الغواية.

قيمة تاريخ عاشوراء تنشأ من وجود الإمام المعصوم فيها

هؤلاء الجماعة، لا يعلمون أنّ سيّد الشهداء عليه السلام كان إماما .. إماما معصوما قبل إيجاد حادثة كربلاء، و أنّ‏ قيمة تاريخ عاشوراء إنّما تتحقّق بحضور إمام معصوم فيها، دون أيّ شخص عاديّ، مهما كان بالغا من مراتب العلم و التقوى و التقرّب، و بعبارة أخرى: هذا الإمام المعصوم هو الذي يعطي لحادثة عاشوراء عزّتها و شرفها و اعتبارها و هويّتها الخاصّة بها، لا أنّ عاشوراء هي التي قد شرّفت الإمام عليه السلام، و أضافت عليه العزّة و الكرامة. و لو كان في هذه الواقعة العظيمة شخص آخر، مهما كانت هويّته و مهما رفعت شخصيّته، بحيث يكون زمام أمور هذه الواقعة بيده، و تكون إدارتها على عهدته، فسوف لن تكون عاشوراء عاشوراء، بل هي حادثة كسائر الحوادث، و واقعة كسائر أخواتها ممّا لا يحصى في التاريخ، و التي حصل فيها ظلم‏ من جماعة ظالمة جانية، فتغلّبوا على فئة أخرى مظلومة و مهزومة و منكوبة.

من هنا، حيث نستكشف أنّه ينبغي عدم قياس حادثة عاشوراء على غيرها من الوقائع، و لا نستعمل -لا قدّر الله- التعابير التي توحي بوجود نوع من الاتحاد أو المشابهة بين واقعة عاشوراء و غيرها، و لا نتخطّى الحدود التي وضعها لنا الأئمّة المعصومون عليهم السلام.

فمع هذا التصوّر غير المناسب و المخطئ بالنسبة للساحة المقدّسة لحضرة مولى الكونين أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فإنّ حقيقة الإمامة و شئونها قد انمحقت و نسيت بشكل كامل و بتمام معنى الكلمة، و لم يعد هناك أيّ معنى لكيفيّة رابطيّة الإمام مع المبدأ الأعلى، و وساطته بين ذات الحقّ المتعالي و سائر مخلوقاته، (من المبدعات و المجرّدات حتّى عالم الطبع و المادّة)، و تدبيره التكوينيّ في نفوس جميع الأشياء، و لكون قوام حياة الأشياء الملكيّة و الملكوتيّة متقوّم بنفس هذا الإمام القدسيّة، و أنّه به يتمّ إيصال كلّ مراتب التعيّنات إلى أصلها و حقيقتها تكوينا و تشريعا و واقعا، فمع هذا التصوّر الخاطئ سوف يطرح كلّ ذلك في دائرة النسيان.

جهاد الإمام المعصوم أو صلحه تابعان لإرادة الحقّ‏

فالإمام عليه السلام قلب عالم الإمكان، و سرّ حقيقة تنزّل الفيض الإلهيّ في عوالم ما دون ذات الحقّ، فالمشيئة و التقدير الإلهيّين ساريان و جاريان في جميع العوالم، بواسطة نفس الإمام عليه السلام، فهو يقوم و يثور حيث تتعلّق إرادة الحقّ بالقيام و الثورة، حتّى و إن لم يكن معه ناصر و معين، و حيثما تتعلّق إرادة الحقّ بالسكوت و السكون فإنّه لا يبدي أيّ نظر آخر أو رأي معاكس، حتّى و إن كانت جميع الخلائق سائرة خلفه و منقادة و مطيعة له؛ فهو قد تجاوز عن نفسه و ذاته، و اتّحد مع الحقّ، و لم يبق لديه أيّ رأي من نفسه، و لا أيّ فكر خاصّ، و ليس هناك أيّ خطور يساوره في مخيّلته غير إرادة الحقّ و مشيئته، ففعله فعل الحقّ، و لا مجال للاعتراض أو الاستشكال على فعل الحقّ.

إنّ سكوت الإمام المجتبى عليه السلام هو محلّ لرضى الحقّ و إرادته بنفس درجة ثورة سيّد الشهداء عليه السلام، دون أيّ اختلاف أو تفاوت و لو بمقدار رأس إبرة، و لو كان الأمر غير ذلك فسوف يكون فعل الله قبيحا و شنيعا، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. و ما لم يصل الإنسان إلى هذه الحقيقة، سوف يبقى في حال الشكّ و الترديد و الاضطراب‏ و الاعتراض، و يظلّ يبرز الإشكالات الواهية و التافهة اتّجاه الإمام المعصوم عليه السلام. و سيصدر منه في كلّ مناسبة أو ظرف حكم خاصّ (و ذلك حسب الحوادث و الظروف المختلفة سواء كان ذلك مناسبا أم غير مناسب)، كلّ ذلك حسب مقتضى فهمه الناقص، و طبقا لتوهّماته و تخيّلاته بالنسبة لفعل الإمام عليه السلام، و سيظلّ متورّطا بالشعور بالتناقض و التضادّ كلّما واجه موقفا مشابها لتلك المواقف المختلفة و الحيثيّات المختلفة.

و من هنا نصل إلى هذا الحديث الشريف النبويّ القائل:

الحسن و الحسين إمامان، قاما أو قعدا.

فالثقافة الشيعيّة الأصيلة تقتضي أن يعرف الإنسان إمامه أوّلا، ثمّ بعد ذلك يتأمّل في أفعاله و سلوكه، و لذلك نرى أنّ الكثير من كبار المعاصرين لزمن الإمام عليه السلام، كأخيه المكرّم محمّد بن الحنفيّة أو عبد الله بن جعفر الطيّار و أمّ سلمة زوجة رسول اللّه، و التي كان راضيا عنها صلّى الله عليه و آله و سلّم و غيرهم، كانوا يحذّرون الإمام من الخروج و القيام! إلّا أنّ الإمام لم يكن ليلتفت إليهم و لم يعتن بنصائحهم و توصياتهم، و كذلك الحال بالنسبة لولد الإمام‏ السجّاد عليه السلام حضرة زيد بن عليّ بن الحسين، حيث صدر منه ما يشابه ذلك، حيث كان الإمام الباقر عليه السلام قد نهاه عن الثورة ضدّ بني مروان، إلّا أنّه لم يقبل، ثمّ اتّهم الإمام بالخوف، و رماه بعدم الجرأة على مواجهة ظلم الخلفاء و جورهم، و في النتيجة، و بعد صراع مرير بينه و بين جنود بني مروان في ضواحي الكوفة، استشهد و بقي جسده معلّقا أربع سنوات فوق المشنقة[3].

فلو كان من المقرّر أن تكون وظيفة الإمام هي الحثّ بشكل دائم على الجهاد و معارضة الظلم، فلما ذا لم يقم الإمام الباقر عليه السلام بذلك! و لو كان المفترض أن يكون شعار سيّد الشهداء و برنامجه التربويّ و الدينيّ و الاجتماعيّ هو الثورة و المواجهة مع الظلم، فلما ذا رضخ لمدّة عشر سنوات في وقت حكومة معاوية الخبيث لعنة الله عليه و لم يعلن الحرب عليه؟!

و إن قيل: لم تكن الأحوال و الشروط الاجتماعية مهيّئة للقيام و الثورة آنذاك، فيجب أن يستنتج أنّ: إرجاع الفرق بين الإمامين إلى طبيعتهما و وضعيّتهما الذاتيّة لهو اشتباه‏ كبير، و ذلك بأن يدّعى أنّ أحدهما طالب للصلح و السكون و السكوت ذاتا و فطرة، ثمّ ننظر إلى الآخر على أنّه ثائر و مجاهد و معارض، هذا النوع من التفريق خطأ فادح و اشتباه كبير و مرفوض، و هو ناشئ من الجهل و عدم العلم بحقيقة الإمامة و الولاية؛ يكمن اشتباهنا في أنّنا نأتي و نقايس فعل الإمام المعصوم على عملنا العاديّ المملوء بالغلط و الخطأ، و نتصوّر أنّه ما دام الإمام قد ثار في مرحلة معيّنة و ضمن شرائط خاصّة، فإنّ فعل ذلك سائغ لنا أنّى شئنا! و كذلك لو سكت أو هادن في ظرف معيّن فإنّه يجب علينا أن نسكت بشكل دائم! أو أنّه لو صرّح بمطلب أو قضيّة معيّنة في مرحلة من المراحل فنستنتج جواز إرسال ألسنتنا بها، أو التصرّف كما تصرّف هو حسب رغبتنا و ذوقنا، و قد نسينا كلام المعصوم حينما قال: لا يقاس بنا أحد[4].

واقعة كربلاء هي إحدى ظهورات الإمام الحسين عليه السلام‏

فسيّد الشهداء لا يحدّد و لا يعرّف بخصوص حادثة كربلاء، فحادثة كربلاء واحدة من آلاف الآلاف من ظهوراته و انعكاساته، و واقعة كربلاء مع جميع أبعادها الواسعة و عظمتها و مستوياتها الكامنة فيها و التي لا يرقى إليها الخيال و لا التصوّر، إلّا أنّها بالنسبة لمنصب الإمامة و الولاية،

و بالقياس إلى شئون واحد من الأئمّة المعصومين عليه السلام و مهامه لهي يمّ من محيط، و قطرة من بحار رحمة الإمام عليه السلام و فيوضاته.

فلو كان لدى الإمام الحسين عليه السلام أفكار تشابه أفكارنا، و أسلوب نظير أساليبنا و ممشانا، لعمد إلى البقاء في مكّة المعظّمة حينما سمع أنّ يزيد قد بعث إليه بعدّة أفراد ليغتالوه و يقتلوه‏[5]، و لظلّ في مكّة، و لحوّل استشهاده إلى ملحمة يهدر فيها دمه في الحرم الإلهيّ، و داخل بيت الله الحرام، حتّى يكون ذلك مدعاة لإبراز قباحة شخصيّة يزيد الآثم و وقاحته، بشكل أوضح و صوت أعلى، و لكي تدوّي صرخته و تملأ كلّ العالم معلنا للملإ: أنّ هذا السفّاك و المجرم المحترف! قد بلغ من الوقاحة و السفالة أن أقدم على سفك دم ابن رسول اللّه حتّى و إن كلّف ذلك هتك الحرم الإلهيّ الآمن و تدنيس مهبط الوحي، دون أن يتورّع عن شي‏ء من العدوان و الجور.

و لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ سيّد الشهداء -قبل كلّ‏

شي‏ء- هو إمام، فهو أحد الأئمّة المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا. فحفظ بيت الله الحرام و احترامه، و قداسة حريم الكعبة المعظّمة و حرمها أهمّ من هذه الغاية و أثمن، فهو في كلّ موقف أو ردّة فعل يرى الله أوّلا و يرى الله آخرا، على عكسنا نحن حيث إنّنا نتوجّه إلى أنفسنا أوّلا، و نراعي مآربنا و شخصيّتنا، ثمّ بعد ذلك نلبس أفعالنا و أعمالنا و رغباتنا بثوب إلهيّ، و نجعل الله عنوانا و ملاذا لنيل أغراضنا و شئوننا الشخصيّة. فانظر و تأمّل كم يتفاوت هذا الممشى مع ذاك!

و كذلك حضرة الإمام المجتبى عليه السلام، الذي أوصى أخاه سيّد الشهداء عليه السلام: أن لا يريق قطرة دم في تشييعه‏[6]، و هنا يتجلّى الفرق بين الإمام عليه السلام و غيره من سائر الأفراد.

و على هذا الأساس، سوف ترتدي حادثة كربلاء ثوبا آخر و تبدو من خلال بعدها الأعمق، لتمتاز بذلك عن سائر الوقائع المشابهة و تتفاضل عليها، فهي حادثة لها خصوصيّاتها المقترنة بها دون غيرها، فالذي قادها و تزعمها هو أحد الأئمّة المعصومين عليه السلام؛ إمام يمثّل الظهور التامّ للأسماء الإلهيّة الكلّية، سواء في أنفاسه أم كلامه أم سلوكه أم أيّة خطوة يخطوها، و هو في جميع مظاهره مجلى لظهور الذات السرمديّة للحقّ تعالى، و يجب أن يتّخذ قدوة و أسوة إلى أبد الآبدين، لأنّه تجسيم للربوبيّة، و تجسيد لها، و على العبد أن يطيع الله و ينقاد إليه، و لذا فحادثة عاشوراء أسوة و قدوة و لكن لا في خصوص المواجهة و الثورة و الحرب فقط، بل في كلّ شي‏ء و كل لحظاتها و كلّ دقائقها، و في جميع أطوارها و أحداثها.

يجب أن نشاهد و نتأمّل حياة سيّد الشهداء في كلّ أطوارها؛ من زمن طفولته، و في مرحلة الشباب و الفتوّة، و المرحلة التي كان فيها مع أخيه الأكبر حضرة الإمام الحسن عليه السلام في المدينة، و في عهد حكومة معاوية الجائرة، و بعد ذلك حتّى لحظة استشهاده، فيجب دراسة كلّ ذلك، و لا بد من التأمّل فيه و التدقيق به على نسق واحد و أنّه سياق واحد تماما.

و لذا نرى أنّ جميع المعصومين عليهم السلام قد تكلّموا عن واقعة عاشوراء، و أوصوا الشيعة و أكّدوا عليهم و بشكل بليغ أن يحيوا هذه الواقعة العظيمة، و التي لا ثاني لها تاريخيّا و لا مثيل، و الحال أنّه منذ الصدر الأوّل للإسلام حتّى ذاك الزمان و ما بعده، قد اتّفق وقوع العديد من الحوادث المشابهة لها من ناحية مقارعة الكفّار و المشركين، أو معارضة الحكّام و مواجهة خلفاء الجور، قام بها العديد من الأفراد، حتّى نالوا الشهادة في هذا الطريق، إلّا أنّه لا يزال هناك تفاوت و تمايز بين ما ورد في حقّ أنصار هذه الواقعة و غيرهم.

إنّ مواجهة سيّد الشهداء ليزيد مقدّمة لإحياء السنن و معرفة الله‏

فالذي ينبغي أن يلتفت إليه في هذه الثورة -و حسبما يبدو من تلك الرؤيتين السابقتين أنّهما قامتا بإهماله و بالغفلة عنه- هو السبب الكامن وراء هذه الثورة و علّة هذه النهضة؛ فالرؤية الثانية قد سلّطت الأضواء -أكثر من كلّ شي‏ء بحيث أدرجت جميع المسائل الأخرى و المباني الفكريّة و الاعتقاديّة تحت هذا المنطلق- على جانب المبارزة و المواجهة مع الظلم و الجور الناشئين من الحكومة الجائرة لبني أميّة، و بالتالي رفض خلافة يزيد؛ و جعلت ذلك أصلا لهذه الثورة و هدفا و ملاكا لها. و أمّا بناء على وجهة النظر المحقّة و التفسير الصحيح لهذه الثورة، فإنّ مسألة المعارضة مع خلافة بني أميّة الجائرة و مواجهتها، لهي مقدّمة و معبر للوصول إلى إقامة شعائر الدين و إحياء السنن، و إعلاء راية التوحيد و المعرفة.

فغرض الإمام عليه السلام الأصليّ و هدفه، هو إحياء الأحكام المنسيّة و القوانين المهملة من سنّة جدّه و أبيه، دون أيّ شي‏ء آخر! و ليس لأيّ سبب آخر.

إن غرض الحكومات الجائرة و الغاصبة و المتلبّسة بظاهر الإسلام -مثل الخلفاء الثلاثة و بني أميّة و بني مروان و بني العبّاس- و همّها و أقصى هدفها التوسعة و إحكام النفوذ في البلاد، و الفتوحات و الاستيلاء على أموال الرعايا و أرواحهم و أعراضهم و استلاب أموالهم و غنائمهم.

ففي جميع الحكومات الإسلاميّة، حتّى و إن كان الشعار هو شعار تبليغ الإسلام و نشره، إلّا أنّ الخلفيّة الكامنة في دائرة وعي الزعماء، و ما يجول في داخل الراعين لها هو ما ذكر، و لم يكن هناك هدف و غاية من باطنهم و سرّهم غير ذلك. و ما نلهج به و نصرّح به هو من هذا القبيل أيضا، حيث‏ إنّنا نقول: يجب على الشيعة أن ينظروا إلى عاشوراء دون غيرها، و لا بدّ من نصب عاشوراء كنموذج حياتيّ في جميع حركاتنا و سكناتنا، و صلحنا و مواجهاتنا، و تهوّرنا أو خمولنا، و مبادراتنا و حذرنا. و كذلك الذين يفرّقون بين الإمامين المجتبى و سيّد الشهداء عليهما السلام، و ينظرون إلى حضرتيهما بمنظارين مختلفين و بعين الأحول، هؤلاء قد وقعوا في اشتباه فاحش، و سقطوا في الضلالة، و ساروا في طريق التعدّي و الظلم في حقّ هذين العظيمين.

شعار ثورة سيّد الشهداء إحياء السنّة و إماتة البدع‏

فالإمام نفسه يصرّح ضمن وصيّته لمحمّد بن الحنفيّة، حين خروجه من المدينة فيقول:

إنّي لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما، و إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي محمّد صلّى الله عليه و آله؛ أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر، و أسير بسيرة جدّي و سيرة أبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام‏[7].

أي: لم أخرج لأجل التنزّه، و لا لأجل التكبّر و إبراز الذّات و التميّز، و لا لأجل الفساد و التخريب، و لا للظلم و الجور و التعدّي، و إنّما خرجت للإصلاح في أمّة جدّي‏ محمّد صلّى الله عليه و آله؛ أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر و أعمل بسيرة جدّي، و أسير على نهج و ممشى أبي عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

و من البديهي أنّه في ظلّ هذه الشرائط التي ذكرها الإمام كخلفيّة و هدف لخروجه، سوف تكون الغاية القصوى‏

الهدف من الخلقة معرفة الله و معرفة الإمام‏

و الهدف الأعلى من الخلقة و كذا التربية، هي الوصول إلى معرفة حضرة الحقّ تعالى، و بزوغ شمس الولاية على نفوس و قلوب العباد، و هذا هو السبب في حركة سيّد الشهداء في واقعة كربلاء؛ كما أنّه قد صرّح بنفسه بذلك و قال:

أيّها الناس! إنّ الله ما خلق خلق الله إلّا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، و استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه.

فقال رجل: يا ابن رسول اللّه! ما معرفة الله عزّ و جلّ؟

فقال: معرفة أهل كلّ زمان إمامه الذي يجب عليهم طاعته‏[8].

و هذه السمة الخاصّة هي التي أوجبت أن يحفظ الشيعة شعيرة العزاء و إحياء مجالس ذكر أبي عبد الله عليه السلام‏ بشكل دائم، و هو الذي جعل المعصومين يؤكّدون عليهم إحياء ذلك.

فمع كون إحياء مجالس ذكر أهل البيت عليهم السلام ذا مكانة بالغة -سواء ذكرى تولّدهم أم شهاداتهم- و ذلك بعنوانه أحد السنن و المعالم الثابتة في التراث الشيعيّ، إلّا أنّ إقامة مجالس العزاء لأمير الشهداء و سيّدهم حضرة أبي عبد الله عليه السلام، قد حظيت بمكانة خاصّة و مميّزة من قبل أهل البيت، و كلّ المعصومين عليهم السلام بدون استثناء، قد أمروا الشيعة و كلّفوهم بإقامة مجالس العزاء لحضرة أبي عبد الله عليه السلام.

يروي أبو محمّد هارون بن موسى التعلكبري، بسنده المتّصل إلى صفوان بن مهران، أنّ الإمام الصّادق عليه السلام قال له في زيارة الأربعين:

تزور عند ارتفاع النهار فتقول: السلام على وليّ الله و حبيبه ..[9].

السماء بكت دما على الإمام الحسين عليه السلام أربعين يوما

و كذلك في كتاب كامل الزيارات يروي جعفر بن محمّد ابن قولويه بسنده المتّصل إلى زرارة، عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال:

يا زرارة إنّ السماء بكت على الحسين أربعين صباحا بالدم، و إنّ الأرض بكت أربعين صباحا بالسواد، و إنّ الشمس بكت أربعين صباحا بالكسوف و الحمرة، و إنّ الجبال تقطّعت و انتثرت، و إنّ البحار تفجّرت، و إنّ الملائكة بكت أربعين صباحا على الحسين عليه السلام، و ما اختضبت منّا امرأة و لا ادّهنت و لا اكتحلت و لا رجلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد ..[10].

و كذلك يروي بسنده عن جابر، عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال:

ما بكت السماء على أحد بعد يحيى بن زكريا إلا على الحسين بن عليّ عليهما السلام فإنّها بكت عليه أربعين يوما[11].

و كذلك يروي في كامل الزيارات بسند متّصل عن عبد الخالق، عن الإمام الصّادق عليه السلام، أنّه قال في تفسير الآية الشريفة الحاكية قصّة يحيى عليه السلام من‏ قوله تعالى‏ ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾[12] أي: لم نسمّي أحدا بهذا الاسم قبله، فيقول:

سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول‏﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ الحسين بن عليّ، لم يكن له من قبل سميا، و يحيى بن زكريا عليه السلام لم يكن له من قبل سميّا، و لم تبك السماء إلا عليهما أربعين صباحا[13] ...

و هناك روايات أكثر من ذلك، و قد صرفنا النظر عن ذكرها لعدم الرغبة في التطويل.

 

[1]  أصول الكافي، كتاب الإيمان و الكفر، باب دعائم الإسلام، ج 2، ح 1 و 3؛ و كذلك بحار الأنوار، ج 68، ص 329، ح 1.

[2]  من جملة المعترضين على الإمام عليه السلام: سليمان بن صرد الخزاعيّ و حجر ابن عديّ و سفيان بن أبي ليلى و أبي سعيد عقيصا، و قد ذكر ذلك في بحار الأنوار، ج 4، ص 29؛ و كذلك مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 35؛ و كذلك الإمامة و السياسة و الأخبار الطوال و مقاتل الطالبين و رجال الكشّي.

و في علل الشرائع، ج 1، ص 211؛ يقول:

... عن أبي سعيد عقيصا قال: قلت للحسن بن عليّ بن أبي طالب:

يا ابن رسول اللّه لم داهنت معاوية و صالحته و قد علمت أن الحقّ لك دونه و أنّ معاوية ضالّ باغ؟ فقال: يا أبا سعيد أ لست حجّة الله تعالى ذكره على خلقه و إماما عليهم بعد أبي عليه السلام؟ قلت: بلى، قال: أ لست الذي قال رسول اللّه صلّى الله عليه و آله لي و لأخي: الحسن و الحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قلت: بلى قال: فأنا إذن إمام لو قمت، و أنا إمام إذ لو قعدت، يا أبا سعيد علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول اللّه صلّى الله عليه و آله لبني ضمرة و بني أشجع و لأهل مكّة حين انصرف من الحديبيّة، أولئك كفّار بالتنزيل، و معاوية و أصحابه كفّار بالتأويل (أي بولاية المعصومين و إمامتهم عليهم السلام) يا أبا سعيد إذا كنت إماما من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، و إن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا (سواء تعلّق رأيي بالمصالحة و المهادنة أم الحرب و المكافحة مع أهل الباطل و الضلال) أ لا ترى الخضر عليه السلام لما خرق السفينة و قتل الغلام و أقام الجدار سخط موسى عليه السلام فعله، لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي، هكذا أنا، سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه و لو لا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل.

و كذلك في تاريخ الخلفاء ص 74، حيث يذكر:

و كان أصحابه يقولون له: يا عار المؤمنين، فيقول: العار خير من النار.

و قال له رجل: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين، فقال: لست بمذلّ المؤمنين و لكنّي كرهت أن أقتلكم على الملك.

[3]  أصول الكافي، ج 1، ص 365، ح 16.

[4]  وردت هذه الرواية في كتب الفريقين؛ ففي كتب الشيعة وردت في كتاب علل الشرائع و عيون أخبار الرضا عليه السلام و معاني الأخبار و الاختصاص و كشف الغمّة و بعض الكتب الأخرى، و عند أهل السنّة فقد وردت في ذخائر العقبى و كنز العمال و تاريخ دمشق و ينابيع المودّة لذوي القربى.

[5]  نفس المهموم، ص 163؛ و كذلك مقتل الحسين عليه السلام للمقرّم، ص 165.

[6]  حيث جاء في وصيّة الإمام الحسن لأخيه الإمام الحسين عليهما السلام:« و بالله أقسم عليك أن لا تهريق في أمري محجمة من دم»، الإرشاد للشيخ المفيد، ج 2، ص 17؛ و كذلك مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب، ج 3، ص 202 و غيرهما.

[7]  لمعات الحسين عليه السلام، ص 13.

[8]  م. ن، ص 11.

[9]  إقبال الأعمال، ج 3، ص 101؛ و كذلك في وسائل الشيعة، ج 14، ص 478.

[10]  كامل الزيارات، ص 80، ح 6.

[11]  كامل الزيارات، ص 90، ح 9.

[12]  سورة مريم (19) ذيل الآية 7.

[13]  كامل الزيارات، ص 90، ح 8؛ و كذلك بحار الأنوار، ج 45، ص 211، ح 22.




يحفل التاريخ الاسلامي بمجموعة من القيم والاهداف الهامة على مستوى الصعيد الانساني العالمي، اذ يشكل الاسلام حضارة كبيرة لما يمتلك من مساحة كبيرة من الحب والتسامح واحترام الاخرين وتقدير البشر والاهتمام بالإنسان وقضيته الكبرى، وتوفير الحياة السليمة في ظل الرحمة الالهية برسم السلوك والنظام الصحيح للإنسان، كما يروي الانسان معنوياً من فيض العبادة الخالصة لله تعالى، كل ذلك بأساليب مختلفة وجميلة، مصدرها السماء لا غير حتى في كلمات النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) وتعاليمه الارتباط موجود لان اهل الاسلام يعتقدون بعصمته وهذا ما صرح به الكتاب العزيز بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، فصار اكثر ايام البشر عرفاناً وجمالاً (فقد كان عصرا مشعا بالمثاليات الرفيعة ، إذ قام على إنشائه أكبر المنشئين للعصور الإنسانية في تاريخ هذا الكوكب على الإطلاق ، وارتقت فيه العقيدة الإلهية إلى حيث لم ترتق إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم ، فقد عكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روحه في روح ذلك العصر ، فتأثر بها وطبع بطابعها الإلهي العظيم ، بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتجاه إلا نحو المبدع الأعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار الوجود)





اهل البيت (عليهم السلام) هم الائمة من ال محمد الطاهرين، اذ اخبر عنهم النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) باسمائهم وصرح بإمامتهم حسب ادلتنا الكثيرة وهذه عقيدة الشيعة الامامية، ويبدأ امتدادهم للنبي الاكرم (صلى الله عليه واله) من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) الى الامام الحجة الغائب(عجل الله فرجه) ، هذا الامتداد هو تاريخ حافل بالعطاء الانساني والاخلاقي والديني فكل امام من الائمة الكرام الطاهرين كان مدرسة من العلم والادب والاخلاق استطاع ان ينقذ امةً كاملة من الظلم والجور والفساد، رغم التهميش والظلم والابعاد الذي حصل تجاههم من الحكومات الظالمة، (ولو تتبّعنا تاريخ أهل البيت لما رأينا أنّهم ضلّوا في أي جانب من جوانب الحياة ، أو أنّهم ظلموا أحداً ، أو غضب الله عليهم ، أو أنّهم عبدوا وثناً ، أو شربوا خمراً ، أو عصوا الله ، أو أشركوا به طرفة عين أبداً . وقد شهد القرآن بطهارتهم ، وأنّهم المطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون ، كما أنعم الله عليهم بالاصطفاء للطهارة ، وبولاية الفيء في سورة الحشر ، وبولاية الخمس في سورة الأنفال ، وأوجب على الاُمّة مودّتهم)





الانسان في هذا الوجود خُلق لتحقيق غاية شريفة كاملة عبر عنها القرآن الحكيم بشكل صريح في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وتحقيق العبادة أمر ليس ميسوراً جداً، بل بحاجة الى جهد كبير، وافضل من حقق هذه الغاية هو الرسول الاعظم محمد(صلى الله عليه واله) اذ جمع الفضائل والمكرمات كلها حتى وصف القرآن الكريم اخلاقه بالعظمة(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، (الآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك) فقد جمعت الفضائل كلها في شخص النبي الاعظم (صلى الله عليه واله) حتى غدى المظهر الاولى لأخلاق رب السماء والارض فهو القائل (أدّبني ربي بمكارم الأخلاق) ، وقد حفلت مصادر المسلمين باحاديث وروايات تبين المقام الاخلاقي الرفيع لخاتم الانبياء والمرسلين(صلى الله عليه واله) فهو في الاخلاق نور يقصده الجميع فبه تكشف الظلمات ويزاح غبار.