أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-07-22
430
التاريخ: 2-10-2020
1620
التاريخ: 2024-06-22
720
التاريخ: 2024-01-31
1164
|
أما التأثير الذي أنتجه الفتح المصري في سوريا فإنه على قدْر ما وصلت إليه معلوماتنا من الكشوف الأثرية التي عملت حتى الآن في الأماكن الهامة من عهد الأسرة الثامنة عشرة لم يكن تأثيرًا متبادلًا في تلك الفترة؛ إذ إن الأماكن الأثرية التي كُشف عنها في فلسطين وفي سوريا يُرى فيها أثر مسح للثقافة المصرية بصورة بارزة، وبخاصة في جيزر، فنجد عددًا عظيمًا من الأشياء قد صُنعت في مصر أو صنعت في سوريا وصبغت بالطابع المصري، ولكن جزءًا ضئيلًا جدًّا منها كان يُنسب إلى عهد الأسرة الثامنة عشرة أو الأسرة التاسعة عشرة، أما الجزء الأعظم فيُعزَى إلى التأثير الذي تركتْه مصر في هذه الجهات منذ القرن العاشر حتى القرن السابع قبل الميلاد. والآن يتساءل المرء كيف يمكن تفسير كون تأثير الثقافة في عهد الأسرة الثامنة عشرة كان من ناحية واحدة؟ وحقيقة الأمر هي أن الثقافة المصرية في إبان عهدها الأول الإمبراطوري كانت أكثر نموًّا وأعظم شأنًا من الثقافة السورية، وقد كان من المنتظر أن يكون أثرها بينًا واسع النطاق بُعَيْد الغور على السوريين أكثر من أي تأثير سوري على مصر. وعلى الرغم من ذلك نجد الأمر معكوسًا، فقد كان أثرها في سوريا ضئيلًا وسطحيًّا. والتفسير الذي يمكن أن تُعزَى إليه هذه الظاهرة هو أن أعوان نشر الثقافة من المصريين في سوريا كانوا قلائل ولم يُبدوا في الواقع أي نشاط في هذه الناحية بخلاف أعوان نشر الثقافة السورية في مصر، والمقصود من ذلك أنه في الحين الذي كان يَفِد فيه على مصر جماعات كثيرة ليتخذوها موطنًا لهم، ولنشر تجارتهم في عهد الأسرة الثامنة عشرة، كان لا يُقيم في سوريا من المصريين إلا النَّزْر اليسير الذين لم يكونوا من طائفة التجار. ولا بد أن نستنبط من ذلك أن المصريين بعد فتحهم الأول قد قنعوا بما أصابوا من غنائم في بادئ الأمر، وابتعدوا عن هذا المُلْك الجديد الذي لم يَغرَّهم أو يُحفِّزهم إلى الهجرة والضرب في أرجائه الشاسعة المفعمة بالخير الوفير والرزق الواسع، ولا غرابة في ذلك؛ فإن المصري كان معروفًا عنه أنه لا يحب مغادرة مسقط رأسه، ولا يميل للمغامرات والسير في الأرض للتجارة واكتساب العيش. ومما هو جدير بالملاحظة أن تأثير ثقافة الإمبراطورية في عهد الأسرة الثامنة عشرة يُفسر لنا بوجه خاص حقيقة تاريخية عامة وهي أن الثقافة المصرية في كل عصورها قد بقيت داخلية دون أن تُحدِث الأثرَ الذي كان يُرجَى منها في التقدم العالمي، اللهم إلا ما تسرب منها عن طريق أعوان من الخارج كانوا يَفِدون إليها ليَنهَلوا علومَها ويَستَقوا من موارد حضارتها الأصلية، ثم يقومون بنشر ما تعلَّموه في بلادهم، ولم يُحاوِل المصري من جانبه نشرَ ثقافة بلاده في الخارج إلا أفراد قلائل؛ لأنه لم يكن ممن يميلون إلى المخاطرات وركوب الصعاب طلبًا للتجارة في الأقطار النائية، وقد يُعزَى ذلك إلى كُرْهِه التسلُّط الإمبراطوري(1).
أما العهود التاريخية التي نجد فيها أثر الثقافة المصرية ظاهرًا منتشرًا في العالم المتمدين بصورة بارزة فأربعة، يُفصل بعضها عن بعض بفترات قد تكون طويلة أو قصيرة، كانت البلاد في خلالها قابعة في عُقْر دارها، منكمشة بين حدودها في وادي النيل. وهذه العهود الأربعة هي: (1) العصر المنوي الحديث (أي في خلال القرنين السادس عشر والخامس عشر) ق.م. (2) العصر الآشوري المتأخِّر (من القرن العاشر إلى القرن السابع) ق.م. (3، 4) العصران البطليموسي والروماني (وهما معًا من القرن الثالث قبل الميلاد حتى القرن السادس بعد الميلاد). وعلى وجه عام، كانت مصر في عصرين من هذه العصور أو جزء منهما تابعة لنفوذ أجنبي، وفي أحد هذه العهود كانت تسيطر عليها أسرة أجنبية لها علاقة وثيقة بالبحر الأبيض المتوسط، أما في رابع هذه العصور وهو أقدمها (أي العهد المنواني الحديث فإنا لا نعرف الأحوال السياسية وقتئذٍ)، ولكن على الرغم من أن مصر كان لها في هذا العهد دولة آسيوية على وجه التحقيق، فإنه لم يكن لها أي سلطان على «كريت»، كما لم يكن لها جنود أو عمال في قبرص، ومع ذلك فإن هاتين الجزيرتين قد أنتجتا أشياء عِدَّة تُنسب إلى عهد الأسرة الثامنة عشرة المصرية أكثر مما كانت تُنتِجه سوريا بأجمعها، كما أشرنا إلى ذلك عند الكلام على وفود أمراء البلاد الأجنبية في عهد «رخ مي رع». وقد كان الرأي السائد منذ الكشف عن مصنوعات مصرية أو مصنوعات متأثرة بالفن المصري في طبقات الحفر الذي عُمل في المنطقة الإيجية سواء أكان ذلك في الجُزُر أم في أرض بلاد اليونان نفسِها يميل إلى دحض الرأي المتفق عليه، وهو القائل بأن المصريين كانوا قومًا منكمشين في عقر دارهم، منعزلين عن العالم. وقد عزَّز هذا الرأي ما وَرَد في القصص عن السياح المصريين الذين كانوا يجوبون البلاد الأجنبية، هذا فضلًا عن المراسلات السياسية التي كانت تُتبادل بين مصر والأقاليم الآسيوية والتي اتُّخذت دليلًا لتعزيز هذا الرأي، ولكن الواقع يدل على أن الزعم القديم لا يزال قائمًا، وما وُجد من دلائل في إقليم بحر إيجة، يُعزِّز هذا القول ولا يدحضه؛ وذلك لأن المراسلات السياسية لا تدل كما قلنا على استيطان مصريين فعلًا في الخارج، وأما ما قيل عن القصص (2) التي كان يقصها بعض أصحاب المخاطرات فلا تدل إلا على أن السياحة إلى الخارج كانت نادرة جدًّا، وأنها لم تكن مهنة محبَّبة للمصريين، أما فيما يخص المصنوعات المصرية التي وُجدت في المواقع الأجنبية فكانت بلا نزاع قد جُلبت إليها لا بالمصريين أنفسهم، بل على يَدِ تجار أجانب من الذين كان لهم مستعمرات أجنبية أُقيمت في شمال مصر، ومن ذلك نعلم أن الحضارة المصرية عندما كانت تتخطى وادي النيل كان الذين يُحضِرونها هم قوم من الأجانب لا من المصريين؛ إذ قد كان لزامًا على التجار المخاطرين وعلى الفاتحين الأجانب أن يأتوا إلى الكنانة نفسها، ويُوقدون مشاعلهم من نور مدنيَّتها المتعددة النواحي، الساطعة الإشراق، وهي تلك المدنية التي كان المصري يحافظ منذ بداية تاريخه حتى نهايته على إخفائها في جوفه وفي داخل بلاده. وقد كان إخفاق الأسرة الثامنة عشرة في المحافظة على سلطانها الإمبراطوري في غرب آسيا أمرًا لا مفرَّ منه؛ إذ كان لزامًا على مصر أن تخضع لمشيئة أية دولة قوية إثْرَ ظهورِها على مسرح السياسة فتنزل لها عن مكانتها. على أن هذا القول في ظاهره قد يبدو غريبًا، ولكنا نتأكد من صحته إذا لم نحصر أفق نظرنا في عهد الأسرة الثامنة عشرة وحسب، وألقينا نظرة شاملة على كلٍّ من تاريخ الإمبراطورية المصرية في آسيا وتاريخ الإمبراطورية الآسيوية في مصر. فقد دلت الأحوال على أن هناك ظاهرة ثابتة في التاريخ المصري، وإن شئتَ فقُل قاعدة دلَّتْ على صحَّتِها التجارب، وتتلخَّص في أن مصر لم يكن في استطاعتها أن تحتفظ بأي شيء في آسيا، أو أن أية مملكة أجنبية استطاعت أن تتملك مصر، اللهم إلا إذا كانت هذه أو تلك تملك في قبضتها إقليم شرقي البحر الأبيض المتوسط. وما نجده قد شذَّ عن ذلك يُعدُّ برهانًا على صحة هذه القاعدة. فقد كانت أول إمبراطورية ثابتة الأركان سيطرت على بلاد أجنبية بمصر هي دولة البطالمة الأُوَل الذين كان أسطولهم يبسط سلطانه على شرقي البحر الأبيض المتوسط حتى جُزُر «سيكليدز» شمالًا وغربًا حتى مدخل البحر الأدرياتي. وقد ظلت إمبراطوريتهم صاحبة نفوذ ما بقيت سلطتهم البحرية عزيزة الجانب، ولما ازدادت قوة أسطول جزيرة «رودس» اختفت قوة البطالمة البحرية في آسيا الصغرى، وعندما ظهر الأسطول الروماني في عالم الوجود تلاشت قوة البطالمة البحرية في سوريا وأصبحت أثرًا بعد عين أيضًا. على أننا من جهة أخرى نعلم أن أول إمبراطورية ثابتة أجنبية قامت في مصر على يد أجانب هي الإمبراطورية الرومانية، غير أن هذه الدولة لم تؤسَّس إلا بعد أن أصبحت روما صاحبة السيادة على إقليم شرقي البحر الأبيض المتوسط، ولم يتسنَّ لها ذلك إلا بعد القضاء على قرصان «كريت» و«كليكيا»، ولم تفقد «روما» ولا خليفتها «بيزنطة» هذه الإمبراطورية إلا بعد أن فقدت سيطرتها على البحر. وأحسن الأمثلة التي تُبرهِن على صحة القاعدة من الوجهة الأخرى نجدها في تاريخ الإمبراطورية الآسيوية التي استولت على مصر، فنرى أن قوة دولة آشور الجبَّارة لم يكن في مقدورها المحافظة على ما فتحتْه من الأقاليم في أفريقية أكثر من جيل واحد من الزمان، ويرجع السبب في ذلك إلى أنها قد احتلت مصر قبل أن تُخضِع «صيدا» تمامًا، وعندما أخضعت «صيدا» سيدة تجارة إقليم شرق البحر الأبيض المتوسط لسلطان «آشور بانيبال «(3) نلحظ أن دولة «آشور» على ما يظهر لم تحاول استخدام أسطولها أو أساطيل فينيقية في أغراضها الخاصة. وقد نتج عن ذلك أن أصبح الفرعون «بسامتيك» والحزب الوطني في مصر الذي يُعارِض الاستعمار أحرارًا في القيام بعمل مفاوضات مع أعداء «آشور» في البحر. وقد أفلح المصريون بمساعدة «جيجس» ملك «لديا» في إحضار سفن محملة بالرجال المحارِبين من آسيا الصغرى ساعدوهم على طرد الأشوريين من وادي النيل بعد أن كانوا قد احتلُّوه بضع سنين. ولم يكن في استطاعة دولة «بابل» الجديدة أن تُثبِّت أقدامها في مصر قط. أما ملوك الفُرْس الذين خلفوا بابل فإنهم على إثر ظهورهم على ساحل البحر الأبيض المتوسط عقدوا المحالفات مع بلاد فينيقية واستغلوا أسطولها، وبذلك أفلحوا في الاستيلاء على مملكة الفراعنة من أول محاولة قاموا بها لهذا الغرض، وقد مكثوا يحتلونها دون كبير عناء حوالي نصف قرن من الزمان إلى أن ناهضوا الدولة الأفريقية الفتية في السلطة البحرية التي كانت في يد الفنيقيين، مما دعا لقيام الثورات في مصر على الفرس، وبذلك نجد أن تاريخ «بسامتيك الأول» يُعيد نفسَه؛ إذ يقوم الحزب الوطني في مصر بطرد الآسيويين من البلاد بعد أن لجئوا إلى طلب المساعدة من الإغريق المرة تلو المرة، وأخيرًا بعد تَطَاحُن نصف قرن من الزمان أفلحوا في طرد أسيادهم الآسيويين كرة أخرى. والواقع أن الفرس لم يستطيعوا تثبيت أقدامهم ثانية في مصر على الرغم من المحاولات العدة التي حاولوها فيما بعد؛ إذ إنهم منذ عهد عاهلهم «أرتكسرسيس منمون «(4) قد استخدموا جنودًا من الإغريق لمحاربة الإغريق الذين استخدمهم المصريون لنفس الغرض، ولكن بدون جدوى. وقد ظلت الحال على هذا المنوال إلى أن أضعفت قوة «فليب» المقدوني الغاشمة — وقد كانت آخذة في الازدياد والنفوذ — الولايات الإغريقية وأجبرتْها على الانزواء في عقر ديارها، وفي الوقت نفسه أصبح الذهب الفارسي عاملًا قاهرًا في السياسة الإغريقية؛ مما أدَّى إلى بَسْط النفوذ الآسيوي كرة أخرى على مصر، وقد استمرت هذه السيادة حتى غَزْو الإسكندر للبلاد بعد عشرين عامًا من دخول الفرس مصر للمرة الثانية. ومن ذلك نرى أن سقوط إمبراطورية الأسرة الثامنة عشرة أمام أول دولة آسيوية قوية تريد السيطرة عليها كان أمرًا لا مفرَّ منه، والدولة القوية التي عملت فعلًا على زوال الإمبراطورية المصرية في آسيا هي بطبيعة الحال دولة «خيتا»، إذ أخذت مصر على إثر ظهورها وتوطيد أقدامها في آسيا تنسحب أمامها من هذا المسرح. وتدل شواهد الأحوال على أن «تحتمس الثالث» قد استخدم البحر في فتوحه ومواصلاته، كما شرحنا ذلك في موضعه، غير أنه لم يُقلِّده في هذا المضمار ممَّن خلفوه إلا القليل. والواقع أنه قد ظهر في خدمة مصر بعض رجال «صور»، ومن المحتمل إذن أن سفنهم وكذلك سفن الفينيقيين في الشمال كانت لزمنٍ ما في خدمة مصر. ولكن هذه المدن قد سقطت في عهد «إخناتون» الواحدة تلو الأخرى وانضمت للخيتا أو الآرميين. وعلى الرغم من أن الفراعنة الأُوَل الذين حكموا خلال الأسرة التاسعة عشرة قد استردُّوا هذه البلاد لمدة ما، فإنه لم يكن في استطاعتهم أن يُحافظوا عليها في وجْه قوة مملكة «خيتا» القوية السلطان. فنجد مثلًا أن مدينة «إرواد» كانت تساعد عدو «رعمسيس الثاني» في موقعة «قادش». ومهما كانت النتائج العاجلة لهذه الموقعة فإنه من الجليِّ أن انسحاب «رعمسيس» العاجل بعد المعركة، وما يُفهم من المعاهدة التي أبرمها مع خيتا في السنة الواحدة والعشرين من حكمه يدل على انسحاب مصر والتخلِّي عن سيادتها على أي جزء في سوريا، اللهم إلا جنوبي «فلسطين»، وحتى هذا الإقليم الأخير قد فُقد بعد عهد «رعمسيس الثالث». وعلى الرغم من أننا نرى فيما بعدُ أن الفرعون «نيخاو» كان في مقدوره أن يمرَّ في سوريا حتى «قرقميش» بجيوشه ويُحرِّرها مدة بضع سنين، فإن ذلك الاستيلاء المؤقَّت لا يُعدُّ تسيطرًا إمبراطوريًّا، بل يُعدُّ غزوًا طارئًا في آسيا إلى أن جاء «الإسكندر» وفتح مصر، ثم أسَّس أخلافُه البطالمة دولتَهم الضخمة التي كان مقرُّها أرضَ الكنانة.
...........................................
1- راجع: Ed. Meyer Gesh II, 1. p. 212ff. p. 212ff.
2- راجع كتاب الأدب المصري القديم جزء أول، ص47، 100، 161.
3- راجع: Precis de l’Histoire d’Egypte. p. 200.
4- راجع: Les Peuples de l’Orient. Mediterraneen II,. L’Egypte. P 581.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|